نقد ومقالات

حين كانت الكلمة تهمة في سوريا.. كتب هرّبت كما يُهرّب السلاح/ وفاء عبيدو

2025.04.23

في سوريا، لم تكن الكتب مجرد وسيلة للمعرفة، بل شهادة على زمن الخوف والملاحقة، حيث كانت تُخبأ كما تُخبأ الأسرار في زوايا البيوت، وتحت الوسائد، أو خلف الجدران، أو بين رفوف مخفية، ولم يكن اقتناء كتاب محظور فعلًا ثقافيًا، بل مخاطرة قد تكلّف صاحبها استدعاءً أمنيًا، أو اتهامًا بالمساس بـ”هيبة الدولة”.

أما الرقابة فلم تكن مجرد سلطة رسمية تضع خطوطًا حمراء، بل كانت جدارًا سميكًا يعزل القارئ عن العالم، ويفرض على العقل حدودًا صارمة، والممنوعات لم تُحصر بالسياسة وحدها، بل امتدت لتشمل الفكر والدين والتاريخ، وكل ما قد يحرّك الوعي أو يوقظ السؤال.

وفي بلد حُكم بالحديد والنار لعقود في ظل نظام يطارد الكلمة، ويحاكم الفكرة ويُعاقب على الفضول، كان لكتاب صغير أن يُعد جريمة، وأن تقرأ كتابا محظورا بحد ذاته تهمة، وأن تبحث خارج المسموح كان أشبه بفتح نافذة على ما لا ينبغي أن يُقال.

وبالرغم من ذلك، وجد الكتاب الممنوع طريقًا ليتسلل بين المهتمين به والباحثين عنه، كفعل مقاومة لا يُقهر فيُنسخ سرًا ويُمرَّر من يد إلى أخرى، ويُقرأ بنبض متسارع تحت نور خافت.

لكن القيود والجدران التي وضعها النظام السابق انهارت في 8 من كانون الأول، حيث انطلقت يوم أمس الثلاثاء، فعاليات معرض كتب المركز العربي وإصداراته، الذي تنظّمه دار الفكر بالتعاون مع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في المركز الوطني للفنون البصرية بجامعة دمشق، وتشمل الفعالية إلى جانب عرض كتب المركز مجموعة من الندوات الثقافية التي يشارك فيها باحثون وأكاديميون بارزون، ويستمر المعرض حتى يوم السبت 26 نيسان الجاري، وهو حدث ثقافي، الذي يُعدّ الأول من نوعه منذ التغيير السياسي في البلاد، استقطب جمهورا واسعا من الباحثين والطلبة والأكاديميين، وجاء بمشاركة نوعية لمجموعة ضخمة من الإصدارات الفكرية والسياسية والاجتماعية التي كانت لعقود غائبة عن متناول القارئ السوري.

الكتاب يُهرَّب كالسلاح في سوريا

في مدينة سلمية بريف حماة الشرقي، لم يكن هيثم القطريب صاحب مكتبة “ابن الهيثم”، يبيع الكتب فقط بل كان يعتبرها منبرًا ثقافيًا ومصدرًا لمقاومة الصمت ومسؤولية.

أوضح “القطريب” لموقع تلفزيون سوريا، أن إدخال الكتب الممنوعة لم يكن مغامرة عابرة، إذ كان يجلب الكتب من لبنان ويختارها بعناية ما بين فكرية أو سياسية، فيخبئ الممنوعة بين ملابسه بينما المسموحة تبقى ظاهرة، مشيرا إلى أن طريق العودة إلى سوريا لم يكن سهلًا فالتفتيش الدقيق كان روتينيًا، وغالبًا ما كان يضطر سائق التاكسي إلى دفع رشوة لتسريع المرور.

يستذكر هيثم واحدة من أكثر اللحظات رسوخًا في ذاكرته، حين نجح في تهريب صورة عن مقالة للصحفي اللبناني سليم اللوزي، وهي المقالة التي اعتبرت السبب في مقتله، قائلًا “حين كنت أجلب كتابا ممنوعا كان الخوف لا يفارقني”.

اعتُقل هيثم مرات عديدة منذ أحداث الثمانينيات حتى ما بعد انطلاق الثورة السورية، وفي كل مرة كانت الكتب والمكتبة جزءًا من أسباب الاعتقال، بينما التهم التي تنسب له تندرج تحت “الإرهاب”، و”زعزعة أمن الدولة”، و”الترويج للمعارضة”، و”التطرف”، وقال “كانوا يزجونني في سجون المتطرفين، وكأنّ الكتاب تهمة متطرفة بحد ذاتها”.

كما أشار إلى أن رقابة النظام المخلوع على الكتب كانت صارمة ومستمرة، فبينما تتولى وزارة الإعلام مراجعة الكتب الأدبية والثقافية، تخضع الكتب السياسية والدينية لمراجعة القيادة القطرية لحزب البعث، وكانت المكتبات عرضة لجولات تفتيش متكررة من مختلف فروع الأجهزة الأمنية، موضحًا أن المواطن لم يكن يجرؤ على طلب كتاب ممنوع إلا إذا كانت تربطه بصاحب المكتبة معرفة وثقة متبادلة.

“النظام المستبد يرى في الشذرات خوفه”، هكذا يصف “القطريب” النظام مبينًا أنه كان يخشى أن تتحول الكتب التي تعارض سياسته إلى فعل جماهيري، كأن تُعرض على خشبة المسرح أو تُحوّل إلى مشروع فكري علني قد يتبنّاه الشارع، ولهذا كان أي كتاب يحمل بذور تهديد للنظام يُحظر مباشرة.

ومن الكتب العالقة بذاكرته كتاب “فاندام”، أما الكتاب الذي يتشوق هيثم لقراءته قريبًا فهو “تجربتي في الثورة” للكاتب محمد عمران.

قبضة أمنية تضرب الكتب

كانت الكتب الممنوعة في سوريا أشبه بمحظورات خطرة، والاقتراب منها يضع صاحبها في مواجهة مع القبضة الأمنية، كما أن اقتنائها أو تداولها خارج المسموح قد يكلّفه حريته أو حياته.

حازم نهار كاتب سياسي سوري يسترجع في حديثه لموقع تلفزيون سوريا، تجربته مع الكتب المحظورة خلال حكم النظام البائد، موضحًا أن الحصول عليها كان محفوفًا بالمخاطر، سواء في جلبها عبر أسفاره خارج البلاد أو من خلال علاقاته بأوساط المعارضة وانخراطه في الأحزاب السرّية، حيث كانوا يتبادلونها فيما بينهم وبتكتم.

ويستذكر نهار، مشاركته عام 2001 لمؤتمر حقوقي في القاهرة بعنوان “المدافعين عن حقوق الإنسان”، إذ حاز حينها على جائزة تمثلت بمجموعة من 300 كتاب، وأُرسلت له لاحقًا إلى سوريا عبر البريد لكنه فوجئ برفض تسليمه البريد وطلب منه مراجعة وزارة الإعلام.

وقال “ذهبت إلى الوزارة، لأكتشف أن الأمر كان أشبه بتحقيق أمني، سئلت عن مصدر الكتب وعن حاجتي لها، وتمت مصادرتها بالكامل، وكان ثمن سلامتي الشخصية التخلي عن المجموعة”.

لطالما أصر نهار في البحث عن الكتب السياسية والتاريخية وغيرها من التي وثّقت مراحل حرجة في التاريخ وخاصة التي عمل النظام على محوها وتغييبها من الذاكرة الجمعية، كمرحلة ما بين 1963 و1970، ثم بين 1978 و1982، بالإضافة إلى كتب تناولت نشأة الأحزاب السورية، والمجتمع المدني، وملفات حقوق الإنسان وغيرها من الكتب المحظورة.

كما يجد نهار أن ظهور الإنترنت شكّل تحولًا مهمًا، إذ أسهم العالم الرقمي في تجاوز القيود المفروضة وأتاح الوصول إلى مواقع محظورة، موضحًا أنه نشر عددًا من المقالات باسم مستعار أو باسمه، كان منها دراسة بعام 2000 عنوانها “كيف وصل بشار الأسد إلى السلطة”.

ومن وجهة نظره، يرى أن الرقابة والمنع خلقا شغفًا لدى البعض بالوصول إلى كتب قد لا تكون ذات قيمة معرفية كبيرة، لكنها تحمل رمزية التحدي، ويستشهد بكتاب “سوريا الاقتراع أم الرصاص” للكاتب كارستين ويلاند، الذي ترجمه من داخل سوريا عام 2008، حيث تنبأ فيه الكاتب بحدوث ثورة في سوريا، معتبرًا أن هذا النوع من الكتب يلامس الجذر العميق للأزمات السياسية والاجتماعية في البلاد. مشيرًا إلى أن النظام لطالما سعى على توظيف الثقافة والإعلام كوسائل للسيطرة على المجتمع، إذ عمل على تنميط الفكر وتقييد الوعي بوساطة إحكام قبضته على المناهج التعليمية، بهدف رسم حدود ضيقة للطموح والمعرفة، كما فرض هيمنته على الاتحادات والهيئات الثقافية، رافضًا أي شكل من أشكال النقد الذي قد يُربك روايته الرسمية، فحوّل الثقافة من مساحة للتفكير والحوار إلى أداة لتكريس سلطته وتعزيز سطوته.

وفي مشهد يُجسّد تراجع الحياة الثقافية تحت حكم النظام المخلوع، شهدت بعض المحافظات اختفاء تدريجيًا للمكتبات العامة مثل “ميسلون” التي تحوّلت إلى مراكز صرافة، و”الزهراء” إلى سوبر ماركت، بينما أصبحت “اليقظة” متجرًا للأحذية، والمصير نفسه لاقته مكتبات في حلب واللاذقية، في انعكاس مباشر لتهميش الكتاب وتراجع دور الثقافة في الفضاء العام.

“النداء الأخير للحرية”

بين جدران المعتقل، كتب المحامي والكاتب السوري حبيب عيسى كتابه “النداء الأخير للحرية”، مستخدمًا قصاصات ورقية هرّبها خارج السجون حيث تم جمعها وتوثيقها، ليُطبع الكتاب بدعم من المفوضية الأوروبية في باريس.

في حديثه لموقع تلفزيون سوريا، يوضح عصمت عيسى، الابن الأكبر للمحامي والكاتب الراحل حبيب عيسى، أن كتابات والده شكّلت امتدادًا لمسيرته النضالية التي كلفته سنوات من السجن والتهميش.

بدأ حبيب عيسى مسيرته في الصحافة، وأصدر كتابه الأول “السقوط الأخير للإقليميين في الوطن العربي”، الذي مُنع من النشر في معظم الدول العربية باستثناء لبنان، التي كانت آنذاك أكثر انفتاحًا.

نُقل حبيب على أثر هذا الكتاب، من قسم التحرير إلى قسم الأرشيف في صحيفة “الثورة” الرسمية، في خطوة هدفت إلى تهميشه وعزله، ليدرك حينها أن العمل الصحفي في ظل الرقابة الأمنية الصارمة لا يمنحه المساحة الكافية للتعبير عن آرائه، فاتجه إلى دراسة الحقوق ليواصل نضاله بلغة القانون.

ويروي عصمت، الذي كان يشارك والده شغفه بالقراءة، أن حبيب امتلك مكتبة غنية بالكتب الفكرية والسياسية المحظورة، حصل عليها عبر وسطاء في لبنان، في وقت كانت فيه حيازة مثل هذه الكتب كفيلة باعتقال صاحبها، ومن الكتب التي لا تزل عالقة في ذاكرته “حافظ الأسد (الصراع على الشرق الأوسط)” للكاتب باتريك سيل، ومذكرات سامي الجُمعة.

كما أوضح عيسى أن والده كان مؤمنًا بأن الكلمة الحرة أكثر خطورة من السلاح، وأن النظام السوري لم يتعامل مع الفكر كأداة للنقاش، بل كخطر وجودي يجب إسكاته.

ويستعيد عصمت موقفًا خاصًا جمعه بوالده، حين طلب منه مساعدته في بيع مجموعة من الكتب السياسية والفكرية في إحدى دورات معرض الكتاب العربي في دمشق، لكن المفاجأة كانت في العزوف الكبير عن شرائها، إذ لم تُبع منها إلا نسخ قليلة. وبرأيه، لم تكن المشكلة في مضمون الكتب، بل في مجتمع خضع لعقود من التغييب، حتى باتت الثقافة تُعامَل كجريمة، والوعي يُنظر إليه كخطر.

ورغم غياب إحصائيات رسمية دقيقة حول معدلات القراءة والنشر في سوريا خلال السنوات الماضية، إلا أن السياسة التي كان يتبعها النظام في منع تداول مؤلفات لكتّاب أدت إلى تراجع ملحوظ في دور الكتاب.

على سبيل الذكر منع تداول كتب الفلسطيني أدهم شرقاوي، التي حُظرت جميعها عام 2013، على خلفية تصريح إعلامي نُسب إليه وانتقد فيه النظام. كما شملت قائمة المنع روايات تنتمي لأدب السجون، مثل “القوقعة” لمصطفى خليفة، و”يسمعون حسيسها” لأيمن العتوم، إضافة إلى كتب دينية لكُتّاب أمثال سيد قطب وغيرهم، اعتُبرت مضادة للرواية الرسمية أو محفزة على التفكير النقدي.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى