“عمارة أحمد باشا” في دمشق: هل ستظل خرابًا؟/ محمد م. الأرناؤوط

25 أبريل 2025
تمثل هذه المقالة متابعة استمرت خمسين سنة (1975–2025) لواحدة من أهم المنشآت العثمانية التي بُنيت في دمشق وضواحيها، التي حملت ما هو جديد بالنسبة إلى عمارتها أو إلى وظيفتها، ألا وهي “عمارة أحمد باشا” أو “العمارة الأحمدية” التي اشتهرت لاحقًا أكثر باسم “تكيّة العسالي” نسبة إلى شيخ الطريقة الخلوتية في دمشق أحمد العسالي الذي دُفن فيها عام 1638 إلى جوار المؤسِّس أحمد باشا.
وكما بُنيت “التكيّة السليمانية” في ضواحي دمشق لتستوعب في جوارها خيم الحجاج في ذهابهم إلى مكة وإيابهم منها، فقد اختار والي دمشق، أحمد باشا (1632–1635)، مكانًا مناسبًا لعمارته في جنوب دمشق ليكون منزلًا لقافلة الحج الشامي القادمة من الشمال (البلقان والأناضول وآسيا الوسطى) ومنطلقًا في طريق عودتها بعد مراسم الحج. وقد جاء بناء هذا المجمع العمراني ليتضمن جامعًا ومدرسة وغرفًا للتعليم وتقديم الوجبات المجانية للطلاب والزهاد والحجاج، بالإضافة إلى ساحة لنصب خيم الحجاج في قدومهم وفي عودتهم لبلادهم. ونظرًا إلى أن الوالي أحمد باشا كان يقدّر شيخ الطريقة الخلوتية أحمد العسالي، كما يقول المؤرخ المحبي المصاحب لهما (توفي عام 1699)، فقد دعاه إلى الانتقال من الصالحية إلى هذه العمارة الجديدة لتصبح أيضًا مقرًا لشيخ الطريقة الخلوتية.
السور الخارجي يوم 5-4-2025
ولتغطية نفقات هذه العمارة متعددة الوظائف، فقد أوقف أحمد باشا الكثير من الأصول حولها وفي صيدا وجوارها، وفي صور وجوارها، وفي بانياس وجوارها “من مسقفات ومشجرات وبيوت وبساتين وطواحين وحمامات ومعاصر للزيت والدبس ومن قرى ومزارع وخانات وغير ذلك”، وخصّص جزءًا من واردات هذه لتقديم الوجبات المجانية والمشروبات المختلفة للحجاج الذين أصبحوا ينطلقون من هناك في اتجاه الحجاز.
ولكن أحمد باشا اُستُدعي للمشاركة في الحرب ضد التوسع الصفوي في العراق، وكلّفه السلطان العثماني بالمحافظة على الموصل، وقُتل هناك عام 1636، وحُمل رأسه ليدفن في الضريح الذي أعدّه ضمن القبة الجميلة في وسط العمارة. وبعد سنتين توفي الشيخ العسالي- عام 1638- ودُفن إلى جواره ليصبح قبره مزارًا لأتباعه، ولتشتهر العمارة مع الزمن باسم “تكيّة العسالي”.
ويتألف بناء العمارة/ التكيّة كما عرفناه من مربع غير منتظم (43 × 38 م) مؤلف من طابقين. وتتميز الواجهة الغربية المطلة على الطريق الرئيس بجمالية أكثر، حيث إنها مبنية من الحجر الجيري الأبيض ومدماك واحد من الحجر البازلتي الأسود ويتوسطها سبيل للماء، وفي آخرها دعامة كبيرة من الحجر البازلتي الأسود، ويدخل منها إلى الصحن (34 × 15 م) الذي تتوسطه قبة جميلة مبنية على بناء مثمن الشكل يحتوي على سبعة قبور، منها قبر الشيخ أحمد العسالي وقبر أحمد باشا الذي كُتب على شاهدته “هذا قبر المرحوم أحمد باشا، الوزير كافل المملكة الشامية…”. ولدينا في الجنوب إيوان كبير (6.75 × 5.90) مع محراب يُستخدم للصلاة. ويلاحظ في الطرف الجنوبي قاعة مستطيلة تُقدّم فيها وجبات الطعام، وإلى جانبها مخزن المؤن والمطبخ والمرافق الصحية، بينما يُلاحظ في الطرف الشمالي قاعة كبيرة تصلح للتدريس والشعائر، وإلى جانبها خلاوي لمبيت أتباع الخلوتية. أما في الطابق الثاني فلدينا في الجانب الشمالي الغربي أربع غرف تصلح لغايات مختلفة كالتدريس والمبيت… إلخ.
“تكيّة العسالي” في مجدها
وقد اكتسبت هذه العمارة/ التكيّة شهرة كبيرة لأمرين اثنين. فقد بُنيت في جوار “قبة يلبغا” التي كان قد بناها السلطان المملوكي سيف الدين يلبغا في 1346م، واشتهرت لذلك أيضًا باسم “قبة النصر” رمزًا لانتصاره على السلطان الكامل شعبان، ولكن أُعيد ترميمها في بداية العهد العثماني واشتهرت لاحقًا باسم “قبة الحج”. فنظرًا لتعاظم أهمية قافلة الحج الشامي خلال العهد العثماني، حيث أصبحت روافدها تبدأ من البوسنة وألبانيا والقوقاز… إلخ، فقد أصبحت عمارة أحمد باشا أو “تكيّة العسالي” تُعتبر المنزل الأول للحجاج. وكان من أوائل من زارها ووثّقها الرحالة العثماني المعروف أوليا جلبي، الذي جاء إلى دمشق في شوال 1081هـ/ 1671م في طريقه للحج، حيث عدّد منازل الحج الشامي التي مرّ بها، بادئًا بـ”منزل أحمد باشا كوجك الذي يبعد عن الشام مسافة ساعة واحدة”.
ويبدو أن مراسم خروج قافلة الحج الشامي من دمشق خلال القرن التاسع عشر تغيّرت قليلًا وأبرزت أكثر مكانة ودور هذه العمارة/ التكيّة. فقد أصبح موكب قافلة الحج الشامي ينطلق باحتفال رسمي مهيب من قلب دمشق في مطلع شوال، يكون على رأسه المحمل، ومن ورائه الوالي وأمير الحج والعلماء، ويخترق حي الميدان وسط حضور كبير وصولًا إلى “باب الله” (البوابة حاليًا)، ومنه إلى “تكيّة العسالي”، حيث ينزل كبار الشخصيات في خيام خاصة أُعدّت لهم بضيافة متولي التكيّة، وفي “قبة الحج” يكتبون حجة تسليم المحمل إلى أمير الحج الذي يبقى هناك إلى أن تنطلق القافلة في صباح اليوم التالي.
“بعد أسابيع من المفاجأة والفرحة بسقوط النظام، بدأت تبدو إشارات إلى تدمير منهجي لتكيّة العسالي، وهو ما تُظهره الصور، بدون أي شعور بوجود سلطة تحمي الآثار”
ولكن هذا المجد الذي عرفته “تكيّة العسالي” ارتبط أيضًا بالمتغيرات التي طرأت وأثّرت على دور التكيّة كمكان لانطلاق الحجيج، وبالتحديد مع البدء بشق سكة حديد الحجاز التي انطلق أول قطار عثماني من محطة الحجاز إلى المدينة المنورة في 1908، وهو ما جعل السفر الشاق عبر البر غير مرغوب فيه، وفقدت بذلك “تكيّة العسالي” مكانتها كأول محطة لقافلة الحج الشامي. ومن المفارقة أن سكة الحجاز أصبحت تمر في جوار التكيّة من جهة الشرق، أي في الأراضي الموقوفة على التكيّة، كما بُنيت إلى الشمال منها محطة القدم للقطار العثماني، التي أصبحت المحطة الأولى للقطار خارج دمشق، والذي بقي في الخدمة بعد 1920 إلى عمّان فقط.
ومع أن التكيّة كانت تتبع إدارة الأوقاف بعد استقلال سورية في 1943، إلا أن وزارة المعارف السورية افتتحت فيها مدرسة ابتدائية لقرية القدم المجاورة في ذلك الوقت. وقد استمرت هذه المدرسة الابتدائية تخدم أهل القدم إلى أن أُنشئت داخل القرية “مدرسة شكري القوتلي” في 1959 خلال عهد الوحدة مع مصر.
التكيّة نواة لـ”حي العسالي” الذي ثار في 2011
في غضون ذلك، ازداد قدوم واستيطان الوافدين من حوران إلى هذا المدخل الجنوبي لدمشق، وخاصة بعد انقلاب 8 آذار/ مارس 1963، حيث نشأت حول التكيّة نواة لحي جديد (حي العسالي) توسّع مع موجة النزوح من الجولان نتيجة لهزيمة حزيران/ يونيو 1967، حيث نزلت في التكيّة أعداد منهم. ومع ازدياد الاغتراب السوري إلى السعودية بعد 1970، نشأت في المنطقة مراكز انطلاق لشركات الباصات المتجهة إلى جدة والرياض، مما غيّر صورة المنطقة التي تعدّت بفضل الفساد المستشري على هذا المكان التاريخي. فقد هُدمت أولًا “قبة الحج” التاريخية مع صمت مريب لمديرية الآثار، وبُني مكانها محطة انطلاق لإحدى شركات الباصات، ثم تم الاستيلاء على الأراضي المحيطة الموقوفة على “تكيّة العسالي” لصالح شركات الباصات الجديدة (“الجميل” و”الحسام”… إلخ) مع تواطؤ مسؤولي الأوقاف والآثار، حتى كادت التكيّة أن تضيع وسط هذا الحصار المشوّه للموقع التاريخي.
ونظرًا لاهتمامي بالتاريخ العمراني لدمشق خلال العهد العثماني، فقد تابعتُ بأسى ما كان يحدث لمحيط تكيّة العسالي، وقابلتُ مرة معاون وزير الثقافة المعني بالآثار د. عبد الرزاق معاذ في 2006 لأشكو له ما يحدث هناك بعد أن استولت إحدى شركات الباصات على الحرم الجنوبي للتكيّة وبنت فيه مجمّعًا مخالفًا، فحوّلني إلى مدير آثار دمشق الذي استمع إليّ مرة، ثم لم يعد يرد على اتصالاتي الهاتفية. وهكذا، ما بدأه الفساد المتواطئ مع السلطات المعنية، أكملت عليه الحرب الدائرة في “حي العسالي” الذي أصبح مشهورًا بسبب الاشتباكات فيه بين المعارضة المسلحة وقوات النظام، وتعرض جراء ذلك إلى دمار جزئي في شهر شباط/ فبراير 2012 حسب الشريط الذي بُث على مواقع التواصل الاجتماعي.
من “حي العسالي” إلى “باسيليا سيتي”
ولكن بعد الاتفاق في عام 2018 على خروج المعارضة المسلحة، قامت السلطة بعد قطع الماء والكهرباء، بوضع حواجز على أطراف الحي لتمنع السكان، الذين وصل عددهم إلى حوالي مائة ألف، من ترميم بيوتهم. وقد اتّضح مع مرور الوقت أن هناك ما يُرتّب لجعل هذا الحي مع أحياء الحجر الأسود والقدم وداريا المجاورة ضاحية سكنية حديثة باسم “باسيليا سيتي” تُشكّل حزامًا جديدًا لدمشق بتركيبة ديموغرافية مناسبة للسلطة.
وفي هذا الإطار، سمحت السلطة المسؤولة عن الحواجز لأفراد المافيا المعنيّة بالمشروع بالدخول على مدار الساعة خلال 2019–2024 لتعفيش كلّ ما يمكن حمله من بيوت الحي، ثم لهدم كل ما هو قائم لسحب قضبان الحديد، حتى أصبحت المنطقة المحيطة بالتكيّة تبدو كأنها تعرضت إلى زلزال مدمر.
كانت فرحة سكان الحي كبيرة بسقوط النظام الأسدي في 8-12-2024، ولكنها تحولت إلى صدمة بعد أن جاؤوا ولم يستطيعوا أن يتعرّفوا على بيوتهم. وسط هذا الدمار بقيت “تكيّة العسالي” التي تقع على الطريق الرئيس قائمة بسبب حجارتها القوية، وربما بسبب التهيّب من مكانتها التاريخية. ولكن بعد أسابيع من المفاجأة والفرحة بسقوط النظام، بدأت تبدو إشارات إلى تدمير منهجي لتكيّة العسالي، وهو ما تُظهره الصور بين 5-4-2025 و 18-4-2025، دون أي شعور بوجود سلطة تحمي الآثار. وحتى في تاريخ التصوير في 5-4-2025، كان هناك شخصان على الأقل منعا المصوّر من الدخول وطلبا منه أن يعود في اليوم التالي. ويبدو أن الأمر يتعلق بنبش الأضرحة التاريخية كما أصبحت تبدو في الصورة، اعتقادًا بوجود ذهب مخبأ في البيوت الأثرية!
ومع الأسف الشديد، لا أعرف كيف سيكون الأمر حتى صدور هذا المقال، لكي يعرف وزير الثقافة عما يجري في أنحاء دمشق نفسها من تخريب للآثار، على اعتبار أن المديرية العامة للمتاحف والآثار تتبع وزارته، وربما يقول في ذلك بعض الأبيات على هذه الأطلال.
ضفة ثالثة