في سوريا الجديدة: هايد بارك التأويل ومتاهة الاختزال/ صبحي حديدي

تحديث 54 نيسان 2025
زائر منصة «تأكد»، أو https://verify-sy.com/ar/، الإلكترونية السورية المتخصصة بتدقيق الأخبار، العاجلة والدراماتيكية منها على وجه الخصوص، سوف يجد من العجائب ما لا حصر له، حتى لو دامت الزيارة ساعة واحدة يتيمة؛ بل لعلّ نصف هذا الزمن سوف يكون كافياً، لو اقتصر استعراض العجيب على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، الفيسبوك والإنستغرام خصوصاً. هنا ملاعب شرائح واسعة من السوريين، نساء ورجالاً، شيباً وشباباً، «علمانيين» أو ليبراليين» يناهضهم «إسلاميون» أو «أصوليون»؛ حول السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والأزياء وأطباق الطعام، وانطلاقاً (بصفة خاصة، جذرية أو «جذرومية» إذا عاد المرء إلى جيل دولوز مثلاً) من سرديات «الطوائف» و«المكوّنات» و«الأقليات» و«الأكثريات»…
خذوا، على سبيل الأمثلة فقط، بعض أحدث ما أضافه الموقع:
1) الادعاء يقول: اشتعال حرب أهلية بين أبناء الطائفة العلوية في جبل محسن داخل لبنان، وهجوم عصابات من الطائفة العلوية على فتيات من الساحل السوري؛ وأما تصحيح الموقع فيقول: الفيديو المرافق للادعاء يظهر إشكالاً بين عائلتين لبنانيتين في جبل محسن، ولا علاقة له بالنازحين السوريين من الساحل.
2) الادعاء يقول: لا صحة لفصل ساحة المسجد الأموي إلى قسمين، قسم للرجال وآخر للنساء؛ والتدقيق، في المقابل: أكد مراسل المنصة صحة الفصل في وقت سابق، لكن السياج الفاصل تمت إزالته دون توضيح رسمي.
3) صورة تُظهر سبايا إيزيديات في ساحة الساعة بمدينة إدلب؛ والتصويب: الصورة تعود إلى تظاهرة في مدينة الإسكندرية المصرية عام 2013، جُسّد فيها مشهد رمزي احتجاجاً على سجن فتيات كنّ قد شاركن في مظاهرة سياسية.
4) الادعاء: تُطرح قريباً عملة سورية بعد إزالة 3 أصفار، بما يعني عودة الدولار إلى 10 أو 15 ليرة، وتتضمن ورقة العملة الجديدة صورة للدينار الذهبي الأموي؛ والتصحيح: الادعاء ملفق والتصميم المتداول مولّد بالذكاء الاصطناعي، وثمة أخطاء لغوية فاحشة في النصوص العربية…
المشكلة، بالطبع، تبدأ من حقيقة تواجد السوريين على مواقع التواصل المختلفة بكثافة هائلة، الأمر الذي يجعل من منصاتها ــ المختلفة، المتقاطعة، المتعارضة، المتنافرة، المدجّنة… ــ ساحات صراع آراءٍ وسجال قناعات، وهذا أمر قد تكون إيجابياته أكثر من سلبياته؛ ما خلا أنّ قسطاً غير قليل من هذا الفضاء، الساخن أو حتى الملتهب المشتعل، إنما ينهض على قسط موازٍ من التلفيق والتضليل والخداع، على غرار النماذج الأربعة سالفة الذكر، أو ما هو أدهى وأمرّ وأخطر. وعند برهة ما، خلال واقعة فاصلة تبدو طارئة دخيلة عند البعض، أو مألوفة متعارفاً عليها عند البعض الآخر (اختلاط النساء بالرجال في الجامع الأموي، مثلاً) يندلع ذلك الطراز البغيض من مقارعات التأويل والتأويل المضاد؛ بعيداً بهذا المقدار أو ذاك عن مشكلات سياسية واقتصادية وحكومية جوهرية وبالغة التعقيد، في بلد خلّفته عصابات «الحركة التصحيحية» في حضيض من جوع وفقر وبرد وظلام، ودولة فاشلة أو تكاد.
طامة كبرى رديفة، أو هي نتاج للمشكلة الأمّ المتمثلة في انقلاب منصات التواصل المختلفة إلى «هايد باركات» مفتوحة على كلّ لغة مجادلة وخطاب سجالي واستسهال في التنزيه أو التخوين؛ هي استعداد كلّ فريق للانكماش على كتلة تأويل جَمْعية تأنس في ذاتها وحدة عالية من التطابق أو التكامل («علمانية» أو «ليبرالية» أو «يسارية» مثلاً) مقابل كتلة تأويل جَمْعية لا تقلّ يقيناً حول علوّ الوحدة الذاتية («إسلامية» أو «سلفية» أو «متدينة» أو «محافظة» هذه المرّة)؛ بصدد ما يبدو طارئاً هنا، أو مألوفاً هناك. في صياغة أخرى لمشهدية التقابل هذه، التناظرية في أكثر من مستوى واحد سلوكي أو تفكيري، ينقلب الاصطفاف تدريجياً إلى تقوقع، إرادي تارة أو تلقائي تارة أخرى؛ بحيث ينتهي هذا الفريق أو ذاك إلى اختزال ذاته، بذاته ومن أجل ذاته، ليصبح هو وحده سوريا، أو «الأكثرية» فيها، لأنها البلد بأسره مرّة أو لأنها «الأمّة» مرّة أخرى… ببساطة!
يندر، استطراداً، أن تُناقش واقعة اختلاط النساء بالرجال في الجامع الاموي في إطار بيئة حوارية مفتوحة، بمعنى الانفتاح على رأي آخر وتأويل مقابل، «تحت سقف الوطن» كما في العبارة عالية التفخيخ المجازي وبائسة المدلول الملموس. لا تندر، في المقابل، حالة «علماني» استشاط غضباً وثارت ثائرته حين تناهى إليه خبر الفصل بين النساء والرجال في المساجد، فقارع على الفيسبوك مثلاً؛ إلى أن بلغه خبر إزالة الحواجز، فهدأت ثائرته قليلاً، أو مؤقتاً، حتى جاءه نبأ ثالث يشكك في الخبرَين السالفين معاً وفي الآن ذاته لا يترك يقيناً واضحاً حول حال مؤكدة. ليس هذا التشخيص كاريكاتورياً عن سابق قصد، بل هو في ذاته بعض المأساة والمهزلة لأنه في اعتبار أوّل يسري على نموذج «إسلاميّ» مناصر لسلطة الأمر الواقع، استغرق سيرورة مشابهة في استقبال التقلبات الثلاثة للخبر الأصلي حول جامع بني أمية الكبير. كلٌّ غنّى على ليلاه، كما في القول المأثور الذي لا يُراد من اقتباسه هنا أيّ تثمين أو تبخيس لأيّ من فريقَيْ التأويل والسلوك والمقارعة؛ مع فارق حاسم، محزن وعميق الغور وهائل الأثر، أنّ سواداً غير قليل من السوريات والسوريين كان انشغاله الفعلي الأعظم يدور حول سعر كرتونة البيض، وعدد ساعات توفير الكهرباء، وإجراءات الحدّ الأدنى من الأمن في الطريق إلى مقرّ العمل أو سوق الخضار (وليس بالضرورة إلى مقهى الروضة أو الجامع الأموي!).
ليس أقلّ إثارة للانتباه، حيث لا يغيب التشخيص الكاريكاتوري التلقائي هنا أيضاً، قائلٌ ناقد للصف «العلماني» يتساءل: ألستم دعاة الفصل بين الدين والدولة، فما شأنكم بالنساء في الجامع والرجال؟ يقابله قائلٌ ناقد للصفّ «الإسلامي» يردّ على التساؤل بآخر نظير: الجامع هنا ليس مقام الصلاة والتعبد فقط، بل هو إرث حضاري ومعماري وطنيّ الطابع. قائل ثالث، حاضر بدوره في معمعة السجال، سوف يمسك العصا من المنتصف: لا هذه ولا تلك فقط، بل كلا الموقعَين قائم ومشروع واستحقاقاته مُلزمة… وأمّا قائلٌ رابع، وهو متوفّر أغلب الظنّ وطبقاً للمنطق الأبسط، فقد يشفق على مواطنيه الثلاثة، متسائلاً عمّا إذا كانت حكاية وضع الحواجز بقصد المنع، أو إزالتها ولكن من دون إلغاء المنع، أو اعتماد ترتيب ثالث محيّر بَيْن بَيْن؛ ليست في نهاية المطاف سوى تنويعات على لعبة إلهاء، قد لا تختلف (إلا من حيث الشحن الوجداني والثقافي والديني ربما) عن إشاعات منع بيع الخمور في باب توما، أو رفع «العَلَم العلوي» المندثر في أعالي قرفيص، أو إصدار ليرة سورية ذات دينار أموي.
وبين أن تكون منصات التواصل الاجتماعي بمثابة «هايد باركات» مفتوحة لسجالات السوريين، وهو أمر حميد في نهاية المطاف، وضمن حصيلة إجمالية للمحاسن والمساوئ؛ أو أن تنقلب، استطراداً، إلى متاهة تأويل وتأويل مضادّ، على خلفية الشائعة عدّاءة المسافات الطويلة، والاختزال العقائدي الضيّق الذي لا إيديولوجيا خدم ولا فلسفة كرّم؛ ثمة واجب حيوي يُلزم فرقاء الرأي والانحياز، في المعارضة المزمنة أو الولاء المطلق، بمراعاة إبقاء الأعين مفتوحة على اتساعها في إبصار المشاقّ والمصاعب والعذابات التي وضعتها عصابات آل الأسد ونظام «الحركة التصحيحية» على كواهل السوريين والسوريات.
حيث معجزات مواصلة معيش الحدّ الأدنى في الحياة اليومية لا تقع على ألواح حروب التواصل الاجتماعي، ولا تطلقها مقارعات الجهابذة من روّادها.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي