حفيدتي وأنا والعيش في “بلاد العواء”/ مالك داغستاني

2025.04.24
أنا ممن يميلون إلى الاعتقاد بأن القتل ليس غريزة بشرية. الإنسان لا يُولد برغبة في القتل، بل يولد بتركيبة نفسية معقّدة، تتضمن غرائز أساسية كغريزة البقاء، والدفاع عن النفس، والرغبة بالسيطرة. هذه الغرائز قد تؤدي إلى العنف في ظروف معينة، لكنها لا تُفضي بالضرورة إلى القتل.
يحدث القتل أحياناً بدوافع بيولوجية نفسية في حالات الغضب الشديد، لدرجة أن يصيب الفاعل ما يشبه الاضطراب العقلي. أحياناً يمارس الإنسان القتل لعوامل اجتماعية كالعنف في البيئة المحيطة والفقر والظلم. لكن الأهم والأعم أن الكثير من القتل إنما يحدث في سياق استخدامه كأداة للسيطرة وبسط النفوذ. في الحروب يُقتَل الآخر لأنه “عدوّ” وفق تصورات جماعية، غالباً هي تصورات إيهامية يعمل على تنميتها أصحاب النفوذ ذوي المصالح، من أجل المزيد من السيطرة.
قبل ست سنوات تقريباً، كانت حفيدتي (11 عاماً) القادمة من برلين تجلس إلى جواري. على شاشة التلفاز كان يُعرض تقرير إخباري عن حادثة في أحد مخيمات الشمال السوري. حيوان غرير هاجم طفلة نائمة وتسبّب لها بتشوهات، ليتمكّن سكان المخيم من قتله في النهاية. لم تكن حفيدتي، التي تعيش في برلين منذ سنوات وبالكاد تفهم العربية الفصحى، تتابع بدقة التفاصيل، لكنها فجأة سألتني بدهشة واستنكار: “هل قال إنهم قتلوه؟” أجبتها بنعم، فاستفسرت عن السبب، وأجبتها بما بدا لي منطقياً وبديهياً: “لأنه هاجم الطفلة وسبّب لها الأذى”.
بإجابتي تلك، كنتُ قد فتحتُ أبواب جهنم ليس على نفسي فقط، وإنما على المجتمع الذي نشأت فيه. كان أول أسئلتها: أليس لديهم قفص؟ لم أفهم سؤالها جيداً، فاستفسرتُ عن لزوم القفص. أجابت ببساطة، وكأنها تشرح واحدةً من المسلمّات: “كي يضعوه فيه ويعيدوه إلى الغابة أو إلى بيئته الطبيعية. هل يعقل أنك لا تعرف بأن الحيوان لم يقصد إيذاء الطفلة، وهو إنما كان يعيش ويمارس غريزته”. كشف لي هذا الموقف (الدرس)، ليس فقط المسافة بين جيلين، بل بين ثقافتين ونمطين من التفكير.
حفيدتي التي نشأت في بيئة تحتفي بالحياة، بما فيها حياة الحيوان، لم تفهم كيف يمكن أن يكون الحل الوحيد لأي خطر هو القتل. أما أنا، فقد نشأت في بلاد لا تُقيم كبير وزنٍ للحياة، وخصوصاً حياة الكائنات الأخرى المحكومة بالموت على الأغلب. فيُختصر التعامل مع أي تهديد بشري أو حتى خلاف مع الآخر عبر الإقصاء، والإلغاء، وأحياناً الإبادة. وأرجو هنا ألا يعتقد أحد، أنني لا أعلم عن تاريخ الغرب الاستعماري، وحروبه وضحايا تلك الحروب، فأنا أتحدث هنا تحديداً عن نمط التربية في تلك المجتمعات.
القتل ليس فقط الفعل الدموي الذي يسلب الحياة. هناك أطوار أخرى تسبقه، وتندرج في إطار القتل الرمزي أو النفسي: الإذلال، الإهانة، سلب الكرامة، الظلم، التهجير، التجويع، كلها أفعال إن لم تكن تؤسس للقتل، فهي تُعتبر واحدة من درجاته. الإنسان يمتلك وعياً أخلاقياً وقدرة على اتخاذ القرار، ولهذا فإن فعلاً كقتل إنسان آخر، بما فيه الأطوار التي تسبق القتل البيولوجي، يُجرَّم ويُدان في معظم الثقافات. ولكن هل تحوّل القتل إلى فعل مُستَسهَل لدى بعض السوريين، بعد أربعة عشر عاماً من القتل اليومي الذي مارسه نظام الأسد؟ ليغدو لديهم وكأنه غريزة مثلما هو لدى حيوان الغرير.
في سوريا، اعتدنا على أخبار القتل، وشاهدنا مناظر الدم لسنوات طويلة. أصبح مشهد الجثة العارية أو الوجه المشوّه مألوفاً، ما حوّل فعل قتل الإنسان من واحدة من الكبائر إلى فعل يومي غير ذي أثر في بعض الأحيان. صرنا نشاهد مئات المقاطع المصوّرة التي توثق إذلال الناس، شتمهم، صفعهم، إهانتهم، تحقيرهم، وصفهم بأقذع الأوصاف وتعريتهم من إنسانيتهم، وصولاً إلى قتلهم.
صور ومشاهد لقسوتها كانت تُدمي قلوباً كثيرة، بينما كانت تُضحك آخرين، وكأنّ الضحية مجرّد مادة للتهكم. ربما هذا ما سهَّل على السوريين اليوم استساغة صور حديثة، منها الطلب من مجموعة من البشر أن تعوي، وحين يصرخ الضحية “عَوّ.. عَوّ” يضحك بعضنا، معتبراً أن الضحايا هم الآخرون (الأعداء)، ويبكي آخرون. بينما المفترض، لولا تشوهاتنا، أن نبكي جميعاً في الحالتين، أو على الأقل أن نعتبر الضحك عاراً، إن لم يكن عرضاً مرضيّاً، أمام جرائم من هذا النوع.
سقط الأسد. اعتقدنا بسذاجة وربما بكثير من الأمل، أننا نجونا بأقلّ الخسائر، لكن على ما بدا فيما بعد، فإننا نحتاج إلى سنوات من إعادة التأهيل للفطام عن تلك الفظاعات. ما زلنا نعيش في بلاد الموت المجّاني وبلاد العواء البشريّ. ما زال الإنسان يُقتل أو يَذلّ لأنه ينتمي إلى طائفة أخرى، وللسخرية، يقتل أحياناً لأنه كان في المكان الخطأ في الوقت الخطأ. غالباً، يخطر لي، أن الخلاف بعد سقوط الأسد، لجهةِ حالات الانتهاكات، هو نوع من تبادل للأدوار بين الفاعلين. وهذه واحدة من مفاعيل غياب العدالة التي ما زالت تتلكأ وتتخبط حتى اليوم، ما يتسبب بإعادة إنتاج المأساة.
اليوم، تذكّرت ذاك الموقف القديم مع حفيدتي لأنها عادت لزيارتنا، بعد سنوات أخرى من الغياب. ولأني بصعوبة نجوت من درسها ومحاكمتها السابقة، فأنا منذ أيام أصدر الأوامر الصارمة بعدم تشغيل أية قناة إخبارية تهتم بالشأن السوري، بل ولا أجرؤ على مشاهدة أي مقطع مصور أمامها. فما الذي يضمن لي أنها لن تشاهد إنساناً يقتل آخراً وهو يضحك، أو تسمع
أوامر العواء يصدرها أحدهم على بشر آخرين، كما لو كانوا قطيعاً من الكلاب. فأي تفسير سأملك حينها، وكيف أقنعها أن جذورها تعود إلى بشر أسوياء، بينما في الواقع فإن كل ما يختص بسلوكنا، وحتى أقوالنا وكتاباتنا، يشي بأننا أناس يحتاجون إلى علاجٍ مديد.
تلفزيون سوريا