سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعنصوص

سورية… الموز والبسطات والعدالة؟/ منذر مصري

25 أبريل 2025

(إلى من لا يهمّه الأمر)

1- ثورة الموز:

كانت أول مظاهر سقوط النظام، قاطبة، في شوارع وساحات اللاذقية، وأظن في مدن سورية جمعاء، ما عدا إدلب بالتأكيد، سطوع وسيطرة اللون الأصفر، وذلك نتيجة لتكوّم أقراط الموز في دكاكين الخضروات والبسطات والعربات، بكميات بدت وكأنها زائدة عن حاجة أهل المدينة، بكبيرهم وصغيرهم وغنيهم وفقيرهم، للموز، حتى ولو تركوا كل شيء يأكلونه واكتفوا بأكل الموز صباحًا وظهرًا ومساء. أدت هذه الكميات الكبيرة إلى تناقص تدريجي ولكنه بدوره سريع جدًا، في الصباح غيره عند العصر، في سعر كيلوغرام الموز، من 35 ألفًا إلى 7 آلاف ل. س للموز المحلّي، وإلى 10 آلاف ل. س لأنواع جديدة من الموز المستورد، لا أحد يدري من أين؟ كما لا أحد يدري كيف تم استجلابها بالسرعة القصوى، وكأن الموز هو كل ما كان ينقص السوريين خلال سنوات النظام، أو لأقل كأنه رمز لكل ذلك الغبن والجور الذي كان واقعًا عليهم، وتوفره الآن هو بدوره رمز لانتصار الثورة وبداية لتحقيق وعودها!

2- سقط النظام انتصر البسطاء!:

بعد الموز، أقول بعد، إلّا أن الموز لليوم ما زال، وعلى ما يبدو سيبقى زمنًا طويلًا هو المسيطر، لأن جوعًا غير قابل للإشباع يشعر به أهل اللاذقية للموز، جاءت بقية الفاكهة المحرمة، التفاح بأنواعه وألوانه، والأجاص ذو الخدّ الوردي المرتب في صناديق صغيرة، ورؤوس الأناناس الأكبر حجمًا بسعر والمتوسطة بسعر والأصغر بحجم رأس قرد بسعر، والكيوي بأنواعه المحسنة وراثيًا! ثم… البطاطا! أتصدقون أنه كانت هناك مؤسسة حكومية مخصصة للبطاطا! اليوم تسمع من يصيح “بطاطا… بطاطا مالحة” تحت بيتك كل صباح، تبتاع منها زوجتي وتكتشف أنها ليس بطاطا مالحة! نعم… لم يستغرق اللاذقية المحررة أكثر من أسبوع لتحتل البسطات العشوائية أسواقها وشوارعها وساحاتها، من ساحة الشيخ ضاهر، ساحة الشهداء، اسمها الرسمي، التي تفتقد لحد ذرف الدموع تمثال القائد الخالد، واقفًا في وسطها لا يتزعزع، لمدة نصف قرن ويزيد، فتبدو وكأنها بلا قلب! واللـه أستغرب كيف يستطيع اللوادقة الاستمرار في الحياة من دونه! عليه ألف ألف لعنة. إلى دوار الزراعة، مدخلها شرقًا، الذي لم يعرف ما هي البسطات قبل سقوط النظام، ثم جنوبًا وعلى الرصيف اليميني لشارع شكري القوتلي إلى ساحة أوغاريت، التي بسبب قربها من أسواق البالة، احتلت الثياب البالية مواقف السيارات على جانبيها، فصارت مع امتداها الشرقي في اتجاه حديقة أبي تمام سوق جمعة حقيقية كل أيام الأسبوع، ثم متابعة في اتجاه الجنوب، شارع عمر بن الخطاب مرورًا بمدخل الصليبة حتى ساحة العلبي، مدخل مشروع تجميل الصليبة بسطات المربيات، الطن، المارتديلا، الحليب المركّز والمحلّى، المشمش التركي المجفّف، الطحينة والحلاوة السكرية، المكسرات بأنواعها الغالية والرخيصة، الكعك والحلويات الإدلبية، وهذا في الحقيقة لا ينقص اللاذقية البتّة وخاصة بعد أن افتتح المهجرون الحلبيون عددًا من أحدث وأكبر المخابز. والزجاجيات بنصف أسعارها السابقة، والأدوات المنزلية وغير المنزلية، والخفّافات الرياضية وثياب وألعاب الأطفال، ولحوم الدجاج نصف المجمّدة، التي حذر منها وأشيع أنها فاسدة! وقناني المياه الطبيعية التي نصّت على آداب شرب الماء، جالسًا، وميمّنًا، ومسمّيًا، وحامدًا، بعد اختفاء مياه بقين والدريكيش والسن التي كانت تنتجها لنصف قرن مؤسسة معامل الدفاع الوطني، وتتصدر صور اجتماعات مجلس الوزراء ومجلس الشعب وقيادات فروع وشعب وفرق حزب البعث العربي الاشتراكي. وعبوات البنزين والمازوت البلاستيكية المختومة (يقولون لك)، وجرّات الغاز الذي يمكن لك أن تعبئها بالكيلو، من الخزانات الواقفة عند كل مفرق شارع، وذلك بعد سنوات من التقتير وانتظار الرسائل والبطاقات الذكية! كذلك، وإن على نحو أقل، بسطات الدراجات النارية، فقد سمح باستخدامها في المدن بعد منع طويل، ويقال إنها ستمنع مجددًا، وعروض السيارات الفارهة ذات الماركات الأوروبية واليابانية، لا الكورية والصينية التي كانت قد ملأت سورية، وخسر أصحابها بعد انتصار الثورة نصف أثمانها! ثم الصرافون، كيف أنسى، لافتة “محل صرافة” تقرؤها على الواجهات الزجاجية لمئات المحلّات، حتى سمانة الأحياء. فأهم ما تمّ تحريره في سورية، هو الدولار، الممنوع سابقًا حمله وتداوله وحتى ذكر اسمه، شفاهية أو كتابة.

أذكر في زيارتي لأحد القضاة في القصر العدلي أنه أطلق أمامي سراح موقوف منذ شهر ونصف الشهر بتهمة حيازة 50 دولارًا، وآخر قضى ثلاثة أشهر بتهمة سرقة كيس طحين! يا إلهي أي دولة قانون كانت سورية! ولكن المشكلة كانت وما زالت، أن هناك كل شيء، وبأسعار أقل ممّا سبق بنسبة لا بأس بها، ولكن ليس هناك فلوس! ليس هناك سيولة عند الناس، الرواتب التي لم تف السلطة بوعدها زيادتها 400% ما زالت لا تزيد عن 30 دولارًا في أفضل الأحوال، عدا عن حجبها عن مئات الألوف من الموظفين لأسباب أغلبها غير محقة، والحوالات بالعملة الصعبة التي كان يرسلها من في الخارج إلى أهاليهم، صار ينبغي، بسبب ارتفاع سعر الليرة السورية مقابل الدولار واليورو، مضاعفتها!

3- هل البسطة نظام؟

لنبدأ كما يفعل المتفلسفون، بتفكيك الكلمة لغويًا، وسأفعل هذا الآن بدون العودة لأي معجم، بالتأكيد مصدرها (بسط). بسط يبسط بساطًا وبسطة! يا للعبقرية! وأيضًا، وهنا بيت القصيد: (البساطة)! ذلك أن كل ما حدث في سورية، على الأقل قبل مأساة 6 و7-3-2025، تبدّى بسيطًا. فالنظام السوري الشمولي الأبدي قدم مثالًا إعجازيًّا، في سهولة وبساطة سقوط الأنظمة، بعد 14 سنة من العناد والتعنّت! كما تبدّت بساطة محرري سورية! في المظهر والمحتوى! وبساطة فهمهم للتحرير والحرية: “هيا يا سوريون عاد البلد لكم فافعلوا ما شئتم”! وهكذا… أربعة أشهر والسوريون يحيون من دون دولة، حتى وكأنه لا حاجة لها، ومن دون سلطة، ومن دون قوانين، ومن دون أمن، سوى شبان، ليسوا كثيري العدد، مسلحين، بذقون وشعور طويلة، أغلبهم ملثمون، لك أن تراهم عند مفارق الطرق والحواجز ومداخل المدن والبلدات، وأحيانًا يعبرون الشارع من أمامك، اثنين أو ثلاثة معًا، كسائحين أجانب بثياب الميدان المغبرة، يتصرفون كما يحلو لهم، أغلبهم مهذبون كما يقال، ولكن بعضهم لا! فلا أحد، كما يبدو، يقول لهم ماذا يجب أن يسألوا وكيف يجب أن يتصرفوا. كما ليس ثمّة سياسة عامة معلنة ولا إدارة واضحة! وكأن الذين بيدهم مقاليد الحكم،  لا يملكون تصورًا عن الدولة الحديثة ولا عن المجتمع المعاصر! سوى ما يقال، ويصدّقه الجميع، رغم أن الرئيس الشرع نفسه قد نفاه، إنهم يجعلون من تجربتهم في إدلب، التي يعدّونها قد حققت تمام النجاح، مثالهم الأعلى في حكم وإدارة سورية كلها! وأستطيع انسياقًا مع فكرة البسطة، أن أقول، بالعسف الذي تؤدّي إليه كل المقاربات، إنها ما يمكن استخلاصه كبنية ونظام لهذه السلطة! ليس بسطات السوق فحسب، التي كان النظام السابق لا يسمح بها سوى لمخبريه وأعوانه، أضافة لاقتطاع نسبة من أرباحهم! بل المنهج الذي عملت به هذه السلطة في إدارتها لكل الملفات التي بين أيديها، وعالجت على هديه كل المشاكل المعقدة التي اعترضتها! لنأخذ كمثال اللقاءات التي جرت من أعلى مستوى إلى المستوى الشعبي، بينها وبين ممثلي مختلف أطياف السوريين، والتي لم تستطع أن تحول دون حدوث ما حدث في الجنوب والساحل! أو اللقاءات التي عقدتها اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني. ما يقارب الثلاثين لقاء خلال أسبوع واحد، أي بمعدل أربعة لقاءات يوميًّا من 16-2 إلى 23-2-2025. وقد حدث وحضرت لقاء اللاذقية شخصيًا، الذي بدا للجميع أشبه ببازار– سوق شعبية لا أكثر ولا أقل! فبدل أن يناقش المجتمعون، لجنة وحضورًا، ما يضطر السلطة القائمة لعقد هذا المؤتمر، وأهميته للشعب السوري في هذه المرحلة، وآليه انتقاء أعضائه وعددهم، ومدته، وبرنامجه، وجدواه، وما إذا كانت مخرجاته مجرد توصيات ترفع إلى السلطات العليا لتسترشد بها أم قرارات تلتزم بتنفيذها! جرى تحديد عدة نقاط للنقاش، وأعطي لكل من يريد الكلام مدة دقيقتين للتعبير عن رأيه، وأغلبهم لم يتقيّد بذلك! وكأن اللقاءات كافة كان غايتها أن تكون بروفات- تجارب تمهيدية للمؤتمر! الذي تفاجأ الجميع بموعد بدئه مساء 24-2، أي اليوم التالي مباشرة لانتهاء لقاءات اللجنة! مما أدّى لتعذر قدوم عدد لا بأس به من المدعوين، وخاصة من في الخارج، كما تفاجأنا أكثر بسرعة انتهائه في 25-2-2025! وبما أن اليوم الأول قد خصص للعشاء والتعارف، فإن مدة المؤتمر كانت يومًا واحدًا! مما يؤكد أن البيان الختامي الذي جرى التصويت عليه من قبل المؤتمرين البالغ عددهم ما يقارب 600، كان معدًا مسبقًا. أي أن المؤتمر بقضه وقضيضه كان سوقًا أخرى، وإن على مستوى أعلى!

4- بسطات القضايا السورية:

لن أوغل في نظرتي التبسيطية لما عليه الواقع السوري وواقع السلطة اليوم، فآتي على ذكر الإعلان الدستوري، وتشكيل الحكومة السورية الجديدة في 30-3-2025، بعضوية 23 وزيرًا، بينهم سيدة واحدة، أعرف بعضهم وأقدر مدى تضحيتهم في تنكبهم في هذه المرحلة الصعبة لهذه المهام المستحيلة، بعرف الكثيرين من المراقبين، وبرئاسة رئيس الجمهورية بالذات، الحدثين اللذين أعتبرها فرصتين كبيرتين ضائعتين، لماذا؟ لأن السلطة كانت تستطيع بواسطتهما أن تمضي بسورية خطوتين صحيحتين على الطريق الصحيح، سادّة في وجه منتقديها ومناوئيها في الداخل والخارج الذرائع التي يبررون بها مواقفهم المعارضة والرافضة لها، الذين يجدون أنه من واجبهم نحو بلدهم وشعبهم، ألّا يتركوا خطأ يحدث، جملة في خطاب، أو كلمة في لقاء تلفزيوني، أو تفصيلًا في صورة، إلّا ويقيمون الدنيا ولا يقعدونها تقريعًا وهجاء! فإذا استخفّيت في شيء كهذا، وطلبت منهم الاهتمام بالأمور الجوهرية، يجيبونك بحدّة: “أتريدوننا أن نخرس ونهزّ رؤوسنا لكل شيء؟”. فما بالك بإعلان دستوري! ومؤتمر وطني، وتشكيل وزارة لا يحقّق بأي منها في اعتبارهم الحدّ الأدنى من المشاركة المطلوبة محلّيًا ودوليًا، والتي يشترطها الجميع لإيقاف العقوبات والاعتراف بشرعية الحكم الجديد! فأنا مثلًا كنت أتمنّى أن يكون هناك رئيس للوزارة غير رئيس الدولة، أحد أولئك السوريين الذين يتوخّى فيهم المعرفة والقدرة على إدارة الأزمات! كما هي سورية اليوم. فيكون بهذا مساعدًا لرئيس الدولة وشريكًا له في تحمل المسؤولية أمام الشعب.

5- ما يزيد عن العدالة:

أمّا ما يجب ألّا يفوّت أبدًا ومهما كانت الأعذار والظروف، فهو وصول لجنة تقصّي الحقائق في أحداث الساحل السوري يومي 6 و7-3-2025، إلى معرفة هويات المرتكبين وتحديد جرائمهم وتحويلهم للمحاكم، دون أي تلكؤ أو إرجاء. فلا شيء كالعدالة الكاملة يمكن له أن يساعد على تضميد الجراح وجبر القلوب وتطييب الخواطر! أوّل ما قالت السيدة ميادة ريحان، ابنة السيدة رزقة سباهية، أم كل السوريين، التي قتل أمام عينيها ابناها وحفيدها: “كل ما نطلب هو العدالة”.

قلت تساعد! لأني أعرف أن الجراح عميقة وغائرة، وإن التأمت فإنه يبقى تحت الجلد ألمها يمضّ ويوجع. ولا أظنّ هناك ما يجعلنا نتقبّل الألم ونتحمّله سوى التآخي والتعاطف والحب، الذي يحتّم على جيران الضحايا وشركائهم في العيش والوطن والمصير أن يقدّموه صادقًا وكاملًا.

6- انتهى العيد:

كتبت ما سبق والتقطت الصور المرفقة قبل انتهاء شهر رمضان، وظاهرة البسطات في أوجها. المدينة برمّتها غارقة تحت البسطات! وما إن انتهى العيد، وهذه المرّة لم يفرح به أهل اللاذقية جميعهم، حتى قامت دوريات من شرطة البلدية والأمن العام، خلال ساعات، بإزالة البسطات في كل مكان! وذلك بعد توجيه إنذار رسمي مسبق لشاغلي الأرصفة على مختلف أصنافهم، وتخصيص ساحة كبيرة أوّل شارع المغرب العربي بالقرب من الملعب البلدي، لينقلوا إليها بسطاتهم وعرباتهم التي لا مصدر لديهم للدخل سواها. لكن بسطات الأرصفة لا يمكن أن تزول جميعها، فما زال المرخّص منها سابقًا في محلّه، وقد تزيّن بعلم الثورة! غير أن السؤال يبقى: “انتهى العيد.. فهل انتهت عقلية البسطات لدى السلطة السورية القائمة اليوم؟”.

(اللاذقية 14-4-2025)

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى