العدالة الانتقاليةسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

العدالة الانتقالية تحديث 26-27 نيسان 2025

لمتابعة هذا الملف اتبع الرابط التالي

العدالة الانتقالية في سوريا

—————————–

العدالة الانتقالية في سورية… تفاوت في محاسبة رموز نظام الأسد يثير غضباً/ محمد أمين

27 ابريل 2025

يتابع جهاز الأمن العام في وزارة الداخلية السورية إلقاء القبض على أشخاص من أجهزة النظام المخلوع الأمنية، أو في جيشه المنحل، متهمين بارتكاب مجازر وتصفية واعتقال، وهو ما يجد صدى إيجابياً، لكن تحضر تساؤلات لدى سوريين حيال إفراج الجهاز نفسه عن أشخاص لديهم سجل موثق في الانتهاكات، وعدم تعاطيه مع أمراء حرب يتحركون دون خشية، ما يطرح أيضاً أسئلة بشأن مسار العدالة الانتقالية في سورية.

متهمون بقبضة الأمن وآخرون طلقاء

وأعلنت مديرية أمن حمص أمس السبت أنها ألقت القبض على “المجرم اللواء عساف عيسى النيساني، المتورط بجرائم حرب بحق الشعب السوري”. كما ألقى جهاز الأمن العام السوري، الأربعاء الماضي، القبض على محمد تيسير عثمان، وهو أحد المتهمين بارتكاب جرائم بحق سكان أحياء المزة وكفرسوسة في العاصمة دمشق، كما كان المسؤول السابق عن قسم الدراسات في سرية المداهمة 215 التابعة لاستخبارات نظام الأسد. ونزل سكان أحياء منطقة المزة إلى الشوارع احتفالاً بالقبض على عثمان، الذي اعترف على الفور بأنه قام باعتقال مئات الشبان على خلفيات موقفهم من الثورة ضد النظام، والمشاركة في عمليات تعذيبهم في السجون.

كما أعلنت وزارة الداخلية السورية، الخميس الماضي، إلقاء القبض على عدد من المطلوبين المتورطين في جرائم حرب واعتداءات بحق المدنيين، وذلك في إطار ما وصفته بـ”العمل المتواصل لتعقب مجرمي الحرب وملاحقة كل من تورّط في سفك دماء الأبرياء”. ومن بين هؤلاء، جرى القبض على تيسير محفوض في مدينة طرطوس، شمال غرب سورية، علماً أن محفوض كان يعمل أيضاً ضمن فرع الأمن العسكري 215 (سرية المداهمة)، ومتهم بارتكاب جرائم حرب بحق المدنيين في أحياء المزة وكفرسوسة بدمشق، إضافة إلى مسؤوليته عن تغييب أكثر من 200 شخص، معظمهم من أبناء تلك المناطق، في سجون النظام السابق. كما أعلنت مديرية أمن اللاذقية إلقاء القبض على عروة سليمان، المتهم بارتكاب جرائم قتل بحق مدنيين، ومشاركته في الحملة العسكرية على مناطق الشمال السوري في عام 2019، بالإضافة إلى ضلوعه في هجوم على مواقع تابعة للجيش والأمن في مارس/آذار الماضي.

وخلال الأيام القليلة الماضية، كثّف “الأمن العام” من نشاطه في متابعة الأشخاص المتهمين بارتكاب تجاوزات بحق السوريين، فألقى القبض أيضاً في مدينة اللاذقية على الرئيس السابق لفرع التحقيق في إدارة الاستخبارات الجوية، العميد سالم داغستاني. وكان الجهاز ألقى القبض على عدد من رموز النظام السابق الأمنية والعسكرية، وأبرزهم عاطف نجيب، الرئيس السابق لفرع الأمن السياسي في درعا، وإبراهيم حويجة، رئيس إدارة الاستخبارات الجوية ما بين عامي 1987-2002، والذي كان يُعرف برجل الاغتيالات في النظام السابق إبان عهد حافظ الأسد. كما ألقى جهاز الأمن العام القبض على عدد من أركان النظام الذي تمّ إسقاطه في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي، ومنهم محمد الشعار، الذي كان وزيراً للداخلية في نظام بشار الأسد.

وفرّ العدد الأكبر من أركان النظام السابق من عسكريين وأمنيين من البلاد بعد ساعات من الإعلان عن سقوط نظام الأسد. ويُعتقد أن عدداً من هؤلاء متوارون عن الأنظار في الداخل السوري، والقبض عليهم يتطلب عمليات تعقب دقيقة، كما حدث مع تيسير عثمان، الذي وقع في قبضة الأمن العام بعد ثلاثة أشهر من الملاحقة والتعقب في الساحل السوري، وفق تصريحات أحد القياديين في الجهاز.

في المقابل، لا يزال العديد من المتهمين بارتكاب مجازر، طلقاء في البلاد، يتحركون تحت مرأى جهاز الأمن العام، لعل أبرزهم فادي صقر، الذي كان أبرز قادة ما كان يُعرف بـ”الدفاع الوطني”، الذي أشرف على عمليات إبادة في جنوب دمشق وفي قلبها، وأشهرها مجزرة التضامن الدامية (إبريل/نيسان 2013). وقد خرج سكان “التضامن” في تظاهرات منددة بزيارة قام بها صقر إلى حيّهم في شهر فبراير/شباط الماضي، برفقة مسؤول في جهاز الأمن العام الذي أجرى “تسوية” مع صقر، رغم أنه أبرز المتهمين بارتكاب مجازر خلال سنوات الثورة السورية من عام 2011 إلى نهاية عام 2024. ولم يحصل السوريون على إجابات حيال عدم إلقاء القبض على أمراء الحرب، الذين لا يزالون في البلاد، سواء من الأمنيين والعسكريين والاقتصاديين، أمثال محمد حمشو، وهو المعروف بأنه كان “واجهة” لنظام الأسد.

وفي السياق، أثار نبأ إطلاق سراح ضباط في نظام الأسد، بعد إلقاء القبض عليهم، موجة غضب واستياء في الشارع السوري، الذي طالب وزيري الداخلية والعدل (أنس خطاب ومظهر الويس) عبر وسائل التواصل، بتوضيحات حيال هذا الأمر. وأُفرج يوم السبت 19 إبريل الحالي، عن 28 ضابطاً وصف ضابط، كانوا في صفوف قوات النظام السوري السابق، من بينهم مصطفى نصر العلي، والذي له سجل موثق بالأدلة في ارتكاب مجازر بحق السوريين.

وبيّن القانوني غزوان قرنفل، في حديث مع “العربي الجديد”، الآليات القانونية المتبعة في التعامل مع الأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم وتجاوزات، مشيراً إلى أنه “يتم تنظيم محضر يوضح أسباب القبض مع استجواب أولي، ثم يُحال الشخص إلى النيابة العامة”. وتابع أنه “على ضوء طبيعة الجرائم المرتكبة يُحال المتهم إلى القضاء، فإذا كانت الجرائم جنائية الوصف، تُحال إلى محكمة الجنايات، وإذا كانت جنحية الوصف تُحال إلى محكمة بداية الجزاء”. وأشار إلى أنه “حين تتخذ السلطة قرار تشكيل محكمة خاصة بالنظر في هذه الجرائم، يمثل هؤلاء أمامها مع توفير حق الدفاع لهم”.

سياق ضروري لمسار العدالة الانتقالية في سورية

ولم تتقدم الإدارة السورية الجديدة بأي خطوة قانونية لتشكيل جهة أو هيئة منوط بها تحقيق مبدأ العدالة الانتقالية في البلاد، رغم أنه بات من أكثر الملفات حضوراً في المشهد السوري المعقّد. ومنذ إسقاط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر الماضي، والمنظمات الحقوقية السورية تحث الإدارة السورية الجديدة على إيلاء هذا الملف كل الاهتمام. وأوضح قرنفل، في هذا السياق، أن مفهوم العدالة الانتقالية “لا يقتصر على المحاكمات فقط”، معتبراً عمليات إلقاء القبض على أشخاص متهمين بارتكاب جرائم بأنها “ليست جزءاً من العدالة الانتقالية”، ومضيفاً أن “هناك سياقات أخرى يجب العمل عليها في حال الاتفاق على برنامج وطني للعدالة الانتقالية”.

من جهته، قال الخبير في مجالات الحوكمة، زيدون الزعبي، في حديث مع “العربي الجديد”، إن الوقت حان للتعاطي مع ملف العدالة الانتقالية في سورية بجدية، مضيفاً أن “هذا هو السبيل لإيقاف الجرائم” في هذا البلد.

وفي السياق ذاته، قدمت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، أخيراً، رؤية عن العدالة الانتقالية في سورية بعد سقوط نظام الأسد، مشيرة في تقرير إلى “أن المرحلة الانتقالية الراهنة تشكل منعطفاً تاريخياً، يقتضي الانتقال نحو مرحلة جديدة تعالج الإرث الثقيل من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وترسخ مبادئ العدالة والسلم الأهلي”. وطالبت الشبكة المجلس التشريعي، الذي من المفترض تشكيله بناء على الإعلان الدستوري، بـ”إعداد قانون تأسيسي يُحدِّد مسار العدالة الانتقالية في سورية للمرحلة المقبلة، بالاستناد إلى التشريعات الوطنية ذات الصلة، ويتوافق مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان.

وقالت الشبكة إنها وثقت على مدار 14 عاماً، بشكل يومي دقيق، انتهاكات نظام الأسد، مؤكدة أنها “أنشأت قاعدة بيانات شاملة تضم ملايين الوقائع الموثقة لمختلف أطراف النزاع”. وبحسب التقرير، حدّدت الشبكة هوية الأفراد المتورطين في هذه الانتهاكات، وتمكنت من جمع قائمة موسعة تضم أسماء نحو 16 ألفا و200 متورط، بينهم: 6 آلاف و724 فرداً من القوات الرسمية، التي تشمل الجيش وأجهزة الأمن، و9 آلاف و476 فرداً من القوات الرديفة، التي تضم مليشيات ومجموعات مساندة قاتلت إلى جانب القوات الرسمية. وحدّدت الشبكة أربعة أركان أساسية لتحقيق العدالة الانتقالية في سورية وهي: المحاسبة الجنائية، كشف الحقيقة والمصالحة، جبر الضرر والتعويض وتخليد الذكرى، وإصلاح المؤسسات، تحديداً القضاء والأمن والجيش.

وفي السياق ذاته، دعا القانوني محمد صبرا، في حديث مع “العربي الجديد”، إلى إنشاء “هيئة وطنية للعدالة الانتقالية، وإصدار التشريعات اللازمة لتسهيل عملها”، معتبراً أنه “في المرحلة الحالية، يجب التحفظ على جميع الموقوفين، والبدء بإجراءات التحقيق وجمع الأدلة حولهم بإشراف قضائي، وضمن القوانين السورية النافذة حالياً”.

العربي الجديد

—————————————-

هل ستكون هناك عدالة انتقالية في سوريا؟/ حسان الأسود

2025.04.27

لطالما شكل مفهوم العدالة الانتقالية ركيزة أساسية في مراحل التحول من الحكم الاستبدادي أو الصراعات الداخلية إلى أنظمة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان والقانون. وفي الحالة السورية، تبرز العدالة الانتقالية كأحد أبرز التحديات وأعمقها تعقيدًا في طريق إعادة بناء الدولة والمجتمع بعد أكثر من ستة عقود من الاستبداد ودمار هائل خلفته سنوات الثورة والحرب.

لطالما شكل مفهوم العدالة الانتقالية ركيزة أساسية في مراحل التحول من الحكم الاستبدادي أو الصراعات الداخلية إلى أنظمة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان والقانون. وفي الحالة السورية، تبرز العدالة الانتقالية كأحد أبرز التحديات وأعمقها تعقيدًا في طريق إعادة بناء الدولة والمجتمع بعد أكثر من ستة عقود من الاستبداد ودمار هائل خلفته سنوات الثورة والحرب.

منذ انقلاب حزب البعث في 8 آذار 1963، دخلت سوريا نفقًا مظلمًا من القمع والهيمنة الأمنية والعسكرة الشاملة للدولة والمجتمع. ثم جاء حكم حافظ الأسد في عام 1970 ليرسّخ ديكتاتورية مطلقة قائمة على حكم الفرد، واستمر ذلك الغصب السياسي من خلال التوريث إلى ابنه بشار عام 2000. هذه العقود الطوال من الحكم الشمولي تميزت بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، كمجزرة حماة في الثمانينات، واعتقال وتعذيب المعارضين، والقمع المنهجي للحريات.

ومع انطلاق الثورة السورية عام 2011، انفجرت كل التراكمات المجتمعية والسياسية، وتحوّلت البلاد إلى مسرح دموي لصراع معقّد شاركت فيه أطراف داخلية وخارجية. ارتُكبت خلالها جرائم ضد الإنسانية، بما فيها القتل الجماعي، التهجير القسري، استخدام الأسلحة الكيميائية، والاعتقال التعسفي الممنهج. لا شكّ بأنّ الثورة لا تتحمّل وزر هذه الجرائم والانتهاكات، لكن لم يبق فصيلٌ عسكري إلا وانغمس فيها بدرجة أو بأخرى. ومن أنواع الانتهاكات الجسيمة غير الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، ثمّة انتهاكات هائلة مسّت اقتصاد البلاد والبيئة ومؤسسات الدولة. هذا كله يجعل من ملف العدالة الانتقالية أكبر ملف يجب العمل عليه، خاصّة وأنّه يرتبط بملفات شائكة أخرى مثل إعادة الإعمار والتعافي المبكر.

إنّ حجم ملف الانتهاكات في سوريا هائل، لدرجة تجعل من أي مشروع للعدالة الانتقالية مهمة تاريخية واستثنائية. ملايين الضحايا، سواء من الشهداء والقتلى أو المفقودين أو المهجرين أو المعتقلين عند سلطات الأمر الواقع التي ما زال بعضها موجودًا مع الأسف، يحتاجون إلى الاعتراف، والجبر، والمحاسبة. وما يزيد من تعقيد هذا الملف هو انخراط أجهزة الدولة جميعها، من القضاء إلى الأجهزة الأمنية إلى الإعلام إلى البنوك والمصارف وحتى مؤسسات التعليم والصحة، في التغطية على هذه الجرائم أو المشاركة فيها.

إن مؤسسات الدولة السورية، التي بقيت تحت سيطرة النظام طوال العقود الماضية، لم تعد مؤهلة قانونيًا ولا أخلاقيًا لأداء أي دور في مرحلة العدالة الانتقالية. فهي مؤسسات فاسدة، غير محايدة، وفاقدة للمصداقية، وتعاني من تآكل كلي في بنيتها وفعاليتها. إن إعادة تأهيل هذه المؤسسات يتطلب مراجعة شاملة للكادر البشري، وفحصًا دقيقًا لخلفيات الموظفين، خصوصًا في القضاء والأمن والإدارة بكل مستوياتها. لم تسلم مؤسسات المجتمع المدني من هذا الدمار، فالنقابات والاتحادات نالت نصيبها من الفساد أيضًا ومن احتكار السلطة والمنافع. حتى المؤسسات الأهلية والجمعيات الخيرية تلوّثت بشكل أو بآخر.

العدالة الانتقالية ليست انتقامًا، بل هي مسارٌ يضع الضحايا في الصميم منه. يجب أن تكون مصالح الضحايا، وحقوقهم، وكرامتهم، هي المحور الأساسي لأي مقاربة سورية للعدالة. لا يتحقق هذا الأمر بمجرد محاسبة بعض المسؤولين، بل بإصلاح عميق للمنظومة السياسية والقانونية، وضمان عدم التكرار، والتعويض المعنوي والمادي، وكتابة التاريخ الحقيقي لما حدث. من أخطر المؤشرات التي تثير القلق حاليًا هو سلوك السلطة الجديدة في التعامل مع رموز النظام السابق. فقد ظهرت تسوياتٌ صادمة مع عددٍ من كبار الضباط، والشبيحة، والفاسدين، بل ووفّرت لهم الحماية وبعضهم يعيش بحرية كاملة من دون أي ملاحقة حقيقية، بل إنّ بعضهم يشغلون مناصب جديدة، ما يرسل رسالة مقلقة بأن الفساد والإجرام لا يُحاسب، بل يُكافأ. هذا النمط من التسويات يُجهض أي أمل في عدالة انتقالية حقيقية، ويُشعر الضحايا بالإهانة، ويقوّض فكرة المحاسبة من جذورها. رأينا تبعات هذا الأمر من خلال إعلانات لم نتأكد بعد من صدقيتها عن تشكيل كتائب أمنية لتنفيذ القصاص بالفلول ورموز النظام وشبيحته، وهذا مؤشر خطير على نفاد صبر المواطنين الذين يرون الحق والعدل يفلت من بين أصابعهم.

في 29 كانون الأول 2024، عقدت الفصائل العسكرية “مؤتمر إعلان النصر” الذي نصب السيد أحمد الشرع رئيسًا مؤقتًا للبلاد. السلطة الراهنة بالعموم، آتية من خلفية إسلامية سلفية جهادية، تمثل بشكل أو بآخر امتدادًا لمنطق الغلبة لا التوافق، وهو ما يثير مخاوف عميقة من أن تتحول المرحلة الانتقالية إلى إعادة إنتاج للسلطوية بلبوس ديني أو فصائلي. لقد حذرت كثيرٌ من القوى السياسية من هذا التفرّد ومن الاتجاه الصريح نحو حكم الجماعة الواحدة وربّما الأسرة ولاحقًا الفرد، بما يعيد إنتاج النظام السلطوي الفردي. هذه السلطة، وإن فرضت نفسها كأمر واقع، لا يمكن أن تُمنح شرعية كاملة إذا لم تلتزم بعملية شاملة للعدالة والمحاسبة وبناء الدولة على أسس المواطنة والتشاركية. بقاء السلطة بشكلها الراهن أحد التحديات الماثلة أمام مسار حقيقي للعدالة الانتقالية.

على صعيد آخر، وبدلًا من أن يكون مؤتمر الحوار الوطني محطة جامعة لإعادة بناء العقد الاجتماعي، جاء هزيلًا ومحدود التمثيل، مستبعدًا طيفًا واسعًا من القوى السياسية والمجتمعية والثورية. كذلك فإن الإعلان الدستوري الذي صدر لاحقًا مثّل خيبة أمل كبيرة، حيث حصَر المحاسبة بجرائم النظام البائد، متجاهلًا الجرائم والانتهاكات التي ارتكبتها فصائل معارضة أو جهات جديدة بعد سقوط النظام. العدالة الانتقالية لا تعني الاقتصار على طرف واحد، بل تقتضي الشمول والحياد، وإلا فإنها تتحول إلى أداة سياسية للانتقام وليس للعدالة. أمّا الحكومة الانتقالية التي تشكلت بعد الإعلان الدستوري فلم تتبنَّ أيًا من المبادئ التشاركية أو التمثيل العادل لمكونات الشعب السوري. إنها أشبه بهيكل إداري مركزي موروث من عقلية النظام السابق، مع غطاء شرعي جديد، من دون تغيير جوهري في طريقة الحكم أو توزيع السلطة. هذا يهدد بتحويل المرحلة الانتقالية من فرصة لإعادة بناء الدولة إلى مرحلة “تقاسم غنائم” بين المنتصرين، ما قد يزرع بذور صراع قادم.

ما الذي نحتاجه فعلًا لتحقيق عدالة انتقالية ذات معنى في سوريا؟ الجواب بسيط ويكمن فيما يلي:

    إطار وطني جامع يتضمن مشاركة جميع مكونات المجتمع، من أحزاب وتيارات سياسية، منظمات مجتمع مدني، ممثلي الضحايا، والعاملين في حقوق الإنسان، دون إقصاء أو احتكار.

    كشف الحقيقة من خلال لجان وطنية، تعمل على توثيق الجرائم والانتهاكات من كافة الأطراف، ونشرها بشفافية أمام الرأي العام.

    آلية محاسبة مستقلة لا تخضع للسلطات الجديدة، بل ترتبط بهيئات دولية أو لجان محايدة تضمن النزاهة والحياد.

    إصلاح المؤسسات عبر إعادة هيكلة القضاء والأمن والإدارة، والتأكد من نظافة سجل من يشغلون المناصب العامة.

    تعويض الضحايا معنويًا وماديًا، وإعادتهم إلى الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الكريمة.

    ضمان عدم التكرار عبر وضع ضمانات دستورية وقانونية لحماية الحريات وحقوق الإنسان.

    إعادة كتابة التاريخ من خلال نشر السرديات المختلفة وتخليد الذكرى.

العدالة الانتقالية في سوريا ليست مجرد أمنية، بل ضرورة حيوية لضمان الاستقرار والمصالحة وبناء دولة المواطنة. لكن الطريق إليها محفوف بالمخاطر، خصوصًا في ظل سلطة الأمر الواقع الحالية التي تبدو غير جادة في تبني معايير العدالة الشاملة. إن لم تتغير هذه المقاربة، فإنّ سوريا ستجد نفسها مرة أخرى أمام دوامة انتقام وعنف، بدلًا من التأسيس لمستقبل يستحقه الشعب السوري بعد كل ما عاناه

تلفزيون سوريا

——————————-

ملاحظات برسم الإدارة السورية/ بشير البكر

26 ابريل 2025

ليس في وسع الإدارة السورية الجديدة أن تواصل العمل بفلسفة “من يحرّر يقرّر”، وقد كشفت حصيلة عدة أشهر أن المردود العام متواضع، وهناك ارتفاع لمؤشّر المشتكين والمحتجين، ينذر بتراجع تدريجي للرصيد الإيجابي، الذي جنته بفضل إسقاط نظام بشّار الأسد. ومن يتابع وسائل الإعلام ووسائل التواصل من الداخل والخارج يجد أن هناك حالة من عدم الرضى في طريقها لتشكيل تيارات معارضة، قد تلعب دوراً في إعاقة تقدّم التحوّل الجديد الواعد محلياً وعربياً ودولياً. وتتمحور الانتقادات حول جملة من الملاحظات.

أولاً، ضعف الخبرة في إدارة الدولة. وهذا أمر يجد بعض المبرّرات، ولا أحد من السوريين يطالب الحكومة أن تكون كاملة الأوصاف بين يوم وليلة. وعلى هذا، ليس هناك ضير من أن تتعلم الأساليب بالممارسة، شريطة أن تمتلك الاستعداد، وتتحلى بالتواضع. وكما حذّر أكثر من صاحب رأي حريص على النجاح، فإن التجريب، وارتكاب الأخطاء ترفٌ ضارٌّ جداً في هذه المرحلة. ويحضر هنا شأن اختيار أشخاص ليسوا على قدر من الكفاءة، في مواقع متقدّمة، ومثال ذلك وزير الثقافة محمد ياسين صالح. وكان من الأفضل تعيين شخصية على صلة بالكتابة أو المسرح أو السينما. وتشكّل الضجة التي أثارها بظهوره في مضافة شخصية قبلية إشكالية جرس إنذار للقيادة، كي تعيد النظر بالقرار، وتتراجع عنه قبل فوات الأوان، وألا تكرّره في تعيينات أخرى.

ثانياً، الاستئثار بإدارة الدولة، من خلال إسناد الوزارات الأساسية كالخارجية والدفاع والداخلية والعدل لشخصيات من هيئة تحرير الشام، لا تملك تجربة كافية في العمل الحكومي، وبعضها غير متخصّصة في الميادين التي تشغلها، وليس في سجل الآخرين سوى أنه قيادي في “الهيئة”، وهذا لا يكفي، بل لا يمكن الرهان عليه لبناء مؤسّسات فاعلة، وتقديم صورة إيجابية عن سورية الجديدة، التي يهم حاضرها ومستقبلها جميع أبنائها على اختلاف توجّهاتهم السياسية، والفكرية، والطائفية، والعرقية.

ثالثاً، ضعف الفاعلية في التعاطي مع المطالب الخارجية، وفي مقدمها قائمة الشروط الأميركية، التي تسلمتها الحكومة السورية، وردّت عليها. والملاحظ عدم تحقيق الإدارة السورية نتائج جوهرية، بدليل عدم حصول أي تقدم في قضية رفع العقوبات الأميركية، التي تتوقف عليها تلقي مساعدات مالية عربية ودولية، وتسهيل وصول المستثمرين إلى سورية. وهنا يتوجب التوقف أمام مسألتين مهمتين: الأولى، عدم تقديم تنازلاتٍ تتعلق بالسيادة، والموقف من إسرائيل. والثانية، ما لم تتمكّن الحكومة من إدارة هذه الأزمة بنجاح، فإن الإقبال الغربي والعربي نحو سورية لن يتقدّم إلى الأمام، كما أن تصفية التركة السياسية التي تركها نظام الأسد لن يتم وفق حسابات الإدارة، وسيظل أمر استكمال الوحدة الداخلية يراوح في مكانه في الجنوب والشرق. ولن تتمكّن الدولة من إبطال مفعول الألغام السياسية التي تهدّد وحدة البلد، إلا من خلال تحصين الجبهة الداخلية على أسس سليمة، تعتمد على توسيع قاعدة المشاركة في الحكم، والقرار، واحترام التنوّع، والتعدّد.

رابعاً، تأخّر إطلاق مشروع العدالة الانتقالية، وتشكيل الهيئة الخاصة بها. وتعزو أوساط قانونية سورية سبب ما حصل من تجاوزات إلى عدم بدء محاسبة مسؤولي النظام السابق، سواء الذين جرى اعتقالهم، أو الفارّين داخل سورية وخارجها. وقد أدّى هذا الخلل إلى نمو نزعة الثأر، وتحصيل الحقوق بوسائل غير قانونية، تهدّد السلم الأهلي. ومن دون شك، لو تمت المسارعة في إقرار هذا المسار على أساس إحقاق العدالة، لتم حقن الكثير من الدماء في الساحل، ووقف الاعتداءات التي يتعرّض لها الأبرياء بسبب استشراء نزعة الانتقام والكراهية ضد المكوّن السوري العلوي.

العربي الجديد

تحديث 26 نيسان 2025

——————————–

=========================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى