منوعات

في مسألة دريد لحّام/ معن البياري

26 ابريل 2025

لو دخل دريد لحّام مطعماً أو مقهىً أو مطاراً في عمّان أو الكويت أو تونس، مثلاً، لالتمّ ناسٌ كثيرون حولَه، وطلب منه عديدون التقاط صور معه، فالرجل، وإن لم يعُد، منذ سنواتٍ، نجماً حاضراً في راهن الدراما والسينما العربيّتين، ما زال يقيم في ذاكرة أجيالٍ من العرب اسماً جذّاباً وفنّاناً محبوباً. ولئن لا يُحرِز، في العموم، لدى العشرينيين والثلاثينيين من الشبّان العرب، تلك المكانة الباقية له في الأجيال الأسبق، إلا أنهم يعلمون قيمته واحداً من مشاهير الضحك العربي زمناً ليس قليلاً. ومعلومٌ أن نجوميّته، كوميدياناً وممثلاً بارعاً وظريفاً، كانت، خصوصاً في المشرق (وحتى في مصر) والخليج العربي، واسعةً جدّاً. وليس المقام هنا لمحاولة تفسير “تزحزُح” موقعه من موضعِه الشاسع ذاك، وإنما أن الفنان الكبير (91 عاما) بدا ذاهلاً، على ما أوضحت عيناه، عندما لم يشعُر بوجودِه أحدٌ، في مطار دمشق عائداً من سفر، وقد طيّرت وسائل التواصل فيديو قصيراً له، مع زوجته (وابنته ربما)، يمشي باتجاه مدخل الخروج، وليس ثمّة من يحفل بأنه دريد لحّام، وذلك على غير ما كان سيحوزُه من بالغ الاهتمام في مطارٍ عربيٍّ آخر.

قد لا يفلح واحدُنا في تخمين أسئلةٍ طافت في دماغ النجم العتيق في تلك اللحظات، مع احتمال أن تكون هذه الصورة غير كافيةٍ تماماً، فربما اكترث أحدٌ به في المكان شبه المكتظّ (الحديث هنا عن مطار)، غير أن سؤالاً قد يأتي إلى بالك ما إذا كان الفنان الشهير اعتبر تجاهلَه يعودُ إلى أن فتيةً وشبّاناً من الناشئة في المكان لا تعرفه بالقدر الكافي، أو لأن “زمّار الحيّ لا يطرب”، فهو بين مواطنيه الذين ربما اعتادوا أن يشاهدوه في أسواقٍ عامةٍ أو مقاهٍ ومطاعم ودوائر حكومية، وليس فقط على شاشات التلفزات ومنصّات “يوتيوب” وغيرهما، أم تتعلّق المسألة باستنكار ملايين السوريين رداءة مواقفه في ممالأة نظام الأسد، سيّما في سنوات المقتلة، ما جعل “تكويعته” غداة تحرّر سورية من هذا النظام لا تُستَقبل بغير الاستهجان والسخرية.

حدّثني صديقٌ في دمشق إن دريد لحّام دخل مقهى الروضة الشهير، وجلس وحيداً وشرب قهوته، وباستثناء تحياتٍ عابرةٍ معه، لم يُبدِ أحدٌ اهتماماً خاصّاً به. وفي الأثناء، دخل المقهى شخصيةٌ من المعارضة السورية في الخارج واستُقبل بعراضةٍ فرِحةٍ به. وفي زيارتي دمشق، في فبراير/ شباط، شاهدتُ النجم الذي طالما أقعدتني هزليّاتُه في صباي الأول أمام التلفزيون، وأسرته يتناولون العشاء في مطعم الفندق. وفي زيارتي التالية، في مارس/ آذار، صودف أن جالستُه قليلاً من الوقت، بمناسبة أمرٍ معيّن، مع زملاء، فكان الحديث مجاملاتٍ سريعةً وكلاماً عامّا، ولم يكن المقام يسمح بمحاورته في تشبيحه العتيد. وفي ظنّي أن مساءلة دريد لحّام في الذي كان فيه ثم صار عليه تنفع للصحافة، وليس في دردشاتٍ مرتجلةٍ في مصادفاتٍ في فنادق ومقاهٍ ومطارات، أقلّه احتراماً لشيخوخته (لا تبدو عليه علائمها!). غير أن في الوُسع أن يُرى أمر السوريين معه نوعاً من العقاب لشخصِه، فهم، عقوداً، كانوا يعتزّون به واحداً من نجوم المسرح السياسي والدراما الضاحكة والسينما المسلية، عربياً، ولا يغفلون دوره، مع زملاء له عديدين، في إنعاش النشاط المسرحي والتلفزيوني والسينمائي في بلدهم، غير أنهم، في الوقت نفسه، وإنْ كانوا يتسامحون، إلى حدٍّ ما، مع جرعاتٍ من نفاقه التقليدي لحافظ الأسد، لا يغفرون له إسرافَه المقيت في مماشاة بشّار الأسد في سنوات الثورة، وعدم احترامه ضحايا الأخير، وكان في وسعه أن يكون، أقلّه، “محضر خير”، إذا كانت له وجهة نظرٍ لا تتفق مع المجرى الذي ذهبت إليه الثورة السورية. وكان ملحوظاً منه، في مقابلةٍ له مع تلفزيون الميادين، قبل نحو خمس سنوات، أنه يزهو بأنه كان يطالب بالحرّيات في سورية في مسرحيّاته في وقتٍ لم يكن أحدٌ يجرُؤ على قول شيءٍ، ما لا يُجيز لغيره أن “يُزاود” عليه في هذه المسألة.

لا يبدو أن “غوّار الطوشة” قد أقنع أحداً من السوريين بتكويعته الحادّة التي أشهرَها على شاشتي “العربية” و”الجزيرة مباشر”. للحقّ كان طريفاً، وهو يفترض في الجمهور السذاجة، لا أظنّه كان “يمثّل” على الناس، وإنما حاول أن يحمي صورتَه، فيُنقذ، ما أمكن، في خريف عمرِه، ما تبقّى له من شعبيّةٍ لا تنفكّ تنحسر بين ناسه. … لم “تزبُط” معه، بدلالة عينيْه الذاهلتيْن، في مطار دمشق، وسط ناسٍ لا يُلقون له بالاً.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى