العودة إلى سورية… مغتربون غلبهم الشوق رغم الكلفة والأزمات/ ضياء الصحناوي

27 ابريل 2025
يُتوقع أن يشهد صيف العام الجاري عودة لنسبة أكبر من المغتربين إلى سورية، هؤلاء الذين مضت سنوات طويلة على حرمانهم من وطنهم ومن لقاء عائلاتهم، في ظل بعض التحسينات المشجعة.
بعد أكثر من 14 عاماً من الحرب والعقوبات الدولية، تشهد سورية منذ نهاية عام 2024 تحولات غير مسبوقة دفعت آلاف المغتربين السوريين إلى التخطيط لزيارة البلاد خلال صيف 2025. هذه العودة، التي تُعد الأولى بعد سقوط نظام بشار الأسد، تأتي في ظل تحسن نسبي في الأوضاع الأمنية، وإصلاحات جزئية في البنية التحتية، خاصة في مطار دمشق الدولي والمعابر الحدودية.
وكشفت مفوضية شؤون اللاجئين الأممية، أن حوالي 400 ألف سوري عادوا من دول الجوار إلى وطنهم الأم منذ سقوط نظام الأسد. وقالت إنه خلال نفس الفترة عاد أكثر من مليون نازح داخليّ في سورية، ليصل إجمالي عدد السوريين الذين عادوا إلى ديارهم إلى أكثر من 1.4 مليون شخص.
يستذكر ميلاد الناصر، المغترب السوري في هولندا، أيام طفولته في المدرسة الابتدائية قبل أن يغادر منذ 11 عاماً. لم ينتظر حلول فصل الصيف لزيارة وطنه، بل فضّل التوجه إلى دمشق في يناير/كانون الثاني الماضي، ليصبح من أوائل المغتربين الذين عادوا بعد التغييرات السياسية. ويقول لـ “العربي الجديد”:” بدأت أبحث إمكانية السفر إلى سورية منذ الأيام الأولى لسقوط النظام السابق. كان هناك رحلات للخطوط الجوية القطرية إلى مطار دمشق. ورغم أن كلفة التذكرة من هولندا مروراً بالدوحة ذهاباً وإياباً تجاوزت 1400 دولار، إلا أن فرحتي بالعودة جعلتني لا أفكر حتى في ساعات الانتظار الطويلة في مطار الدوحة التي وصلت إلى 12 ساعة”.
ويشير الناصر إلى أن مجموع نفقات رحلته التي استمرت 15 يوماً، بما في ذلك الإقامة عند الأقارب والتنقلات وتناول الطعام في المطاعم واستئجار سيارة، لم تتجاوز ثلاثة آلاف دولار. ويضيف: “لولا تكاليف رحلة الطيران المرتفعة، لكان المبلغ الإجمالي أقل من ألفي دولار. أبحث في عروض شركات الطيران للصيف المقبل، مثل العديد من أفراد الجالية السورية في هولندا الذين ينتظرون العطلة الصيفية، وأتوقع أن يشهد يوليو/تموز وأغسطس/آب تجمعاً كبيراً للمغتربين السوريين في العاصمة دمشق”.
كلفة السفر الكبيرة عقبة أمام المغتربين السوريين في أوروبا
وأبدت الإدارة السورية الجديدة اهتماماً بإعادة تأهيل مطار دمشق الدولي والمعابر الحدودية، وقدمت التسهيلات الكبيرة للوافدين، وأمدّت المراكز الحدودية بعناصر مدربة على تقديم الخدمات اللازمة والتسهيلات والتعامل مع العابرين. وبحسب تقارير صادرة عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان عام 2023، فقد كانت الحواجز الأمنية تمثل العائق الأكبر أمام المغتربين، وكانت تُفرض رسوم غير رسمية تصل إلى 300 دولار لكل حاجز في بعض الطرقات. لكن “الوضع اختلف جذرياً بعد إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية”، كما يؤكد منذر السلمان، وهو مغترب سوري في ألمانيا زار بلاده في مارس/آذار الماضي.
يقول السلمان لـ “العربي الجديد”: “الطرقات باتت أكثر أمناً، ولم أدفع سوى 50 دولاراً للتنقل من بيروت إلى دمشق عبر سيارة نقل عام، مقارنة بـ 400 دولار في السابق بسبب الرشاوى. التحسن لم يقتصر على الطرق البرية، بل شمل أيضاً المطار، وتكاليف السفر لم تتعد 500 دولار ذهاباً وإياباً، حيث لا رشى ولا ابتزازات كالسابق من قبل موظفي المطار، ولم تعد تُفرض رسوم جمركية كبيرة على الحمولات، إضافة إلى أمور أخرى منحت السوريين فرصة للزيارة، وأعتقد أن صيف دمشق سيكون مختلفاً هذا العام”.
ولا تقتصر أمور التسهيلات على أجور النقل الداخلية وتخفيض الضرائب، إذ يؤكد تقرير لمنظمة الطيران المدني الدولي مؤخراً أنه بعد إعادة تأهيل مطار دمشق الدولي، انخفض متوسط وقت التفتيش من 3 ساعات إلى 45 دقيقة، الأمر الذي يعتبر نقلة نوعية في التعامل مع المسافرين في حرم المطار.
وفي شهادة تعكس التحول الجذري في طبيعة التعامل الأمني، يروي حسان أبو علي، أحد أهالي السويداء، تجربته أثناء توجهه إلى مطار دمشق الدولي لاستقبال أحد المغتربين. لفت انتباه أحد عناصر الحاجز الأمني لوحة سيارته التي تحمل اسم السويداء، ليقترب منه ضاحكاً ومتسائلاً: “من بيت أبو قعقور أو بيت أبو مالحة؟”، في إشارة إلى المسلسل التلفزيوني “الخربة”.
وأوضح العنصر الأمني الذي تبين أنه من محافظة إدلب، أنه حفظ لهجة أهالي السويداء من المسلسل، وأنه يحلم بزيارة البلدة التي تم تصوير العمل فيها منذ سنوات. ويشدد أبو علي على التغيير الكبير في الحواجز الأمنية، التي تحولت من نقاط للابتزاز وفرض الإتاوات وإذلال المسافرين، إلى مراكز تقدم الخدمات والتسهيلات مع الحفاظ على الأمن. ويؤكد أن اختفاء هذه الممارسات ساهم في إلغاء تكاليف إضافية كانت تثقل كاهل المسافرين، وكانت في بعض الأحيان تفوق كلفة السفر إلى سورية.
رغم ما سبق، تبقى عقبة السفر بالنسبة للمغتربين في أوروبا. وتُظهر بيانات شركة “سكاي سكانر” أن متوسط سعر تذكرة الطيران من أمستردام إلى دمشق عبر الدوحة يصل إلى 1400 دولار، بينما لا يتجاوز 600 دولار من إسطنبول، ما يدفع كثيرين إلى اختيار تركيا كنقطة عبور. وبالنسبة للمغتربين السوريين في الخليج، يُعتبر السفر البري عبر الأردن أو لبنان الخيار الأوفر، وتصل كلفة السيارة الخاصة ذهاباً وإياباً إلى 400 دولار، بما في ذلك رسوم التأمين والحدود، وفقاً لاتحاد النقل البري السوري.
أما التحدي الأكبر، فيبقى في إصدار جوازات السفر. بعد قرار الحكومة الانتقالية خفض رسوم جوازات الحجاج بنسبة 50%، يطالب المغتربون في دول الخليج الحكومة بتعميم هذا القرار ليشمل السوريين غير المعتمرين والحجاج.
ويقول محمد العمري، السوري المقيم في السعودية وأحد أهالي درعا، لـ “العربي الجديد”، إنه قرر وعائلته السفر إلى سورية بسيارتهم الخاصة هذا الصيف. لكن العقبة الكبرى هي تكاليف استصدار الجوازات السورية. ويوضح أن الأسرة المكونة من خمسة أفراد تحتاج إلى حوالي 5000 دولار للحصول على جوازات سفر فورية، بسبب الصعوبات البيروقراطية في منصات الدور الإلكترونية وبطء إصدار الجوازات عبر القنصليات.
ويوجه العمري نداءً إلى الحكومة الجديدة لتعديل تسعيرة الجوازات، مشيراً إلى أن تخفيض الرسوم بنسبة 50% للحجاج يعد سابقة إيجابية يمكن تعميمها. ويعرب عن تفاؤله بأن الحكومة ستقدم المزيد من التسهيلات خلال الفترة المقبلة لجذب المغتربين ورجال الأعمال، ما قد يساهم في عودة السياحة إلى سورية ولبنان بعد غياب دام أكثر من 14 عاماً.
كما يتطرق العمري إلى قضية تذاكر الطيران، قائلاً إن كلفة تذكرة الطيران من السعودية إلى سورية للفرد الواحد تبلغ حوالي 500 دولار، بينما لا تتجاوز الكلفة الإجمالية للسفر براً بسيارة خاصة ذهاباً وإياباً، بما في ذلك رسوم العبور والتصاريح لمدة ثلاثة أشهر، الـ 400 دولار بغض النظر عن عدد الركاب. ويتحدث عن الميزة الإضافية المتمثلة في توفير تكاليف استئجار سيارة داخل سورية، والتي تقدر بما بين 500 دولار و1000 دولار شهرياً. كما يذكر أن تكاليف الإقامة تظل معقولة مقارنة بمستويات المعيشة في دول الاغتراب، خصوصاً للمقيمين في أوروبا.
من جهة أخرى، يقف تدني الخدمات الأساسية في سورية عائقا أمام عودة الكثير من المغتربين. على سبيل المثال، لا يتجاوز معدل التزويد اليومي للكهرباء 4 ساعات في دمشق وساعتين في حلب، وفقاً للمرصد السوري للطاقة. بينما تعتمد بعض المناطق الريفية بالكامل على مولدات خاصة، حيث يصل سعر كيلوواط الساعة فيها إلى 0.5 دولار، مقارنة بـ 0.02 دولار قبل الحرب.
ويقول عمر الحسين من السويداء والمغترب في ألمانيا، لـ “العربي الجديد”، إن “تدهور الخدمات يجعلنا نؤجل فكرة العودة؛ فهنا كل شيء مؤمن. أما في سورية، فجلها متوقف أو منهار ما أثر على الحركة الاقتصادية. وهذا غير مشجع”.
وفي قطاع السياحة، شهدت بعض الفنادق في دمشق انتعاشاً طفيفاً، وارتفع معدل الإشغال من 10% في 2023 إلى 35% في مايو/أيار الماضي، وفقاً لاتحاد الفنادق السورية. لكن الأسعار ما زالت مرتفعة، إذ يبلغ متوسط سعر الغرفة في فندق 4 نجوم 120 دولاراً لليلة الواحدة لغرفة بسرير واحد. وهذا أيضاً يجعل المغتربين الذين فقدوا منازلهم في الحرب يتأخرون عن العودة، كما يقول علي عبد الصمد من ريف دمشق، الذي دمر منزله في القصف.
أما على الصعيد الاقتصادي، فتسعى الحكومة الانتقالية إلى تحفيز المغتربين على الاستثمار، عبر إلغاء بعض القيود المفروضة على تحويل الأموال، وإصدار “جواز المستثمر” بكلفة مخفضة تصل إلى 200 دولار بدلاً من 1000. ونجحت هذه الإجراءات بعض الشيء في جذب 150 مليون دولار من تحويلات المغتربين خلال الربع الأول من 2025، بحسب البنك المركزي السوري. لكن العقبات بقيت كبيرة، خاصة مع استمرار العقوبات الغربية على القطاعات الحيوية مثل النفط والمصارف، ما يحدّ من قدرة المغتربين على ضخ أموالهم. وبحسب الخبير الاقتصادي عاطف رافع، فإن المغتربين الذين يملكون أموالاً ويريدون استثمارها لن يتجرأوا على ذلك حالياً، وقبل أن ترفع العقوبات الاقتصادية عن البلاد.
ويقول لـ “العربي الجديد” إن على الحكومة تقديم ضمانات لجر الاستثمار وتحفيز المستثمرين السوريين المغتربين أكثر، لكن ذلك أيضاً ليس بالأمر السهل ويحتاج إلى سنوات.
العربي الجديد