أبحاثتشكيل الحكومة السورية الجديدةسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

سوريا على مفترق طرق: معركة شاقة نحو السيادة الاقتصادية/ رشا سيروب

بعد أربعة أشهر من سقوط نظام بشار الأسد، تقف سوريا عند مفترق طرق محفوف بالمخاطر، حيث يحل شبح الانهيار الاقتصادي المتسارع وانعدام الأمن محل ذكريات عقد دامٍ من الصراع. تتصاعد المخاوف من تحول سوريا إلى دولة فاشلة، بينما تكافح الحكومة الانتقالية لمواجهة تركة حرب طاحنة وتحديات جسيمة تهدد بتقويض أي أمل في الاستقرار والتعافي المستدام.

تواجه سوريا مهمة شاقة لإحياء اقتصادها المحطم. فقد خلّفت أربعة عشر عامًا من الحرب ندوبًا عميقة وضعتها أمام أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخها الحديث. اليوم، يعيش نحو 90% من السوريين تحت خط الفقر، ويعاني منهم 60% من انعدام الأمن الغذائي. وتُفاقم هذه الأرقام المروّعة معدلات بطالة تجاوزت 50%، فيما أكثر من مليوني طفل موجودون خارج مقاعد الدراسة. ويعيش الملايين في خيام وملاجئ مؤقتة، بينما يكافح البنك المركزي السوري لتوفير السيولة اللازمة لدفع الرواتب في ظل شح كارثي في الليرة السورية.

لقد كشف الصراع عن نقاط ضعف بنيوية عميقة، وأصبح الاعتماد على المساعدات الخارجية شريان حياة لملايين السوريين. ووفقًا لتقديرات الأمم المتحدة، يعتمد نحو 16.5 مليون شخص على المساعدات الإنسانية لتلبية احتياجاتهم الأساسية، وهو رقم مذهل يسلط الضوء على حجم الكارثة الإنسانية ويؤكد على هشاشة الوضع الراهن.

وبموازاة الواقع الاقتصادي المتردّي، يبرز الجانب الأمني بوصفه الأكثر هشاشة في سوريا ما بعد الأسد. فالجماعات المسلحة المتنافسة، والنزاعات الإقليمية العالقة، والتدخلات العسكرية الأجنبية المستمرة، ما زالت تزعزع استقرار البلاد. وبرغم الجهود المبذولة لدمج الميليشيات والفصائل تحت مظلة وزارة الدفاع السورية، فإن انعدام الثقة والتنافس الإقليمي والقضايا المتصلة بالحكم الذاتي الكردي والتوغلات الإسرائيلية في الجنوب، تشكّل جميعها مخاطر مستمرة تهدد بتقويض أي تقدم نحو الاستقرار.

ففي الساحل السوري، لقي أكثر من 1,600 مدني مصرعهم، غالبيتهم من الأقلية العلوية. واندلعت اشتباكات متقطعة مع الأقلية الدرزية خارج دمشق، وتصاعدت وتيرة عمليات الخطف والقتل الانتقامي والعشوائي. وفي خضم هذه الفوضى، برزت رغبة تركيا في تعزيز نفوذها الإقليمي، ليس عبر تدخلها المستمر شمال سوريا فحسب، بل عبر إنشاء قواعد عسكرية أيضًا، الأمر الذي استبقته إسرائيل بشن عشرات الغارات الجوية وبتوغلها البري المستمر في الجنوب.

إن مهمة إصلاح الوضع الاقتصادي المتردي، وفرض الأمن، ومنع انزلاق البلاد إلى تقسيم وتقاتل طائفي، تمثل تحديات جسيمة تواجه الحكومة الانتقالية، علمًا أن تحوّل سوريا إلى دولة فاشلة هو السيناريو الذي تسعى جميع الأطراف الإقليمية والدولية إلى تجنّبه.

في ظلّ هذه التحديات الهائلة – وبينما تحتل المصالحة السياسية والترتيبات الأمنية صدارة الأولويات – تبرز السيادة الاقتصادية كحجر الزاوية في بناء سلام مستدام وإعادة تأسيس الثقة بين الدولة والمواطنين. إنها شرط أساسي لضمان أولوية المصالح الوطنية السورية وتحقيق تقدم اقتصادي شامل على المدى الطويل.

تتجسد السيادة الاقتصادية في قدرة الدولة على إدارة سياساتها الاقتصادية ومواردها وتمويل احتياجاتها دون إملاءات خارجية أو تأثير غير مبرر. ويبدو تحقيق هذا الهدف بعيد المنال في ظل العقوبات الدولية التي تعيق الوصول إلى الاستثمارات والأسواق العالمية، وانهيار المؤسسات الحكومية التي تعاني من ضعف الإدارة والفساد المستشري.

ومع ذلك، يجب على الحكومة الانتقالية أن تضع السيادة الاقتصادية في رأس أولوياتها، فهي أول ضحايا الحرب وآخر ما يُستعاد. فتحقيق السيادة الاقتصادية ليس مجرد تطلّع أو إجراء تقني، بل هو ضرورة سياسية واجتماعية لمنع الانزلاق مرة أخرى إلى دوامة العنف والاضطراب والتبعية الاقتصادية التي قد تحوّل جهود إعادة الإعمار إلى مجرد “استعمار اقتصادي جديد”.

من الجوانب الحاسمة لاستعادة سوريا سيادتها الاقتصادية، استعادة السيطرة الكاملة على مواردها، خصوصًا النفط والغاز المتمركزة في شمال شرق البلاد. لقد كان استغلال هذه الموارد والتنافس عليها عاملًا محوريًا في الديناميكيات الإقليمية المعقدة المحيطة بالصراع.

لذا، فإن إعادة صياغة العلاقة بين السلطة المركزية في دمشق والإدارة الذاتية في شمال شرق البلاد أمر بالغ الأهمية لضمان إدارة شفافة وعادلة لهذه الموارد، بما يعود بالنفع على جميع السوريين، بدلًا من استنزافها من قبل جهات خارجية أو نخب داخلية. ويتطلب ذلك وضع أطر قانونية متينة، وتعزيز الهيئات التنظيمية الوطنية القادرة على مراقبة إنتاج وتصدير النفط والغاز، وتطوير القدرة على رصد ومنع التدفقات المالية غير المشروعة التي قُدرت بمليارات الدولارات خلال سنوات الحرب. أما الفشل في تحقيق ذلك فيُنذر باستمرار حالة عدم الاستقرار وتقويض شرعية الحكومة الانتقالية.

علاوة على ذلك، يُعد استقلال السياسات المالية والنقدية ضرورة حيوية لسوريا لإدارة تعافيها الاقتصادي بفعالية. فقد أنتجت سنوات الحرب، مع العقوبات الدولية التي قيّدت وصول سوريا إلى الأسواق المالية العالمية وجمدت أصولها، تأثيرًا مدمرًا على الليرة السورية التي فقدت وظيفتيها كمخزن للقيمة ووسيلة للتبادل، وارتفع التضخم إلى مستويات قياسية.

غير أن القدرة على صياغة وتنفيذ سياسات مالية مصممة خصيصًا لتلبية الاحتياجات الفريدة لسوريا وإدارة عملتها والسيطرة على التضخم دون ضغوط خارجية، ستبقى أمرًا بالغ الصعوبة ما لم تتمكن الحكومة الانتقالية من ضمان حقوق الإنسان وحماية الأقليات والمرأة وإخراج المقاتلين الأجانب – وهي شروط أساسية للاستفادة من الدعم الدولي ورفع العقوبات.

وحتى في حال استيفاء هذه الشروط، فإن اللجوء المفرط إلى الدول والمؤسسات المالية الخارجية والاعتماد الكبير على حزم المساعدات سيقوّض السيادة الاقتصادية، حيث غالبًا ما تفرض هذه المساعدات إجراءات تقشفية وسياسات تعطي الأولوية للمصالح الخارجية.

وتواجه الحكومة الانتقالية معضلة صعبة في إدارة العلاقة مع المجتمع الدولي. فهي، من جهة، تحتاج إلى المساعدات الفنية والمالية لإعادة الإعمار، ومن جهة أخرى يجب أن تحافظ على مساحة كافية لصنع القرار المستقل، خصوصًا في ظل وجود شخصيات في مناصب وزارية مرتبطة بـ”هيئة تحرير الشام” (“جبهة النصرة” سابقًا) المصنفة على قوائم الإرهاب، الأمر الذي يثير قلقًا دوليًا ويعقّد جهود الحصول على الدعم ورفع العقوبات. الحل الأمثل يكمن في تطوير استراتيجيات ذكية تعتمد على التدرج في تقليل الاعتماد على المساعدات، مع السعي المتوازي لتنويع مصادر التمويل وبناء الشراكات الدولية المتوازنة، خصوصًا مع تراجع المساعدات الدولية.

وإلى جانب هذه المجالات، يتطلب تحقيق السيادة الاقتصادية جهودًا متضافرة لبناء القدرات الوطنية وتعزيز المؤسسات الاقتصادية. ويشمل ذلك الاستثمار المكثف في التعليم والتدريب المهني لإعادة بناء رأس المال البشري الذي هاجرت منه أعداد كبيرة، أو فقد مهاراته بسبب الحرب، وتقديم دعم مستهدف للصناعات المحلية والشركات الصغيرة والمتوسطة، وتعزيز ريادة الأعمال والابتكار، وإنشاء هياكل حوكمة شفافة وخاضعة للمساءلة ومقاومة للفساد. إن اقتصادًا محليًا نابضًا بالحياة ومتنوعًا هو الأساس الأكثر صلابة للسيادة الاقتصادية المستدامة.

وعليه، فإن الطريق نحو السيادة الاقتصادية لسوريا محفوف بتحديات هائلة، تشمل إرث الصراع، وضعف المؤسسات، وتصدع النسيج الاجتماعي، والنفوذ الإقليمي والدولي الكبير. ولا يزال فرض العقوبات الدولية يُحدث تأثيرًا عميقًا على الاقتصاد السوري، وسيشكل التعامل مع هذه العقوبات والدعوة إلى رفعها جانبًا حاسمًا في استعادة السيادة الاقتصادية. من هنا، ستحتاج الحكومة الانتقالية إلى تأسيس توافق وطني واسع حول الأولويات الاقتصادية، وبناء مؤسسات قوية قادرة على تنفيذ السياسات بشكل مستقل.

بناءً على ما سبق، يتطلب التغلب على هذه التحديات نهجًا متعدد الجوانب يتمثل أولًا، بإرادة سياسية قوية وحوار شامل يضم جميع الأطراف السورية لبناء توافق في الآراء حول الأولويات الوطنية، وثانيًا بالتواصل الاستراتيجي والانتقائي مع الجهات الخارجية بهدف تعزيز القدرة التفاوضية وضمان أن تكون شروط المساعدات متوافقة مع الأهداف الوطنية، وثالثًا، عودة سوريا إلى النظام المالي الدولي (SWIFT) وهو أمر يتطلب جهودًا دبلوماسية مكثفة، ورابعًا، تعزيز النمو الاقتصادي الشامل الذي يُفيد جميع فئات المجتمع.

إن تحقيق السيادة الاقتصادية لسوريا هو هدف صعب، لكنه ليس مستحيلًا. إنه حاجة ملحة تتطلب رؤية استراتيجية واضحة وإرادة سياسية صادقة ودعمًا دوليًا يحترم الخصوصية المحلية. ولكي تتحول هذه السيادة إلى واقع ملموس، لا بد أن تترجم إلى سياسات عملية تنعكس إيجابًا على حياة المواطنين وتعزز ثقتهم بمؤسسات الدولة.

أوان

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى