الأحداث التي جرت في الساحل السوريسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسةشهادات

شهادات ناجين وناجيات من مجزرة الساحل -6 أجزاء-/ روزا ياسين حسن

الجزء الأول

(١)

“لمن سأقول بعد اليوم صباح الخير!”

20 آذار 2025

ابتداء من يوم الخميس 6 آذار/ مارس 2025 ولمدة ستة أيام تالية، تعرّضت مناطق ذات غالبية علوية في الساحل السوري إلى هجوم منظّم يحمل ملامح التطهير العرقي من مجموعات مسلّحة محسوبة على الحكومة المؤقتة في دمشق، راح ضحيته أكثر من ألف مدنيّ من أطفال ونساء وشيوخ ورجال، حسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، من دون إعلان السلطات الرسميّة عن عدد القتلى.

———————————

قبل يوم واحد من المجزرة، لم أتخيّل للحظة أن شيئاً مما حدث سيحدث. لم أتخيّل، حتى في أبشع كوابيسي، أن أرى في شارعي وحده أكثر من 32 جثة مكوّمة عند مداخل البنايات والبيوت وعلى الأسطح، وأني سأضطر للمشي على جثث جيراني وأصدقائي ومعارفي حتى أعبر!

أحاول أن أحمل جسدي كي لا أُثقل عليهم، يا ليتني استطعت المرور فوقهم كغيمة، كطائر يمسّهم بجناحيه بحب. حي القصور الذي أسكن فيه في مدينة بانياس حي كبير وراقٍ، غالبية سكانه من الطائفتين العلوية والمسيحية، وبعد العام 2011 أتى إليه نازحون من مناطق أخرى دُمرت كحلب وإدلب، عاشوا بيننا وتعايشنا معهم.

صحيح أني رأيت فيديوهات عن عناصر مسلّحة يهينون علويين في مناطق متفرّقة، بجعلهم يعوّون وبشتمهم بأقذع العبارات، وقرأت على “فيسبوك” أن هناك مشاكل في مدينة جبلة، وأن هناك عناصر من الأمن العام قُتلوا هناك على أيدي فلول من نظام الأسد، وثمة توعّد بالاقتصاص منهم. لكن مدينتنا آمنة، لطالما كانت آمنة، هذا ما اعتقدته، فمنذ ثلاثة أشهر حين سقط النظام السابق وحتى اليوم لم يحدث شيء. عناصر الأمن العام بلباسهم الأسود موجودون باستمرار في مفرزة قريبة من الحي، لم يحصل قبلاً أي اشتباك أو مشاكل ولا حتى حملات تفتيشية.

لكن ما حدث جعل عشرات الأسئلة المتضاربة تجنّ في رأسي، لماذا؟

أنا سامر (اسم مستعار)* محامٍ، عمري 31 سنة، انشغلت منذ عشر سنوات بالإغاثة والعمل الإنساني، ولطالما عملت مع مخيمات النازحين لأهلنا من حلب وإدلب ومناطق الحرب في سوريا، لكن شيئاً من ذلك لم يشفع لي، ولا لعشرات الضحايا من حي القصور.

بدأ الأمر كله يوم الخميس 6 آذار/ مارس 2025، كانت أمي تحضّر لإفطار شهر رمضان نحو الساعة 6 مساء، حين بدأ صوت إطلاق رصاص بعيد يقترب ويتكاثف، والخوف، الخوف الذي يجعلك عاجزاً عن التنفس، هو ما أمضينا ليلنا معه وأصوات القذائف تتناهى إلينا أقوى وأقوى. لم نعرف ماذا يحدث! لكن رغم ذلك بقيت نوعاً ما مشكّكاً بإمكانية إيذائنا، أو ربما آملاً بألّا يتم إيذاؤنا.

أتى صباح الجمعة 7 آذار/ مارس محطّماً ببشاعته كل أملي. في الساعة 8 صباحاً، عاد إطلاق الرصاص أكثر شدّة واقتراباً، وثمة حركة غريبة في الحارة. جارتي في الطابق نفسه من بنايتنا وحدها ولديها أربعة أطفال، لذلك فقد ذهبنا إليها أمي وأبي وأنا. لبثنا مرتعبين في البيت، الأولاد خائفون، كلما صارت الأصوات في الخارج أقوى كلما ازداد رعبهم. البكاء، الوجوه الشاحبة، الصلوات، وأنا أشعر بالخوف يأكلني. لم نخرج، رحنا نقرأ على “فيسبوك”، أن هناك حملات تفتيش للجيش عن الأسلحة، فافتحوا لهم ولا تخافوا. أُهدّئ من روع أهلي والجارة وأولادها لأهدّئ من روعي شخصياً:

    لا تخافوا هذا الجيش لن يؤذينا… سيفتّشون ويذهبون… هذا جيش البلاد.

أسمع صوتي غريباً وأتساءل بيني وبين نفسي: إذا كانت حملات تفتيش فحسب، فلماذا كل إطلاق الرصاص هذا وأصوات الانفجارات! من يضرب؟ من يطلق الرصاص؟

بدأت أصوات رجال يصعدون الدرج بعنف تصلنا، سمعنا أصوات خلع الأبواب، ووصلوا إلينا، كانوا ستة عناصر بأسلحتهم وجعبهم العسكرية، بلباس عسكري صحراوي، ملثمون ولا تظهر إلا عيونهم. لماذا قد يكون الجيش ملثّماً؟

    هل أنتم علوية أم سنة؟

    علوية

سألوني. لكن لماذا قد يسأل جيش الدولة عن طائفتي؟

دخلوا البيت. عنصر منهم بقي خارجاً، له عيون آسيوية تبدو من تحت اللثام، صامت لا يتكلّم. هل هو شيشاني أو أوزبكي أم ماذا؟ سألت نفسي. حينما راح أحدهم يفتّش في موبايلي، رأى صوري مع أصدقائي وصديقاتي، فصاح رفيقه: أعدّ له الموبايل، كله فسق وفجور. فيما كان عنصر آخر يسأل: شيخنا هل نكمل التفتيش؟

لماذا يقول له شيخنا؟ هل هناك جيش فيه شيوخ؟

    هل تخرج مع مجموعات مسلحة؟

    لا أنا محامٍ، وأعمل مع المنظمات الإنسانية!

    خرا عليك وع الإنسانية تبعك.

قال لي قبل أن يخرجوا من البيت من دون أن يؤذونا. لكني هرعت من فوري إلى المطبخ لأستطيع مراقبة ما يحصل خارجاً من خلف ستارة الشباك: السيارات تحترق في الشارع، وأنا أسمع دقات قلبي، إذ كانت أقوى من رصاص الخارج، كافيه الحارة تحترق، وشباك مطبخ الجيران قبالتي متشظٍّ. لبثنا كلنا في الكوريدور وأغلقنا كل الأبواب حتى الساعة 12 ليلاً حين بدأنا بسماع صوت تكسير السيارات، وصيحات الله أكبر. هذه الصيحة تخيفني كثيراً، لا أعرف لمَ لا تعني لي مثل هذه الحالات إلا الموت. لكن لماذا قد يصرخ الجيش الله أكبر؟

الساعة 8 صباحاً من يوم السبت، عادت الأصوات المرعبة وصرخات الله أكبر، سمعت صرخات نساء تتصاعد من كل مكان من الحي. صراخ من الخارج وصراخ من الداخل والأولاد يبكون بشكل هيستيري، قرّرنا النزول إلى بيت جيراننا في الطابق السفلي لنكون معاً.

جارنا في الطابق السفلي من مدينة إدلب. لا أعرف لماذا خطر لنا هذا! لكن لربما حمانا عنده. في هذه اللحظة التي وصلنا إليه فيها وصل الملثمون المسلّحون مجدداً إلى البناية. حين عرفوا أنه من إدلب قالوا له: قف على جنب. عادوا لسؤالنا إن كنّا علويين، ثم أخذوا مفاتيح سيارة جاري. زوجته كانت منهارة، تصرخ وتنوح قائلة لهم:

    نحن كل عمرنا كنا مع الثورة، وكل عمرنا ضد الظلم. نحن معكم.

    اخرسي إنت

أسكتها أحد العناصر قبل أن يعيد لها مفاتيح السيارة. قائلاً: إذا جاءكم فصيل ثان فلا تقولوا لهم إننا أعدنا لكم مفتاح السيارة فيقتلونكم.

أي فصيل آخر سيأتي؟ ولماذا سيقتلوننا؟ ما الذي فعلناه؟

عدنا الى البيت، صراخ النساء يعمّ المنطقة، وأنا لا أستطيع التفكير. كل شيء مشوّش، وفجأة هدأ كل شيء كأن الحارة قد فرغت! عدت لأتلصّص من وراء الشباك. البيوت المسيحية لم يتمّ الدخول إليها، كذلك بيوت النازحين السنّة. بيت خوري الكنيسة لم يدخلوه كذلك، لكنهم قتلوا والده جهاد بشارة وهو في الشارع يتفقد سيارته. كيف عرفوا بيوت الناس وطوائفهم؟ هل هناك مخبرون بيننا؟ هل هذه المجزرة مخطّط لها؟ بعد أيام ستخبرني صديقتي التي تسكن البناية المقابلة لنا كيف خطفوا والدها ولم يعد حتى اللحظة، بعدما كان يحاول إقناعهم أن بيت الجار الذي يحاولون كسره فارغ. قالوا له: “كول خرا، نحن نعرف بالضبط لعند مين جايين”.

البيت لضابط سابق في جيش الأسد، هرب منذ عشرة أيام. هل كان يعرف بما سيحصل؟

صارت الاتصالات تأتيني، صفحات الفيسبوك تقول: من يستطيع أن يصل إلى مساكن المصفاية في مدينة بانياس فهي آمنة ويحاوطها الأمن العام. خلال الأشهر الماضية، لم يحدث شيء مع الأمن العام، كانت لدينا قناعة أنهم عناصر منضبطة. لكن أين هم الآن؟ ولماذا اختفوا فجأة من الحارة؟ ألم يكن عليهم حمايتنا؟ حاولنا النزول مجتمعين لنذهب هناك سوية.

لكن سيارة للهلال الأحمر كانت تقف في الشارع. شعرت بالاطمئنان قليلاً، فقد سبق لي وعملت مع الهلال الأحمر، وأعرف أنه لا يمكن أن يدخل منطقة إن لم تكن آمنة لمتطوّعيه. عناصر الأمن العام يحيطون بسيارة الهلال الأحمر. كيف ظهروا فجأة؟!

    نحن آتون لنأخذ الجثث…

قال لي رفيقي من قسم الإسعاف في الهلال الأحمر: لمَ لم يأت قسم الكوارث؟ نحن منذ أيام بلا كهرباء ولا ماء ولا طعام؟ لكني رحت أساعدهم. أول جثة رأيتها مكوّمة في الشارع حاولت أن أصوّرها، هجم عنصر الأمن عليّ صائحاً: سأقتلك إن رأيتك تصوّر. أخذ موبايلي وحذف الصورة. في أول بناية وعلى الدرج رأيت أول جثة لجاري غارقة بدمها، رائحة الموت مخيفة وقميصه الكحلي مضرّج بدم يبدو طازجاً. في بيته ثمة سبع جثث من بيت حرفوش ودنيا، عرفتهم كلّهم. في الصالون الرجل وابنه مقتولان بطلقات في الرأس، في الغرفة الأولاد الثلاثة وأمهم، رولا حرفوش وابنها كرم دنورة، فتاة عبود زيّود والطفل جاد دنيا. كنت مخدراً، أمشي محاولاً العبور فوق جثثهم، لا أستطيع التنفّس وعيني لا تومض إلا صورهم على الكورنيش وهم يضحكون. يا إلهي لماذا قُتلوا؟ ولماذا لم أقتل أنا؟ البنايات من حولي منهوبة، مليئة بالجثث، مغسولة بالدم، إلا بنايتي، هل يكون وجود جارنا الإدلبي هو ما جعلنا على قيد الحياة حتى الآن؟! كانت بنايتي الناجية الوحيدة وسط جحيم من الفجيعة المحيطة!

    هل تعرف أين يوجد جثث؟

    لا، لكني أعرف من أين كان يأتي الصراخ من البنايات.

جثث هنا وجثث هناك، نعبر على الأجساد المضرّجة بدمها. على سطح إحدى البنايات رجال مدنيون مقتولون بالرصاص. لماذا قتلوهم على السطح؟ قالت إحدى متطوعات الهلال: كان القنص يأتيهم من فلول النظام فأرادوا استخدام الشباب كدروع بشرية. لم أفهم! لماذا قد يستخدمونهم كدروع بشرية؟ أين أعيش أنا؟.

عثرت للتو على جثة جارنا غسان ربيب، منكبّاً على وجهه يسبح في بركة من الدماء، بجانبه دبدوب ابنته ميرا وجثة زوجته فاتن ادريس. وجه فاتن مشوّه بطلقة في رأسها. لا يمكن أن تكون فاتن! طفلتهم الصغيرة ميرا عمرها ثلاث سنوات، مذهولة، عيونها مبحلقة مفتوحة في الفراغ، وتنظر حولها وإليّ برعب كأنها لا تعرفني. ميرا نجت من الموت لأنها كانت نائمة في الغرفة الداخلية، عثر عليها الجيران بعدما رأت والديها غارقين بدمهما. لماذا يُقتل غسان وهو عامل في مطعم بيتزا وفاتن معلّمة؟ لماذا تُقتل لمى عبدالله وزوجها مازن جديد؟ أمه العجوز التي تبلغ 95 عاماً كانت لا تزال تئن في سريرها وجثتا ولديها في الصالة. لماذا يُقتل كل هؤلاء ولم تكن لأحد منهم علاقة بالجيش السابق أو الأمن أو أي مظهر من مظاهر العسكرة؟!

أمشي من دون أن أعي ما حولي. ما زلت أشعر بأني في كابوس مرعب وسأستيقظ منه، بالتأكيد سأستيقظ منه.

أخذ الهلال الأحمر الجثث التي جمعها إلى المصرف التجاري. قبل أن يغادروا، همس رفيقي ذاك في أذني:

    قالوا لنا لم يتبقّ جثث، لكن هناك بيوت كثيرة ما زالت مغلقة. لم يدعونا ندخل! سامر انتبه من العصائب الحمراء، عملوا حواجز قريبة من القصور.

كان وجهه شاحباً كالموت المحيط.

ما هذه العصائب الحمراء أيضاً؟

لم أعد قادراً على التحمّل. لم أترك منظمة أعرفها إلا وناشدتها، من رد عليّ منهم قالوا إنهم عاجزون، ولا يُسمح لهم بالدخول. ما كان لنا إلا أن نخرج من الحي. أصدقائي من سنة البلد يرجونني أن آتي إليهم لنكون بأمان، لكننا خرجنا إلى مساكن المصفاية، لنبقى فيها ثلاثة أيام، سبع عائلات في بيت. لم أعد أذكر شيئاً من تلك الأيام، كنت غائباً عن نفسي وغائباً عن المحيط. أرى الناس تحرّك شفاهها من دون أن أسمع وألمحهم خيالات تتحرك.

حين هدأ الإعصار عدنا: الحارة مدمرة، الجدران مثقوبة بالرصاص، المحلات محروقة، السيارات مكسّرة ومحروقة، بقع الدماء على الأرض ومداخل البنايات، ورائحة الموت القاتلة تخيّم ولا أعرف كيف سننساها.

لم أُقتل، لكن عشرات من أصدقائي وجيراني ومعارفي قُتلوا! لم أقتل فيزيائياً، لكن عشرات الأسئلة قتلتني وتقتلني، كما قتلتني صور الناس بدمها. لا أستطيع البكاء وليست لدي رفاهية الانهيار. ما ذنبي إن خلقت علوياً؟ هل هي تهمة أني خلقت علوياً؟ أنا لست فلول، أنا أحب الفرح والحياة والحفلات والموسيقى. هناك من كنت أقول لهم كل يوم صباح الخير، لمن سأقول بعد اليوم صباح الخير؟

*معظم الشهود والشاهدات على المجزرة رفضوا نشر أسماءهم الحقيقية خوفاً من الانتقام منهم، خصوصاً وأن حملات تفتيش الأجهزة الخليوية تكرّرت مراراً حتى بعد توقّف المجزرة.

—————————–

الجزء الثاني

(٢)

عن ميلا التي قتلوها فلم تمت، وميرا التي لم يقتلوها فماتت! أطفال شاهدون على مجزرة

لم يستطع البطل الخيّر أن ينتصر في قصص الأطفال هذه، لم يُنقذ بابا من الوحش، لم ينجح في إعادة الصغار إلى حضن ماما، ولم يُنه الحكاية كما تنتهي عادة في القصص التي تربّينا عليها، أن يعيشوا في سبات ونبات وسعادة. في القصص هذه لم يكن ثمة بطل خيّر أصلاً، الأبطال برمتهم متعطّشون للدم. شكل الحكاية الجديد هذا سيصنع حكايات أخرى لن ينتصر فيها إلا الوحوش، ينتصرون على ذاكرة ومخيال وقلوب جيل كامل من أطفال الساحل السوري.

سأحكي لكم أولى هذه القصص عن ميلا سلمان، طفلة عمرها 5 سنوات ونصف، عندها جديلتين كستنائيتين وضحكة تشرق وسط العتمة، تماماً كضحكات باقي الأطفال في تلك البلاد. لكن ذلك الصباح لن يدفن ضحكتها فحسب، بل سيقلب حياتها كلها إلى الأبد، صباح يوم السبت 8 آذار 2025. أصوات إطلاق الرصاص في حي القصور بمدينة بانياس مخيفة، تصمّ الجو كما تصمّ الآذان. عائلة كميت سلمان 40 سنة، مهندس حواسيب في مشفى بانياس، زوجته هبه العلي 38 سنة وابنه عليّ 7 سنوات وابنته ميلا، في بيت جيرانهم وأصدقائهم يزن الخليل وزوجته ألين شهلا وابنتهم الصغيرة قمر، التي لم تتجاوز العامين، حين حصلت المجزرة.

    قمر الصغيرة كنت حبّها كتير.

تقول ميلا لخالتها. الأخيرة تحاول أن تغيّر الموضوع.

    فكّروني متت.

    …

في ذلك الصباح الدموي كان الجميع يلبثون سوية في الصالون، الأخان ميلا وعلي يرتجفان خوفاً من الأصوات في الخارج، ميلا في حضن والدتها وعليّ في حضن والده، أما الصغيرة قمر فتحملها أمها وتدور في الصالون لتهدئة بكائها الذي لا يتوقف. دقّ الباب فجأة وبقوة. راحت هبة تُطمئن ابنتها بأن كل شيء سيكون على ما يرام، لا تخافي حبيبتي، لكن الصغيرة التصقت بحضن والدتها أكثر. دخلت مجموعة رجال مسلّحين ملثّمين وانتشروا في أرجاء البيت.

    ما كان لهم وجوه.. أخذوا بابا وعمو يزن معهم.. ضربوا النار على ماما وخالتو ألين وضربوني على راسي بالبارودة.

تعود ميلا لسرد الحادثة من جديد. كلما أعادت الحكاية تذكّرت تفصيلاً جديداً.

حين دخل المسلحون البيت أخذوا كميت ويزن معهم، اقتادوهما إلى السطح وأطلقوا الرصاص عليهما. أما في البيت فقد أطلقوا الرصاص على هبة وألين والطفل عليّ وقمر، وضربوا ميلا على رأسها. ثمة شيء جعلهم لا يطلقون النار على رأسها! هل كي تكون الشاهدة الوحيدة على المجزرة! أم لسبب آخر! أغمي عليها فلم تشعر بشيء.

    لا.. أنا نمت. علوش اللي غمي.

تصحّح ميلا المعلومة.

حين استيقظت ميلا كان كل شيء ساكناً، لم يعد هناك صراخ، صمت مطبق محيط. بدأت تكتشف محيطها: ماما بجانبها جثة على الأرض، شعرها الطويل وثيابها غارقة بالدم، إلى جانبها جثة أخيها علوش. هزّته ولم يتحرّك، كنزته الصوفية عليها سائل لزج لونه أحمر صبغ كفّيها. كنزة الصغيرة قمر الصفراء كانت ملطّخة كذلك بالأحمر ومازالت في حضن أمها القتيلة.

    قرّبت من قمر لأني حسّيت عيونها مفتوحة، لكنها ما فاقت. ماما ما فاقت كمان ولا علوش ولا خالتو ألين.

ميلا استيقظت لترى نفسها محاطة بالجثث التي لا تستيقظ. فما كان منها إلا أن عادت لتتمدّد بجانبهم، فلربما عاد المسلّحون فيعتقدونها قد ماتت، ويتركوها بحالها. هذا ما فكّرت فيه طفلة عمرها خمس سنوات ونصف!

    بعد وقت لا أعرفه جاءت خالتي لتأخذني معها، احتضنتني وهي تبكي، وحملتني معها فقلت لها أخذوا بابا.

    …

بعد انتهاء المجزرة استطاعت خالة ميلا أن تصل الحي. البناية مليئة بالجثث، وهي لا تستطيع أن تهدئ من روعها ولا أن تُهدّئ من روع الصغيرة، فقد بدت مذهولة بجرح عميق في جبهتها وعينين تتحركان في الفراغ دون أن تركّزا على صورة معينة وشحوب الموت في وجهها. كان عليهما أن تقطعا من فوق الجثث المنتشرة في طوابق البناية لتغادرا. في البيت المقابل سبع جثث لجيرانهم، الأب أمجد خزامي موظف في وزارة الزراعة والأم عبير حورية مدرسة لغة عربية، وخمس أولاد، نور تدرس في الجامعة، مكوّمة تسبح بدمائها إلى جانب محمود 14 سنة، بانه 13 سنة، والتوأم آدم وأكرم 7 سنوات. وقفت ميلا ترمقهم بذهول.

    آدم!!!

    أسرعي أسرعي يا صغيرتي..

تشدّها الخالة من يدها. كل ما كانت تفكّر فيه في تلك اللحظة أن تخرج الصغيرة من هذا الجحيم.

تنزلان الدرج فتلمح ميلا عبر باب شقة مفتوح شعر جارتهم الأشقر وهي متكوّمة إلى جانب زوجها وابنها عليّ ذي الأعوام العشر في الطابق الثالث. هي ممرضة اسمها رنا فياض، زوجها أيمن بلال موظف في مديرية الحراج. كانت نظارته إلى جانب رأسه، وابنهما يوسف ذي الأعوام السبعة يقف مذهولاً إلى جانب الجثث، فقد استطاع أن ينجو من المسلحين حين اختبأ داخل خزانة. يوسف شاهد آخر على مجزرة/ قصة لا تشبه قصص الأطفال المعتادة، سيعيد سردها بشكلها الجديد بعد نجاته. ولكن هل هي نجاة حقاً؟

    يوسف.. يوسف

    …

أخذت الخالة ابنة أختها لتبقى معهم في مدينة طرطوس، تاركة جثة أختها وزوجها وابنها فلم يُسمح لهم وقتذاك بأخذ الجثث. أخرجتها من الجحيم، دون أن تكون واثقة إن كان الجحيم سيخرج يوماً منها. ذاك الصباح كانت المرة الأخيرة التي سترى فيها ميلا أخاها علوش وبابا وماما وقمر الصغيرة أحياء، وحدها أشكال جثثهم المدمّاة ووجوههم المشوّهة هي التي ستنطبع ملتصقة بذاكرتها.

في ذلك اليوم ستأتي والدة يزن لتعثر عليه على السطح مع بقية الضحايا ومازال فيه نبض، لكنه سيُسلم الروح في المستشفى بعد ساعات قليلة. أما قمر الصغيرة فقد استطاعت جدتها أن تأخذ جثتها لتدفنها كما يليق بصغيرة جميلة ترتدي كنزة صفراء ملوّثة بالأحمر.

في ذلك الوقت وفي بيت قريب في الحي ذاته كانت طفلة أخرى، اسمها ميرا وعمرها ثلاث سنوات، تعيش قصة أخرى مشابهة، حين استيقظت من نومها على أصوات عالية في صالون البيت. لم يكن لميرا جديلتين، لكن ماما وضعت لها قبل أن تنام بكلتين للشعر على شكل وردتين بلون البيجاما الوردية التي ترتديها. حملت لعبة الدبدوب الأبيض وخرجت إلى الصالون وكان مليئاً برجال معهم أسلحة.

    الحرامي قال للماما أعطيني المصاري، قالت له ما معنا مصاري ولا ذهب، أنا موظفة وما معي دهب.. دخيلك لا تقتلني منشان هالبنت. قصدها أنا.. قوّصها بوجهها ودخل على الغرفة وأخذ للماما السيشوار وليس الشعر.. قال لي فوتي نامي، قلت له بدي اقعد جنب الماما وما بدي نام.. قال لي ادخلي نامي.

ميرا ربيب لم تُقتل. لم يُطلق عليها ذلك المسلّح النار. هل كان لديه طفلة في عمرها! ربما. هل تركها شاهدة على مجزرة! ربما. ستظلّ أسئلة حائمة في الذاكرة لا تعثر على إجابات لتهدأ. لكن ميرا ستشهد مقتل والدها غسان ربيب، عامل في مصفاة بانياس وشيف في مطعم بيتزا، ستراه ملقىً على وجهه يسبح في بركة من الدماء والرصاصة في رأسه، وستضع بجانبه لعبة الدبدوب كي لا يبق وحده، فهي ستجلس بجانب أمها فاتن إدريس، معلمة في مدرسة الصناعة، الممدّدة على السجادة والغارقة بدمها والفجوة التي صنعتها الرصاصة في وجهها تأكل معظمه.

    ماما قتلها الحرامي وعمل لها جورة في وجهها، نايمة وما عم تفيق!

    وبابا؟

    بابا نايم كمان وبركة حمرا حوله.

    لا تخافي أنا قادم لآخذك.

قالت ميرا لخالها على الهاتف.

الخال الذي أراد الاطمئنان على أخته وزوجها وابنتها، محاصر في قريتهم حريصون التي هوجمت من قبل مسلحين اجتاحوا القرية، أطلقوا القذائف وحرقوا وسرقوا ليفرّ الكثير من أهلها إلى الأحراج والضيع المجاورة قبل أن يقتلوا ما قتلوا منها. كانت الأخبار تصل من بانياس والضيع المجاورة بأن ثمة مجازر ارتكبت هناك، وهو يأكله القلق على أخته وعائلتها.

لحظتئذ سمع الخال حركة بجانب ميرا وأُغلق الهاتف.

كان الخال قد تيقّن مما حدث بعد أن أغلق شخص ما الهاتف في وجهه، يحاول طيلة الوقت أن يتصل بالجارة التي تسكن فوق بيت أخته، رجاها أن تنزل لتأخذ ميرا من البيت. كانت تبكي ويرتجف صوتها وهي تخبره أنهم محاصرون ولا يستطيعون الحركة خارج البيت، لكن حماتها ترتدي عادة لباساً يشبه لباس نساء البلد، جلباباً طويلاً وغطاء رأس أبيض، فاعتقدها المسلّحون من الطائفة السنية بسبب لباسها، وكانوا يلومونها قبل دقائق لأنها متزوجة من رجل علوي، ربما نجحت في إخراج ميرا من البيت. بالفعل حين وصلت الجارة إلى البيت في الطابق الأسفل كانت ميرا تجلس وحدها بجانب جثّتي والديها بصمت وهدوء وتنظر في الفراغ.

    ماما ما عم تردّ عليّ! عم حاول فيّقها ما عم تفيق!

قالت للجارة، قبل أن تغطّي الأخيرة جثة الأم فاتن ببطانية وتأخذ الصغيرة ميرا معها. بسبب من تلك المرأة أمكن لميرا الخروج لتبقى خمسة أيام معها، إلى اليوم الذي استطاع الخال فيه النزول إلى بانياس وأخذها إليه.

جثتا غسان وفاتن ظلتا في الأرض حتى بعد الظهر. لم يستطع أهلهما النزول من قريتهم حريصون ليستملوا جثمانيهما. ألبسهما متطوعو الهلال الأحمر أكياساً بيضاء كتبوا اسميهما عليها، قبل أن يأخذوهما مع جثث الضحايا الأخرى من الحي في سيارات الهلال ويدفنوهما في مقابر جماعية إلى جانب مقام الشيخ هلال. فوق رأس كل جثمان وضعوا قطعة بلوك مرتجلة عليها الاسم تشير إلى مكانه. هنا ثمة جثمان لشخص كان لديه حياة، كما لديه عائلة وأحباب وذاكرة.

ميلا وميرا ناجيتان من مجزرتين شهدتاها بأم أعينهم، كما كثيرون من أطفال الساحل السوري، نجتا فيزيائياً، لكن كم يمكن لهما أن تنجيا كطفلتين ستكبران حاملتين معهما شعور الناجي، شعوراً مفخّخاً بذنب البقاء، صوراً بشعة، خوفاً دفيناً، ذاكرة ثقيلة ثقيلة مع أشباح فوق روحيهما، مع قصص جديدة انكتبت ستحكيانها في قادم الزمن عن آباء وأمهات وأخوة دفنوا في مقابر جماعية ولم يعودوا بسلام إلى البيت، قصص ليس فيها أبطال خيّرون نجحوا في إنقاذ الناس، بل وحدهم الوحوش هم الذين انتصروا!

——————————-

الجزء الثالث

(٣)

اختصاصية نفسية بين أكوام الجثث: كيف سأُشفى من عيونهم

02 نيسان 2025

ماذا سأقول لك؟ يا ليت ذاك الصباح لم يأت، يا ليتني لم أكن اختصاصية نفسية ولا عاملة في الدعم النفسي، ولا استجبت لدعوات الخروج إلى الضيع المنكوبة في الساحل. كيف سأُشفى مما رأيته! كيف سأشفى من عيون الأطفال فارغة مبحلقة برعب، من بيجاماتهم الملوثة بسبب التبوّل اللاإرادي، من صراخ النسوة وعويلهن ورائحة الدم والحرائق. كنت قد عملت طويلاً في مدينتي اللاذقية مع النازحين والنازحات من مجازر النظام السابق من إدلب وحلب، وعملت مع الناجين والناجيات من الزلزال الذي ضرب المنطقة العام 2023، ولم أستطع حتى اللحظة أن أبني حصانة نفسية ضد التورّط عاطفياً في مآسي الناس! الموت هنا أيضاً كان يجثم عليّ علقة تمتصّ روحي. يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً.

يومذاك كنّا، أعضاء فريقي الصغير العامل في الدعم النفسي وأنا، في قرية المختارية بريف اللاذقية بعد ثلاثة أيام من المجزرة. وصولنا إلى هناك كان مغامرة خطرة أعرف، خصوصاً على الطرقات التي كانت لا تزال مفتوحة على الموت، لكن كان ثمة شيء يشدّنا للذهاب لم نستطع مقاومته. كلّما اقتربت من المكان ازدادت أصوات صراخ النسوة ونواحهن حدّة. بدأت جثث الرجال المشلوحة على طرف الطريق تظهر، جثة جثتان، تتزايد، كومة من عشرات الجثث معظمها ببيجامات وألبسة البيت وشحّاطات وبعضها حفاة الأقدام. نساء يبحثّن في الجثث وينُحْنَ، امرأة تصرخ على جثة رجل ببيجاما سوداء: يا الله بيي وخيي.. يا جعفر.. جعفر جعفر يا الله. امرأة أخرى تنوح على جثة شاب: يا ريتهم قوصوني أنا يا أمي.. قوّصوني أنا.

فيما جمع من أطفال الضيعة يقفون على الأطراف بجانب كومة الجثث ويراقبون بصمت.

الصراخ يصمّ الجو، العويل، والهواء البارد يحرّك الأغطية التي تستر بعض الجثث، فتبدو وجوههم مثقوبة بفجوات الرصاص. كان جلياً أن ثمة إعداماً ميدانياً حصل هنا لعشرات الرجال والشبان، فالجثث تتكئ على بعضها البعض عند حائط أحد بيوت القرية.

تاريخ 7 آذار 2025 الساعة 8 ونص صباحاً، استيقظت المختارية على أصوات إطلاق رصاص كثيف وقذائف آر بي جي. الناس التي كانت في الشوارع وقتها انصابت بالرصاص وأخرى انصابت وهي في بيوتها، المصابون في الشوارع ظلّوا ينزفون حتى الموت من دون أن يقدر أحد على إسعافهم.

    ثلاثة أيام ما سمحوا لنا بدفن أولادنا. كلما طلعنا نحن النسوان لنأخذ الجثث يطلقون النار علينا. ما كنت عم فكّر غير إني أدفن ابني حمودي وحيدي.. حمودي وحيدي لا بعمره حمل سلاح ولا شي. والله طلعت وتحت الرصاص حملته وضمّيته ع صدري ويقتلوني.. والله كنت اشتغل بالأراضي ليعيش ويلبس وياكل..

تنوح الأم وتنوح وهي تريني صورة محمد مريم بين يديها وتحكي لي عن مقتله. محمد طالب جامعة عمره 24 سنة، الكثير من رجال عائلته قتلوا كذلك. في يدها الثانية صورة قصي إسبر، طالب الباكالوريا لم يتجاوز الثامنة عشر من عمره، ابن أختها ولكنه كان بمثابة ابن لها منذ أن تولّت تربيته بعد موت أمه وهو طفل. والده لؤي إسبر قُتل هو الآخر.

    منربّي ولادنا كل شبر بندر، بتطلع أرواحنا ليكبرو، بعدين وبرصاصة.. بلحظة.. هيك بيروحوا!

تعود الأم للنواح. حاولت صبية تخرّجت قبل شهور من هندسة الكترونيات أن تخبرني بالذي حصل، حاولت أن تكون هادئة ومتّزنة في حديثها. شعرت بالخوف عليها أكثر لأنها بدت بهدوئها ذاك رازحة تحت ثقل صدمتها، فقد كانت تحدّثني عن عائلات كاملة في القرية قُتلت: عائلة عبدالله، عائلة الشاتوري، عائلة حويجه، عائلة شعبان وغيرها:

    فكرنا بداية أن هناك تمشيطاً للمنطقة للبحث عن السلاح، لذلك كلنا التزمنا في بيوتنا وأغلقنا الأبواب، فما من شيء نخاف منه، لا حملنا سلاحاً يوماً ولا نملك سلاحاً في البيت، قلنا لأنفسنا لا سبب للخوف. ثم سمعنا أصوات تكبيرات في الشوارع، ومن ثم صوت قرآن بالميكرفونات، استغربنا كتير! ثم صار صراخ النساء والأطفال يعلو من هنا وهناك، عندها بدا واضحاً أن هناك مجزرة تقترب منّا، فقررنا أن نترك البيت ونختبئ في الحرش القريب، ثم راح كل منّا في اتجاه وهشلنا في البساتين والبراري.

بدأت أرتال من السيارات والمسلحين تدخل الضيعة من جهة الشير، أشكالهم غريبة، جمعوا الشباب الموجودة في القرية من بيوتها، ولم يوفّروا العجائز، أجبروهم على الزحف وتقليد الحيوانات، ضربوهم بعصي الحديد على رؤوسهم وأجسادهم.

    هل رأيت الفيديو الذي نشروه عن فعلتهم؟! هل رأيت ذلك العجوز.. هذا.. هذا جارنا فلاح لا حول له ولا قوة. هل رأيت هذا الشاب.. نعم هذا.. هذا طالب في الجامعة.

مسلّحون بثياب جيش صحراوي وذقون طويلة وبدون شوارب، بعضهم بألبسة مدنية، وواحد يصرخ: فإن ينصركم الله فلا غالب لكم، وإن تقاتلوهم يولونكم الأدبار. مختار الضيعة لم يرضَ أن يهرب بداية الاجتياح، خرج إليهم وسألهم من أنتم؟ ماذا تفعلون هنا؟

    مين إنت؟

    أنا مختار الضيعة

فما كان من المسلّح إلا أن وضع البارودة في رأسه وأطلق النار، ليتكوّم المختار في أرضه جثة هامدة ظلّت أياماً في مكانها.

    عدنا إلى الضيعة من البساتين، البيوت مسروقة منهوبة وبعضها محروق، ما في مكان نضلّ فيه، لذلك انتقل رتل من النساء والأطفال من الضيعة إلى قرية جبريون واجتمعوا هناك في الجامع.

أردفت الصبية وعادت لهدوئها الصامت المقلق.

بعيداً عن ضيعة المختارية وفي ضيعة برابشبو في ريف اللاذقية كان الوضع أشدّ سوءاً.

البيوت المنهوبة المحروقة، السيارات المتفحمة على أطراف الطريق وأمام البيوت، أسر كاملة مازالت تبيت ومنذ أيام في الأحراش، ومن بقي في بيته بعد المجزرة لا يجرؤ على الخروج منه. دفع رجل عجوز بورقة في وجهي عليها أسماء من استطاع إحصاءهم من ضحايا القرية.

    أنا أخصائية نفسية يا عم، الأرقام لا تعنيني. كل ضحية بريئة هي بالنسبة لي مجزرة بحدّ ذاتها.

ما كان من ذاك العجوز إلا أن بدأ النشيج.

سمير شاهين ذاك الرجل المريض الذي قتلوه في سريره، لا تزال جثته على السرير! تلك الأم التي تجلس منذ أيام على الصوفا ذاتها وتتحدّث مع ابنها الذي قُتل في المجزرة. تتحدّث معه كأنه يجلس بجانبها، رامي سلمان شاهين كان دكتوراً بالرياضيات أتى لوداع والدته قبل أن يلتحق بجامعته حيث سيُدرّس في إحدى الدول العربية، فقتلوه برصاصة. الهلاوس السمعية البصرية رأيتها عند أكثر من حالة، كأن أطياف من رحلوا تسكن الأمكنة والفضاء غير راضية أن تمضي. أما حالات التبوّل اللاإرادي عند الأطفال بسبب من الرعب الذي عايشوه فلا يكاد بيت يخلو منها، رأيت هنا كذلك البيجامات الملوثة بالبول والعيون المبحلقة في الفراغ.

صور الأطفال الذين قُتلوا تدفعها الأمهات في وجهي وهنّ ينحن ويسألنني: لماذا قتلوهم؟ هل هؤلاء فلول؟ هل يحملون أسلحة؟!! وليس لدي إجابات. نجم عثمان، كنان شاهين، شاب سنة أولى كلية طب، وشاب آخر سنة أولى طب أسنان، كانت أمه تحتضن الصورة وتنوح. القتل هنا أيضاً صار في الوجه، صور القتلى مثقّبة الوجوه وقد هُشّم جزء منها. حالات الصدمة كانت واضحة بالنسبة لي، بنت منهارة قُتلت رفيقتها سراب يوسف مع عائلتها برصاصة في وجهها. منذ أيام لم تستطع تناول الطعام، إن وجد فتات الطعام، كلما أرادت الأكل تخيّلت وجه خولة مثقوباً. وعلى الرغم من ذلك فمعظم أهالي القرية لم يجرؤوا على الحديث عمّا حصل، الخوف من عودة المسلّحين الذين مازالوا يحاصرون المكان، والذين مازالت وجوههم وأسلحتهم والموت الذي قدموا به حاضراً حولهم وفي ذاكرتهم، جعلهم غير قادرين حتى على الحديث عن موت أحبابهم.

صبية مع رضيع على حجرها عمره خمسة شهور، تجلس مذهولة منذ أن رأت جثث زوجها وأبيها وأخيها.

حين غادرت القرية إلى قرية أخرى كنت أفكّر أن ما يحتاجه المنكوبون هنا بالتوازي مع الغذاء والأغطية هي أدوية نفسية مهدئة، لا لشيء إلا ليستطيعوا استيعاب كل الويل الذي حصل، وأقول استيعاب وليس قبول، لأن قبولَ فقدانٍ “عبر فجيعة كهذه” طريقٌ طويل طويل سيحتاج الكثير من الجهد ولست واثقة من تحقّقه أبداً.

في ضيعة الشير في ريف اللاذقية، كانت الجثث لاتزال على أطراف الطرق ومكوّمة في ساحة القرية منذ أن تمّ إعدام أصحابها في 7 آذار 2025. أمشي وأراقب الوجوه وأشمّ رائحة الموت في الهواء. هنا أيضاً لم يسمحوا للناس بدفن جثث أبنائهم وأحبابهم. في زواريب الضيعة الجانبية هناك جثث مغطّاة بالعشب والأغصان، ظنّ أهلوها أنهم يخبّؤونها بذلك من العيون المترصّدة، فلا يأتي أحد ويأخذها منهم، على الأقل كي لا يحرقوها أو يدفنوها في مقابر جماعية بعيدة. النساء اللواتي حاولن حمل الجثث لدفنها أُطلق الرصاص عليهن. هنا أيضاً يُعاد السيناريو نفسه الذي حصل في الضيع الأخرى، الحكاية ذاتها وبالترتيب ذاته. ثمة شيء ممنهج ومتشابه في كل الضيع التي زرتها.

جابر الشيخ طبيب الهضمية، وأخواه المهندسان حسام وأكثم وأبوهما غسان الشيخ، عائلة مدنية كاملة تمّت تصفيتها من ضمن عشرات العوائل في الشير. قتلوهم بدون أي سؤال، دخلوا البيوت، أخرجوهم منها، وأطلقوا الرصاص عليهم، فالمذبحة بدأت عند بيوت الشير التي تطلّ على الطريق العام، أما البيوت البعيدة عن الطريق إلى الداخل قليلاً فقد استطاع الكثير من أصحابها الهرب إلى الأحراش. هل تكون لعنة الجغرافيا؟! قلت لكم، السيناريو ذاته سيتكرّر في معظم الضيع التي تعرّضت للمجازر.

في ذاك البيت الذي جلست فيه مع أهله كانت جثة الأب أمامي مازالت على الصوفا! أهل البيت حوله وحولي يبدون كأنهم مغيّبون عن الواقع، وأنا جلست أحدّثهم والجثة قبالتي! هل فقدت عقلي؟ هل أنا هي أنا؟ هل أصبت بعدوى الغياب؟ تلك العجوز بجانب الجثة قبالتي بمنديل الصوف حول رأسها كانت تريد أن تدفن جثث أولادها وزوجها بجانب البيت، هذا كل ما كانت تأمل به وقتذاك.

هل تعرفين، لم أعد أقوى على الحديث، أشعر بأنني سأختنق! أحسّ أن مهنتي أشبه بلعنة عليّ، لطالما كانت لعنة عليّ، أنني أتمنى أن أشلع قلبي من مكانه وأرميه بعيداً كي لا يتألم بعد الآن. لن أستطيع إكمال الحديث.. اعذريني.

——————————-

شهادات ناجين وناجيات من مجزرة الساحل

الجزء الرابع

(٤)

مشاهدات متطوّع في الإغاثة .. وحده الشيخ من يقرّر من عليه أن يُكمل الحياة ومن عليه أن يودّعها

12 نيسان 2025

راح الشيخ القادم مع المجموعة المسلّحة يتمشّى أمام صفّ من شباب القرية تمّ جمعهم من بيوتهم وجرّهم أسرى إلى الساحة. يتهادى أمامهم، يناظرهم، يتأمل في وجوههم ثم يدلّ على أحدهم كي يطلق عناصره النار عليه فيتكوّم في أرضه، كمن يلعب حكرا بكرا! ذاك الشيخ يومذاك وحده من كان يقرّر، كيفما اتفق، من عليه أن يُكمل الحياة ومن عليه أن يودّعها.

قابلني أحد الناجين من المجزرة بحكايته هذه، بعد وقت قليل من وصولنا إلى قرية الشلفاطية في ريف اللاذقية. يحمل قصاصة ورقية عليها بعض أسماء ضحايا الساحة: فادي وعلي أصلان، عفيف أصلان وولديه، قتيبة القدار، نبيل حسون، نبيل عثمان وحسن قيس محلا…

حين وصلتُ إلى ساحة القرية مع فريق الإغاثة الذي أعمل معه، كنّا أول مجموعة وصلت القرية بعد يومين فقط من المجزرة التي حصلت في 8 آذار 2025. الدم ما يزال يملأ أرض الساحة شاهداً على حكاية الشاب الناجي. نحن مجموعة متعدّدة من سبعة متطوعين ومتطوعات من كل الطوائف، أنا من اللاذقية ورفيقي من كفرنبل، لجأ مع عائلته إلى اللاذقية بعد هجوم نظام الأسد على المدنيين فيها. قال لي: من عاش الظلم والقهر لا يمكنه أن يظلم غيره ويقهره، لذلك أنا معكم هنا.

رائحة الموت منتشرة، الهواء ثقيل بارد والصمت يعمّ المكان بعد العاصفة. جلّ المحال التجارية الغذائية والدوائية وغيرها في الشلفاطية محروقة، التي لم تُحرق منهوبة عن بكرة أبيها. البيوت، السيارات والآليات الزراعية محروقة كاملاً على أطراف الشوارع وفي الأراضي الزراعية المحيطة.

أنزلنا السلل الغذائية وكراتين الأدوية التي أحضرناها معنا وسط الساحة. المكان قرية أشباح، على الرغم من محاولاتنا إيصال صوتنا للأهالي كي يأتوا ليأخذوا المعونات، وانتشار عدد من أطبائنا وطبيباتنا بين البيوت لمعاينة المرضى والجرحى، إلا أن الناس لم تجرؤ على الخروج من بيوتها إلينا، عند غالبيتهم قناعة أن لا أحد يخرج من بيته إلا ويتعرّض للقتل. معظمهم لا يريدون التعامل مع أي غريب يأتي، حتى لو كان يريد مساعدتهم[1].

الوضع مأساوي، القرية بدون أكل ولا دواء ولا مياه منذ أيام طويلة، لكن الخوف يومذاك في الشلفاطية كان أقوى بكثير من أية حاجة.

حملنا السلل الغذائية والأدوية ورحنا ندور بين البيوت وندقّ ع الأبواب. منهم من رفض أخذ المساعدة أو الحديث معنا، خوف يخرج من العيون ويجتاحنا. دخلت إحدى زواريب الضيعة الضيّقة لأتفاجأ بمجموعة من الأطفال يلعبون بجانب أبواب بيوتهم. تجمدوا في مكانهم مرتعبين، طفلة منهم بدأت بكاءً هيستيرياً، وجهها بعينيه المفتوحتين ينضح برعب لا يمكن وصفه، هنا انتقل البكاء إلى المجموعة الباقية من الأطفال معها. اعتقدوا أننا أولئك الأغراب عائدون من جديد لقتلهم، فالقتل كان عشوائياً هنا في القرية، دخلوا بيوتاً وقتلوا أهلها، ودخلوا بيوتاً سرقوها نهبوها وحرقوها. جحافل همجية عاثت دماراً وقتلاً ونهباً!

آية، التي لم تتجاوز السادسة من عمرها، استمرت تبكي بهيستيريا وهي في حضن أبيها، لم تشفع لي لا علبة العصير ولا البسكوتة التي أعطيتها لها ولا كلمات تحبّب حاولت أن أُطمئنها بها في إيقاف بكائها. بيت أهل آية مثقّب بالرصاص، وعلى مدار ساعات ظلّ الأب يحتضن جسد ابنته ممدّدين على الأرض كي لا يصيبها الرصاص الطائش. يومذاك دخلت مجموعة من المسلحين البيت، كسّروا كل ما فيه من أثاث، سرقوا كل شيء، المال الذهب الهويات الشخصية وحتى سندات الملكية، لكن لم يقتلوهم. الأب ينشج طيلة الوقت ولا مجال لتهدئته، رحت أقبّل رأسه عسى أن يهدأ على الأقل قبالة الأطفال.. عبثاً. رفيقي من كفرنبل راح يبكي معه. قلت له لدينا لكم سلة غذائية، فصرخ في وجهي حانقاً: ما بدي سلل غذائية، بدي اطلع من هذا البلد. كيف ستنسى آية يوماً ما حصل؟!

المبادرة التي قمنا بها كانت أساساً بسبب غياب المبادرات، جمّعنا بعضنا مجموعة من كل الطوائف لإغاثة أهالي الساحل المنكوب بعد المجازر التي استمرت منذ الخميس 6 آذار 2025 ولمدة أسبوع كامل. خرجنا بمرافقة وحماية من قبل الأمن العام. قبل ذلك كنت قد حضرت جلسات الإعداد لمؤتمر الحوار الوطني الذي دعت إليه الحكومة الجديدة، التقيت مع الرئيس المؤقت أحمد الشرع حين أتى اللاذقية للقاء الناس هنا. كان رأيي واضحاً: الكلام جميل لكنها وعود ونريد أفعال. وكانت أفعالاً لم نكن لنتخيّلها.

على مشارف القرية في منطقة زراعية ثمة بيتان متلاصقان لأخين من عائلة زمزم. كان على الأخ الناجي أن يراقب كل ما حدث من شباك بيته المطلّ على باحة بيت أخيه ابراهيم، أن يسمعه ويراه يُقتل بأم عينه، دون أن يقدر على إخراج نأمة. دخل خمسة عناصر مسلحة يومذاك باحة البيت، فأخرج الأخ صاحب البيت كراسي بلاستيك للمسلحين وعدة كؤوس من الشاي، راحوا يتحدثون وقالوا له: نحن قادمون لنحميكم من الفلول ومن الإرهابيين، نحن كلنا شعب واحد.. لا تخافوا!

    الله يحميكم ويقويكم.

كانت آخر جملة ينطق بها، فقد التفت إليه أحد المسلحين وهم يغادرون الباحة وأطلق عليه عدة رصاصات أردته قتيلاً قبل أن يكملوا الدخول إلى القرية. بعد قليل وعلى مرمى بصره رآهم يرمون قنابل على بيتين، فاحترقوا بشكل كامل. ثمة بيوت دخل المسلّحون إليها وأصحابها ليسوا فيها، لا مال ولا ذهب ليسرقوه فصاروا يفتحون جرار الغاز حتى ينتشر الغاز فيها ثم يخرجون ويرمون قنابل كي يحترق البيت كاملاً. في أحد تلك البيوت عثرت على جزء من غرفة لم يطالها الحريق، لا أحد يعرف ما هو مصير الأسرة، قُتلت أم هربت أم اختطفت. هناك في الزاوية لاقيت مجموعة من الصور لأطفال البيت، دسستها في ثيابي وجلبتها معي، مجرّد فأل خير ألا يكونوا قد ماتوا، وأن يأتي يوم ألقاهم لأعيد لهم صورهم.

رفيقي من كفرنبل بقي واجماً كل الطريق، قطع الصمت بعد وقت ليقول لي: إلى متى ستظلّ عجلة القهر تدور داعسة هذا البلد وناسه؟

السؤال نفسه أعاده على مسامعي حين عدنا من زيارة قرية أخرى اسمها عين العروس في ريف اللاذقية.

ما حدث من مجازر في ريف اللاذقية في الأسبوع الدامي ذاك متشابه إلى حدّ كبير وفي معظم القرى، عدى عن أن مساحات واسعة من الحراج والأراضي الزراعية والأشجار سوداء متفحمة على جانبي الطريق. عند مفترق الطريق الذاهب باتجاه القرداحة توجد سيارتان للأمن العام متفحّمتان بالكامل. فريقنا هذه المرة كذلك كان أول فريق إغاثي يصل القرية المنكوبة.

الطريق العام الواصل إلى مدينة القرداحة يقطع قرية عين العروس إلى ضفتين، والبيوت تتوزّع على طرفي الطريق. كل البيوت تلك تعرّضت للضرر، أكثر من 25 بيتاً تمّ حرقه بشكل كامل والبقية بشكل جزئي، عددتها بيتاً بيتاً. كل المحلات التجارية تم نهبها وثم حرقها. أساليب الحرق كانت بالغالب ذاتها، يفتحون جرة الغاز ويتركونها قليلاُ حتى يمتلئ المكان بالغاز ثم يرمون القنابل من الخارج ليحترق كامل البيت أو الدكان.

سكان البيوت الواقعة إلى الداخل، بعيدة نسبياً عن الطريق العام، استطاعوا بمعظمهم الهرب باتجاه مطار حميميم القريب، القاعدة العسكرية الروسية جنوب شرق اللاذقية. ثمة ناس هربت إلى الحقول والأراضي الزراعية، أما من لم يستطع مغادرة بيته أو كان قريباً من الطريق العام فقد تعرّض للضربة الأكبر. عائلة الجهني مثلاً كان فيها عاجزان قتلا في بيتهما، أما عائلة أصلان فقد صُفيت بشكل كامل، الرجل ووالدته وزوجته وابنته جوليا. اللافت للنظر أن البيوت التي سُرقت أصرّ المسلحون على سرقة أوراق الملكية منها وليس الذهب والمال فحسب[2].

ولأننا نعمل في الإغاثة، ولأن الحياة هي التي تهمّنا وليس الموت، فقد حاولنا أن نركّز جهودنا على الناس التي بقيت، لم نحاول معرفة عدد الضحايا ولا أسمائهم لكن الموت كان مرافقاً لنا في كل لحظة، قوائم القتلى التي تُدفع في وجهنا، حكايات الموت، تفاصيل المجزرة وأخبارها، وعيون مفجوعة تلاحقنا في كل لحظة قضيناها في القرية. إلى جانب المدرسة التي تتوسط القرية تقريباً أنشأنا نقطة طبية مرتجلة، لكن الناجين من أهل القرية لم يجرؤوا على الخروج من بيوتهم أو حتى القدوم إلى النقطة الطبية وهم في أمس الحاجة إليها. هنا أيضاً صرنا ندور بين البيوت، نرجوهم أن يأتوا للفحص أو يأخذوا بعض الدواء، فهناك نقص شديد في الأدوية.

    نحن عزّل، عاملو إغاثة.. ليس معنا لا عناصر أمن عام ولا مسلحين..

نؤكد لهم عبثاً، لكن هناك أهالٍ لا يبيتون حتى اللحظة في بيوتهم، وإن باتوا يبقون متحفّزين بحيث إذا سمعوا أي صوت غريب يركضون إلى الحقول.

    ماذا علينا أن نفعل هل نبقى في بيوتنا أم نهجّ من القرية؟

سألتني امرأة عجوز فجأة! الجميع مقتنع أن ما حصل من مجازر يمكن أن يتكرّر في أية لحظة.

شكل القتل هنا في عين العروس كان مختلفاً. لا أحد يعرف لمَ كان أداء هذا الفصيل المسلّح مختلف هنا عن أداء بقية الفصائل في بقية القرى التي كانوا يقتلون الناس في بيوتها أو أمام بيوتها. هنا أخرجوا الناس من بيوتها إلى الحقول وصفّوها بالرصاص هناك. الأمر الذي جعل الناس في القرية يشهدون عدداً أقل من جرائم القتل أمام ناظرهم. لكن هناك مئات الضحايا الموثقون والكثير لا يعرفون أين هم، فالجثث مازالت في الحقول ولا أحد يجرؤ على التجوال للبحث عنها. هناك إلى اليوم أعمال قنص ولا أحد يعرف من الذي يقوم بالقنص! لكن في كل الأحوال، ما حدث هنا في هذه القرية مشابه لما حدث في معظم القرى التي استهدفت، هجوم لوحوش همجية أتت كجحافل التتار لم تميّز بريئاً أو مدنياً، لم يسألوا عن سلاح أو عن مهنة من قتلوه، الجميع كانوا عرضة للقتل شيوخ أطفال نساء عُزّل، ثمة عائلة من إدلب تعمل في الأراضي هناك قُتلت عن بكرة أبيها في الحقول.

    والله نحن منعرف أنهم كانوا مظلومين بس ليش رجعوا ظلمونا؟ أنا بعرف أن المجروح أبيجرح!

    مين هدول يا خالتي؟ اللي قتلوكم مجرمين وليسوا أهل البلد

أجابها رفيقي من كفرنبل، وكانت امرأة مع أربعة أطفال، قتلوا زوجها لكن أمام بيته حين خرج ليسألهم عمّا يريدون. هزّت برأسها وصمتت. هذه المرأة حُرقت المكتبة التي تملكها قبالة المدرسة، وبقيت بلا معيل ولا مصدر رزق.

رفيقي ذاك قال لي وقتها: كأنها أمي حين اضطررنا للهرب من كفّرنبل بعد هجوم نظام الأسد علينا.

نعم السيناريو نفسه يتكرّر ويتكرّر، كما يتكرّر معه طغيان الخوف والقهر. لا أحد يعرف كيف ستُرمّم الأرواح كما البيوت، كيف سيعودون للعيش فيها؟ ما تحتاجه قرى الساحل ليس سيارات تحمل سللاً غذائية وبعض كراتين أدوية، الأمر أكبر من ذلك بكثير، وأكبر من قدرة مجموعة إغاثية على فعله، كما حصل للمنكوبين بعد الزلزال أو موجات اللاجئين، وحدها جهود دولية أو أممية قد تنجح في لملمة شروخ نفسية عميقة، ترميم البيوت كما البشر، لربما أُعيدت ثقة الناس ببلد قادم يخشونه. غابت الشمس علينا ونحن في القرية، فغرقنا في ظلام شديد، ذلك أن المنطقة منذ أيام طويلة بدون كهرباء ولا ماء، من لديه بئر ماء في الحقول راح يوزّع الماء على جيرانه. غرقنا في ظلام شديد يشبه ظلاماً لفّنا في دواخلنا، ورحت أعيد بداخلي ما قاله لي رفيقي من كفرنبل: إلى متى ستظلّ عجلة القهر تدور داعسة هذا البلد وناسه؟

يقال إن ثمة رحلات تغيّر حياة البشر، تفتح الأبواب على عوالم جديدة، لقد غيّرت تلك الرحلات حياتي بالفعل لكن فتحتها على كوابيس لا أعرف متى سأستيقظ منها!

[1] . تكرّر ذلك في معظم قرى الساحل المنكوبة، خصوصاً في الأيام القليلة التالية للمجازر، الناس خائفة من كل غريب حتى عمّال الإغاثة، وبعضهم كان يخاف أن يكون الطعام مسموماً.

[2] . مصادرة سندات الملكية للمدنيين أمر حدث سابقاً من قبل قوات النظام السابق في العديد من المناطق، على سبيل المثال إثر مجازر بانياس والبيضا في العام .2013

————————————–

شهادات ناجين وناجيات من مجزرة الساحل

الجزء الخامس

(٥)

سأحذف كل الرسائل حال إرسالها: هكذا كتبت لي من قلب الرعب.

18 نيسان 2025

هذه عيّنة من مجموعة رسائل تبادلتها مع إحدى صديقاتي، وهي من قرية قرفيص في ريف جبلة/ اللاذقية المعروفة بمرجعيتها الدينية بسبب وجود المقام الشهير للشيخ أحمد قرفيص. استمرت الرسائل على مدار أيام طويلة، بعد بدء المجازر في الساحل السوري وحتى قبل وقت قصير من كتابتي لهذه الشهادة، رسائل حرصت تلك الصديقة على مسحها من جوّالها حال إرسالها لي، فالخوف المسيطر على أهل مناطق الساحل لازال مقيماً ولازالت البيوت تُداهم لتفتيشها وتفتيش الموبايلات من قبل فصائل تابعة للحكومة المؤقتة.

رسالة بتاريخ 18 آذار 2024

مرحبا،

أريد ان أحدّثك الكثير، الكلمات تخنقني كما تخنقني الصور، ربما استطعت أن أتنفس قليلاً إذا كتبت لك ما حدث معنا في الأسبوعين الماضيين، وربما لا. بدأ كل شيء يوم الجمعة الأسود 7 آذار 2025 الساعة 3 ظهراً، فاتحة الحكاية وفاتحة الفجيعة. دخل رتل من مدرّعات وسيارات تحمل دوشكا إلى القرية. قبل دخولهم كان هناك إطلاق نار كثيف، الرعب الذي خلقه صوت الرصاص لا أستطيع وصفه، لكن على الرغم من ذلك ظللنا في بيوتنا، لم نتخيّل للحظة أن ما حدث فيما بعد كان من الممكن حدوثه. صارت الأخبار تتوالى علينا: دخلوا أول بيت في الحارة على الطريق العام، فيه رجلان مسنّان، محسن العمر عمره 70 سنة ومتقاعد وسأرسل لك صورته، أما فؤاد العمر فلم أستطع الحصول على صورته، متقاعد أيضاً. لم يسألوهما إن كان لديهما أسلحة أو أي شيء آخر، سألوهم فقط: أنتو علوية؟ حين أجابوا بنعم، أطلقوا مباشرة رصاصة في رأس كل واحد منهم. جارهم شاب سمع الذي حدث فهرب من فوره ليخبر بقية الجيران ويخبرنا، قبل أن يتّجه إلى الأحراش، كان يلهث ووجه ينضح رعباً.

البيت الثاني بعده بقليل، قتلوا فيه ثلاثة شبّان، دخلوا كل بيت في الحارة وهم يتّجهون إلينا، وصلوا بيت عائلة سليمان المؤلف من طابقين، لم تهرب العائلة من البيت، كانوا يقولون لأنفسهم لسنا مذنبين ولم نحمل سلاحاً يوماً ولا شاركنا في شيء فلن يحدث شيء، ربما فتّشوا البيت عن أسلحة ولن يجدوا شيئاً فيتركوننا بحالنا. أحاط البيت جمع من المسلّحين منهم من يرتدي ثياباً عسكرية، ملثمين وغير ملثمين ومنهم من يرتدي ثياباً مدنية. أجبروا النساء على الصعود إلى الطابق الثاني مصاحبات بشتائم وإهانات: أنتو العلوية حرام تعيشوا.

أنزلوا صاحب البيت معهم أمام باب البيت، اسمه ياسر سليمان هو فلاح ومريض قلب، صارت زوجته تصرخ وتبكي وهي تحاول النزول إلى الأسفل لتدافع عنه، صرخوا عليها أن تدخل قبل أن يطلقوا النار على رأسه. تملّصت منهم ونزلت لتراهم يطلقون النار على ولديها، الأصغر أحمد، محامي عنده يا حرام رضيع عمره ثلاثة شهور، والثاني عمار ممرض عمره ٣٥ سنة وعنده طفل عمره ٤سنوات، عمار أذكره كان لديه مشكلة في عينه اليسرى. تكوّموا ثلاثتهم بدمائهم، الأب والشابين. صوّرها القتلة وهي تندب عند جثثهم، كانوا يضحكون عليها ويقولون: إي إي مسّحيلهم. هل رأيت الفيديو؟! سأرسله لك، أما أنا فرأيت بأم عيني. الرجل نفسه رأيته في فيديو آخر وكان يقول: تطهير عرقي.. تطهير عرقي. سأله رفيقه:

    ليش عملت هيك؟

    لأنهم علوية ما بيستحقّوا يعيشوا.

ما كان منّا إلا أن هربنا إلى مقام الشيخ أحمد قرفيص، لا أعرف لمَ اعتقدنا أننا سنكون بأمان هناك. لكنهم وصلوا هناك بعد فترة قصيرة مدجّجين بأسلحتهم وصراخهم، وقبل أن يغيب المقام عن عيني ونحن نهرب إلى الأحراش القريبة لمحتهم يلقون القبض على مجموعة شباب لم يستطيعوا الهرب معنا، صاروا يصرخون: نحن مدنية.. والله نحن مدنية. لكنهم أطلقوا النار عليهم وقتلوهم أمام المقام.

مشهد الجثث المتكوّمة أمام المقام، أصوات الرصاص والصراخ رافقتنا ونحن نركض في الأحراش.

ها وأنا أكتب لك الآن تخيّلي أني أسمع صوت الرصاص والدوشكا تحت الضيعة!

يا الله لازم روح صوت الرصاص اقترب كتير.. ادعي لنا..

رسالة بتاريخ 21 آذار 2025

مرحبا،

آسفة لأني قطعت رسائلي البارحة، كنّا خائفين جداً، وهربنا من جديد إلى الأحراش، قضينا الليلة في العراء واليوم صباحاً حتى رجعنا البيت. لا أشعر بالأمان أبداً، المسلّحون في كل مكان من الضيعة، والإنترنيت لا يتوافر دائماً لذلك أريد أن أستغلّ الوقت لأكتب لك باقي الحكايات.

المهم لأكمل لك، في 7 آذار دخل المسلّحون المقام. كان هناك ناس داخل المقام أخرجوهم منه، ضربوهم، وأطلقوا الرصاص على أرجلهم. هل رأيت الفيديو الذي صوّروه؟ كانوا يصوّرون ما يفعلونه. لماذا برأيك يصوّرون ما يقترفونه؟! هناك شاب معاق عقلياً اسمه محمد نبيل قتلوه برصاصة في رأسه. ليش يا الله ليش؟

في بيت تحت المقام تماماً، يوجد فيه شاب جامعي يدرس في كلية الرياضة، وحيد لأهله عمره 21 سنة واسمه محمد سليمان، يا حرام أمه ركعت على الأرض تقبّل أقدام المسلّحين كي لا يقتلوه، كانت تصرخ وهي تترجّاهم:

وحيدي والله وحيدي، والله ما عامل بعمره شي.

لم يردوا عليها، أخذوه معهم وعلى بعد عشرة أمتار وراء البيت قتلوه بطلقة في الرأس، لم تكتشف المسكينة جثته إلا في اليوم التالي. أذكر وجهه الطفولي وعينيه العسليتين.. مسكينة أمه، البارحة رأيتها وعرفت التفاصيل منها، تقطّع القلب.. تشعرين وكأنها فقدت عقلها، تعيد التفاصيل وتعيد.. جُنّت!

أخذوا كذلك شاباً اسمه محمد قداحة، أب لطفلين، صفّوه وتركوا جثمانه على الأرض، ومنعوا أهله من الاقتراب منه أو دفنه. نسيت أن أقول لك أن المسلحين الذين أتوا القرية أغلبهم كانوا بدون لثام، عرفنا شخصاً منهم ظهر في فيديو مع مرتكبي مجزرة صنوبر جبلة، لا أعرف ما اسمه!

انتهى أول يوم مع القتل والحرق، نسيت أن أقول لك كذلك أن الكثير من البيوت تمّ حرقها بعد نهبها كاملاً، رائحة الحرائق والدخان كانت تخنقنا كما رائحة الموت. قتلوا أيضاً سامي عبد الرحمن وهو شرطي، أعادوه قبل أسبوعين من مقتله إلى عمله بعد فصله منه، عمره 40 سنة وعنده ولدين، وأخوه بشار عبد الرحمن وهو مدرس بالمدرسة الابتدائية بالقرية، وآصف عبد الرحمن فلاح وعمره 34 سنة. الثلاثة قتلوا في ساحة القرية بطلقات في الرأس، ومعهم حيدر عون الطالب الجامعي ذي 23 عاماً الذي ثقّبت جسده عدة طلقات. ماذا أذكر لك لأذكر، من كثرة قصص القتلى أنساها. أشعر بأني أنا أيضاً بدأت أُجنّ.

سأكمل غداً بتسجيل صوتي بعد إذنك، وسأمحو كل الرسائل من عندي كما اتفقنا..

تصبحي على خير

                                                                                    ***

رسالة بتاريخ 26 آذار 2025

مسا الخير،

آسفة لأني تأخّرت عليك، وأعرف أنك قلقت عليّ، لكن الإنترنيت كان مقطوعاً عن كل المنطقة، وأعتقد عن كل سوريا، هذا ما سمعته، وحينما عاد كان ضعيفاً جداً. أريد أن أكمل لك عن تفاصيل المجزرة قبل أن ينقطع الإنترنيت من جديد.

في اليوم الثاني 8 آذار كان هناك فصيل عسكري متمركز قرب نهر السن القريب، فيه عناصر من الأجانب شيشان وإيغور ربما، والله لا أعرف، لكنّي رأيتهم في الحارة وشاركوا في القتل. كيف عرفت؟ أشكالهم الآسيوية ولغتهم العربية المكسّرة.

قتلوا الكثير من شباب القرية، منهم طلاب جامعات، مثل حبيب دوبا، سأرسل لك صورته، وابن عمه زين طالب. حدّثي ولا حرج عن سرقة عشرات السيارات والبيوت، لم يتركوا شيئاً في البيوت، حتى البطاريات والألواح والأشرطة في مركز البريد ومركز الاتصالات، تخيّلي حرقوا حتى الأشرطة حتى يأخذوا أسلاك النحاس منها! المدرسة نُهبت، سرقوا الحواسيب والأدوات المخبرية وأخرجوا صور البنات من الأضابير وتركوها على الطاولة. لا أعرف ما الذي قصدوه بهذه الحركة؟ شكل المدرسة يشبه كل شيء في ضيعتنا: مستباح مدمّر ومحزن! تعرفين، ليس هناك لا دوام مدرسي ولا تعليم من يومها، الأولاد لا يذهبون إلى المدارس. هه، أعرف أنه من نافل القول، نحن لا نجرؤ على الخروج من البيوت كي نرسل أولادنا إلى المدارس!

سأحاول أن أرسل لك صوراً إن أمكنني، وها أنا أرسل لك صورة المقبرة الجماعية، طبعاً لم يسمحوا لنا أن نصوّرها أو نذهب لزيارة موتانا هناك أو حتى أن ندفنهم، جلبوا شيخاً ودكتوراً معهم ودفنوهم، سأحاول أن أرسل لك القائمة بالأسماء. لكن استطاع أحدهم، ولن أقول لك اسمه، أن يصوّر المقبرة سراً بعد خمسة أيام. آه، للأسف نسيت أني حذفتها، أخاف أن أحتفظ بأي صور أو فيديوهات على جوالي لئلا يفتشوها. لكن المقبرة الجماعية ستبقى موجودة وشاهدة! حسبنا الله ونعم الوكيل.

نسيت أن أقول لك، قتلوا حسين سليمان وهو فلاح عمره 40 سنة، وحسين صالح عمره 75 سنة، وحالياً هناك فصيل مسلّح مازال عندنا، يقولون إن اسمه فصيل العثمان.. الإنترنيت بدأ يضعف، أريد أن أقول لك آخر شيء بسرعة، كل ما يهمّنا اليوم يا عزيزتي هو الأمن والأمان لأولادنا، نريد أن نتعلّم ونعلّم أولادنا، ونعيش بسلام بلا قتل..

أرجوك أوصلي هذا للعالم.

تصبحي على ألف خير.. رح احذف الرسائل أكيد.

                                                                                  ***

رسالة بتاريخ 9 نيسان 2025

مسا الخير

راتب شعبو: مجازر الساحل أحدثت صدعاً مبكّراً في أسس بناء دولةٍ وطنية بعد نظام الأسد

02 نيسان 2025

آسفة لأنه مرّ وقت طويل ولم أرد على رسائلك، والله أنا مريضة جداً، كل ما حدث يجعلني أشعر برغبة في الموت، لم يعد لدي رغبة بالحياة، فقدت إيماني بقيمة أي شيء، حتى أولادي هل سينسون ما رأوه وسمعوه يوماً؟! لكني أعود وأفكّر أنه ينبغي لي أن أكون ممتنة لأنهم لم يُقتلوا، في مناطق أخرى قتلوا الأطفال والنساء. لا أعرف إن كان يمكنني أن أصف شعوري، نحن لسنا فلول يا صديقتي، نحن شعب مثقف وواعي ولدينا ثقافة وعلم وحضارة، يبدو لي أن كل ما يحدث يحاول أن يضعنا في خانة القتلة الهمج، نحن لم نقتل ولم نذبح ولم نمثّل بالجثث، وإن كان هناك قتلة ومجرمين علويين فهذا ليس ذنبنا.. إننا ندفع فاتورة غالية على جرم لم نرتكبه! هناك مجرمون دوماً من كل الطوائف والأديان، لا يعني أن نحاكم الكل بسبب أفعالهم. أنا حزينة كتير، محطّمة، والسواد يعمّ حولي. حينما كنت أسمع أغنية: في حزن وسع المدى، لم أكن أحسّ بهذا الوجع كله، ربما كان هناك أمهات من مناطق ثانية يشعرن تماماً بهذا الوجع، لكن لم يكن ذنبي، حالياً هناك حولنا بالفعل حزن وسع المدى، خايفة على أولادي، خايفة على مستقبلهم وعلى مستقبلنا. لا زلنا نخاف أن نخرج من بيوتنا، الطرقات غير آمنة لكن حتى البيوت غير آمنة، أين نذهب؟ نحن ضائعون.

الآن في الضيعة هناك ثلاثة فصائل، لذلك فكّرت أن تؤجلي نشر ما أرسلته لك عن مجزرة الضيعة إلى أن يرحلوا عنها. الخوف يزداد كل لحظة من أية أفعال انتقامية أخرى، وأنا خايفة على الناس وعلى أولادي وعلى حالي.

أرجوك أن تؤجلي نشر شهادتي لفترة ريثما يهدأ الوضع.. وآسفة كتير.

انقطعت الرسالة…

ملاحظة: عدت وأقنعت صديقتي، بصعوبة، أن ننشر الشهادة، بعد أن “شفّيتها” من كل ما من الممكن أن يُشير إلى هويتها.

—————————————

الجزء السادس

(٦)

أمهات يبحثن عن جثث أولادهنّ: الموت على قيد الحياة!

24 نيسان 2025

من مفرق الجامع وحتى حارة المزار في حي الدعتور باللاذقية، كانت عمّة كنان إبراهيم تسير رفقة جارتها ووالدة خطيبته باحثات عن ابن أخيها وصديقه تراب محمد الذي كان يبيت عنده منذ البارحة الخميس 6 آذار 2025 وانقطعت أخبارهما تماماً.

الطريق مليئة بالجثث المتكوّمة على جانبي طرقات الحي وأزقته، والنسوة الثلاث يقلّبن الجثث بحثاً عن كنان وتراب، فقد كانت فصائل من المسلّحين، التابعة للحكومة المؤقتة، بالإضافة إلى مجموعات من المدنيين قد غادرت المنطقة لتوّها بعد انتهاء اشتباكات خاضتها ضد مجموعات أطلقوا عليها (فلول النظام السابق). إثر ذلك ارتكبت مجازر بحقّ المدنيين في البيوت بعد انسحاب أولئك (الفلول) من الحي وانتهاء الاشتباكات.

سيارات تحترق، صراخ ونواح نسوة ورجال وأطفال خرجوا كذلك من بيوتهم ليبحثوا عن جثامين أحباب أُخذوا من بيوتهم ورُميوا قتلى في الطرقات، وأنا أبحث عن ابن أخي كنان إبراهيم، أدور وأبحث..

هنا جثة عبير إبراهيم، أمام بيت أم يوسف الشيخ، وهي سيدة عجوز تكاد تبلغ التسعين عاماً، رأيتها تحاول إدخال جثمان ابنها الكبير يوسف، المدرس في مدرسة الدعتور ذو السمعة الطيبة والأب لولدين، احترقت جثته بمعظمها أمام البيت، بعد أن قتله المسلّحون بسبب صراخه: لا إله إلا الله، وهو يرى أخويه يُقتلان أمامه: محمد وهو مدرس، وأحمد وهو عامل بناء.

فال له المسلح: وهل تعرف الله أنت؟ قبل أن يطلق الرصاص عليه ويضرم النار في جثته التي ظلت تحترق لساعات. أمه العجوز تحكي لمن يمرّ من أمامها وهي تبكي. الحائط والشجرة وباب البيت كلها متفحّمة، أما الرائحة فلا يمكن وصفها، وأنا أريد أن أعثر على ابن أخي!

كنان كان يعمل سائقاً بالأجرة، ورفيقه تراب محمد عازف أورغ، يسكن مع أمه وأخته وأخيه الصغير، الذين لم يكونوا في البيت ذاك اليوم المشؤوم. نزلت أم تراب هي الأخرى تبحث معي عن تراب وكنان. لم أرَ ابن أخي منذ يوم الخميس، حين قرّر أن يغادر بيتنا القريب وينضمّ إلى صديقه كي لا يتركه وحده وسط الخوف والترقّب الذي كان يسود الحي. ترجّيته وأمه ألا يذهب ويبقى في البيت، لكنه أصرّ على الذهاب، فما أنا الذي يترك رفيقه وحده، قال لأمه. بعد خروجه يوم الخميس ظهراً إلى الدعتور اقتحمت مجموعة من المسلحين الملثّمين بيت أخي وأخذوا الموبايلات وما نملك من نقود، لكنهم لم يقتلوا أحداً منّا، لذلك فقد قلت في قلبي سيكون كنان وتراب بأمان، طالما أنهما لم يقترفا جرماً في حياتهما. لكنّنا لم نرَ أياً منهما في بيت تراب! رأينا الأغطية الصوفية التي كانا يتدثّران بها على الصوفايات، يبدو أنهما أُخذا من البيت فور استيقاظهما، أو أنهما كانا لا يزالان نائمين حين اقتحم المسلحون البيت.

جثتا الأستاذ الجامعي طلال قسّوم وأخوه مهنّد قسّوم أمام باب بيتهما، رصاصات في الرأس. زوجتاهما تنوحان على الجثتين والأطفال بقربهم، زوجة الأستاذ طلال تندب وهي تحاكي جثته: والله ما خلّونا نقرّب عليكم، أخذوهم من البيت وقتلوهم.. قالوا لنا إذا قرّبتوا من الجثتين أو صوّرتوها سنقتلكم ونشلحكم بجانبهما.

ولكن أين كنان وتراب؟

لاقيت أم أولاد العطواني، كانت تنوح كذلك أمام جثث أبنائها: علي 28 سنة، غفار 18 سنة وهو طالب ثانوي، وجعفر 25 سنة، كانت هي الأخرى تشهق وهي تخبر الناس من حولها كيف أخذوا الثلاثة من البيت، وكيف رأتهم من الشرفة وهم يُقتلون سوية في الحارة. طلبوا من غفار أن يركع، لكنه لم يستجب لهم وهو يرى أمه تراقبه، لم يرضَ أن يركع فضربوا الرصاص على ساقه حتى ركع، حينها ضربوا رصاصة أخرى على رأسه فمات من فوره، ليقتلوا أخويه بجانبه برصاصات في الرأس كذلك.

بدت أم علي العطواني كأنها جنّت وهي تعفّر رأسها بالتراب.

رأيت الكثير من القتلى، أعرف معظمهم، مدنيين لا علاقة لهم لا بالسلاح ولا بالحرب. كل شيء حولي ضبابي، رائحة الموت والعويل والجثث ورائحة حريق.

ثم رأيت كنان من بعيد، ابن أخي حبيبي، في فسحة ترابية متوارية بين بيتين. لمحت أولاً دماء تخرج من تحت باب غرفة صغيرة بابها على الساحة، قالوا لي فيما بعد إنهم وجدوا فيها شاباً يافعاً مقتولاً. لم أر إلا جسد كنان ملقىً على وجهه لكني عرفته، كيف لا أعرفه! بجانبه جثة صديقه تراب. لم أستطع أن أقترب، آخر شيء رأيته كان بقايا من دماغه على الجدار المقابل، عينه خارج محجرها وفكه خارج من مكانه. كيف سأخبر أمه بكل هذا؟!

كان كنان حبيبي قد قُتل منذ البارحة برصاصة في رأسه، وتراب بطلقة هشّمت ساعده وطلقة ثانية في رأسه.

لفّ رجال العائلة جثمان ابن أخي ببطانية، وأخذوه مع بقية جثامين الضحايا في الدعتور، حملها أهلها ملفوفة ببطانيات كذلك، ليُدفنوا في مقبرة جماعية، هي عبارة عن أرض بور بين الدعتور وبكسا وهبها صاحبها للأهالي كي يدفنوا ضحاياهم فيها.

كنان قُتل بدون ذنب، دفن بدون كفن ولا تابوت، وتركني وصورة وجهه المشوّه تلاحقني حتى مماتي.

في مكان آخر ومدينة أخرى وفي الوقت ذاته كانت أم يوسف، سوزان محي نعمان 48 سنة، في حي القصور بمدينة بانياس تعيش كارثة أخرى. فمنذ أن بدأ إطلاق الرصاص الكثيف يتناهى إليهم يوم الخميس 6 آذار 2025 وقرأوا عن حظر التجول في المدينة التزموا بيوتهم. كانت هي وزوجها مالك محمود شريف 49 عاماً وهو مهندس مدني، مدير آثار بانياس، وابنها يوسف مالك شريف 18 سنة وهو طالب متفوّق في السنة التحضيرية لكلية الطب، وابنها الثاني هادي مالك شريف طالب متفوق أيضاً في البكالوريا للثانوية النفطية، قد انتهوا للتو من وجبة السحور استعداداً لصيام الغد، وبعد أذان الفجر راحت مساجد المدينة تعلن: حي على الجهاد.

لم أفهم بداية ما كان هذا النفير، لكن لم يطل الأمر حتى استيقظنا يوم الجمعة صباحاً بعد ساعات قليلة على أصوات قصف قريب ودخلت مجموعات من الرجال إلى الحارة يصرخون ويشتمون، وبما أن بيتنا عند دوار القصور فقد رأيت كيف كانوا يحرقون السيارات والمحلات والمطاعم.

حوالي الساعة الواحدة ظهراً راح يُضرب على باب بيتنا بالأقدام والبواريد وصراخ يصلنا من الخارج: افتحوا الباب يا علوية يا خنازير.. أشهر اثنان من المسلحين الملثّمين السلاح في وجه أبو يوسف حالما فتح الباب.

أول سؤال سأله: أنتو علوية؟

    إي نحن علوية!

    هاتوا الهويات والموبايلات.

أخذني أحدهما إلى غرفة الداخلية تحت تهديد السلاح، وقال لي: اعطيني كل شي معك مصاري وذهب. صرت أحلف له الأيمان أنو والله ما معي مصاري ولا ذهب.

صار ينكش في الخزانة وعثر على مبلغ صغير كان هادي قد جمّعه من عمله سوبرماركت ليدفع لقاء دروس سيأخذها من أجل امتحان البكالوريا. فأخذهم. قال لي: ابقي هنا، وإذا خرجت إلى الصالون سأقتلهم أمامك.

    والله يا خالتي نحن ما عاملين شي!

    أنتو كفار.. أنتو..

    نحن مو كفار، نحن منصوم ومنصلي ومنخاف الله، هات المصحف الشريف لأحلفلك.

    أنتو قتلتونا نحن أهل السنة، وبدنا نقتلكم متل ما قتلتونا.

أحسست للحظة أنه يعيد الجملة ليقنع نفسه، فقد كان كتاب القرآن خاصتي أمامه على الطاولة، وجملة خطّها يوسف بخط الثلث “القرآن الكريم” على ورقة معلّقة على الحائط.

    يا خالتي نحن مدنيين، ناس علم، ما نحن اللي قتلناكم وما إلنا علاقة، صارت أخطاء بالزمن مو نحن اللي مندفع ثمنها، روحوا حاسبوا اللي قتلكم واقتلوهم..

في هذه اللحظة وقف مسلّح جديد عند باب البيت، لكنه لم يكن ملثماً، رأيت عينيه التي لن أنساها ما حييت وصاح: يالله.. جيبهم. أخذوا زوجي وولديّ معهم. في ذلك الوقت لم يكن لدي أدنى شكّ أنهم سيقتلونهم، قلت لنفسي سيأخذونهم إلى التحقيق ويرجعونهم فوراً إلى البيت، مَن مِن الممكن أن يقتل شابين جميلين كولديّ؟! طالبين متفوقين لا يعرفان إلا العلم، ويوسف سيقدم غداً السبت امتحان آخر مادة وهي الكيمياء.

بقيت أنتظرهم في البيت، أدور في مكاني كالمجنونة، أدعو ربي وأنا أسمع أصوات الرجال وخطواتهم على درج البناية وفوقي على السطح. كيف سأطمئن على يوسف وهادي وقد أخذوا الموبايلات! وحيدة خايفة مرعوبة، أصبّر نفسي وأقول كل دقيقة: سينتهي التحقيق ويعودون.

يوم السبت صباحاً عادت مجموعة أخرى من المسلحين تطرق الباب بعنف. سألوني فور فتحي للباب: إنت علوية؟ ثم أردفوا: وين الزُلم؟

    ببوس إيدك إنت قلي وين الزلم؟ أنتو أخذتوهم من مبارح.. وينهم؟!

نظر إليّ بخبث وقال بابتسامة: بالتحقيق، شوي وبيرجعوا.

تجدّد عندي الأمل، لكن لم أكن أتخيّل أن جثث زوجي وولديّ الاثنين كانت منذ البارحة فوقي تماماً على السطح، بالإضافة إلى جارنا في الطابق السفلي اسكندر حيدر وابنه مراد الذي نجا بإعجوبة ولم تقتله رصاصات المجرمين. لم يخبرني أحد أن أحبابي قُتلوا، كل الجيران كانوا يعرفون أن ولديّ وزوجي قتلوا إلا أنا! نساء الحارة أخرجنني بعد ظهر السبت معهن لنحتمي في مركز إيواء بمساكن مصفاية بانياس، وهناك نقل لي أخي الخبر.

عائلة شريف خسرت في ذلك اليوم 10 أشخاص منها.

راح جنى عمري، أهل نور وعلم قتلهم جهلة وظلاميون. خسرت الدنيا كلها. ناس أبرياء قتلوا ظلماً على أيدي الكفّار. نعم هم الكفّار الذين كفّروني لأنني علوية! أنت يا من قتلتهم هل تعرف الله أكثر مني؟ هل تصوم أو تصلي أكثر مني؟ أنا ربّيت أولادي على مخافة الله والدين وفي النهاية نُقتل باسم الدين؟!!

لا أستطيع حتى اليوم أن أدخل البيت، كان مليئاً بالحياة، مليئاً بضحكاتهم وأصواتهم، والآن ليس فيه إلا رائحة الموت والفراغ. يوم الأحد حمل أخوتي والجيران الجثامين من السطح بمساعدة الهلال الأحمر، لم يسمحوا لنا بأخذهم لنقبرهم كما يليق بهم في الضيعة، وضعوهم في مقابر جماعية إلى جانب مئات الجثامين الأخرى من الحي.

أريد أن أحكي للدنيا كلها ما حصل معنا، أريد أن أرفع صوتي فلم يعد لدي ما أخسره، أنا ميتة على قيد الحياة.

كاتبة وروائية سورية مقيمة في ألمانيا، صدر لها عدد من الروايات منها: “أبنوس”، “حراس الهواء”، “بروفا”، “نيغاتيف”، “الذين مسّهم سحر”، “بين حبال الماء”. ترجمت أعمالها إلى عدد من اللغات، منها الألمانية والفرنسية والإيطالية، إضافة إلى ترجمة فصول إلى الإنكليزية والفلامنكية.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى