محاولة لإعادة تعريف البكاء/ دلير يوسف

26.04.2025
في البدء كنتُ أخجل من دموعي، لم أكن أبكي أمام الناس، لكن في دمشق، بعد يوم أو اثنين يكتشف المرء أن كلّ الناس يبكون طوال الوقت.
قَد كانَ يَمنَعُني الحَياءُ مِنَ البُكا / فَاليَومَ يَمنَعُهُ البُكا أَن يَمنَعا (المتنبي)
جالساً في أحد المقاهي في واحدة من أمسيات دمشق في بدايات شهر كانون الثاني/ يناير، محاطاً بأصدقاء وصديقات عرفتهم خلال فترات متفرقة من حياتي القصيرة في بيروت ودمشق وبرلين. كنت أريد أن أحكي لهم عن حادثة صارت معي في زمن حصار الغوطة في عام 2013، لكن الدمع سبقني. لم أستطع إكمال الكلام وغصصتُ بدمعي.
قبلها بيومين، يوم وصولي إلى دمشق بعد أكثر من عقد على رؤيتها للمرة الأخيرة، بكيتُ على أسوار المدينة، لكنّني أخفيتُ دمعي خجلاً من سائق سيارة الأجرة التي أقلتني من الحدود الأردنية إلى مدينتي.
في الأيام الخمسة الأولى في دمشق لم يتوقف البكاء، كلّما مررتُ بشارع أو حكيتُ عن ذكرى أو زرتُ قبر أخي أو رأيت بيتنا المهجور، تقافز الدمع إلى مقلتيّ وصرتُ على حافة البكاء. قد أنهار أحياناً من دون أن أستطيع كبح مدامعي لكن في كثير من المرات كنتُ أوقف البكاء على باب قلبي.
في البدء كنتُ أخجل من دموعي، لم أكن أبكي أمام الناس، لكن في دمشق، بعد يوم أو اثنين يكتشف المرء أن كلّ الناس يبكون طوال الوقت. من بقوا وتحرّروا من ظلم الأسد يبكون حياتهم السابقة ويحلمون بمستقبل أفضل، من عادوا إلى سوريا بعد هرب الأسد يبكون ذكرياتهم والسنوات الضائعة من عمرهم، من يحكون عن معتقل أو معتقلة اختفيا من حياتهم يبكون أحباءهم، من شهدوا المجازر يبكون الفظائع التي ستبقى مرسومة في أذهانهم، من تهجّروا ودُمرت بيوتهم يبكون صوراً لن تغادرهم ما بقوا أحياء.
هكذا، الجميع يبكي، وأنت واحدٌ من الجميع، فتبكي مثلما يفعلون.
ما هو البكاء؟
وَلَقَد أَرى أَنَّ البُكاءَ سَفاهَةٌ / وَلَسَوفَ يولَعُ بِالبُكا مِن يَفجَعُ (أبو ذؤيب الهذلي)
يقول موقع ويكيبيديا في تعريف البكاء إنّه “نوع من الاستجابة العاطفيّة لشعور معين، وعادةً ما يكون شعور حزنٍ أو ألمٍ، وهو استجابةٌ لظروف وأحداث معيّنة لكنّه قد يكون أيضاً نتيجة لشعور جميل أو حدث مفرح”.
يعجبني هذا التعريف، مكثّف وقصير ويغطي أنواعاً مختلفة من البكاء، لكنّه مجرّد وحيادي ولا يغطي كلّ مساحات البكاء. هل هذا فقط هو البكاء؟ ماذا عن ارتجاج القلب الذي يرافق خروج الدمع؟ ماذا عن الشهقات؟ ماذا عن الأيادي التي تلمس كتفك وأنت تبكي في مكان عام؟ ماذا عن كلمات المواساة؟ ماذا عن البكاء وحيداً في مكان بعيد والشعور بأنك الشخص الوحيد على هذا الكوكب؟ ألّا يتضمن تعريف البكاء كلّ هذه المشاعر؟ ماذا عن عدم القدرة على البكاء حين يحين وقت البكاء، ولكن تبكي أمام مشهد سخيف في فيلم ما؟
ثمّ ماذا عن الذين يبكون لأسباب دينيّة، أولئك الذي يبكون خاشعين أثناء الصلاة أو بالقرب من مكان يقدسونه؟ أو أولئك كالشعراء الذين يبكون لسبب ما أو بدونه؟ وماذا عن البكاء الذي لا نعرف سببه، ذلك الذي يترافق مع سماع الأغنيات العراقيّة، والتي لا نفهم الكثير من كلماتها؟
بكاء الموت
ليس من شوق إلى حضنٍ فقدتُهْ/ ليس من لتمثال كسرته/ ليس من حزنٍ على طفل دفنته/ أنا أبكي ! (محمود درويش)
يبدو أنّ موت أخي الصغير قد أثّر فيّ أكثر ممّآ كنتُ أعتقد. كان الموت القريب الأول الذي عرفته. كنت مراهقاً لا أهتم لشيء سوى لعب كرة السلّة والقراءة والتسكع مع صحبي. جاء هذا الموت ليغطي حياتي وحياة عائلتي بموجة حزن لم نستطع التخلّص منها إلا بعد سنوات طويلة، وبعدما اجتاحتنا موجات حزن أخرى ما زلنا نغرق في بعضها.
في ذلك اليوم، في التاسع من تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 2005، والذي وافق اليوم السادس من شهر رمضان، مات نوار. أتذكر نفسي في باحة المستشفى أبكي حين علمت بالخبر. أتذكر نفسي باكياً وأبي يحتضنني. أتذكر نفسي باكياً وأنا في الطريق إلى البيت. أتذكر نفسي باكياً في غرفة والديّ. أتذكر نفسي باكياً حتى غرقتُ في النوم. بعد ذلك اليوم لم أبكِ على نوّار حتى اليوم الذي وقفت فيه على قبره في بدايات 2025، حين عدت إلى بيتنا في دمشق وإلى زيارة قبر نوار بعد نحو 14 سنة.
زرعت لنوّار شجرة باسمه في إحدى غابات بريطانيا. أشعلتُ له شموعاً في أماكن مختلفة من العالم. قلتُ لنفسي إنّ العالم قد أعطى عائلتنا هديّة لفترة قصيرة، وهذه الهدية كان اسمها نوّار. كنتُ أقول لنفسي إنّني لن أرى بيتنا وقبر نوّار مرة أخرى، لكن الأسد سقط وعدتُ إلى بيت طفولتي، وزرت صديقي الصغير الذي ظل صغيراً جميلاً دافئاً مثل كأس من الشاي في ليلة باردة.
بكاء القهر
وما كنت أَدري قَبلَ عَزَّةَ ما البُكا / وَلا مُوجِعاتِ القَلبِ حَتَّى تَوَلَّتِ (كثير عزّة)
وهذا أصعب أنواع البكاء. بكاءٌ يرافق متابعة لحظات تهجير حلب وتهجير الغوطة، بكاء يرافق صور مجزرة التضامن وفيديوهات مجازر داريا والبيضا والساحل الأخيرة، بكاء يرافق كل معاناة يراها المرء من خلف الشاشة. يبدأ المرء بالبكاء لعدم قدرته على تغيير ما يراه؛ بكاء القهر والعجز.
ماذا يفعل المرء حين لا يستطيع تغيير ما يراه أمامه؟ ماذا يفعل المرء إذا ضُربه مثلاً شبيح لسلطة ما؟ ماذا يفعل المرء حين يرى العالم كلّه يغض الطرف عن قتل الآلاف في غزّة؟ ماذا يفعل غير البكاء، بكاء القهر؟
أتذكر نفسي طفلاً صغيراً، ربّما كنتُ في العاشرة من عمري، أمسك يد والدي ونمشي بالقرب من ساحة المرجة في دمشق. سمعنا صوت صراخ. نظرنا إلى شارع جانبي فرأينا أحد عناصر الأمن يُمسك رجلاً كبيراً في العمر ويضربه على وجهه. الناس حولهم ولا أحد منهم يحرّك ساكنًا. شلّهم الخوف.
تذكرت هذا المشهد بعد سنوات طويلة حين كانت الثورة على أشدّها في البلاد. كنت أكتبُ نصاً عن الذل في سوريا الأسد، وتذكرت ذلك المشهد ضمن مشاهد ذل كثيرة، وصرتُ أبكي عجزاً.
شعور العجز ذاك أصابني بعدما صدمني قطار الشوارع (الترام) ذات يوم. كنتُ ملقى على الأرض وعاجزاً عن الحركة، أنتظر إسعافي، وأناس غرباء يعتنون بي. في لحظة أحسستُ بالعجز وعدم القدرة على الحركة. كانت امرأة ما تمسك يدي وتمنعني من الحركة خوفاً من نزيف داخلي. أتذكرها تقول لي حين رأت الدمع متجمعاً في مقلتيّ: لا بأس إن بكيت، هذا بكاء الصدمة. لم أرد البكاء أمام مئات الناس المتحلقين حولي وهم ينظرون إلي وأنا أموت. لم أبكِ. بعد لحظات حسبتُ نفسي جاهزاً للرحيل. كانت تلك لحظة الحريّة الأكبر التي شعرتُ بها.
بقيتُ شهوراً في السرير بعد الحادث غير قادر على فعل شيء سوى الاستلقاء والكتابة ومشاهدة الأفلام. كلّما هممتُ بالذهاب إلى المرحاض بمساعدة من شريكتي، أبكي عجزي. لم أكن أستطيع المشي، فأستند إلى شريكتي وأبكي، فتبكي معي.
بكاء سقوط النظام
لا تبخَسوا قَدْرَ الدموع فإنها/ دفعُ الهموم تَفيضُ من يَنْبوع (محمد مهدي الجواهري)
مثل كل السوريين والسوريّات، تسمّرتُ أمام الشاشات لأيام قبل سقوط النظام. شاشة حاسوبي مقسّمة إلى أربع شاشات، أتابع أربع قنوات إخبارية في الوقت نفسه، وعلى شاشة التلفاز قناة أخرى، وأخبار وسائل التواصل الاجتماعي على هاتفي المحمول.
لم أصدّق أنّهم حرّروا حلب ومن ثمّ حماة، وها هم في طريقهم إلى حمص. لم أستطع النوم جيداً في تلك الأيام من شهر كانون الأول/ ديسمبر 2024. دموع ومشاعر مختلطة تعصف بكياني.
وصلنا إلى ليل اليوم السابع من الشهر، وقرأتُ خبراً عاجلاً يقول إن الإدارة الأميركيّة تتوقع سقوط النظام خلال خمسة أو عشرة أيام. قلتُ لشريكتي الألمانيّة، حسناً فلننم، يبدو أنّ الليلة لن يحدث شيء. ابنتنا كانت تنام عند ابنة خالتها في بيتها المجاور لبيتنا.
استيقظنا في الصباح الباكر على هاتف من إحدى صديقاتنا تقول إنّ بشار الأسد هرب، وأنّ نظام الأسد سقط. قفزت من السرير لأشاهد الأخبار. بدأت بالبكاء ما إن رأيتُ الخبر. سألتني شريكتي عن سبب بكائي، فقلت لها: لا أعرف، أبكي على كلّ شيء، على الحريّة، وعلى سنوات عمري الضائعة، وعلى أولئك الذين رحلوا من أجل هذه اللحظة التاريخيّة. لا أبكي حزناً، ولا فرحاً، هذا بكاء آخر، بكاء لا يشبه شيئاً آخر. هذا بكاء سقوط النظام.
صارت تبكي معي. جاءت ابنتنا التي تبلغ السابعة من العمر ورأتنا نبكي. سألتنا عن سبب البكاء فقلنا لها إنّ الأسد قد رحل. قفزت ابنتي فرحاً وصارت تصرخ بالألمانية: رحل الأسد… رحل الأسد. ثمّ سألتنا عن مكان وجود حقيبتها. سألناها لمَ الحقيبة، فقالت من أجل أن نعود إلى سوريا. فصرتُ أبكي أكثر.
لم يحدث أن تحدثنا عن العيش في سوريا أو العودة إليها. ابنتي ألمانية، وُلدت من أم ألمانية ولغتها الأم ألمانيّة، لكنها فهمت أنّ ما يربط عائلتنا بسوريا أعمق من لغة ومفردات ومكان فيزيائي.
البكاء عند ولادة طفلتي
وَقَفتُ أَبكي وَراحَت وَهيَ باكِيَةٌ / تَسيرُ عَنّي قَليلاً ثُمَّ تَلتَفِتُ (البهاء زهير)
كنتُ من أولئك المحظوظين الذين شهدوا معجزة الولادة. كنت مع شريكتي طوال الوقت. لم أبرح جانبها ولو لثانية. حاولتُ أن أكون معيناً مساعداً موجوداً. حملتُ ابنتي أول ولادتها. كانت ألطف وأجمل وأحلى الأشياء التي رأتها عيني. لا أستطيع وصف المشاعر التي تصيب الأهل حين يرون أولادهم.
أظن أنّ كلّ أب يصير أباً عند الولادة، وكلّ أمّ تصير أماً عند بداية الحمل. هذا ما أردت تجاوزه أثناء فترة الحمل. أردت أن أكون هناك وأن أشعر بكلّ مشاعر الأبوة منذ اللحظة الأولى. حين رأينا صور الأشعة السينيّة أول الحمل لم نفهم شيئاً، سألتنا الطبيبة وهي تشير إلى نقطة ما على شاشة أمامها: هل ترون هذه النقطة التي تتحرك في المنتصف؟ هززنا رأسينا إيجاباً. قالت: هذا جنينكم. وتغيرت الدنيا. أدمعت عيناي. أدمعت عينا شريكتي.
عند الولادة وحين حملتُ ابنتي للمرة الأولى أدمعت عيوني مرة أخرى. ومنذ ذلك الوقت، منذ أكثر من سبع سنوات، بكيتُ عدداً لا نهائياً من المرات مع/ من أجل ابنتي.
البكاء كفعل مقاوم للأدوار الجندرية
يَبكي رِجالٌ عَلى الحَياةِ وَقَد/ أَفنى دُموعي شَوقي إِلى أَجَلي (العباس بن الأحنف)
وهل يبكي الرجال؟ نعم وبكثرة.
رأيت أبي يبكي عند موت أخي، ورأيته يبكي عندما التقينا في باريس بعد خمس سنوات على هروبي من سوريا، ورأيته يبكي حين رأى ابنتي/ حفيدته في المستشفى حين مرضت وكانت في الثانية من عمرها.
سمعت من أصدقاء وصديقات يحكون عن آبائهم وعن دموعهم القريبة. رأيت رجالًا يبكون على أطلال بيوتهم المُهدّمة. رأيتُ رجالاً يبكون على من رحل من أحبائهم. رأيتُ رجالاً يبكون في قاعات السينما على مشهد في فيلم ما. رأيتُ رجالاً يبكون وهم يستمعون الى أغنية عاطفية.
يبكي الرجال مثلما تبكي النساء. كلّ الناس تبكي، والبكاء فعلٌ عادي، وردّ فعل عادي، وربّما قد آن أوان حذف جمل وأفكار “عندما يبكي الرجال، فأعلم أن الهموم فاقت قمم الجبال” من أفكارنا ومعتقداتنا.
كاتب ومخرج من سوريا
درج