نقد ومقالات

أدباء اليوم.. هل يكتبون باليد أم بلوحة المفاتيح؟/ علي سفر

27 ابريل 2025

يشتكي كثيرٌ من المشتغلين بالنقد الأدبي والفني من تفاقم ظاهرة الاستسهال لدى القادمين حديثًا إلى ساحات الكتابة. يُرجع الكهول الأمر إلى فوضى النشر، وقبول المحررين التعاطي مع “نقّاد” يبحثون عن فرصة، على حساب التعاطي مع المحترفين الذين يفرضون شروطهم في التعامل مع المنبر، بحكم تجربتهم وثقلها.

بينما يرى الشباب، ممن درسوا في الأكاديميات والمعاهد، أن اتساع فضاءات النشر، بين الورقي والإلكتروني، وبين المواقع الاحترافية والأخرى التي تقبل أي شيء وتنشر كل ما يصل إليها، قد أدى إلى ظهور فئاتٍ شابة لا يهمها التعمق في مجال الاختصاص، بقدر تركيزها على الوصول والنشر.

فعليًا، يبدو أنَّ الواقع الراهن وتطوّراته سيصدم الشريحتين المذكورتين أعلاه. فبعد تطوّر أدوات الكتابة من القلم إلى لوحة المفاتيح، وتحول التفكير بالمصادر والمراجع من المكتبات الورقية إلى شبكة الإنترنت، وصل المستخدمون إلى زمن الذكاء الاصطناعي وجبروته، حيث صار بإمكانهم اعتبار أدواته مساعدًا شخصيًا يُسأل عن كل شيء، كمحرك بحث ومكتبة، وبقليل من التمكن يمكن تحويله إلى ناقد ومحلل مختص، يستطيع أن يكتب إحاطات يعجز عنها العقل البشري!

وتبعًا لهذا، سيصبح أمام المحررين في المواقع والمجلات والجرائد الرصينة مهام إضافية؛ فبعد أن كان عملهم يتركّز على “تحرير” المادة وتخليصها من الأخطاء والهَنَات، والتوثق من أنها غير منشورة سابقًا، قذف التطور التقني نحوهم بمهمة إضافية، هي التأكد من أن المواد المقدمة للنشر ليست مكتوبة بواسطة أداة من أدوات الذكاء الاصطناعي!

بالتأكيد، ستلعب مسألة الثقة بالكاتب دورًا في طريقة التعاطي مع ما يقدمه للنشر، فهو لن يضحي بسمعته لأي سبب من الأسباب، كذلك فإن لكل شخص طريقته وأسلوبه في تدوين أفكاره وكتابة نقده. لكن هذه المنصات لا تقف عند الكتاب الموثوقين فحسب، بل تحتاج إلى أن تفتح أبوابها للشباب القادمين إلى عوالم النشر بحماسة كبيرة. فهل يستطيع المعنيون كشف إن كانت أي من المواد المطروحة أمامهم مكتوبة بيد إنسان، وأي منها مصوغة بعقل الذكاء الاصطناعي؟

تمتلئ الشبكة الإلكترونية حاليًا بمواقع تدعي أنها تستطيع الكشف عن المواد المكتوبة عبر الذكاء الاصطناعي (AI)، وفي الوقت نفسه، يقترح بعض “الحرابيق” على المهتمين مواقع تعيد صياغة منتجات الذكاء الاصطناعي لتصبح أقرب إلى نتاج البشر، وبما يضلل أدوات الكشف!

تدقيق الأمر مع أداة مثل “تشات جي بي تي” يوضح –بحسب التجربة الشخصية– أن الأداة تنتج المحتوى وفقًا لعقل المستخدم ونمط كتابته، لكنها لا تنفي قدرة أدوات ذكاء أخرى على اكتشاف مصدر النص. ولدى التدقيق في الآليات التي تتبعها، يجري التركيز بشكل رئيس على طريقة الكتابة، ومدى تماسك العبارات والجمل، والتعاطي معها بوصفها وصفات جاهزة قابلة للتكرار، بحكم متانتها وقدرتها على إيهام القارئ بأن صاحبها يتمتع بالكفاءة والقدرة!

إذًا، لا “داتا” مركزية مشتركة بين أدوات الذكاء الاصطناعي، كذلك من السهل التأكد من أنها لا تعيد استخدام المعطيات الخاصة بين المستخدمين، فهي موثوقة بحسب التأكيدات والضوابط القانونية. وهذا يقود إلى البحث في آليات عملها والولوج منها إلى فهم كيفية إنتاجها للنصوص وكشف الأمر!

تبني هذه الأدوات قدراتها عبر تمكنها من البحث في الشبكة عن المتشابهات، وهي تستخرج من ذلك مجموعة من المعطيات التي يكرر البشر استخدامها في نشاطهم. وبعد فرز النتائج ضمن أنساق خاصة، تستطيع أن تقدم لمن يرغب قوائم طويلة، يمكن الاستفادة منها بالطريقة التي يريدها.

الأمر هنا أشبه بجمع كل الجمل المتداولة الخاصة بالنقد السينمائي، على سبيل المثال لا الحصر. فما كان يُصنع ككتيبات للهواة، من نمط “تعلّم النقد السينمائي دون معلم”، بات الآن متاحًا لدى الذكاء الاصطناعي، ولكن باتساع كبير جدًا، حيث تتكفل قدرات الأدوات بجمع كل ما يتصل بذلك من الثقافات واللغات المتاحة عبر الإنترنت كلها.

وهنا نذكر مثالًا على ذلك: كتيب نشره معده على موقع “أرشيف” العالمي بعنوان “1000 قالب نقدي أدبي جاهز للاستخدام”، يجد فيه القارئ والناقد جملًا مصوغة بشكل متماسك جدًا، توحي بأن من يستخدمها عالم ومتبحر في مجاله، من مثل: “تجاهل القيم الاجتماعية في الشخصيات”، و”تسطيح الواقع السياسي في الرواية”، و”التفسير المفرط للرمزية”، و”استخدام السرد الداخلي بشكل مفرط”، و”عدم تفاعل الشخصيات مع بعضها بشكل مؤثر”، و”تقديم مواقف فلسفية بشكل مبتسر”، و”عدم تعاطي الرواية مع الواقع المعاش”، و”ضعف الرسائل الثقافية المستفادة من الرواية”، و”التعامل السطحي مع المعتقدات الدينية”.

أنظمة الأدوات المستخدمة حاليًا تُبدع في إنتاج النصوص من خلال هذا المتاح، كذلك فإن أدوات الكشف تستخدمه هو ذاته! لكن هذا ليس نهاية المطاف بالنسبة إلى القراء الذين يُصرون على أن يكون النسغ الإنساني حاضرًا في ما يقرأون، ولا هو كذلك بالنسبة إلى الكتاب الذين لا يريدون –في المحصلة– أن يتنافسوا في إنتاج الأدب مع الذكاء الاصطناعي، وأن يخسروا حضورهم في الفضاءات الثقافية بسببه. وهو أيضًا ليس بالأمر المستعصي على الحل بالنسبة إلى المحررين.

يمكن تجاوز التحدي الذي يفرضه انتشار القوالب المستخدمة بكثافة بين الهواة وأدوات الذكاء الاصطناعي على حد سواء، من خلال افتراض أن المعايير هي الأساس في الصناعات الإبداعية، وأن المناهج التي يتم تعلمها في الأكاديميات أو عبر الدراسة الشخصية –وكلاهما حين يحضران– يؤديان إلى إنتاج مواد أصيلة، تتوازن فيها أدوات خلق الجديد المبتكر مع اللمسة الإنسانية، بما يُشعر القارئ بأن البناء الذي يراه أمامه بشري، فيه من الاكتمال والثغرات ما يكفي للشعور بذلك.

لكن، كيف يمكن إقناع العشرات، وربما المئات، من الشباب الطموحين الذين يرغبون في الدخول إلى فضاءات الكتابة والإبداع، بأن عليهم القراءة والتعلم بأنفسهم، لا الركون إلى النتائج التي يقدمها لهم الذكاء الاصطناعي وكتيبات القواعد الجاهزة؟

تمرّ أمام القراء أسماء شابة تحاول أن ترسخ اسمها، وحين يُنظر في قائمة مؤلفاتها، يُلاحظ أنها نشرت عشرات الكتب في وقت قصير جدًا! وفي مثل هذه الحالات، لا بد من وجود أحد احتمالين: إما أننا أمام طفرة عبقرية إبداعية، وإما أننا أمام استسهال مدعوم بأدوات الذكاء الاصطناعي!

الكتّاب الشباب الذين يرومون المجد بالاعتماد على القوالب، سيكتشفون –مع الوقت– أن ما حصلوا عليه ليس سوى جمل وعبارات رائجة، يستخدمونها كما يستخدمها غيرهم، الأمر الذي يُحول نتاجهم إلى مجرد ركام ورقي أو إلكتروني، لن يلتفت إليه أحد. وبحسب “شات جي بي تي” نفسه: “الإبداع لا يُستعار، وإن تشابهت القوالب، فإن البصمة لا تُزوَّر”.

* كاتب من سورية

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى