الصورة إذ تتحوّل مذلّةً/ سميرة المسالمة

28 ابريل 2025
“الصورة مقابل الغذاء”، عنوان جديد لمرحلة الحاجة المذلّة التي تعيشها شرائح من السوريين، الذين تُقدّر نسبتهم بما يزيد على 90% من السكّان، إذ يصبح التهافت على سيّارات المساعدات أحد معالم الأحياء الفقيرة في كلّ المحافظات السورية. وهي إذ توضّح الحاجة الماسّة لمدّ يد العون إلى سورية، سواء من المجتمع المحلّي المتمكّن اقتصادياً أو من المجتمع الدولي، فإنها، في الوقت نفسه، يمكن أن تتحوّل من توثيق إلى تنكيل معنوي بالمستفيدين من تلك المعونات، مقابل تسجيل “إنجاز” لمصلحة الجهة التي توزّع، حكوميةً كانت أو غير ذلك. فخلال سنوات الحرب الماضية كثيراً ما استخدم النظام هذه الصور لاستغلالها في جمع الأموال لمتابعة حربه على هؤلاء الفقراء أنفسهم. وللغرابة، لم تنجُ جهاتٌ في المعارضة السورية من الوقوع في الأخطاء نفسها، ما عرّضها لانتقادات حادّة وصلت إلى حدّ الإدانة لسلوكها، بسبب التصوير المجحف بحقّ مستحقّي المساعدات. ولهذا، يمكن أن يشكل تكرار هذا الأمر بعد تحرير سورية، وممارسته من جهات حكومية، علامةَ استفهام عن خبرات الكادر الحكومي في التزام القوانين المحلّية والدولية في حماية الخصوصية، من دون الجَوْر على حقيقة رغبتهم ونيّتهم الصادقة في تقديم العون إلى المحتاجين، وضرورة توثيق أعمالهم بطرق تحميهم من أيّ تلاعب أو تزوير.
بناءً على ذلك، ما نشر من صور (بوجوه واضحة) لعمليات توزيع السلال أو الطرود الغذائية والمساعدات، من جهات حكومية، يفتح جروحاً غائرةً في العمق، فلم يعد الفقر وحده يكسر الإنسان، بل أيضاً توثيق صورته المنكسرة أمام الكَرم المشروط بالظهور، بحسن نيّة أو بسوئها. وربّما ما لم يلتفت إليه ناشرو الصور أنهم يقدّمون دليلاً حيّاً على انكسار مجتمعاتنا المحلّية، التي تتغاضى عن وجود الكاميرات لمواجهة الجوع الذي يفتك بهم، أي التخلّي عن الخصوصية التي تحفظها القوانين الدولية التي تكفل احترام حقوق الإنسان وكرامته، فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) ينصّ صراحةً على أنه “لا يجوز تعريض أحد لتدخّل تعسّفي في حياته الخاصّة أو أسرته أو مسكنه أو مراسلاته، ولا لحملاتٍ تمسّ شرفه وسمعته، ولكلّ شخص الحقّ في حماية القانون من مثل هذا التدخّل أو تلك الحملات”. وهذه الحماية القانونية للمستفيدين من المساعدات، ضُمِّنَت حُكماً في القواعد الإرشادية لعمل المنظّمات الإغاثية، ومنها الصليب الأحمر والهلال الأحمر، وعلى الرغم من أنها اشترطت استخدام الصور بموافقات حرّة، إلا أننا جميعاً نعلم أن الموافقة في ظلّ ظروف القهر تتساوى في قوّتها القانونية الضعيفة مع اعترافات المتهمين تحت التعذيب، أي إنّها مبنية على مقايضة رخيصة “الانكسار مقابل اللقمة”، وهو السلوك المدان الذي اعتمده 14 عاماً نظام الأسد المخلوع خلال حربه على السوريين.
من جهة أخرى، حاجة السوريين الحقيقية اليوم، مع أهمية المساعدات الآنية والسريعة، هي معالجة أسباب فقرهم، أي استعادة آليات الحياة الطبيعية ببناء قدراتهم الإنتاجية، الزراعية والصناعية والتجارية، فالمساعدات المشروطة بهدر، ولو جزءاً بسيطاً من خصوصياتهم، لا تتناسب وخطاب الدولة ذات السيادة، إذ السيادة منبعها الشعب، الذي تُصان كرامته حقّاً له، وواجباً على الدولة، فالتوثيق الذي تحتاجه الجهات المانحة لا يحتاج تعميماً عامّاً، ما يُسقط حجّة التوثيق نفسها، والتعاطي مع الصور مصدراً لترويج أعمال الخير متاحٌ عادةً بشروط مهنية، من الموافقات الشخصية إلى منع التعريف بهُويَّات المستفيدين، إلى تمويه الوجوه، إلى استخدام تلك الصور بما يضمن كرامة الناس ويحترم قدرتهم على الصمود في مواجهة الأزمات الكثيرة التي مرّت على السوريين.
لعلّ من المفيد التذكير بأن الصور التي تُنشَر تُعطي إيحاءً غير صحيح بأن المعاناة في سورية حالات فردية تُعالَج بتقديم المعونات المباشرة، بينما الحقيقة أن الرسائل الإعلامية التي نحتاجها من الجهات الإغاثية لإرسالها إلى العالم كلّه هي إبراز معاناة المجتمع ككل، نتيجة سياسات النظام السابق، ونتيجة استمرار العقوبات الغربية على سورية من جهة مقابلة، واستمرارها لا تقل آثاره عن الخراب الذي خلّفه الأسد للسوريين، ما يعوق تنفيذ الحلول الناجعة لمشكلة الفقر في سورية، وهي (سورية) للحقيقة تملك، بقدراتها الذاتية المحلّية والانفتاح العربي عليها، المقومات كلّها لتنهض بمجتمعها، ووضعه ضمن مصاف الدول المزدهرة في حال تمكين الشعب من استثمار كلّ مقدراته وثرواته الوطنية، واستعادة موقع بلده دولةً واحدةً طبيعيةً وآمنةً ومنتجةً.
يستوجب النهوض بالواقع الاقتصادي السوري إعمال برامج تنموية، ودعماً خارجياً يتيح إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية – تعليمية، وشراكات دولية، وذلك كلّه اليوم مقيّد بوجود العقوبات الأميركية الغربية على سورية، التي تحزّ رقاب السوريين، فتسقط شريحة تلو الأخرى صريعةً بسلاح الفقر، وتأخذ تلك الصورة.
العربي الجديد