أبحاثتشكيل الحكومة السورية الجديدةسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

العقل الطائفي واستحالة الدولة في سوريا/ ماهر اسبر

الإثنين 2025/04/28

لم يخطر ببالي يوماً أن أكتب عن الدولة المستحيلة في سوريا بعد كل ما عشته ورأيته. كنت أظن أن سقوط النظام الاستبدادي سيكون الفصل الأخير من الكابوس، وبداية حلم الدولة الوطنية لجميع أبنائها، حيث تُنتزع الحقوق ولا تُوهب، وتُصان الكرامة بالقانون والدستور والعقد الاجتماعي، لا بالأهواء ولا بالتفسيرات العقائدية الضيقة. كنت وما أزال أرى نفسي جزءاً من مشروعٍ تحرري، لا سلطوي، قاعدته الحرية والعدل والمواطنة المتساوية. لكن مع لحظات الفرح الأولى بسقوط الطاغية، تسلّل سلطانٌ آخر، يستمد قوته لا من حزب ولا من أجهزة أمنية هذه المرة، بل من ولاءات طائفية وعصبيات دينية ضيقة. مع مرور الوقت، بدا أن بناء دولة حقيقية وسط هذه السيطرة الذهنية الطائفية ليس مجرد مهمة صعبة، بل استحالة تاريخية تتشكّل ملامحها يوماً بعد يوم، في وطن أنهكته الحرب وجراح الذاكرة الطائفية المتجددة. في هذا النص، أحاول نقد العقل الطائفي الذي برز بعد الثورة، وكشف كيف أعاد إنتاج بنية استبدادية بلبوس ديني، لأخاطب نفسي وأبناء بلدي، قبل أن يفوت الأوان.

العقل الطائفي واستحالة الدولة

منطلق الحديث هنا هو العقل الطائفي الذي يكمن خلف سلوكيات الأفراد والجماعات في زمن الاضطراب. نعني بالعقل الطائفي تلك البنية الفكرية النفسية التي تجعل الفرد يرى العالم بمنظار طائفته حصراً، فيغدو ولاؤه الأعلى لانتمائه المذهبي على حساب أي جامع وطني أو إنساني. هذا العقل الجمعي يُنتج ما يمكن وصفه بـالهوية الجمعية الصلبة: هوية متخشّبة لا تقبل التعددية في داخلها ولا التداخل مع غيرها. في حال سوريا، ومع اندلاع الثورة ثم الحرب، صعدت إلى السطح هويات فرعية كانت كامنة. شعر كل فريق أنه مهدّد وجودياً، فاستجاب بخطاب يقوم على الخوف الجمعي: خوف الأقليات من الأكثرية، وخوف الأكثرية من “المؤامرات” الداخلية والخارجية لتقويض أغلبيتها. وفي علم النفس الاجتماعي نعرف أن الخوف حين يغزو جماعةً بأكملها يتحوّل إلى قوة تدميرية للعقل الناقد؛ إذ ينكفئ الأفراد إلى حضن الجماعة طلباً للحماية، ويبررون – بل ويقدّسون – كل ما تفعله قيادات جماعتهم ما دام يَعِدُهم بالأمن. هكذا تلبّس كثيرٌ من السوريين بعقلية “نحن” ضد “هم”، وصار من السهل على قادة طائفيين استثمار ذلك الخوف الجمعي لإحكام السيطرة.

لقد ألغى العقل الطائفي إمكانية النقاش العقلاني الحر بين مكوّنات الشعب، لأن كل طرف بات يرتاب في كل ما يقوله الطرف الآخر مهما بدت حججه موضوعية. إن الجوهر الفكري للعقل الطائفي أنه عقل إقصائي يقيني مطلق الإيمان بصواب فئته وخطأ غيرها، ليس المقصود هنا فقط مقولات الطوائف الفقهية أو الدينية، بل يسحب ذلك على الروايات والسرديات الإخبارية والمتناقلة. كل طائفة تعتقد أنها وحدها تمتلك الحقيقة كاملة. وهذا بالمناسبة ليس جديداً في تاريخ المسلمين؛ فقد حذّر الإمام أبو إسحاق الشاطبي قبل قرون من هذا المنزع حين رأى افتراق الأمة إلى فرق يدّعي كل منها أنه الناجي وغيره هالك. ورفض الشاطبي “محاولات الفرق المختلفة الادعاء بأن كلاً منها تمثّل الطائفة الناجية” معتبراً أنها محض عصبية مذهبية، مؤكداً أن الحقيقة لا تحتكرها فئة واحدة. لكن العقل الطائفي اليوم يكرر المنطق القديم نفسه: يدعي احتكار الحقيقة والنطق باسم الدين، ويضع الجماعة في مرتبة المعصوم الذي لا يخطئ. وهكذا يستحيل أي عقد اجتماعي أو تفاهم وطني، لأن مقدمته الضرورية – أي الإقرار بالتنوع والتعدد داخل المجتمع – غائبة تماماً.

إن بناء دولة حديثة يتطلب عقلاً سياسياً جامعاً يؤمن بمرجعية المواطنة والقانون فوق الاعتبارات الفئوية. الدولة بمعناها الحديث تقوم على أن السلطة ملك عام لجميع المواطنين، وليست امتيازاً حصرياً لطائفة أو حزب. لكن العقل الطائفي نقيض ذلك تماماً، فهو يفهم السلطة كغنيمة لجماعته وكامتداد لهويتها المقدسة. وحيث يتغلغل هذا التفكير، تنهار أسس الدولة بمعناها الحديث. يستخدم عالم الاجتماع السياسي الفرنسي كلود لوفور عبارة شهيرة لوصف الديمقراطية بأنها تضع السلطة في “مكان شاغر”؛ أي إن كرسي الحكم في الديمقراطية ليس ملكاً موروثاً لأحد بل مكان فارغ يملؤه الفائز في انتخابات شفافة ثم يغادره. أما في العقل الطائفي، فكرسي الحكم ليس شاغراً أبداً، إنه محجوز سلفاً “للجماعة الحقّ” التي يجب أن تحكم إلى الأبد لأنها – في زعم أصحابها – تمثّل الإرادة الإلهية أو الأغلبية المطلقة. ومن هنا يصعب جداً تخيّل قيام نظام ديمقراطي حقيقي حين تكون ذهنية الأطراف المنتصرة ذهنية طائفية؛ فالديمقراطية تفترض قابلية تداول السلطة وتعدد مراكز القرار، بينما العقل الطائفي يفترض حتمية انفراد جماعته بالسلطة باعتبار ذلك حقاً إلهياً أو تاريخياً لها.

إلى جانب ذلك، يساهم العقل الطائفي في تشويه القيم وتحويلها إلى أدوات صراع سياسي. لقد بدأت الثورة السورية بشعارات الحرية والكرامة والعدالة – وهي قيم إنسانية عامة فوق الانتماءات. لكنها أثناء عسكرة الصراع وبعده، انزلقت إلى مواجهة تُرفع فيها شعارات طائفية ودينية حادّة. فتحوّلت القيم إلى أسلحة خطابية بيد كل طرف: هذا يتحدث عن “الحق” وذاك عن “الجهاد”، وأصبح من الصعب إيجاد أرضية مفاهيمية مشتركة. هنا يفيدنا استعارة نقد الفيلسوف الأخلاقي ألاسدير ماكنتاير لتسييس القيم؛ إذ يرى أن الخطاب الأخلاقي حين يفقد مرجعيته المشتركة يصبح أجوف، وتغدو الخلافات “مجرد تعبيرات عن قيم متباينة لا سبيل لإثبات أحقيتها، ما يجعل الجدل الأخلاقي لا نهاية له، ولا يُحسم إلا بأساليب تلاعب أو قوة”. وهذا ما نراه في خطاب الجهات الطائفية المتصارعة: سجال عقيم لا ينتهي، لأن كل طرف ينطلق من منظومة قيم مسيّسة خاصة به لا يعترف بها الطرف الآخر، فلا يبقى إلا اللجوء للقوة العنيفة أو الناعمة لفرض الأمر الواقع.

بنية الهيمنة الطائفية: التنظير بالتجربة السنغافورية وتطبيق الخمينيّة.

كانت الثورة السورية تطمح لإنهاء عقود من الحكم السلطاني المقنّع بواجهة حديثة – إذ لطالما وُصف نظام الأسد بأنه دولة عميقة تحكمها شبكة أمنية وعائلية خلف قناع مؤسسات جمهورية. وحين اندلعت الاحتجاجات، تصوّر البعض أننا نتجه نحو حكم مدني ديمقراطي يقطع مع ماضي الاستبداد. لكن مع تحوّل الصراع إلى اقتتال طائفي، ظهر نمط هيمنة جديد يستعير الكثير من ملامح الدولة السلطانية التقليدية: تحالف بين رأس سلطة شخصية وجماعة من العلماء الشرعيين والمقاتلين المخلصين له الذين يضفون عليه المشروعية ويستفيدون من حكمه. هذا النموذج يُذكّرنا بتجارب تاريخية كثيرة في العالمين الإسلامي والغربي، حين كانت السلطة السياسية تستند إلى شرعية دينية أو مذهبية ضيقة وتقصي بقية مكوّنات المجتمع. في أوروبا مثلاً شهدنا حروباً دينية طاحنة قبل نشوء الدولة الحديثة العلمانية، وفي تاريخنا الإسلامي عرفنا دولاً قامت على أساس طائفي – كالدولة الصفوية في إيران في القرن السادس عشر التي فرضت المذهب الشيعي قسراً كأساس للولاء. مثل هذه الأنظمة عرفت نوعاً من الاستقرار المؤقت لكنها حملت في طياتها بذور صراعات لا تنتهي مع محيطها ومع شعوبها غير الراضية.

اليوم في سوريا، نرى عودة هذا النمط السلطاني ولكن تحت راية إسلامية سنية هذه المرة. العقل الطائفي الذي ساد في مناطق المعارضة أثناء الحرب مهّد الأرضية لظهور أمراء حرب وقادة دينيين يبررون تسلّطهم بكونه حماية لـ”أهل السنة والجماعة” أو تحقيقاً لحكم الشريعة. لقد بدأت بعض الفصائل الإسلامية ترفع شعارات دينية منذ 2012، ورأينا مجموعات راديكالية مثل جبهة النصرة (التي صارت لاحقاً هيئة تحرير الشام) تتبنى فكر القاعدة الجهادي وتسعى إلى إقامة “إمارة إسلامية” بدل الدولة الوطنية. وباسم هذه الشعارات، دخلت في صدامات ليس فقط مع النظام بل أيضاً مع فصائل أخرى ومع المدنيين الذين لا يوافقونها رؤيتها. ومع كل انتصار عسكري كانت تلك الجماعات توطّد سلطتها على الأرض كسلطة أمر واقع، وتفرض رؤيتها المتشددة على السكان المحليين. بدأت تنشأ محاكم شرعية محلية وهيئات أمر بالمعروف ونواهٍ عن المنكر، وصار للفتوى الدينية دور القانون الملزم. هذا الوضع يذكّرنا بما وصفه الفقيه محمد أبو زهرة – وهو من كبار علماء القرن العشرين – “إن إلزام الناس جميعاً بفهم واحد للدين واجتثاث كل فكر مخالف ليس من الإسلام في شيء، بل هو أيديولوجية من صنع البشر تحاول تضييق ما وسّعه الله”. وهذا بالضبط ما نراه: فكر ديني مؤدلج يدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة، ويحوّل الدين إلى عصا غليظة لفرض الهيمنة.

ضمن هذه البنية السلطانية الجديدة التي تسعى لإقامة حكم عضود، نلحظ أيضاً عودة مفهوم العصبية بمعناه الخلدوني. فابن خلدون قرّر في المقدمة أن كل مُلك أو دولة لا تقوم إلا بعصبية قوية، أي برابطة جماعية صلبة تجمع نفراً حول قائد. وإذا تغلّبت عصبية ما وأسست دولة، فإن طبيعة الملك بعد ذلك تميل إلى الانفراد بالمجد والسلطة. بمعنى أن قائد العصبية المنتصر سرعان ما يتخلّق فيه كبر واستعلاء يدفعه لإقصاء رفاق الأمس والتفرد بالحكم. يصف ابن خلدون هذا بقوله إن رأس العصبية “يأنف من المشاركة… وينفرد بما استطاع، حتى لا يترك لأحد منهم (أي حلفائه) في الأمر ناقة ولا جمل، فينفرد بذلك المجد بكليّته”. هذه العبارة على قدمها تنطبق بحذافيرها على واقعنا؛ فقد شهدنا قيادات الفصائل المنتصرة تبعد أو تهمّش باقي الفصائل حالما تطمئن لغلبتها. تحالفت بعض الجماعات المقاتلة في البداية ضد عدو مشترك، ولكن ما إن ضعُف ذلك العدو حتى دبّ الخلاف بينها، فسعى أقواها لاكتساح البقية وإخضاعها. وفي المحصلة برز رأس واحد وتحلّقت حوله عصبيته الخاصة.

لقد أعاد العقل الطائفي تدوير فكرة “الحاكم المتغلّب” في التراث الإسلامي – تلك الفكرة التي تقول بأن من يستولي على السلطة بالقوة ويحقق “الغلبة” تصبح طاعته واجبة درءاً للفتنة. لقد انتقد علماء كثر هذه الفكرة عبر التاريخ، لأنها تشرعن الاستبداد باسم الدين. الإمام الشاطبي نفسه في الاعتصام كانت روحه ضد كل ابتداع يؤدي إلى الفرقة، والحاكم المتغلب طائفياً هو قمة الفرقة. وكذلك أبو المظفر السمعاني من قبله أشار إلى خطورة تحكيم العقل والهوى على حساب الاتباع الجماعي، إذ قال عن أهل الأهواء: “إنهم أسّسوا دينهم على المعقول، وجعلوا الاتباع والمأثور تبعاً للمعقول. وأما أهل السنة فقالوا: الأصل الاتباع، والعقول تبع”. وفي حالتنا نرى كيف أن قيادات الجماعات المتشددة قدّمت “معقولاتها” الخاصة – أي تفسيراتها الأيديولوجية – وجعلت النصوص تابعة لها، فحرفت مقاصد الدين خدمة لتمكين سلطانها.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى