سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعصفحات الثقافة

العنف ضد الضمير في سوريا: في ضرورة استعادة الضمير كجوهر للمقاومة/ أيمن الأحمد

28-04-2025

        لألبير كامو رواية قصيرة اسمها السقطة (La Chute) صدرت عام 1956، تُقدَّم بأسلوب مونولوجي على لسان بطلها جان باتيست كليمانس، الذي يحكي قصته لراوٍ مجهول في حانة بأمستردام. تدور الرواية حول حياة كليمانس، المحامي الباريسي الناجح المعروف بسمعته الطيبة وأخلاقه العالية، والذي كان يرى نفسه إنساناً فاضلاً. إلا أن حادثة واحدة هزّت قناع الفضيلة هذا: عندما رأى امرأة على وشك الانتحار من على جسر، ولم يتدخل لإنقاذها، بل مضى في طريقه متجاهلاً صراخها. تلك اللحظة كانت كافية لتُعيد تشكيل رؤيته لنفسه، حيث بدأ يدرك أن كثيراً من أفعاله الخيّرة كانت مدفوعة بالرغبة في تعزيز صورته، لا عن قناعة داخلية.

        هذه اللحظة الكاموية، التي يدير فيها الإنسان ظهره لضميره، تكرّرت في سوريا بشكل جماعي: آلاف الصامتين، آلاف المبررين، كثيرون خافوا أو تواطؤوا، أو تعلموا كيف يصمتون حتى عن أبشع الجرائم في زمن نظام الأسد، بحجة «الحفاظ على البلد» أو «الخوف من الفتنة». تتكرر اليوم المواقف نفسها مع الأحداث الدامية التي وقعت في الساحل السوري في شهر آذار (مارس) الماضي، والتي تُشير التقارير الحقوقية بشأنها إلى أن معظم المدنيين الذين قُتلوا فيها على يد فصائل تابعة للسلطة كانوا من العلويين بشكل رئيسي، بينهم عائلات بأكملها وبناءً على هويتهم وانتمائهم الأهلي، مع توثيق حالات قتل طالت عدداً محدوداً من المدنيين السنّة والمسيحيين. جاء ذلك بعد أن نفّذَ عناصر تابعون للنظام السابق هجمات واسعة استهدفت بشكل أساسي عناصر الأمن العام، إضافة لعمليات قتل استهدفت مدنيين سُنّة.

        انفتحت معارك موازية على وسائل التواصل الاجتماعي، وحاول كل طرف التمسّك بمظلوميّته واستحضارها في أي مواجهة، لكن ما يمكن ملاحظته بوضوح هو تصاعد ممارسة العنف على ضمير النشطاء الذين وثّقوا الانتهاكات والمجازر التي ارتُكبت في الساحل السوري، فكيف يمكن لمجتمع عاش أبناؤه ضحايا للاضطهاد أن يُعيد إنتاج أدوات القمع ذاتها؟ كيف يتحول الضحية إلى جلاد، مُستخدِماً التهديد والتلاعب لإسكات أي صوت لا يتبنى مواقفه؟ لماذا أصبحت إدانة المجازر أو مجرد التعاطف مع الضحايا أمراً محفوفاً بالمخاطر في سوريا؟ وكيف يُبرَّر العنف بحجة الحفاظ على الهوية أو «المظلومية».

        تفريغ الكائن

        منذ عقود، سعى نظام عائلة الأسد إلى تحييد الضمير الفردي عبر أدوات الترهيب والتخويف، فمارسَ العنف ضد كل من حاول الخروج عن النسق المرسوم من خلال القمع السياسي والسجون والتهديد بالموت أو الاختفاء القسري، وكلها كانت أدوات لترسيخ هذا النمط من الإكراه. ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، برزت أنماط جديدة من العنف ضد الضمير، حيث مارس النظام التهديد والعنف ضد كل رأي يحاول مخالفة سرديته حول الإرهابيين المُفترَضين.

        طوال تلك السنوات من الخضوع لهذا العنف، راهنَ نظام الأسد على تخلّي الأفراد عن ضمائرهم تدريجياً، ليصيروا مُبرِّرين للعنف بعد تفريغهم من قرارهم الأخلاقي، وصولاً إلى العنف الوحشي والشر المطلق الذي شاهده العالم في سجون الأسد. وأدى التشظّي الإيديولوجي في سوريا، وغياب بيئة طبيعية لممارسة حياة سياسية حقيقية، إلى امتداد ممارسة هذا العنف إلى أطراف أخرى، حيث تحوّل الصراع إلى ساحة تُمارَس فيها الضغوط النفسية والمجتمعية لفرض مواقف سياسية أو أخلاقية معينة، تجعل من المستحيل على الفرد أن يُعبّر عن رأيه دون أن يتعرض لردود فعل قمعية.

        خضعَ النقاش حول جرائم نظام الأسد لاعتبارات الانتماءات الطائفية والانتقائية، وحتى النفاق، إضافة إلى الحالة الكارثية التي طَبَعت، وما زالت، بعض المثقفين السوريين من حيث الانتقائية في التفاعل مع الجرائم ذات البعد الطائفي أو العرقي، خاصة حين يكون الانتهاك متعلقاً بطائفتهم أو بيئتهم، رافضين توصيف الجرائم بأنها طائفية حين يكون الفاعل من طائفتهم، بينما يصِرّون على هذه التوصيفات حين تكون الضحية من بيئتهم.

        وفي اللحظة التي تسقط فيها السلطة القمعية لا يسقط العنف بالضرورة، بل تنتقل أدواته إلى أيدٍ جديدة، أحياناً هي ذاتها كانت ضحية الأمس، وهذا تقريباً ما حصل خلال الشهر الماضي في التعامل مع المجازر التي حدثت في الساحل. وما يُوجِعُ أكثر من القمع الصادر عن السلطة، هو القمع الصادر باسمها، لا من داخل أجهزتها، بل من أولئك الذين لا تربطهم بها علاقة مباشرة بالضرورة، بل خوفٌ مرتبط ببنية السلطة الحالية وكأن نقدها تهديد وجودي لهم.

        الدفاع عن الضمير، ولو بدا عبئاً أخلاقياً في لحظات الهشاشة، هو وحده ما يحمي الجماعة من التوحش، ونحن نحتاجه لا بوصفه ترفاً أو خَطَابة مثالية، بل باعتباره ضرورة سياسية. الضمير رهانٌ على المستقبل في مواجهة العناد مع الحاضر.

        في كتابه عنف الديكتاتورية يعرض الكاتب النمساوي ستيفان زفايغ الصراعَ الأبدي بين الضمير الإنساني والسلطة القمعية، من خلال المواجهة التاريخية بين جان كالفن، أحد زعماء الإصلاح البروتستانتي، وسيباستيان كاستيليون، المفكر الإنساني والمدافع عن حرية الضمير.

        يعتمد زفايغ في سرده على تحليل نفسي عميق للشخصيات، مُقدِّماً تأملاً فلسفياً حول علاقة السلطة بالدين والعنف. يركز زفايغ على كيف أن كالفن، الذي بدأ كإصلاحي هارب من اضطهاد الكنيسة الكاثوليكية، تحوّلَ إلى ديكتاتور ديني عندما حصل على السلطة في جنيف. زفايغ يُصوّر هذا الحدث على أنه مثال على تحوُّل الإصلاحيين إلى طغاة عندما يمسكون بالسلطة.

        كتب زفايغ هذا الكتاب أثناء صعود النازية، وهو يرى في كالفن نموذجاً لكل ديكتاتور يحاول فرض أفكاره بالقوة. ويشير إلى أن الاضطهاد باسم الدين أو الإيديولوجيا ليس مجرد حدث تاريخي، بل ظاهرة تتكرر دائماً عندما يُلغى الضمير لصالح العنف.

        استعادة الضمير كجوهر للمقاومة

        تشير حنة آرنت إلى أن الخطر يكمن في أن يفعل الإنسان الشرّ دون سبب مباشر، فقط لأنه لم يَعُد يفكر؛ لأنه فقد الطريق إلى ذاته، إلى ذلك الصوت الداخلي الذي يُحاسِب ويُقيّم. وفي قراءتها الفلسفية، تستند آرنت إلى كانط، مُؤكِّدةً أن الضمير لا يقتصر على توافق الإنسان مع نفسه فحسب، بل أن يكون قادراً أيضاً على الحكم على ما يحدث من حوله؛ لأن الضمير يُولَدُ من الحاجة إلى أن نبقى في سلام مع ذواتنا، دون أن نتغاضى عن مسؤوليتنا تجاه الآخرين.

        في قلب هذا المشهد المُعقَّد، تظل العدالة الأخلاقية رهينة صراع دامٍ، لا بين الخير والشر فقط، بل بين الصوت الداخلي والضغط الجماعي. من هنا تأتي أهمية مفهوم العصيان الضميري، هذا المفهوم الذي يمكن القول إن الثورة السورية تَمثَّلته في لحظاتها الأولى، حين انشقَّ ضباط وجنود وموظفون، رافضين الانخراط في آلة القتل الأسدية رغم التهديد والعواقب. هؤلاء مارسوا أهم وأكبر عصيان ضميري حقيقي في تاريخ سوريا الحديث، فلولا هذا العصيان الضميري لما عرفَ العالم ما يحدث في سوريا.

        والعصيان الضميري هو رفضُ الفردِ الامتثالَ لقانون معين أو واجب قانوني مفروض عليه، لأنه يرى أن الامتثال له يتعارض مع قناعاته الأخلاقية أو الدينية أو الإنسانية العميقة. ويُعبّر هذا الرفض عن امتناعٍ عن الفعل حين يُطلَب من الشخص القيام بما يتناقض مع ضميره، مثل رفض القتل أو حمل السلاح. ويتوسّع هذا المفهوم في بعض الدول إلى رفض الخضوع لأداء طقوس دينية مِن جانب مَن لا يؤمن بها، أو الامتناع عن إرسال الأبناء إلى مدرسة لا تتوافق مع مبادئه، أو عن حضور دروس دينية.

        ويُعتبَر هذا الرفض اعتراضاً ضميرياً حين يكون مُستنِداً إلى قناعة راسخة وعميقة، تجعل الشخص يشعر بأنه مُلزَم بعدم الانصياع للأمر وفاءً لضميره. ويبلغ هذا الاعتراض حدّه الأقصى حين يكون الشخص مُستعداً لدفع الثمن والتضحية الشخصية من أجل البقاء مُخلِصاً لقناعاته الأخلاقية.

        على سبيل المثال، ينص قانون الخدمة الوطنية في فرنسا (قبل أن تُلغى) على أنه يجوز للشباب الخاضعين لالتزامات الخدمة الوطنية، الذين يُعلنون لأسباب ضميرية معارضتهم للاستعمال الشخصي للأسلحة، وفقاً للشروط المنصوص عليها في هذا الفصل، أن يؤدوا التزاماتهم إما في خدمة مدنية تابعة لإدارة الدولة أو السلطات المحلية، أو في منظمة اجتماعية أو إنسانية تُنفّذ مهمة ذات منفعة عامة، وفقاً للشروط التي يُحددها مرسومٌ في مجلس الدولة. وبالرغم من إلغاء الخدمة الالزامية، بقيت حرية الضمير كحق فلسفي وقانوني حاضرةً في النقاشات كنوع من التمسُّك بالكرامة الإنسانية في وجه السلطة، وشهادة على أن القانون يجب أن يَخدِمَ الضمير، لا العكس.

        لذلك يمكن التعويل والقبض على إرث الثورة في العصيان الضميري، من أجل تكريس قيم قانونية وأخلاقية جديدة لمستقبل أفضل للبلاد، وهو ما لا يمكن أن يزدهر في بيئة تمارس فيها الانتقائية، والتبرير، والتطبيع مع الظلم.

        في النهاية، العنف ضد الضمير ليس مجرد أداة للقمع، بل هو أحد الأسس التي تجعل العنف مُستداماً، وتُحوِّلُ المجتمعات إلى بيئات خانقة، تحاصر كل من يحاول التفكير خارج حدودها المفروضة. وإذا كان العنف قد استطاع أن يفرض نفسه على الواقع السوري لعقود، فإن مقاومته تبدأ من استعادة الحق في أن يكون للإنسان صوته الحر، بلا إكراه أو خوف. لذلك فإن العدالة الانتقالية الحقيقية التي تعترف بكل الضحايا، وتُدين كل الجلادين، يمكن أن تُعيد لهذا البلد ضميره، وتحميه من جولات العنف القادمة، وتكسر دوامة العنف بكل أشكالها دون مزيد من المجازر، ودون مزيد من جنازات الضمائر.

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى