القوى السياسية والمدنية بعد سقوط الأسد: مخاض عسير نحو مستقبل جديد/ حبيب شحادة

29 ابريل 2025
شكّل سقوط الأسد تحوّلاً جذرياً فاصلاً في تاريخ سورية الحديث، نتجت منه تيارات سياسية واقتصادية واجتماعية وحتى دينية، تهدف إلى إعادة تشكيل مستقبل البلاد بناءً على رؤى مختلفة ومطالب تراوح بين أن تكون سورية دولة مدنية/ علمانية، أو إسلامية معتدلة/ متشدّدة، وهناك من يسعى لأن تكون سورية دولة القانون والحرّيات بغضّ النظر عن شكل الحكم.
في خضم هذا المخاض العسير الذي تعيشه البلاد بعد سقوط النظام السابق في 8 ديسمبر/ كانون الأول الفائت، انفتح الفضاء العام أمام جميع التيارات المدنية والسياسية، وحتى الناشطين والمثقفين لمخاطبة الرأي العام، وصولاً إلى المشاركة في الحياة السياسية وكتابة دستور جديد للبلاد تجري على أساسه الانتخابات.
ما خريطة تلك القوى السياسية والمدنية والدينية، وهل تتمكّن من لعب دور محوري في مواجهة قوة الفصائل العسكرية التي أسقطت النظام وتسلمت السلطة، لإعادة إنتاج نظام سياسي ديمقراطي مدني؟ وماذا عن الأحزاب السابقة لسقوط النظام، وما دورها؟ وماذا عن دور النساء في بناء سورية؟
أكثر من 20 جسماً.. وأول معارضة
منذ سقوط النظام، نشأ أكثر من 20 جسماً سياسياً ومدنياً ودينياً ونسوياً في سورية، تدعو في أغلبها إلى بناء دولة القانون والتعدّدية، وتسعى جميعها لحجز مساحة في إعادة بناء الدولة، بغضّ النظر عن حجمها ومدى تأثيرها غير المعروف، ومنها تجمّع الشباب المدني، وتجمُّع القوى الوطنية السُّوريَّة (قوس)، والتجمّع الوطني للساحل السوري، والحزب الدستوري السوري (حدس) ومجموعة السلم الأهلي، وتيارات أخرى كتيار (فكرة) والتيار المدني الديمقراطي، والمجلس الإسلامي العلوي، إلخ. لكن هذه التيارات السياسية والمدنية والدينية المختلفة والمتعددة قد تُعقّد عملية التوافق على دستور جديد ونظام حكم مستقر، رغم ارتفاع الأصوات والآمال والمطالب لدى عموم السوريين بالانتقال إلى حالة شبه مثالية على مستوى العمل السياسي والمدني.
بعد شهرين على تسلم الرئيس أحمد الشرع، ظهرت أول معارضة سياسية بقيادة السياسي هيثم منّاع، نتيجة رفضها مشاركة بقية القوى والتيارات السياسية، إضافةً إلى أنّ هذه “السلطة جاءت بتفويض من العسكر في مؤتمر النصر، وأنها ذات لونٍ طائفيٍّ ومناطقي واحد”، وفق ما قال منّاع في تصريح صحافي.
وتحدّث صلاح نيوف، أحد مؤسّسي التجمّع الوطني للساحل السوري (جزء من أربعة تجمّعات في جغرافيات سورية مختلفة) عن أنّ العسكر اليوم يمثلون سلطة الإكراه المحتكرة للعنف المشروع. وأضاف: “فشلت سلطة العسكر في ادّعاء احتكارها العنف الشرعي نتيجة انتشار العنف غير الدولتي من جماعات كثيرة باسم الدولة الجديدة، يتقاسم هؤلاء العسكر معها الكثير من الأفكار الإيديولوجية والتنظيمية على الأرض. وهذه التركيبة الثنائية من العنف تصعّب المواجهة على القوى السياسية والمدنية الناشئة، وفشل تلك القوى والتيارات سيؤدّي إلى تغوّل السلطة العسكرية الجديدة على المجتمع والدولة، ما ينتج عصراً استبدادياً آخر. كذلك إنّ نجاح القوى المدنية والسياسية يحتاج، بحسب نيوف، إلى قوانين تنظم العمل السياسي والمدني بعيداً من أية محاولة للإقصاء الفكري والإيديولوجي، وإعلام حر تنظمه قوانين حديثة تحترم حرية التعبير والرأي، ودستور حديث يكفل حقوق وواجبات المواطنة الكاملة لكل سوري.
ومن التشكيلات التي أعلنت عن نفسها، لجنة متابعة الحوار الوطني، حزب الحياة الجديدة، تحالف دعم الديمقراطية والحريات، تحالف المواطنة السورية المتساوية، تجمّع سورية الديمقراطية، حملة الشعب السوري واحد، المبادرة السورية للحيز المدني، حزب سورية الهوية، تيار فكرة، التيار المدني الديمقراطي، الجبهة السورية الحرة، تيار دليل، شبكة وصل.
العسكر والمجتمع المدني
وتفيد الحقائق التاريخية بأن العسكر هم من شكّلوا الدولة في سورية وساسوها منذ أيام المماليك في العصور الإسلامية الوسيطة، وفق مؤسس تجمُّع القوى الوطنية السُّوريَّة (قوس)، نبيل صالح، وقال لـ”سورية الجديدة” إن العسكر لم تكن حكوماتهم مدنية قَطّ، إذ غلفوا العسكرة بالشريعة، وربطوا حكوماتهم بالسماء للتسلّط على أهل الأرض. ودعا صالح العسكر إلى الانضواء داخل ثكناتهم لحماية الدولة، من دون أن يتدخّلوا في الشأن السياسي. وبغير ذلك، “سنعيد إنتاج انقلاباتنا العسكرية، ونكرّس بنى الاستبداد التاريخية”، حسب وصفه.
المجالس الدينية
بعد سنواتٍ من سيطرة النظام السابق على الطائفة العلوية، وجد المكون العلوي مع سقوط هذا النظام أنه أمام مرحلة جديدة مليئة بالتحدّيات والمخاوف، رغم الطمأنات التي أطلقتها الإدارة الجديدة بشأن حماية الأقليات وضمان حقوق جميع السوريين، بغضّ النظر عن طوائفهم أو خلفياتهم. ومع تصاعد الخوف بين الأقليات، برز صوت رجال الدين العلويين عبر إنشاء مجالس دينية “طارئة” في المحافظات باسم “المجلس الإسلامي العلوي الأعلى” في سورية والمهجر، وهو المجلس الأول في تاريخ الطائفة العلوية.
وبحسب البيان التأسيسي للمجلس المكون من 130 شيخاً، فإنّ “هذا المجلس سيكون فعّالاً حتى انتهاء المرحلة الانتقالية وإنشاء دولة يحكمها الدستور، وتتمثل أهدافه بتأكيد أن الطائفة العلوية جزء أصيل من نسيج سورية، وأن أبناءها يعملون يداً بيد لبناء مستقبل أفضل للبلاد، من خلال تعزيز التآخي بين مكوّنات المجتمع السوري، ودعم الوحدة الوطنية، والمشاركة في الحوار الوطني الشامل”.
وقد يكون نشوء هذه المجالس نتيجة لافتقاد الأمان، وكذلك فرصة للتشابه مع الطوائف الأخرى التي تعتمد مرجعيات ومؤسّسات مختلفة في التمثيل الاجتماعي والشرعي، وحتى السياسي، وفقاً لجاموس، الذي قال: “الطائفة العلوية غير محتاجة لمثل ذلك المركز”، مؤكّداً أهمية الوسائل السياسية والثقافية والفكرية الوطنية العامة بديلاً لأي عملية تطييف، مهما كانت بسيطة أو كبيرة. كذلك إن المجالس الإسلامية العلوية تطبيق عملي لملء الفراغ السياسي ـ الاجتماعي الذي أحدثه سقوط النظام السابق، والذي حصر الطائفة، وفق تعبير نيوف، “في حزب السلطة وجيشها ومنظماتها وبنيتها الأمنية”، ما جعلهم يعيشون حالة فراغ كبيرة جداً عند سقوطه.
ويعتقد نيوف أنّ هذه المجالس يجب أن تبقى داخل الفضاء الخاص تمثل المؤمنين بها، ويمكن مشاركتها في الحياة الثقافية للسوريين العلويين، لكن يجب أن تتوقف هنا، كما قال لـ”سورية الجديدة”، مشدّداً على أن المجلس الإسلامي العلوي يجب ألا يقدّم نفسه تنظيماً سياسياً أو إيديولوجياً للمجتمع العلوي. بينما يرى صالح أن تشكيل المجلس في هذا الوقت آني ومؤقت، وسيزول تأثيره ويُنسى باستتباب الأمن وتحقيق السلم الأهلي. فالسوريون العلويون اندمجوا في ثقافة المواطنة، واعتبروا الدولة مجلسهم ومؤسّساتها حاميتهم. وعن الدافع إلى تشكيل هذا المجلس، أكد صالح أنّ تعامل السلطات الجديدة مع المجالس الدينية حصراً دفع قسماً من العلويين باتجاه تشكيل مجلس تمثيلي يشكّل المشايخ ثلثه ولا يرأسونه.
لا أحزاب سياسية
حلّت القيادة السورية الجديدة، الجبهة الوطنية التقدمية وحزب البعث، ومنعت إعادة تشكيل هذه الأحزاب، على أن تعود جميع أصولها إلى الدولة السورية، وذلك بعد أكثر من 50 عاماً على تشكيلها. وهذا القرار منسجمٌ مع طابع السلطة، بحسب جاموس، الذي قال إنّ الحل الأفضل تشكيل قوة تفرض قوانين ديمقراطية تنظم النشاط السياسي الحزبي. وأوضح أنّ دور الأحزاب التقليدية في المشهد المقبل منوطٌ بقدرتها على تصحيح وضعها الداخلي، وجمع ذاتها وتطويرها كفاحياً، مقارنةً بحالة شبه الاستسلام أيام النظام الديكتاتوري، موضحاً أن موقف بعض تلك الأحزاب من قرار حلها يشكّل موقفاً متماسكاً ورافضاً.
إلى ذلك، اعتبر القيادي في الحزب السوري القومي الاجتماعي، طارق الأحمد، أن حل الأحزاب سيحول سورية إلى “ديكتاتورية”، وقد فعل جمال عبد الناصر الشيء نفسه عام 1958، ما أدّى إلى تجفيف الحياة السياسية في سورية.
دور النساء
حجزت الحركة السياسية النسوية السورية مساحة خاصة للنساء بالشأن السياسي، عندما أطلقت مؤتمرها الصحافي أخيراً في دمشق، وفق العضو في الحركة سلمى الصياد، التي قالت لـ”سورية الجديدة” إنّ أحد أهداف الحركة تمكين النساء في الدور السياسي، مشيرةً إلى ضرورة عمل كل القوى المدنية والسياسية والديمقراطية في مواجهة قوة العسكر لتكون سورية دولة ديمقراطية. وتحاول الحركة إيجاد توازنات وتحالفات مع غيرها من القوى السياسية لإيجاد تحالف عريض نحو مدنيّة الدولة، كما قالت الصياد.
وبحسب الباحث نيروز ساتيك، النسوية شرطٌ للتحول الديمقراطي، “إذ لا حرية دون تحرّر النساء”، وفق قوله. وقال لـ”سورية الجديدة” إنه لا يمكن الحديث عن تشكيل القوى والتيارات السياسية والمدنية من دون الإيمان بحرّية المرأة والعمل على أخذ دورها في المجتمع السياسي.
هل كثرة هذه التيارات والقوى من فقاعات الصمت السياسي على مدى العقدين الفائتين؟ وهل تستطيع هذه التيارات والقوى تجاوز الانقسامات لبناء توافق وطني شامل؟
العربي الجديد