سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعصفحات الحوار

حوار مع الصحفي الاستقصائي أحمد حاج بكري: توثيق جرائم الأسد معركة ضد التزوير والنسيان

29 أبريل 2025

يروي الصحفي الاستقصائي، أحمد حاج بكري، في حواره مع موقع “الترا سوريا” تجربته الذاتية في إعداد ثلاثة من أبرز الأفلام الوثائقية التي تناولت مرحلة سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، وهي: “كواليس وخفايا انهيار جيش بشار الأسد”، و”أسرار سقوط نظام الأسد”، و”ما أدراك ما صيدنايا”، والتي جاءت لتوثق لحظات مفصلية في تاريخ سوريا المعاصر، مستعينة بعدسة الكاميرا لتوثيق لحظات مختلفة لسوريا في مرحلة ما بعد سقوط الأسد.

يُركز حاج بكري في هذا الحوار على أهمية توثيق الحقائق في لحظتها، مؤكدًا أن هدفه لم يقتصر على نقل الشهادات، بل تجاوز ذلك إلى بناء فهم أعمق لما عاشه السوريون في ظل وحشية نظام الأسد. كما يؤكد على أهمية عدم انفصال الصحافة عن دورها الأخلاقي، وكذلك ضرورة التزامها بإحياء الذاكرة الجماعية في مواجهة محاولات التزوير والنسيان.

يلخص حاج بكري في هذا الحوار رؤيته للصحافة الاستقصائية كركيزة أساسية للعدالة الانتقالية في سوريا الجديدة. كما أنه يتحدث عن تحديات العمل الميداني، بالإضافة إلى ضرورة الحفاظ على مصداقية الشهادات، مؤمنًا أن الأفلام ليست فقط وثائق سردية بل أدوات فعالة لدفع المجتمعات نحو المساءلة والشفافية وبناء وعي جمعي مقاوم لكل محاولات طمس الحقيقة.

    إعداد فيلم وثائقي عن سجن صيدنايا، بعد سقوط النظام وتحرير السجناء، ليس مجرّد عمل صحفي، بل هو توثيق لواحدة من أفظع جرائم القرن، وربما لحظة مفصلية في إعادة كتابة سردية سوريا. بالنسبة لك، كصحفي سوري، ما الذي مثّله هذا العمل؟ كيف تنظر إلى هذا العمل ضمن هذا السياق؟ وهل كان هدفكم فقط التوثيق أم المساهمة في تشكيل فهم مختلف لما جرى؟

بعد تحرير سوريا وإلى اليوم، عملت على ستة أفلام وثائقية نُشر منها ثلاثة، والباقي نعمل على إكماله، الهدف منها توثيق ما تمر به سوريا، وما مرت به خلال الأعوام السابقة. في سوريا، كل شيء يتغير خلال يوم، لذلك فإن التحرك السريع وحفظ وتوثيق كل شيء عمل في غاية الأهمية، لحفظ الصورة كما هي وعدم التلاعب بها مع مرور الوقت، وهذا يضعنا أمام تحدٍّ كبير، ويدفعنا لبذل جهد مضاعف.

الهدف من فيلم صيدنايا كان توثيق جزء مما حصل في السجن بالصوت والصورة ونقله للعالم. اليوم لدينا مساحة جغرافية كبيرة للعمل بها، وفي كل نقطة من البلاد توجد حكاية، ولاستحالة تغطيتها كلها، كان عملنا محاولة لتغطية القضايا الكبرى، وحفظها بشكل يقطع الطريق على تشويه هذه القضايا مستقبلاً، والتلاعب بها.

لو ذهبنا إلى سجن صيدنايا غدًا، لن نجده كما صُوِّر في الفيلم؛ الكثير من التفاصيل تفقد مع الوقت. لا أتوقع أنني سوف أعيش نفس المشاعر التي عشتها خلال أسبوع من التواجد اليومي بين جدران هذا السجن المرعب. مئات الأشخاص يوميًا كانوا يجولون بين زنزانات السجن، باحثين عن أي أثر يوصلهم لمعرفة مصير أقاربهم الذين اختفوا في هذا المكان. رائحة الموت في كل تفاصيل المكان التي تنشقتها، أتوقع أنها لم تعد نفسها اليوم بعد فتح بوابات السجن ووصول الضوء لجزء منه.

الحكاية لم تنتهِ، لكن المهم أن تُحفَظ لتكون ذاكرة للمستقبل. تكثر الروايات عن تفاصيل ما كان يحدث داخل هذا المكان، ولكن يصعب شرحها جميعها. على الأقل، اليوم لدينا مادة ملموسة ستكون متاحة للجميع لفهم شكل هذا المكان وجزء مما كان يحصل فيه، والهدف من وجوده، وطريقة العمل المتبعة فيه لعشرات السنوات.

    كيف تأكدتم من صحة الشهادات التي وردت في التقرير، خاصة من الجنود؟

في فيلم “كواليس وخفايا انهيار جيش الأسد”، كان الهدف فهم حالة الانهيار العسكري التي حصلت لجيش الأسد. حاولنا تنويع الشهادات التي وثقناها لتكون من قطع عسكرية مختلفة ومن مناطق جغرافية مختلفة. ليس لدينا إمكانية التحقق من الشهادات التي تُروى بشكل قطعي، لكن من خلال مطابقة الشهادات يمكن رسم صورة توضيحية لمسار الأحداث وتركيبها، بشكل يجعلنا أولًا، ويجعل المشاهدين ثانيًا، قادرين على تصور ما حدث بأفضل شكل. وهذا ينطبق أيضًا على فيلم سجن صيدنايا.

كما كنا حريصين على سماع قصة كل شاهد بشكل كامل وإعطائه الوقت الكافي لسردها بالطريقة التي يفضلها. الهدف ليس صنع رواية ما فقط، فقد كان التحدي رسم السياق الواقعي لما حصل في كل فيلم من الأفلام التي عملنا عليها.

    هل واجهتم رفضًا أو تحفظًا من بعض المعتقلين؟ وكيف تعاملتم معه؟

على النقيض تمامًا، كان جميع المعتقلين الذين تواصلنا معهم متحمسين ليتكلموا عن تجاربهم، كأنهم ينتظرون هذا اليوم منذ زمن، يريدون أن يسمعهم العالم. لكن كنا نتعامل معهم بدقة، كما كان عملنا خلال 14 عامًا في الثورة. التعامل مع الناجين وتقدير وضعهم الصحي والنفسي ليس أمرًا سهلًا، وفهم ما عاشوه والتعامل معه بحرص لتحويله إلى فيلم أمر معقد، لكن هذا واجبنا الآن لحفظ ما حصل بكل تفاصيله الممكنة.

    ما التحديات التي واجهتموها خلال جمع الشهادات، سواء من جنود النظام المخلوع أو من قادة “ردع العدوان”؟

في فيلم “أسرار سقوط نظام الأسد”، أتوقع أنه أول فيلم وثائقي عُرض من سوريا بعد التحرير. كان التحدي كبيرًا جدًا، وبينما كان العالم يلاحق الأخبار العاجلة والتطورات الميدانية، شرعنا في تصوير الفيلم.

قادة “ردع العدوان” الذين قابلناهم في هذا الفيلم كان عملهم الميداني لا يتوقف لمتابعة التطورات، وتنظيم الوضع وضبطه. تأجلت مقابلتنا مع بعض القادة أكثر من مرة، وبعض المقابلات جرى تصويرها الساعة السادسة فجرًا بعد انتظار ساعات. كما أن التنقل بين المحافظات السورية، من دمشق إلى حلب بعد يومين فقط من التحرير، كان أمرًا في غاية الخطورة، ولم يكن سهلًا. لكن في سبيل توثيق ما حصل بشكل متكامل، كان لا بد من اتخاذ قرار شجاع، وهذا ما حصل. حقق الفيلم مئات الآلاف من المشاهدات بعد عرضه، والكثير فهم من خلاله ما حصل في سوريا من تغيير كبير خلال أسبوعين فقط.

مقابلة جنود نظام الأسد الساقط في الأيام الأولى بعد التحرير، كان معظمهم يخشى التحدث، خصوصًا مع قلقهم من القادم وجهلهم بما قد يحصل. لذلك صورنا مع عسكري من دون إظهار وجهه، بناءً على طلبه. لكن في الفيلم الثاني “كواليس وخفايا انهيار جيش الأسد”، وبعد أسبوعين من التحرير، كان الوضع مختلفًا، وتمكنا من التصوير مع عدد من جنود نظام الأسد الساقط، وتحدثوا عما كانوا يعيشونه خلال فترة خدمتهم العسكرية من دون قيود.

    أثناء مرافقتك لسير العمليات العسكرية، ما الذي صدمك أو رسخ في ذاكرتك كأكثر لحظة استثنائية؟ وما دلالتها بالنسبة لك اليوم؟

التنظيم العسكري والالتزام الكبير من قبل عناصر ومقاتلي قوات “ردع العدوان” بالتعليمات الصادرة من القيادة، والبناء الفكري لجميع المقاتلين، بالنسبة لي شخصيًا كان مذهلًا، أدركت سريعًا أننا في طريقنا إلى دمشق إذا استمر العمل بهذا الشكل. هذه العقلية التي غابت عن فصائل الثورة السورية منذ بدايتها كلفتنا سنوات من حكم نظام الأسد رغم ضعفه الداخلي وترنحه. كنت مدركًا أن سقوط الأسد مرتبط تكتيكيًا بتنظيم فصائل الثورة وجدية عملها. عندما عملت بشكل جدي لإسقاط الأسد وقدمت خطابًا سياسيًا متزنًا وعملًا عسكريًا منظمًا، وصلنا إلى دمشق خلال أحد عشر يومًا.

الآن نعم، أسقطنا الأسد، ولكن لبناء دولة يحترمها الجميع، يجب المضي في الأسلوب نفسه الذي وصلنا من خلاله إلى هنا. أما استخدامه لإسقاط النظام، والتخلي عنه اليوم، فسيكون له نتائج مدمرة على مستقبل البلاد. لذلك يجب أن نشيد بما قامت به قوات ردع العدوان خلال معركتها لتحرير سوريا، ونطالبها بشكل مستمر بالبقاء على نفس النهج، بضبط جميع عناصرها على الأرض، وتقديم نفس الخطاب الوطني والسياسي خارجيًا، وتحويله إلى واقع داخل البلاد.

    المعركة كانت لحظة فاصلة في تاريخ سوريا.. كيف تعاملت مع التحدي الأخلاقي في توثيقها؟ وهل استطعت فصل نظرتك كصحفي عن مشاعرك كسوري؟

كانت معركة “ردع العدوان” مختلفة في كل تفاصيلها عن المعارك العسكرية السابقة التي حصلت خلال الثورة. حتى خلال تغطياتنا، كان التنسيق عالي المستوى، وكان جميع المقاتلين لا يتدخلون في عملنا الصحفي، بل كان أي حديث عن مشكلة ما يتم التدخل سريعًا من قبل القادة العسكريين لحلها.

معركتنا مع نظام الأسد الدكتاتوري منذ بدايتها كانت معركة أخلاقية، لذلك لم تكن لتختلف بوصلتنا تحت أي ظرف. وأعتقد شخصيًا أننا انتصرنا أخلاقيًا على نظام الأسد بعد دخول قوات “ردع العدوان” إلى حلب وتعاملهم السلمي مع المدنيين فيها، ولاحقًا تنسيقهم مع المدن المختلفة وضمان سلامة أهلها في حماة قبل أن تُحسم المعركة عسكريًا وتدخل القوات المقاتلة إلى دمشق.

كان عملي الصحفي منذ بدايته نضالًا ضد النظام القمعي في سوريا. اخترت هذا الطريق لتوثيق نضال الشعب السوري والمكافحة لمنع تشويه تضحياته ومطالبه الحرة، لذلك كصحفي سوري اختار هذه المهنة وحمل قيمها، لا يمكن أن تكون مشاعري بعيدة عن موقفي. أي عمل ينتهك قيم الثورة ومطالب أبناء سوريا الذين ناضلوا ضد الظلم والقمع وضحوا لسنوات، هو عمل مرفوض ولا يمكن تبريره تحت أي ظرف.

كانت سعادة النصر مضاعفة بالنسبة لي، خصوصًا مع تخوفي من حدوث فوضى وانتهاكات بناءً على التجارب السابقة التي مررنا بها خلال الثورة. لكن أن يكون النصر مع كل هذا التنظيم والانضباط، شيء يجعلك تقول بصوت عالٍ وفخر كبير: هذه الثورة العظيمة تستحق هذا النصر العظيم وهذه النهاية الساحرة.

    في المواقف الحساسة، متى يجب على الصحفي أن يتراجع لصالح الإنسان فيه؟ ومتى عليه أن يتمسّك ببرود المهنة؟

كون عملي كان مرتبطًا بوجع الناس والمصاعب التي يعيشونها، ولتركيزي على صحافة حقوق الإنسان، أرى أن الصحفي، كما أي شخص في هذا العالم، يجب ألا ينسى أنه إنسان ولو للحظة، ويجب أن يعمل منطلقًا من فكرة أنه إنسان صحفي، ويقدم إنسانيته على أي تفصيل آخر في هذا العالم، ويفكر في كل أعماله من هذه البوصلة. عندما ينسى أي شخص أنه إنسان، يكون قد فقد جوهره والركيزة التي يبني عليها عمله.

المهنة تطلب منك أن تدرك ما يجري حولك دون أن تستغله لبناء قصتك أو تعدله ليناسب أفكارك ووجهة نظرك الشخصية، والالتزام بهذه القيم يعني أنك إنسان أولًا.

مثلًا، في حالات القصف التي كان يتعرض لها المدنيون من قبل النظام الساقط، كثير من الضحايا تصيبهم حالات هلع وتبدو ردود أفعالهم غير متزنة، ويتكلمون بطريقة منفعلة. هنا يجب عدم استغلال الحالة وإدراك أن ما يقوله أحدهم نتيجة للصدمة التي عاشها. لذلك كنت أفضل إجراء المقابلات في مثل هذه الحالات في اليوم الثاني، مثلًا، ليكون الشخص قد تجاوز مرحلة الخوف ويتمكن من الكلام بشكل يمكنه أن يشرح ما حصل من دون مبالغة أو انفعال. وهذا ينطبق على حالات الناجين من السجون أيضًا، والنازحين، ومختلف شرائح الشعب السوري الذي تعرض لمختلف أنواع الصدمات خلال السنوات الماضية.

    كيف تعاملتم مع وفرة الشهادات والفظائع؟ وهل اضطررتم لتفضيل شهادات معينة على أخرى؟ ولماذا؟

هذا تحدٍ جديد نتعامل معه بعد التحرير. كل سوري لديه معاناة خاصة وشهادة يروي بها الصعاب التي مر بها، لكن نحن نختار ضيوفنا حسب العمل الذي نقوم به. عندما نصنع فيلمًا عن السجون والتعذيب في سوريا، سوف نتوجه لمقابلة الناجين من السجون ونربط قصصهم بفكرة العمل. أما حين صورنا فيلم سجن صيدنايا، فلم نسجل مقابلات مع ناجين كانوا معتقلين في سجون أخرى، ليس لأن معاناتهم أقل، بل لأننا كنا نعمل على سجن صيدنايا تحديدًا.

    ما الشهادة التي أثّرت فيك شخصيًا ولم تستطع نسيانها؟ ولماذا؟

كثير من الشهادات التي سمعتها قاسية لدرجة لا يمكن نسيانها، لكن في تحقيق سابق عن التعذيب النفسي داخل معتقلات نظام الأسد الساقط، كانت شهادة سيدة ناجية من المعتقل تتكلم عن تبعات ما عاشته بعد الاعتقال، وكيف طلقها زوجها لأنها كانت معتقلة، وكيف تخلت أسرتها عنها. هنا أصبحت أدرك أسلوب نظام الأسد ووحشيته المفرطة، كان يريد تدمير الأسرة السورية بكل ما يملك من أدوات. كان يريد أن يقتل الأخ أخاه، وأن يخاصم الابن أباه وأمه، ويريد أن يمزق أي سلام ممكن أو أهداف مشتركة بين أبناء الشعب السوري. السياسة المتبعة من الإدارة السورية الجديدة ومعركة “ردع العدوان” أفشلتا هذا النهج إلى حد كبير.

بصراحة، كنت أتوقع سقوط الأسد وكنت مؤمنًا بذلك، لكني لم أكن أتخيل أن يجتمع جميع السوريين، على اختلاف توجهاتهم، في دمشق. كنت أتوقع أن سقوط الأسد قد يُولِّد صراعات جديدة بين أبناء سوريا، وتحديدًا بين أبناء الثورة على اختلاف تياراتهم. ولكن هذا لم يحدث. لقد قابلت في دمشق أشخاصًا لم أتوقع أنهم سوف يتمكنون من العودة إلى سوريا لو سقط الأسد، لكن الجميع اليوم يستطيع العودة، والعمل، والحلم بمستقبل أفضل.

    ما هو الأثر الذي لاحظتموه على وجوه المعتقلين وهم يعودون إلى السجن أحرارًا؟ كيف عبّروا عن شعورهم؟

أستطيع أن أؤكد لك أنهم، مثلنا، كانوا يكتشفون السجن ومعالمه للمرة الأولى. تخيّل شخصًا أمضى في هذا السجن، مثلًا، ما يقارب خمس سنوات وخرج منه ولا يعرفه، كان يعيش في المجهول. أحدهم تعرّف على زنزانته بعد أن أجرى عملية حسابية مبهرة؛ لقد قام بعدّ الخطوات التي تفصل الزنزانة عن المرحاض، وبعد محاولات عديدة قال: “هنا كنت مسجونًا، في هذا القسم، وفي هذه الزنزانة”. لقد كان بُعد الزنزانة عن المرحاض تقريبًا 130 خطوة، وكان قد حفظ عددها لأن المكان الوحيد الذي يمكنه الذهاب إليه لمرة واحدة في اليوم، طوال فترة اعتقاله في السجن.

    هل تعتبر الفيلم وثيقة سياسية لإدانة النظام، أم شهادة تاريخية؟ وهل تعتقد أنه يمكن اعتماده كوثيقة قضائية؟

نحن كصحفيين لسنا قضاة، لكننا ننقل هذه القصص للعالم ونفتح الباب أمام القضاة للعمل عليها بالشكل القانوني. الشهادات الواردة في الفيلم يمكن للقضاء أن يصل إلى أصحابها ويسمع منهم شهاداتهم بشكل قانوني.

لكننا نسعى بكل جد لتكون أعمالنا مطابقة للعمل القانوني الدولي في كثير من الجوانب، لدفع العجلة القضائية للتحرك من خلالها، ولكي لا تكون أعمالنا مجرد حكايات. وتحديدًا في عملنا الاستقصائي، نحاول ترسيخ صحافة المساءلة والمحاسبة، وهذا ما نجحنا فيه سابقًا حين إنتاجنا تحقيقات استقصائية دفعت العديد من الدول للتحرك وفتح تحقيقات ضد كيانات وجهات وشخصيات كشفنا ارتباطها بنظام الأسد، وتم وضع بعضها لاحقًا على لائحة العقوبات الدولية.

    برأيك، ما الدور الذي يمكن أن تلعبه هذه الأفلام الوثائقية في مسار العدالة الانتقالية في سوريا؟

أولًا، والأهم بالنسبة لنا هو حفظ ما حدث لعدم التلاعب به وتشويهه مستقبلًا. ثانيًا، كشف الكثير من المتورطين في هذه الانتهاكات لمنعهم من الهروب من الحقيقة. ربما ينجح بعضهم في الهروب من العدالة، لكنهم لا ينجحون في الهروب من الحقيقة، الحقيقة التي يجب أن يعرفها العالم أجمع.

هذه الأفلام هي محاولة للحديث عن تضحيات مئات الآلاف من السوريين الذين اعتُقلوا وعُذبوا، وفقد الكثير منهم حياتهم داخل هذه السجون. هي صرخة للمطالبة بالعدالة ومنع تكرار هذه الجرائم الوحشية.

    هل هناك معلومات لم تُنشر لأسباب أمنية أو أخلاقية؟

هناك تفاصيل لم تُنشر لأننا لا نملك وثائق أو أدلة دامغة عليها. عند الحديث عن التعذيب، كان كل ضيف يتكلم عما عاشه، لكن عند ذكر اسم ما، يجب أن يكون هناك دليل ووثيقة لفتح الباب أمام القضاء. نحن هدفنا تحقيق العدالة وليس فقط رمي التهم. بالتأكيد هناك أشخاص قاموا بهذه الانتهاكات، وللوصول إليهم نحتاج إلى الكثير من التفاصيل أو إلى شهادات متنوعة يمكن ربطها بفترة زمنية محددة وأماكن محددة للوصول إلى خلاصات دقيقة.

في الأفلام الوثائقية، نحن نقوم بتوثيق الحكاية ونبني تفاصيل ما حدث بقدر ما نستطيع. ولكننا عند الغوص بالتفاصيل والبحث عن الجناة، ننتقل إلى العمل الاستقصائي، وهذا مختلف بعض الشيء.

    كيف يوازن الصحفي الاستقصائي بين سرد الحقيقة ومراعاة حساسية المرحلة الانتقالية في بلد مثل سوريا؟

على الصحفي الاستقصائي أن يوازن بين عمله الاستقصائي وألا ينسى أنه صحفي. لذلك نحن نراعي في المواد التي ننشرها كل قواعد المهنة الصحفية وقوالبها وطرقها، ولكن من منظور استقصائي. لذلك نطرح الأفكار مع كل الوثائق التي نملكها، من دون أن تكون كما تقرير المحكمة. لا نريد أن نركز على الاستقصاء وننسى الصحافة، والعكس صحيح؛ يجب أن تكون مادة متكاملة تجذب القارئ وتثبت الفرضية.

بالنسبة لي، أرى أن المرحلة الانتقالية في سوريا هي مرحلة انتقالية على كافة الأصعدة، ولا يجب اختصارها بالانتقال السياسي فقط. لذلك علينا التمسك اليوم بكل ما نملك من قوة بالمكتسبات التي وصلنا لها خلال سنوات النضال الطويلة، وتحويلها إلى قوانين تضمن حقنا في العمل الحر والمستقل، وتفتح الباب أمام العمل من داخل سوريا لتقديم تحقيقات استقصائية تناقش جميع القضايا، وتكون دافعًا لجميع العاملين للالتزام بالقوانين خلال عملهم، لأن وجود صحافة استقصائية يعني وجود مساءلة ومراقبة مستقلة، تضع أي مسؤول تحت المتابعة والمساءلة من جهات مستقلة، وتدفعه للعمل بجد من دون أي انتهاكات أو تلاعب بالقوانين.

    إلى أي مدى ترى أن الصحافة الاستقصائية قادرة على تشكيل وعي جمعي مختلف في سوريا ما بعد الأسد؟

كلما كانت القوانين تحمي العمل الصحفي وتوفر له الاستقلالية، كلما كانت المواضيع التي تناقشها الصحافة أكثر أهمية. عند التزام الصحفي بقواعد المهنة، يجب على السلطة أيضًا الالتزام بضمان حقه في الوصول إلى المعلومة، وتقديم الإجابات على أسئلته التي يطرحها.

في الحقيقة، في سوريا هناك مشكلة معقدة من تركة نظام الأسد الساقط، يجب معالجتها بعمل جماعي منظم، وهي الوعي المجتمعي. لم يكن الناس الذين يعيشون في مناطق سيطرة النظام الساقط قادرين على الوصول إلى المعلومة الحقيقية؛ كان هناك بروباغندا خانقة وضعت الناس في دائرة مغلقة.

التحدي اليوم هو كيف يمكننا تثقيف الناس إعلاميًا، وبناء ثقة حقيقية بين الإعلام والشارع، لأن المجتمع السوري اليوم يرى الإعلام مرادفًا للتضليل والكذب.

بعد بناء الثقة، يمكن الحديث عن التغيير الذي يمكن أن تحدثه الصحافة في المجتمع بمختلف أشكالها، وتحديدًا الأشكال الحديثة التي لم يصل الكثير منها إلى سوريا، مثل صحافة الحلول، والصحافة الاستقصائية، وصحافة البيئة، والصحافة الصحية، وصحافة البيانات، والأفلام الوثائقية، وغيرها.

    تعملون على مشروع “أوراق الأسد”، الذي يُفترض أن يكون أول تفكيك منظم لبيروقراطية النظام السوري من الداخل، بالأسماء والتوقيعات والمراسلات. برأيك، إلى أي مدى يمكن أن تساهم هذه الوثائق في إعادة كتابة التاريخ السوري، وتحقيق العدالة الانتقالية؟ وهل تراها مجرد أرشيف، أم بداية لإدانة قانونية حقيقية؟

لن أستطيع الحديث عن هذا المشروع الآن لأننا لم نعلن عنه بعد، ولأن عملنا على الأرض من الناحية الأمنية يدفعنا إلى تأجيل الإفصاح عنه لضمان سلامة جميع الزملاء في المشروع. لا أريد ذكر هذا المشروع الآن، لو تكرمتم، وشكرًا.

الترا سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى