خواطر سورية/ محمد العبد الله

(1)…
سأكتب تباعاً بعض الملاحظات والأفكار من رحلتي إلى سوريا، ضمن 3 محاور، إجتماعي، اقتصادي، وسياسي. أبدأها بالاجتماعي.
أولاً، يجب الإقرار أن زيارتي قصيرة جداً جداً مقارنة بالسنوات الطويلة التي اضطررت أن أقضيها خارج سوريا. لكني شاركت بعض هذه الأفكار مع أصدقاء وأهل ممن لم يغادروا سوريا البتة أو تكررت زياراتهم خلال الأشهر الأربعة الماضية ولم أسمع ملاحظات منهم حولها. ملاحظاتي حول دمشق وريفها فقط.
– بشكل عام، حال البلد يرثى لها. حجم الدمار في ريف دمشق مرعب. وضع الخدمات أيضاً مزري. ساعات الكهرباء بعد التحسن لا تتجاوز الثلاث ساعات يومياً، ساعة كهرباء كل 8 ساعات.
– الأحياء الثرية، أحياء المسؤولين السابقين والأثرياء، في وضع أفضل بكثير طبعاً من باقي العاصمة. “المنطقة الخضراء” في دمشق، ذا صح التعبير، هي بضعة أحياء تكاد لا ترى فيها دماراً، المالكي، أبو رمانة، باب توما والقصاع، المهاجرين، المزة فيلات غربية وشرقية، وصولاً لوسط البرامكة، إلى الحميدية والأموي والتجارة… كلما ابتعدت عن مركز المدينة كلما ظهرت حالة الدمار والتردي الاقتصادي أكثر.
– منظر السيارات مرعب، أكل عليها الدهر وشرب، قديمة ومكسرة، ومرقعة بقطع بألوان مختلفة. تستطيع التمييز بين السيارات التي تحمل لوحات “دمشق” والسيارات القادمة من الشمال (حلب وإدلب) ببساطة. كأن الزمن توقف على سيارات دمشق وبقيت في الماضي. الفرق بين أعمار ونوعية السيارات كبير وواضح للعيان.
– منظر الصرافين في الأسواق وبشكل علني شبيه بمنظرهم في لبنان. في بلد كان اقتناء الدولار فيه قد يودي بصاحبه للسجن أحياناً.
– هناك اهتمام كبيرة بوسط دمشق، محاولة ترميم وصيانة وتجميل وسط المدينة بشكل سريع ومكثف. دون الالتفات الكبير إلى المدينة الكبرى أو ريفها بالطبع.
– دخان السيارات مأساوي، طبعاً نتيجة البنزين والمازوت المكرر بأساليب بدائية. الرائحة في ساحة العباسيين مثلاً خانقة. ليست رائحة السيارات، لكن بائعي البسطات اعتادوا اشعال نار للتدفئة خلال الجو البارد (مرت أيام جداً باردة خلال الأسبوعين الماضيين)، ويحرقون فيها خشب وقمامة وبلاستيك ومازوت معاً، لذلك لنا تخيل الدخان والرائحة.
– منظر المباني عموماً شاحب ومليء بالشحار. أمر طبيعي من عدد السيارات وأدخنتها، لكن واضح أن المدينة لم تتمتع بكمية أمطار معقولة أو قوية منذ فترة طويلة (بعض الأصدقاء من دمشق ممكن التكرم بالتصحيح هنا).
– زحمة السير عموماً معقولة لكن طريقة قيادة السائقين مرعبة. علمت أن الوضع تحسن خلال الأشهر الثلاثة الماضية وكان الوضع أسوأ بكثير قبلها. على سبيل المثال، بعض اشارات المرور عادت للعمل لكن هناك اصرار من قبل السائقين (خصوصي وعمومي وغيره، سيارات دمشق وغيرها، الجميع) على عدم احترام اشارات المرور او التوقف على الإشارات الحمراء. أخذت اليمين من اتستراد المزة للعودة والعبور إلى الطرف الآخر، وقفت مع عشرات السيارات على الإشارة لكن الطريق الرئيسي على المزة لم يتوقف بتاتاً. بعد 4 أو 5 إغلاق وفتح للإشارات، جمع 4 رجال شرطة شجاعتهم وشبكوا أيديهم ببعضها وقطعوا الطريق ليوقفوا السير على المزة للسماح بالسيارات القادمة من التقاطعات بالمرور. مع ذلك، نفذت بعض السيارات من الأطراف.
– إنتشار شرطة مدنية بلباس أبيض لقي ترحيباً لكن للأسف لا احترام لرجال الشرطة بتاتاً. تابعت حادثة الاعتداء على رجل شرطة في أبو رمانة وشهدت بنفسي حادثة شبيهة تدخلت فيها لصالح الشرطي (طلب الشرطي من شاب بسيارة فخمة التحرك كونه يعرقل السير والتوقف ممنوع. رفض الشاب التحرك. سمعت الشرطي يقول له حرفياً “هلأ إذا خالفتك بتنزل بتضربني”). شعرت بالأسف عليه حقيقة رجل كبير في السن قليلاً يلبس الزي الشتوي وبدأت الحرارة بالارتفاع وعرقه يسيل على جبينه. ثقافة احترام القانون لدينا شبه معدومة وانتشار ثقافة القوة وتحول البلاد إلى غابة واضح للعيان.
– الخروج من مركز المدينة للأطراف كالسفر في الزمن، تغادر “المنطقة الخضراء” لعالم آخر تماماً، لا سيما إن كان في ريف دمشق.
– الحواجز منتشرة بكثرة في الليل. تتوقف السيارات عليها. العناصر على الحواجز أضعف بكثير من إيقاف أي هجوم أو عمل أمني. ببساطة الحواجز بدون إضاءة. ينتظر منك التوقف ويسألك إن كان بحوزتك سلاح. باستطاعة أي مسلح مدرب مثلاً الإجهاز على العناصر الثلاثة أو الأربعة على الحاجز بسرعة. للأسف العناصر بدون خوذ أو سترات واقية أو حتى سلاح معقول. هناك طبعاً سيارة للدورية لكن قدرة الحواجز القتالية محدودة بأفضل الأحوال.
– توقفت مع نور على الحواجز ست أو سبع مرات. معظمها ليلي قرابة منتصف الليل. السلام عليكم، عليكم السلام… تفضل!. مرة واحدة طلب العسكري هويتي. أخبرته أنها في حقيبتي في الصندوق. سألني لماذا لا أحمل هويتي في جيبي. أخبرته أنها جواز سفر. سألته إذا رغب برؤيته. سألني اذا معي سلاح. أجبت بالنفي. ثم سأل مرة ثانية أكيد؟ فتحت الصندوق وأخرجت جواز سفري من حقيبة كتفي. فتح الجواز على ضوء السيارة (لا يملك ضوء بيده)، لم يستطيع قراءة شي. سألني شو هاد؟ قلت له جواز سفر أميركي وأني سوري أميركي. سألني عن مهنتي، أجبت محام. اعتذر بشدة مني أكثر من مرة. شكرته على جهده واخبرته أنه يقوم بعمله فقط. بعد كل حاجز انتابني شعور بالأسى على رجال الحواجز. حرفياً ناس “معترة”، واضح أنهم من الملتحقين الجدد، تلقوا تدريب لأسابيع قليلة لا أكثر وعلى الأغلب قدراتهم القتالية محدودة (ليسوا مقاتلين فعليين سابقين، هذا في دمشق فقط).
– الفوارق الاجتماعية واضحة بين الناس. تكاد تكون ذاتها تكراراً لسوريا السابقة. المسؤولين، الأثرياء، الطبقة السياسية ومن يدور في فلكها في المنطقة الخضراء والشعب في باقي دمشق. مع فارق هام أن لا طبقة وسطى اليوم في سوريا. بعد سكان ورواد “المنطقة الخضراء” هناك فقر وتشرد وتعتير وناس تعمل كل يومها لسد كفافها فقط لا أكثر.
– أجريت بعض اللقاءات مع دبلوماسيين وفريق الأمم المتحدة، لذلك اضطررت لزيارة فندق الشيراتون وفندق الداماروز (الميريدان سابقاً) أكثر من مرة على عدة أيام. هناك تتركز “النخبة”، من سياسيين جدد، إعلاميين، نشطاء، قيادات المعارضة السابقة، ونشطاء وناشطات متوزعين في بهو الفندق. كل مجموعة مركزة في صالون صغير تتحدث بموضوعها وتعيش حالة منفصة تماماً عن سوريا الحقيقية. طبعاً هناك يقيم أي دبلوماسي غربي في زيارة قصيرة لسوريا.
– في هذه الأجواء، تستطيع أن تغمض عينك قليلاً وتنسى أن حرباً شنيعة شنها نظام الأسد دمرت معظم سوريا وأن نصف الشعب مشرد بين نازح ولاجئ وأن محافظات بأكملها مدمرة. تستطيع أن تعيش حياة خاصة ضمن فقاعة لا تشبه سوريا في شيء. هذه الفقاعة يعيشها اليوم المغتربون السوريون بالدرجة الأولى.
– ذهبت مع عائلتي إلى عشاء في مطعم مدلل لحد ما. في هذا المطعم أيضاً تنسى أن سوريا مرت بحرب. هناك شخص يعزف الكمان مباشر. كهرباء وطعام وشراب وغيرها. تكرر ذات المشهد على دعوة عشاء لبيتها مع نور. كأنك في عالم آخر غير دمشق التي ننطلق منها ونعود إليها (برزة-القابون) بعد العشاء.
– دعوتنا للعشاء كانت في باب توما ليلة عيد الفصح. حواجز كثيرة للأمن العام لحماية المناطق المسيحية. الحواجز تفتش الداخل والخارج ماشياً (الطريق مغلق للسيارات). لم انتبه للتفتيش الفردي لذلك لم اتوقف، ولم يطلب مني العسكري التوقف. مجرد أن تلبس بدلة رسمية أو ترتدي السيدة لباس أنيق كاف لتكريس افتراضات طبقية أو حتى دينية (أننا ربما مسيحيون). علمت لاحقاً أن اثنين من زملائي من الفريق منعوا من دخول باب توما، توسط لهم زميل آخر أميركي أبيض وأشقر فسمح لهم عناصر الأمن بعبور التفتيش.
– في باب توما أيضاً الزمن لم يتوقف. بقيت الحياة تمضي أسرع بسنوات أو عقود من باقي ريف دمشق.
– زارني زميل من إدلب بسيارته الرباعية (نمرة حلب) وذهبنا لتصوير بعض الفيديوهات في حرستا وجوبر. الريف مدمر تماماً. جوبر ممسوحة كلياً والمشاهد فيها مرعبة. ضمن دمار المباني بطانيات وألعاب أطفال.
– عند مرورنا من أمام أي مجموعة نلقي السلام عليهم، فيقفوا مسارعين للتحية وكأننا مسؤولين. هناك افتراضات تفرضها السيارة واللباس ولوحة السيارة (أننا ربما من الهيئة، زميلي بذقن وأنا ذقني طولت قليلاً).
– التقيت بأحد رجال الأعمال المغتربين العائدين لدعم الاستثمار في سوريا. خلال كلامه عن سوريا تحدث عن بعض الافكار المهمة التي لا تكلف كثيراً مثل دهن أطراف الرصيف في وسط المدينة. مجدداً، هناك سوريا النخبة وسوريا باقي الشعب.
– هناك تكريس واضح للنخبة مقابل باقي الشعب. هذه الظاهرة ليست جديدة لكن وجود طبقة وسطى معقولة في دمشق سابقاً كان من عوامل تلطيفها ربما. اليوم هناك طبقة المسؤولين الجدد والسياسيين والإعلاميين وطبقة المسحوقين التي تشكل ربما 90% من السكان. الحياة عموماً، الطعام، والإنفاق، حتى طبيعة اللباس أيضاً في “المنطقة الخضراء” مختلفة. كأنك في بلد آخر.
– الاهتمام والتركيز كما أسلفت على وسط المدينة بالحد الأكبر. صيانة السيف الدمشقي، زراعة أزهار في ساحة الأمويين، إضاءة سوق الحميدية… إلخ. طبعاً كلها معالم سياحية هامة، لكن ضمن بلد مهدم يعيش شعبه على الكفاف.
– مع كل احترامي للمغتربين (وأنا أحدهم)، وللصورة الجميلة والرائعة التي نقلت لسوريا ولدمشق تحديداً. هذه ليست دمشق، هذه هي فقط المنطقة الخضراء في دمشق. منطقة مغلقة حكراً على من يستطيع الدفع. المغترب والإعلامي والسياسي يستطيع دفع 50 دولار ثمن وجبة بمطعم وسط المدينة بسهولة أو أن يصرف ألف دولار خلال إجازته 10 أيام قبل أن يعود لأوروبا أو أميركا، ويتصور ويخرج ليقول أن الوضع بالشام رائع والحياة جميلة وسوريا رائعة. سوريا رائعة لكن شعبها ليس بخير… شعبها بحاجة للمساعدة، وأول خطوات المساعدة هي شعورنا ببعضنا…
– باختصار، رأيت أكثر من سوريا في سوريا (وكلامي عن دمشق وحدها). هناك سوريا النخبة والأثرياء والمسؤولين الجدد، وهناك سوريا باقي الشعب… الذي يرى بوضوح تفاصيل الحياة في “المنطقة الخضراء”…