
حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:
سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع
—————————-
هل نخشى من خطر داعش؟/ حسام جزماتي
2025.04.28
ففي وقت سابق كان أحمد الشرع قد قال لوفد غربي من زواره إنه اختار أنس خطاب رئيساً للاستخبارات العامة لأنه أفضل من يجيد التعامل مع التنظيم، الذي كان عضواً في أصله «دولة العراق الإسلامية».
تضاربت تقديرات المعنيين، خلال العام 2024، حول قدرات تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا. ففي حين لاحظ بعض المراقبين المتوجسين تزايداً في عدد الهجمات التي شنتها داعش في الأراضي السورية؛ قلّل آخرون من قيمة هذه الحوادث استراتيجياً ومن نتائجها على المدى الطويل. ومع سقوط نظام الأسد عادت المخاوف من تجدد نشاط التنظيم لتطفو على السطح، مستفيداً ربما من مناخ التغيير وما يصحبه من فوضى، أو مستغلاً القوى الإسلامية التي انتشرت في البلاد لتنفيذ عملياته تحت عباءتها، بالاتفاق مع بعض مجموعاتها أو من دون تنسيق.
لكن الأشهر الخمسة التي مرت كفيلة برسم معالم إجابات مبدئية عن هذه الأسئلة.
فمن جهة أولى عادت سوريا إلى صدارة اهتمام صحيفة التنظيم الرسمية «النبأ» بشكل متواتر. ففي العدد 472، الذي نُشر في قلب أيام عملية «ردع العدوان»، شغلت «ولاية الشام» الافتتاحية التي جاءت بعنوان «سوريا الحرة وسوريا الأسد!». وفيها يحذّر الكاتب من الحماس للتصعيد الذي شنته «الصحوات»، وهو مصطلح مرذول في عرف داعش ويعني العملاء من أهل السنّة. وإذ تلاحظ الصحيفة أن العملية جاءت تحت شعارات الثورة فإنها تعدّ ذلك فعلاً جاهلياً لا جهاداً. وتسجل، في هذا السياق، أن لغة طمأنة النظام الدولي والتعايش مع الأقليات طغت على البيانات التي أصدرتها «الهيئات المرتدة» التي أعلنت أنها تجسد «ثورة تحررية من “نظام قمعي” يستأثر بالسلطة، بغية الوصول إلى نظام آخر “ديمقراطي” يتقاسم السلطة».
وفي العدد التالي، الصادر إثر سقوط النظام، عادت الصحيفة إلى سوريا في افتتاحية تفرغت لانتقاد «هيئة تحرير الشام» وقائدها أحمد الشرع. حين ترى أن أساليب «مكافحة الإرهاب» بلغت مرحلة متقدمة، بعد مسارات طويلة في أقبية مراكز الدراسات والاستخبارات، فوصلت إلى احتواء جهاديين سابقين للقيام بالمهمة المطلوبة «بما يضمن مصالح النظام الدولي الكفري، ويشبع رغبة المفتونين بالحكم». ومن جهتها قررت صحيفة داعش أن «الجهاد في الشام» سيتواصل لأن من كان خلافه مع عائلة الأسد فقد انتهت ثورته، أما من كانت قضيته ضد «نظام مرتد يقوم على تعطيل الشريعة والاحتكام للمجالس الانتخابية والدساتير الكفرية وحماية المراقد الوثنية وموالاة الكافرين دولاً وأقليات، بحجة “العلاقات الدولية” و”النسيج الوطني”، فإن المشكلة ما زالت قائمة». فلا يقتصر الأمر على إسقاط علم ورفع آخر «كلاهما من صنع سايكس – بيكو» كما تقول الافتتاحية الثالثة، للعدد 474، التي جاءت بعنوان «صيدنايا والنفاق العالمي». وسخرت من تفجع المجتمع الدولي بعد ظهور صور السجناء وكأنه لا يعلم أن في كل بلد طاغوت ولديه صيدنايا. وفي الجانب الذي يخصّها بشكل مباشر لاحظت الصحيفة القلق الأميركي، وسواه، من احتمال أن يستغل الدواعش الظرف للفرار من السجون والمراكز التي تحتجزهم فيها قسد (قوات سوريا الديمقراطية)، وحذرت من استخدام هؤلاء مادة للاتجار بين الحكم الجديد في دمشق وسلطات «الإدارة الذاتية» الكوردية.
عادت «النبأ» لتناول سوريا في افتتاحية العدد 486، الذي صدر بعد انتهاء معارك الساحل في مطلع آذار، والتي جاءت بعنوان «نسف الأقلية والطائفية». وقالت إن الأحداث أثبتت مجدداً صوابية «الدولة الإسلامية في تعاملها مع طوائف الكفر والردة» بمنهج الحسم، لا محاولة الالتقاء بهم في منتصف الطريق ونزع صفة التشبيح عنهم وصبغهم بصفات «الشركاء والإخوة والطلقاء» تحت شعار العيش المشترك. وبعد أسبوعين استنكرت افتتاحية العدد 488، بعنوان «الجولاني بين جدارين!»، أن النظام السوري الجديد كان واضحاً في التعهد للجارة اليهودية بأنه لن يهاجمها، ولن يسمح باستخدام أراضي البلاد لذلك.
لا تُستغرب هذه المواقف بالنظر إلى أفكار داعش وإلى تاريخ شقاقها الدموي مع «هيئة تحرير الشام». لكن ما تجدر ملاحظته هنا هو خلو الافتتاحيات، والإصدار المرئي الذي واكبها، من أي وعيد بالعمل ضد «الهيئة» أو التحريض على ذلك. إذ تناولت الإشارة العنفيّة الوحيدة، التي وردت في افتتاحية العدد 473، مجرمي نظام الأسد الذين بدا أن حكومة دمشق الجديدة تتساهل في محاسبتهم، متوعدة إياهم بالثأر على أيدي «الأُسد الغضاب الذين يعاقبون المعتدي بأحكام الشريعة لا أحكام الدستور».
من جهة أخرى خلت الأخبار، التي نقلتها وكالة «أعماق» الرسمية خلال هذه الشهور، من تبني التنظيم لأي عمل ضد قوات النظام الجديد وبُناه. فتوقفت تماماً العمليات التي كان يشنها في البادية خلال سيطرة النظام السابق في السنوات الماضية، وهي المناطق التي ورثتها «الهيئة». واقتصرت العمليات التي تبناها التنظيم في سوريا، منذ سقوط الأسد، على هجمات متفرقة قليلة الأهمية ومحدودة التأثير على عناصر قسد في أرياف كل من «الخير» (دير الزور كما سمّاها التنظيم) و«البركة» (الحسكة وفق تسميته أيضاً).
يؤشر هذا على الضعف المتزايد للتنظيم الذي أصبح مجرد أشلاء في سوريا والمشرق في حين يحفل إعلامه بأخبار طازجة ووحشية من مناطق تنامي قوته في القارة الأفريقية، فضلاً عن نشاطه العنيد في أفغانستان ضد حكم إمارة طالبان. غير أن هذا لا يكفي لتفسير غياب عملياته عن منطقة البادية التي كان المراقبون يقدّرون بأن عناصره فيها هم الأقوى. وربما يعود ذلك أيضاً إلى الخبرة الطويلة لأمنيي «هيئة تحرير الشام» في الإمساك برقبة داعش باستخدام أوراق ضغط.
ففي وقت سابق كان أحمد الشرع قد قال لوفد غربي من زواره إنه اختار أنس خطاب رئيساً للاستخبارات العامة لأنه أفضل من يجيد التعامل مع التنظيم، الذي كان عضواً في أصله «دولة العراق الإسلامية».
تلفزيون سوريا
——————————————
العقل الطائفي واستحالة الدولة في سوريا/ ماهر اسبر
الإثنين 2025/04/28
لم يخطر ببالي يوماً أن أكتب عن الدولة المستحيلة في سوريا بعد كل ما عشته ورأيته. كنت أظن أن سقوط النظام الاستبدادي سيكون الفصل الأخير من الكابوس، وبداية حلم الدولة الوطنية لجميع أبنائها، حيث تُنتزع الحقوق ولا تُوهب، وتُصان الكرامة بالقانون والدستور والعقد الاجتماعي، لا بالأهواء ولا بالتفسيرات العقائدية الضيقة. كنت وما أزال أرى نفسي جزءاً من مشروعٍ تحرري، لا سلطوي، قاعدته الحرية والعدل والمواطنة المتساوية. لكن مع لحظات الفرح الأولى بسقوط الطاغية، تسلّل سلطانٌ آخر، يستمد قوته لا من حزب ولا من أجهزة أمنية هذه المرة، بل من ولاءات طائفية وعصبيات دينية ضيقة. مع مرور الوقت، بدا أن بناء دولة حقيقية وسط هذه السيطرة الذهنية الطائفية ليس مجرد مهمة صعبة، بل استحالة تاريخية تتشكّل ملامحها يوماً بعد يوم، في وطن أنهكته الحرب وجراح الذاكرة الطائفية المتجددة. في هذا النص، أحاول نقد العقل الطائفي الذي برز بعد الثورة، وكشف كيف أعاد إنتاج بنية استبدادية بلبوس ديني، لأخاطب نفسي وأبناء بلدي، قبل أن يفوت الأوان.
العقل الطائفي واستحالة الدولة
منطلق الحديث هنا هو العقل الطائفي الذي يكمن خلف سلوكيات الأفراد والجماعات في زمن الاضطراب. نعني بالعقل الطائفي تلك البنية الفكرية النفسية التي تجعل الفرد يرى العالم بمنظار طائفته حصراً، فيغدو ولاؤه الأعلى لانتمائه المذهبي على حساب أي جامع وطني أو إنساني. هذا العقل الجمعي يُنتج ما يمكن وصفه بـالهوية الجمعية الصلبة: هوية متخشّبة لا تقبل التعددية في داخلها ولا التداخل مع غيرها. في حال سوريا، ومع اندلاع الثورة ثم الحرب، صعدت إلى السطح هويات فرعية كانت كامنة. شعر كل فريق أنه مهدّد وجودياً، فاستجاب بخطاب يقوم على الخوف الجمعي: خوف الأقليات من الأكثرية، وخوف الأكثرية من “المؤامرات” الداخلية والخارجية لتقويض أغلبيتها. وفي علم النفس الاجتماعي نعرف أن الخوف حين يغزو جماعةً بأكملها يتحوّل إلى قوة تدميرية للعقل الناقد؛ إذ ينكفئ الأفراد إلى حضن الجماعة طلباً للحماية، ويبررون – بل ويقدّسون – كل ما تفعله قيادات جماعتهم ما دام يَعِدُهم بالأمن. هكذا تلبّس كثيرٌ من السوريين بعقلية “نحن” ضد “هم”، وصار من السهل على قادة طائفيين استثمار ذلك الخوف الجمعي لإحكام السيطرة.
لقد ألغى العقل الطائفي إمكانية النقاش العقلاني الحر بين مكوّنات الشعب، لأن كل طرف بات يرتاب في كل ما يقوله الطرف الآخر مهما بدت حججه موضوعية. إن الجوهر الفكري للعقل الطائفي أنه عقل إقصائي يقيني مطلق الإيمان بصواب فئته وخطأ غيرها، ليس المقصود هنا فقط مقولات الطوائف الفقهية أو الدينية، بل يسحب ذلك على الروايات والسرديات الإخبارية والمتناقلة. كل طائفة تعتقد أنها وحدها تمتلك الحقيقة كاملة. وهذا بالمناسبة ليس جديداً في تاريخ المسلمين؛ فقد حذّر الإمام أبو إسحاق الشاطبي قبل قرون من هذا المنزع حين رأى افتراق الأمة إلى فرق يدّعي كل منها أنه الناجي وغيره هالك. ورفض الشاطبي “محاولات الفرق المختلفة الادعاء بأن كلاً منها تمثّل الطائفة الناجية” معتبراً أنها محض عصبية مذهبية، مؤكداً أن الحقيقة لا تحتكرها فئة واحدة. لكن العقل الطائفي اليوم يكرر المنطق القديم نفسه: يدعي احتكار الحقيقة والنطق باسم الدين، ويضع الجماعة في مرتبة المعصوم الذي لا يخطئ. وهكذا يستحيل أي عقد اجتماعي أو تفاهم وطني، لأن مقدمته الضرورية – أي الإقرار بالتنوع والتعدد داخل المجتمع – غائبة تماماً.
إن بناء دولة حديثة يتطلب عقلاً سياسياً جامعاً يؤمن بمرجعية المواطنة والقانون فوق الاعتبارات الفئوية. الدولة بمعناها الحديث تقوم على أن السلطة ملك عام لجميع المواطنين، وليست امتيازاً حصرياً لطائفة أو حزب. لكن العقل الطائفي نقيض ذلك تماماً، فهو يفهم السلطة كغنيمة لجماعته وكامتداد لهويتها المقدسة. وحيث يتغلغل هذا التفكير، تنهار أسس الدولة بمعناها الحديث. يستخدم عالم الاجتماع السياسي الفرنسي كلود لوفور عبارة شهيرة لوصف الديمقراطية بأنها تضع السلطة في “مكان شاغر”؛ أي إن كرسي الحكم في الديمقراطية ليس ملكاً موروثاً لأحد بل مكان فارغ يملؤه الفائز في انتخابات شفافة ثم يغادره. أما في العقل الطائفي، فكرسي الحكم ليس شاغراً أبداً، إنه محجوز سلفاً “للجماعة الحقّ” التي يجب أن تحكم إلى الأبد لأنها – في زعم أصحابها – تمثّل الإرادة الإلهية أو الأغلبية المطلقة. ومن هنا يصعب جداً تخيّل قيام نظام ديمقراطي حقيقي حين تكون ذهنية الأطراف المنتصرة ذهنية طائفية؛ فالديمقراطية تفترض قابلية تداول السلطة وتعدد مراكز القرار، بينما العقل الطائفي يفترض حتمية انفراد جماعته بالسلطة باعتبار ذلك حقاً إلهياً أو تاريخياً لها.
إلى جانب ذلك، يساهم العقل الطائفي في تشويه القيم وتحويلها إلى أدوات صراع سياسي. لقد بدأت الثورة السورية بشعارات الحرية والكرامة والعدالة – وهي قيم إنسانية عامة فوق الانتماءات. لكنها أثناء عسكرة الصراع وبعده، انزلقت إلى مواجهة تُرفع فيها شعارات طائفية ودينية حادّة. فتحوّلت القيم إلى أسلحة خطابية بيد كل طرف: هذا يتحدث عن “الحق” وذاك عن “الجهاد”، وأصبح من الصعب إيجاد أرضية مفاهيمية مشتركة. هنا يفيدنا استعارة نقد الفيلسوف الأخلاقي ألاسدير ماكنتاير لتسييس القيم؛ إذ يرى أن الخطاب الأخلاقي حين يفقد مرجعيته المشتركة يصبح أجوف، وتغدو الخلافات “مجرد تعبيرات عن قيم متباينة لا سبيل لإثبات أحقيتها، ما يجعل الجدل الأخلاقي لا نهاية له، ولا يُحسم إلا بأساليب تلاعب أو قوة”. وهذا ما نراه في خطاب الجهات الطائفية المتصارعة: سجال عقيم لا ينتهي، لأن كل طرف ينطلق من منظومة قيم مسيّسة خاصة به لا يعترف بها الطرف الآخر، فلا يبقى إلا اللجوء للقوة العنيفة أو الناعمة لفرض الأمر الواقع.
بنية الهيمنة الطائفية: التنظير بالتجربة السنغافورية وتطبيق الخمينيّة.
كانت الثورة السورية تطمح لإنهاء عقود من الحكم السلطاني المقنّع بواجهة حديثة – إذ لطالما وُصف نظام الأسد بأنه دولة عميقة تحكمها شبكة أمنية وعائلية خلف قناع مؤسسات جمهورية. وحين اندلعت الاحتجاجات، تصوّر البعض أننا نتجه نحو حكم مدني ديمقراطي يقطع مع ماضي الاستبداد. لكن مع تحوّل الصراع إلى اقتتال طائفي، ظهر نمط هيمنة جديد يستعير الكثير من ملامح الدولة السلطانية التقليدية: تحالف بين رأس سلطة شخصية وجماعة من العلماء الشرعيين والمقاتلين المخلصين له الذين يضفون عليه المشروعية ويستفيدون من حكمه. هذا النموذج يُذكّرنا بتجارب تاريخية كثيرة في العالمين الإسلامي والغربي، حين كانت السلطة السياسية تستند إلى شرعية دينية أو مذهبية ضيقة وتقصي بقية مكوّنات المجتمع. في أوروبا مثلاً شهدنا حروباً دينية طاحنة قبل نشوء الدولة الحديثة العلمانية، وفي تاريخنا الإسلامي عرفنا دولاً قامت على أساس طائفي – كالدولة الصفوية في إيران في القرن السادس عشر التي فرضت المذهب الشيعي قسراً كأساس للولاء. مثل هذه الأنظمة عرفت نوعاً من الاستقرار المؤقت لكنها حملت في طياتها بذور صراعات لا تنتهي مع محيطها ومع شعوبها غير الراضية.
اليوم في سوريا، نرى عودة هذا النمط السلطاني ولكن تحت راية إسلامية سنية هذه المرة. العقل الطائفي الذي ساد في مناطق المعارضة أثناء الحرب مهّد الأرضية لظهور أمراء حرب وقادة دينيين يبررون تسلّطهم بكونه حماية لـ”أهل السنة والجماعة” أو تحقيقاً لحكم الشريعة. لقد بدأت بعض الفصائل الإسلامية ترفع شعارات دينية منذ 2012، ورأينا مجموعات راديكالية مثل جبهة النصرة (التي صارت لاحقاً هيئة تحرير الشام) تتبنى فكر القاعدة الجهادي وتسعى إلى إقامة “إمارة إسلامية” بدل الدولة الوطنية. وباسم هذه الشعارات، دخلت في صدامات ليس فقط مع النظام بل أيضاً مع فصائل أخرى ومع المدنيين الذين لا يوافقونها رؤيتها. ومع كل انتصار عسكري كانت تلك الجماعات توطّد سلطتها على الأرض كسلطة أمر واقع، وتفرض رؤيتها المتشددة على السكان المحليين. بدأت تنشأ محاكم شرعية محلية وهيئات أمر بالمعروف ونواهٍ عن المنكر، وصار للفتوى الدينية دور القانون الملزم. هذا الوضع يذكّرنا بما وصفه الفقيه محمد أبو زهرة – وهو من كبار علماء القرن العشرين – “إن إلزام الناس جميعاً بفهم واحد للدين واجتثاث كل فكر مخالف ليس من الإسلام في شيء، بل هو أيديولوجية من صنع البشر تحاول تضييق ما وسّعه الله”. وهذا بالضبط ما نراه: فكر ديني مؤدلج يدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة، ويحوّل الدين إلى عصا غليظة لفرض الهيمنة.
ضمن هذه البنية السلطانية الجديدة التي تسعى لإقامة حكم عضود، نلحظ أيضاً عودة مفهوم العصبية بمعناه الخلدوني. فابن خلدون قرّر في المقدمة أن كل مُلك أو دولة لا تقوم إلا بعصبية قوية، أي برابطة جماعية صلبة تجمع نفراً حول قائد. وإذا تغلّبت عصبية ما وأسست دولة، فإن طبيعة الملك بعد ذلك تميل إلى الانفراد بالمجد والسلطة. بمعنى أن قائد العصبية المنتصر سرعان ما يتخلّق فيه كبر واستعلاء يدفعه لإقصاء رفاق الأمس والتفرد بالحكم. يصف ابن خلدون هذا بقوله إن رأس العصبية “يأنف من المشاركة… وينفرد بما استطاع، حتى لا يترك لأحد منهم (أي حلفائه) في الأمر ناقة ولا جمل، فينفرد بذلك المجد بكليّته”. هذه العبارة على قدمها تنطبق بحذافيرها على واقعنا؛ فقد شهدنا قيادات الفصائل المنتصرة تبعد أو تهمّش باقي الفصائل حالما تطمئن لغلبتها. تحالفت بعض الجماعات المقاتلة في البداية ضد عدو مشترك، ولكن ما إن ضعُف ذلك العدو حتى دبّ الخلاف بينها، فسعى أقواها لاكتساح البقية وإخضاعها. وفي المحصلة برز رأس واحد وتحلّقت حوله عصبيته الخاصة.
لقد أعاد العقل الطائفي تدوير فكرة “الحاكم المتغلّب” في التراث الإسلامي – تلك الفكرة التي تقول بأن من يستولي على السلطة بالقوة ويحقق “الغلبة” تصبح طاعته واجبة درءاً للفتنة. لقد انتقد علماء كثر هذه الفكرة عبر التاريخ، لأنها تشرعن الاستبداد باسم الدين. الإمام الشاطبي نفسه في الاعتصام كانت روحه ضد كل ابتداع يؤدي إلى الفرقة، والحاكم المتغلب طائفياً هو قمة الفرقة. وكذلك أبو المظفر السمعاني من قبله أشار إلى خطورة تحكيم العقل والهوى على حساب الاتباع الجماعي، إذ قال عن أهل الأهواء: “إنهم أسّسوا دينهم على المعقول، وجعلوا الاتباع والمأثور تبعاً للمعقول. وأما أهل السنة فقالوا: الأصل الاتباع، والعقول تبع”. وفي حالتنا نرى كيف أن قيادات الجماعات المتشددة قدّمت “معقولاتها” الخاصة – أي تفسيراتها الأيديولوجية – وجعلت النصوص تابعة لها، فحرفت مقاصد الدين خدمة لتمكين سلطانها.
المدن
————————————
الصورة إذ تتحوّل مذلّةً/ سميرة المسالمة
28 ابريل 2025
“الصورة مقابل الغذاء”، عنوان جديد لمرحلة الحاجة المذلّة التي تعيشها شرائح من السوريين، الذين تُقدّر نسبتهم بما يزيد على 90% من السكّان، إذ يصبح التهافت على سيّارات المساعدات أحد معالم الأحياء الفقيرة في كلّ المحافظات السورية. وهي إذ توضّح الحاجة الماسّة لمدّ يد العون إلى سورية، سواء من المجتمع المحلّي المتمكّن اقتصادياً أو من المجتمع الدولي، فإنها، في الوقت نفسه، يمكن أن تتحوّل من توثيق إلى تنكيل معنوي بالمستفيدين من تلك المعونات، مقابل تسجيل “إنجاز” لمصلحة الجهة التي توزّع، حكوميةً كانت أو غير ذلك. فخلال سنوات الحرب الماضية كثيراً ما استخدم النظام هذه الصور لاستغلالها في جمع الأموال لمتابعة حربه على هؤلاء الفقراء أنفسهم. وللغرابة، لم تنجُ جهاتٌ في المعارضة السورية من الوقوع في الأخطاء نفسها، ما عرّضها لانتقادات حادّة وصلت إلى حدّ الإدانة لسلوكها، بسبب التصوير المجحف بحقّ مستحقّي المساعدات. ولهذا، يمكن أن يشكل تكرار هذا الأمر بعد تحرير سورية، وممارسته من جهات حكومية، علامةَ استفهام عن خبرات الكادر الحكومي في التزام القوانين المحلّية والدولية في حماية الخصوصية، من دون الجَوْر على حقيقة رغبتهم ونيّتهم الصادقة في تقديم العون إلى المحتاجين، وضرورة توثيق أعمالهم بطرق تحميهم من أيّ تلاعب أو تزوير.
بناءً على ذلك، ما نشر من صور (بوجوه واضحة) لعمليات توزيع السلال أو الطرود الغذائية والمساعدات، من جهات حكومية، يفتح جروحاً غائرةً في العمق، فلم يعد الفقر وحده يكسر الإنسان، بل أيضاً توثيق صورته المنكسرة أمام الكَرم المشروط بالظهور، بحسن نيّة أو بسوئها. وربّما ما لم يلتفت إليه ناشرو الصور أنهم يقدّمون دليلاً حيّاً على انكسار مجتمعاتنا المحلّية، التي تتغاضى عن وجود الكاميرات لمواجهة الجوع الذي يفتك بهم، أي التخلّي عن الخصوصية التي تحفظها القوانين الدولية التي تكفل احترام حقوق الإنسان وكرامته، فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) ينصّ صراحةً على أنه “لا يجوز تعريض أحد لتدخّل تعسّفي في حياته الخاصّة أو أسرته أو مسكنه أو مراسلاته، ولا لحملاتٍ تمسّ شرفه وسمعته، ولكلّ شخص الحقّ في حماية القانون من مثل هذا التدخّل أو تلك الحملات”. وهذه الحماية القانونية للمستفيدين من المساعدات، ضُمِّنَت حُكماً في القواعد الإرشادية لعمل المنظّمات الإغاثية، ومنها الصليب الأحمر والهلال الأحمر، وعلى الرغم من أنها اشترطت استخدام الصور بموافقات حرّة، إلا أننا جميعاً نعلم أن الموافقة في ظلّ ظروف القهر تتساوى في قوّتها القانونية الضعيفة مع اعترافات المتهمين تحت التعذيب، أي إنّها مبنية على مقايضة رخيصة “الانكسار مقابل اللقمة”، وهو السلوك المدان الذي اعتمده 14 عاماً نظام الأسد المخلوع خلال حربه على السوريين.
من جهة أخرى، حاجة السوريين الحقيقية اليوم، مع أهمية المساعدات الآنية والسريعة، هي معالجة أسباب فقرهم، أي استعادة آليات الحياة الطبيعية ببناء قدراتهم الإنتاجية، الزراعية والصناعية والتجارية، فالمساعدات المشروطة بهدر، ولو جزءاً بسيطاً من خصوصياتهم، لا تتناسب وخطاب الدولة ذات السيادة، إذ السيادة منبعها الشعب، الذي تُصان كرامته حقّاً له، وواجباً على الدولة، فالتوثيق الذي تحتاجه الجهات المانحة لا يحتاج تعميماً عامّاً، ما يُسقط حجّة التوثيق نفسها، والتعاطي مع الصور مصدراً لترويج أعمال الخير متاحٌ عادةً بشروط مهنية، من الموافقات الشخصية إلى منع التعريف بهُويَّات المستفيدين، إلى تمويه الوجوه، إلى استخدام تلك الصور بما يضمن كرامة الناس ويحترم قدرتهم على الصمود في مواجهة الأزمات الكثيرة التي مرّت على السوريين.
لعلّ من المفيد التذكير بأن الصور التي تُنشَر تُعطي إيحاءً غير صحيح بأن المعاناة في سورية حالات فردية تُعالَج بتقديم المعونات المباشرة، بينما الحقيقة أن الرسائل الإعلامية التي نحتاجها من الجهات الإغاثية لإرسالها إلى العالم كلّه هي إبراز معاناة المجتمع ككل، نتيجة سياسات النظام السابق، ونتيجة استمرار العقوبات الغربية على سورية من جهة مقابلة، واستمرارها لا تقل آثاره عن الخراب الذي خلّفه الأسد للسوريين، ما يعوق تنفيذ الحلول الناجعة لمشكلة الفقر في سورية، وهي (سورية) للحقيقة تملك، بقدراتها الذاتية المحلّية والانفتاح العربي عليها، المقومات كلّها لتنهض بمجتمعها، ووضعه ضمن مصاف الدول المزدهرة في حال تمكين الشعب من استثمار كلّ مقدراته وثرواته الوطنية، واستعادة موقع بلده دولةً واحدةً طبيعيةً وآمنةً ومنتجةً.
يستوجب النهوض بالواقع الاقتصادي السوري إعمال برامج تنموية، ودعماً خارجياً يتيح إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية – تعليمية، وشراكات دولية، وذلك كلّه اليوم مقيّد بوجود العقوبات الأميركية الغربية على سورية، التي تحزّ رقاب السوريين، فتسقط شريحة تلو الأخرى صريعةً بسلاح الفقر، وتأخذ تلك الصورة.
العربي الجديد
—————————–
ممنوع من النشر/ سميرة المسالمة
28 أبريل 2025
تثير عبارة “الرقابة على الكتب والمنشورات وتداولها” كثيرًا من المخاوف في الأوساط السورية، ليس فقط لأنهم عاشوا التجربة المرة خلال فترة حكم نظام الأسدين (الأب والابن)، ولكن لأنها تأتي في زمن الانفتاح العالمي على كبرى المكتبات الدولية، والقدرة على قراءة وتحميل وطباعة أي كتاب، مهما ابتعدت مسافات دور النشر، أو تعددت اللغات، أو اختلفت أيديولوجيات الكتاب، ما يعني أن القرار في المحصلة لن يمنع الاطلاع، بقدر ما يمنع من تداول الكتاب “رسميًا”، ولعل القرار غايته (حسب النيات الحسنة في أسباب اتخاذه) نفي المسؤولية عن الدولة، كونها المصدر، أو الناشر، أو الموزع، في ظل غياب وسائل المصادرة الفكرية المفتوحة عبر وسائل التكنولوجيا الحديثة.
تعلم حكومات العالم حقيقة رفع يدها عن الرقابة الفكرية، إلا أنها لا تعجز عن استخدام الوسائل التي تمكنها قدر المستطاع، من الإبقاء على مبدأ المحاسبة حين يكون المحتوى مخالفًا لدساتيرها، هذا ليس فقط في الدول العربية، بل هو وضع عام يفيد باحترام حرية الفكر في مقابل احترام حرية التقاضي، فبلدان كالسويد وألمانيا والولايات المتحدة الأميركية، وهي رموز في الحريات، حرية النشر فيها مكفولة دستوريًا، ولا تحتاج إلى موافقات مسبقة، إلا أن ذلك لا يحمي كتابها وناشريها من المساءلة أمام القضاء حين يكون المحتوى عابثًا بالأمن المجتمعي ومحرضًا على العنف والكراهية، أو ينشر معلومات كاذبة عن أحداث حقيقية، أو يمارس تشهيرًا وإساءةً لحريات شخصية لأشخاص موضوع الكتابة، أي أن الرقابة بمفهومها الاستباقي غير موجودة إلا في الأنظمة الأبوية التي تمارس الحظر المعلوماتي حماية لمجتمعاتها، على رغم غياب قدرتها الحالية على فعل ذلك.
سادت في المجتمعات عبارة “كل ممنوع مرغوب”، ما سهل نشر دعايات مضللة احيانًا عن منع يطاول رواية، أو كتابًا، في مختلف المجالات، وبخاصة عندما تكون عبارة المنع مواربة، قادرة على فتح آفاق واسعة لخيال الباحث عن المتعة، أو الغرابة في الطروحات المقيدة. هذا الواقع دفع المجتمعات إلى البحث عن وسائل أكثر نجاعة في عملية التحذير من المحتوى غير المناسب، مثل أن يمارس المجتمع نفسه رقابته الخاصة على نوع الكتب والمعلومات المتداولة، من خلال التوعية بأضرار المعلومات المضللة، أو المحرضة. فقد كانت المنتديات الثقافية، والبرامج الثقافية والصفحات النقدية وسائل رقابة مجتمعية، أكثر جدوى من القرارات الرسمية، حيث يمكنها تحشيد رأي عام حول قضايا مثارة، ومنها منع نشر كتب من دون تصنيف الجمهور الموجهة له عمريًا، أو تحديد نوع المحتوى على وسائط التداول، سواء كانت إلكترونية، أو فيزيائية.
صدور أي قرار يتعلق بالرقابة على المنشورات يمكن أن يكون عامل طرد لكثير من الكتاب، الذين يأملون بعهد جديد تصان فيه الحريات الفكرية والأدبية، وتشجع دور النشر على استعادة نشاطاتها داخل سورية، بعدما تسببت القرارات السابقة للنظام الأسدي بهجرة عدد منها، وخاصة الجادة، وذات السمعة والمصداقية العالية، إلى دول مجاورة، نتيجة التضييق الذي مارسته أجهزة الرقابة، ما نتج عنه إضعاف البيئة الثقافية السورية، وخسارة لاستثمارات ضخمة في المجال الثقافي والفني.
هذه المخاوف هي ما ترجمت خلال الأيام الماضية على مواقع التواصل الاجتماعي بنقد واضح لقرار الرقابة على المطبوعات، لأنه جاء في وقت مبكر من تشكيل حكومة انتقالية بعد انتصار الثورة، وتحرر البلاد من منظومة الأمن القمعية، ما دفع كثيرًا من الكتاب والمهتمين إلى التساؤل عن جدوى التضييق في زمن الانفتاح على العالم، وتقنياته التي تخطت حواجز الحدود، وحولت كل مواطن يستخدم وسائل التكنولوجيا في أي بلد إلى ناشر وصانع محتوى، وقائد رأي، سواء بمعناه الإيجابي، أو السلبي.
ربما ما نحتاجه في سورية ليس الرقابة على المطبوعات وتداولها، وحسنًا فعل وزير الإعلام بإعادة توضيح قرار الرقابة على المطبوعات، أنه بغرض التنظيم، وترتيب ما أفسده زمن النظام البائد، لأن آلية التهرب من أي رقابة اليوم سهلة المنال، في ظل أن واقع العمل الإلكتروني متاح للجميع، والتي باتت تقض بانفلاتها مضاجع الجميع، وما يستدعي التفكير به جديًا هو قوانين تجرم استنهاض الفتن النائمة، والاعتداء على حرية وحياة الناس وكرامتهم، على أي وسيلة نشر مطبوعة، أو إلكترونية، أو كما هو معمول فيه في عدد من دول العالم، مدونة سلوك يلتزم فيها كل كاتب، أو مبدع، أو مدع، أنه كذلك، في أي مجال كان، أو في أي حقل معرفي، أو فني، مرئي، أو مسموع، أو مكتوب، أو مختلط، حيث العلم اليوم، يقدم لنا الكثير من أبواب المعرفة التي قد تصبح قوت الأجيال الحالية والقادمة، ونكتشف معها أن قرارات المنع حبر على ورق، وأن ما نحتاجه في فصل الأمور، قضاء عادل، وقراءة جديدة في التعامل الحقوقي والمجتمعي مع رواد الثقافة والعلم.
*كاتبة سورية.
ضفة ثالثة
————————–
نحو إعلام سوري أهلي ليبرالي/ بشير البكر
الإثنين 2025/04/28
ليس بالاقتصاد وحده تبنى البلدان، بل بالإعلام أيضاً. الإعلام قيمة مضافة لوزن أي بلد مهما بلغ من التطور، وقوة ناعمة، تلعب دوراً مهماً على مستوى تحصين البلد، وتشكل رأس مال فعلياً للتنمية الإنسانية، وصناعة الشخصية الوطنية، وتقديم الصورة الإيجابية، التي تعد عامل جذب أساسي. وأمامنا تجارب إعلامية متميزة، عربية وغير عربية، تجاوز تأثيرها مفعول العمل الدبلوماسي، والوزن الاقتصادي.
في سوريا ثروة إعلامية كبيرة، نمت وتطورت منذ تأسيس المملكة السورية العام 1918. وهناك تجارب عديدة، تشكل علامات على غنى وعافية وحيوية المجتمع السوري، ودور نخبه السياسية والاقتصادية والثقافية في تشكيل المنطقة والعالم العربي. وقد كانت تصدر في سوريا 45 صحيفة، قبل وصول حزب البعث إلى السلطة وحكم سوريا بقانون الطوارئ سيء الصيت الصادر العام 1963. ورغم ذلك لم يتوقف أهل هذه المهنة عن الكلام وصناعة التجارب، التي انتقلت في معظمها إلى الخارج، وخصوصاً إلى لبنان، الذي شكل رئة للصحافة السورية وللصحافيين السوريين، طيلة العقود الستة الماضية. ومنه أصدر سوريون صحفاً، وفي صحافته عمل واكتسب الكثيرون خبرات مهنية.
نحن اليوم في بداية عهد جديد، عنوانه الحرية والخلاص والعزيمة على إعادة بناء البلد، وسيكون فيه للصحافة الأهلية مكانها، كي تمارس دورها في تحفيز الرأي العام، وإثارة الحوار حول القضايا الأساسية، والإضاءة بعمق على قضايانا السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والرياضية. لا يكفي الإعلام الرسمي وحده للنهوض بمهمة مواكبة التجربة الجديدة، وستكون هناك مساحة شاغرة أمام الإعلام الأهلي الحر، وهذا لا يمكن أن يرى النور من دون اللقاء الواعي بين الخبرات الإعلامية السورية المستقلة، ورأس المال الوطني، الذي يطمح للاستثمار في سوريا الجديدة.
هناك كفاءات صحافية وازنة، تكونت في الداخل والخارج، لديها الاستعداد التام لتوظيف خبراتها، من أجل إطلاق أكثر من مشروع إعلامي نهضوي يخدم البلد، وينمي الثروة الإعلامية. وبالتالي هناك فرص كثيرة لإصدار الصحف وإطلاق المواقع الإلكترونية والقنوات التلفزيونية، وفي الأحوال كافة لا يمكن لجهة واحدة، مهما بلغت امكاناتها القيام بذلك منفردة، وعلى هذا تصبح الحاجة ماسة إلى شراكات متعددة بين شتى الخبرات الإعلامية والإمكانات المادية، بما في ذلك المطابع.
يشير خطاب المسؤولين الجدد إلى أنهم سيعتمدون نموذجًا يقوم على تدخل محدود للدولة، وترك مساحة كبيرة لرأس المالي الأهلي كي يشارك في البناء. ومن المفترض ألا يقتصر هذا التوجه على تحرير الاقتصاد، وتقييد الإعلام والثقافة. وحتى لا تبدو المعادلة عرجاء، يجب على الدولة أن تفتح المجال أمام المبادرات الأهلية لإصدار الصحف، وتأسيس قنوات التلفزة المستقلة، ودور النشر، واستيراد المطابع.
نطمح إلى إعلام يرقى إلى ما تعد به المرحلة من آمال وتطلعات، يحمل أحلام وأشواق السوريين التواقين إلى سوريا جديدة، تتسع لجميع أبنائها، وتفتح المجال أمام كل صاحب خبرة ورأي ورأس مال كي يشارك من موقعه في صناعة المستقبل، الذي يليق بهذا البلد الذي عانى التهميش، وكبت الأنفاس، قبل أن يعود إلى أهله، بعدما خطفته عائلة الأسد لأكثر من نصف قرن، ودمّرت رأس ماله الرمزي، الذي تشكل بفضل ما تتمتع به الشخصية السورية من انفتاح، وتسامح، وقابلية للحوار، واحترام للاختلاف، والعمل، والبناء.
يريد السوريون إعلاماً جديداً ينقلهم إلى العصر، ويضعهم في مكانهم اللائق كشعب متقدم اجتماعياً وثقافياً. وفي الوقت ذاته يمارس دوره في مواكبة التجربة الجديدة من موقعه المراقب والناقد بحرص. وما لم يبادر أهل المهنة والمال من السوريين، إلى صناعة هذا الإعلام، فلن يساعد أحد في ذلك، ومن غير المستبعد أن يتقدم غيرهم إلى لعب هذا الدور، في ظل تنافس مفتوح، يلعب فيه، دورا أساسيا، رأس المال الخارجي الطامح إلى التأثير سياسياً واقتصادياً في خيارات سوريا الجديدة.
نشوء إعلام أهلي قوي، مصلحة عامة، حتى لو لم تكن الدولة على وفاق مع الخط التحريري لوسيلة الإعلام هذه أو تلك. الحكم الفصل هو المهنية والموضوعية، وما يهم في النتيجة هو المردود الذي تحققه الصحيفة أو القناة التلفزيونية. وهناك أمثلة في المحيط العربي، وغير العربي، عن تمويل بعض الدول لوسائل إعلام، لا تتفق مع مواقفها السياسية. وسر النجاح هو السقف العالي من حرية النقد، التي تتمتع بها هذه الوسائل، ولدينا مثال مهم هو صحيفة “لوموند” الفرنسية التي تأسست، بطلب من الجنرال ديغول، العام 1944 بعد خروج الجيش الألماني من باريس خلال الحرب العالمية الثانية. وقد اشترط أول رئيس تحرير، هوبير بيوف ميرى، استقلال الصحيفة كشرط لتوليه المشروع الذي كان يتلقى التمويل من الدولة، وينتقد سياساتها في الوقت ذاته، ولكنه كان أفضل معبّر عن ديموقراطيتها، وتعدديتها السياسية، ومرآة لنفسها، يراها من خلاله العالم.
المدن
————————————–
دمشق… إسلام المرح أم إسلام الأحزان؟/ محمد تركي الربيعو
25 – أبريل – 2025
تبدو مدينة دمشق هذه الأيام وهي تعيش مرحل جديدة في حياتها. فبعد عقود طويلة عانت فيها من الاستبداد على يد نظام الأسد (الأب والابن)، تبدو وكأنها تعود للحياة، وبالأخص بعد سنوات 2011، التي دمرت فيها أجزاء كبيرة من المدينة وريفها المحيط بها، إضافة إلى الإهمال الشديد الذي عرفته أحياؤها، وأهلها، وانتشار الفقر والفساد، وكل شيء سلبي يمكن أن يخطر في البال. ومع تنفس المدينة الحياة مرة أخرى، عاد الحديث عن تاريخ المدينة وأهلها، وما عرفته من محن ومصاعب، قبل أن تنهض مرة أخرى، فقدر المدينة كما يعتقد عدد من مؤرخي وروائيي المدينة هو أن تعيد تجديد نفسها كل قرن تقريبا. فخلال القرن الثامن عشر مثلاً كانت المدينة تعيش مرحلة عدم استقرار، وهي مرحلة استمرت لقرابة أربعة عقود، قبل أن يأتي أسعد باشا ويؤسس لمرحلة عمرانية وحضرية جديدة في داخلها، والشيء ذاته هو ما عرفته المدينة في القرن التاسع عشر، بعد مذابح 1860، فوفقا لكتاب يوجين الأخير «أحداث دمشق: مذبحة 1860 ونهاية العالم العثماني القديم»، فإن هذه المدينة شهدت امتدادات حضرية واقتصادية كبيرة بعيد المذبحة التي وقعت فيها، ما خلق أجواء جديدة للتعايش في داخلها.
وفي سياق تحليله للأسباب التي جعلت المسيحيين الدمشقيين يعودون للدفاع عن المدينة بعد 15 سنة من وقوع المذبحة، يعتقد روغان أن الأمر يعود لسياسات الموظفين العثمانيين، الذين حاولوا التركيز على تجديد عمران المدينة، وعلى تحويلها مركزاً اقتصاديا لكل المدن المشرقية المحيطة بها، ما جعل أهلها ينزعون نحو الاستقرار، بعد عقد تقريبا أكثر من وقوع مجزرة طائفية. وبالتالي فإن تجربة القرن التاسع عشر، التي تبدو قريبة بعض الشيء من ناحية رمزيتها بواقع المدينة في السنوات الأخيرة، تؤكد أن نمو المدينة وعودتها للحياة مرتبط قبل كل شيء بالسياسات الحضرية والاقتصادية والثقافية، التي ستعتمدها الدولة حيالها. وربما هنا هو مربط الفرس كما يقال، فالمدينة صحيح أنها تخلصت من حكم الأسدين، لكنها في المقابل تبدو أيضا قلقة من مستقبلها، في ظل النظام الجديد (ذي الخلفية الإسلامية). فالحديث اليومي عن مدينة دمشق بوصفها مدينة الأمويين، يوحي أحياناً، وكأن هناك أيضاً محاولة لفرض أيديولوجية معينة على المدينة وأهلها، خاصة أن هذه الإحساس يترافق يومياً مع مظاهر عديدة تتعلق بمحاولات هذه الأطراف المنتصرة فرض رؤية دينية معينة، مخالفة لرؤية المدينة، على أهلها، باسم الحشمة والدين، أو القول مثلا إن مدينة دمشق هي مدينة العلماء، أو اختصارها مثلاً بمشهد جوامعها، وكأن أهلها لا يفعلون شيئا سوى تأدية الصلوات والنوم، ولذلك لم يعد خافياً على أحد، أن السلطة الجديدة، ذات الخلفية السلفية في قواعدها، تبدو أحياناً وكأنها تنزع إلى خلق صورة جديدة عن المدينة، بوصفها مدينة تاريخية تعيش نهضة إسلامية جديدة، دون أن تراعي هذه الصورة في المقابل، أن المدينة وإن بقيت محافظة في سماتها العامة، لكن أهلها في المقابل لم يأنسوا ويلتزموا في زواياهم الصوفية فقط، بل عاشوا أيضا حياتهم اليومية، وهي حياة لم تكن تخلو من التسلية والترفيه والغناء والموسيقى.
فالدمشقيون وإن بقوا محافظين في بعض جوانب حياتهم، إلا أنهم في المقابل ظلوا أقرب ما يكون لما يسميه آصف بيات (سوسيولوجيا المرح) في حياتهم اليومية، وهذا ربما ما ميز الإسلام الشامي عموماً، عن أشكال أخرى من التدين الذي عرفته بعض البلدان العربية، وحتى الإسلامية، كما في إيران الخمينية، الذي يصفه بيات أيضا بـ»الإسلام الحزين». وربما هذا التركيز على إسلام المرح، بمعنى المنفتح على الحياة اليومية وتطوراتها، بدلاً من تخيل واعتماد صور معينة من الماضي فقط، واستعادة التأكيد عليه ضروري، رغم كل المشاق التي تعانيها المدينة، كون هذا الإسلام يتيح للمدينة نوعا من الحيوية والانفتاح بين أهلها، وأيضا في محيطها، خاصة في هذه الظروف التي تحتاج فيها سوريا لمزيد من الانفتاح والحوار وعدم التعصب بين طوائفها. كما أن استعادة تاريخ هذا الإسلام اليومي قد يكون بمثابة فرصة جيدة لخلق مخيال جديد لدى قسم كبير من الشباب ذوي الخلفيات الدينية، الذين يعتقدون أن فرض بعض مظاهر التدين كفيلة بنهوض المدن، بينما تكشف لنا مثلاً تجربة المدينة وتاريخها، أن التدين فيها لم يفرض بالقوة، وإنما هو وليد نهضة معرفية وعلمية، ومئات الزوايا والمراكز العلمية، وأنه حتى النهوض السني الذي عرفته المدينة في القرن الثاني عشر ولاحقاً، لم يكن نهوضاً قائما على السيف، بل ولد نتيجة الاهتمام بالعلم والمدارس المعرفية، وليس الفقهية فقط.
استمرار الدين وصونه في المدينة، لم يحدث فقط بسبب فرضه من قبل سلطة ما، بل لأن الدمشقيين ظلوا يتعاملون مع الدين من زاوية رحبة، وبقوا يحاولون أقلمة الدين في كل فترة ليتناسب مع مستجدات العصر، وربما هذا ما جعل المدينة تعيش دعوات إصلاحية للإسلام موازية وعميقة لما كان يجري في القاهرة مع الأفغاني والإمام عبده، إن لم يكن قد سبقها بالأساس، إذ يلاحظ ديفيد كومنز في كتابه عن «الإصلاح الديني السوري»، أن مدينة دمشق قد سبقت الإصلاحيين المصريين على صعيد السؤال الإصلاحي الإسلامي، فمع استقرار الأمير عبد القادر الجزائري في ربوة دمشق عام 1855، أبدى الدمشقيون انفتاحاً على أفكار هذا الرجل، الذي كتب في مقالة بعنوان: «ذكرى العاقل وتنبيه الغافل»، أن على الناس أن يتأكدوا من الحقيقة بممارسة العقل، وليس بقول رأي السلطة. وعاد وأكد لاحقا ضرورة تمسك المتصوفة بالقرآن مهما كانت معرفتهم الخفية عميقة، وأن الصوفي الحق هو الذي يتمسك بدقة أكبر بالقرآن. ترافق هذا التأثر أيضا بظهور طبقة جديدة من العلماء ذات الإرث الاجتماعي التقليدي مثل (عائلة البيطار، عائلة النقشبندية)، أو من خلال عائلات جديدة (القاسمي) وبالأخص مع حفيدها جمال الدين القاسمي، الذي أسس لأول حلقة إصلاحية إسلامية في مدينة دمشق داخل جامع العنابة، قبل أن يقوم العلماء التقليديون بتحريض السلطة على هذه الحلقة، في ما عرف بحادثة المجتهدين عام 1896، مما أجبر القاسمي على اعتماد خطاب أكثر تقليدية. وبالتالي نرى في هذه الحادثة وغيرها من الحوادث، أن الإصلاح الإسلامي والتجديد لا يكون من خلال السلطة بالضرورة، وإنما من خلال فسح المجال للناس للتعبير والنظر في علاقتهم بالدين، وهو ما يصون الدين ومكانته، ويجعله دوما أحد مصادر الأخلاق الأساسية.
ولعلي أختتم كلامي هذا عن الإسلام اليومي في مدينة دمشق بصورتين، نقلتهما لنا بعض كتب التاريخ والمذكرات، التي تظهر لنا صورة الإسلام اليومي الذي عرفته المدينة في الثلاثة القرون الأخيرة. الأولى نراها في رسالة كتبها الشيخ عبد الغني النابلسي في القرن الثامن عشر بعنوان «إيضاح الدلالات في سماع الآلات» بين فيها أن السماع ينقسم إلى ثلاثة أقسام: منه ما هو حرام محض. وهو لأكثر الناس من الشباب ومن غلبت عليهم لذاتهم وشهواتهم وملكهم حب الدنيا. ومنها ما هو مباح. وهو لمن لا حظّ له منه إلا التلذذ بالصوت الحسن واستدعاء السرور والفرح، أو يذكر به غائباً وميتاً فيستثير به حزنه ويستريح بما يسمعه، وهو ما يظهر أن الإسلام الدمشقي بقي إسلاماً منفتحاً على الحياة، ومتطلبات الإنسان المتعلقة بالترويح عن النفس. أما الصورة الثانية فينقلها لنا التاجر الشامي أبو راتب الشلاح عن دمشق الخمسينيات، إذ يذكر أن تجار دمشق اعتادوا بعد صلاة الجمعة أن يحولوا بعض منابر الجوامع إلى منصة للحديث عن أحوال السوق، وتنظيمه والمشاكل التي يعاني منها وكيفية إصلاحها، وبالتالي نرى أن الإسلام الدمشقي ولفترة قريبة كان إسلاما حيويا، يرى في الدين مدخلاً لتهذيب النفس من ناحية، لكن هذا التهذيب والتدين لم يعن بالنسبة لهم انقطاعاً عن الحياة ومباهجها، وإنما انفتاح عليها، وعلى أمور الدنيا والسوق والترفيه، وحتى اللباس والموضة، التي يقول فيها رشيد رضا، «إن الإسلام لم يشرع للناس لباسا خاصا ولم يحظر عليهم زيا من الأزياء، فلكل فرد ولكل صنف أن يلبس ما أحب واختار»، فالتقوى إذن إحساس فرداني في أحد جوانبه، وحتى لو كان مشروعاً جماعياً، فإنه يبقى مرتبطا بالإرادة بالنفس، ودون ذلك يتحول أي مشروع تقوي إلى مشروع سلطوي، ونعوذ بالله من أن تعيش دمشق هذا السيناريو مرة أخرى، لأن في ذلك ضياع للدين والدنيا، ولأرواح مئات الآلاف ممن سعوا للحرية أولاً وأخيراً.
كاتب سوري
القدس العربي
———————————-
“طريق” على ضفة بردى: فنّ التفكّر في الواقع…للشارع والمارّة/ سوزان المحمود
الإثنين 2025/04/28
“إننا هنا، وما زلنا هنا، ومن هنا”، طريق من تسع وعشرين حكاية تشبه قصصنا نحن السوريين …” دمشق نيسان 2025. هكذا كُتِبَ على تذكرة الدخول لمعرض “طريق”.
قدّم فنانون وفنانات معرضاً تفاعلياً، على أرض معرض دمشق الدولي القديم على ضفة نهر بردى، وفي مبنى الوردة الدمشقية الذي توقف العمل عليه، ولم يستكمل منذ سنوات طويلة بسبب الحرب الدائرة في البلاد وبقي ككتلة خرسانية بلا روح. تحاول هنا مجموعة من الفنانين الشباب بعث الحياة في أوصالها، في مساء كل يوم من شهر نيسان الجاري وفي تمام الساعة السادسة يسمح للزوار بدخول أرض المعرض القديمة، ليشاهدوا أعمالاً فنية تعتمد على تفاعل المتلقين معها. من الفنون التفاعلية، كالتجهيز في الفراغ، إلى الرسم على الجدران، وتصاميم لأعمال نحتية مختلفة الخامات، وأعمال أخرى مثل الفيديو آرت، وتعتمد جميعها على خبرة الفنانين في التعامل مع الفضاء العام كفضاء بديل عن الغاليريهات، حيث تقدموا خطوة في اتجاه الشارع والناس العاديين، ليتحدثوا، من خلال فنهم، مع المارة، عن مشاعرهم وأفكارهم تجاه المخاض الذي تعيشه بلادهم…
تسعة وعشرون عمل فني تعتمد على تفاعل المتلقين معها ومع الجمهور، ونجح الفنانون والفنانات في نقل هواجسهم الإنسانية والاجتماعية والسياسية بطرق غير مباشرة للمتلقي اليومي. نتحدث هنا عن عدد من هذه الأعمال، ومع بعض الفنانين المتواجدين لحظة تواجدنا في المعرض.
أحد الأعمال كان تحت عنوان “صندوق العجايب” للفنان حذيفة حورية، صمم على شكل صندوق الدنيا، وهو أول آلة عرض سينمائية في دمشق، يعتمد على تحريك الصور يدوياً، وغالباً ما كانت تعرض فيه صور الحج ومكة وقصص من التراث الشعبي. اليوم صُمم العرض ليحاكي مأساة السوريين التي تكشّف معظمها بعد سقوط النظام الديكتاتوري، إذ تمثل الصور مستويين. مستوى أول ،فيه طريق عام وشخصية الديكتاتور يقف بجانبه غراب كبير المنقار، وشخصيات تعبر الشارع من دون أن تعرف أن تحت هذا الطريق وتحت هذه الأرض هناك معتقلات ضخمة، يُعذَب فيها المعتقلون حتى الموت. فكان هناك مستويان، مستوى الحياة المشوهة في الأعلى مع مشاهد دمار الأبنية ومستوى الاعتقال والقهر والموت في الأسفل.
أيضاً هناك عمل تجهيز في الفراغ بعنوان “رقم” لآلاء حبوس. يصور الأشخاص كأرقام بلا ملامح، وكتب في تعريفه “أبيض 34 50. هو اسمك الجديد، تخلص من ملفك القديم، واحفظه جيداً، سيحالفك الحظ إن حصلت عليه. فهو آخر إثبات لوجودك!” العمل عبارة عن غرفة بيضاء وصور بيضاء بلا ملامح، عليها أرقام فقط مع إضاءة وصوت. هناك أيضاً عمل لأنوار الأخضر بعنوان “أن تشفى”، يبدو كرحم وفيه جنين، وتطلب منك الملاحظة الملصقة على الحائط أن تضغط الكرة الزجاجية فيضيء الطفل، وهو طريقة لتواصل الإنسان مع الطفل الذي بداخله.
وهناك عمل بعنوان “خزان سوري” لماسة الدبس، وهو ملصق بصري يمثل مشهداً من مدينة، مرآة تعكس أرواح ساكنيها وأحلامهم تقول بطاقتها: “هل نحن مختلفون أم نحن مجرد وجوه مختلفة لنفس القصة؟!”. عمل آخر فيه شخصيتان: الأولى بيضاء والثانية سوداء تحمل وردة، يقفان مقابل المرآة، معظم المارة التقط صوراً معهما ومع انعكاس وجهوهم في المرآة. عمل آخر لرالة طرابيشي بعنوان “أغراس”، عبارة عن عدد كبير من السيوف الصغيرة المدلاة من السقف، ويمكن للمشاهد قراءة السيوف كصلبان أو كشواهد قبور أو كسرب طيور، أيضاً التقط المارة صوراً معها وبينها. وهناك عمل آخر لفؤاد خطار بعنوان “ابحار بالعاصفة”، تجهيز نحت ورقي يمثل قارباً كبيراً يحمل قوارب صغيرة، محاطاً بعدد كبير من المِدى أو السكاكين التي تنغرس في جسد الفضاء. يمكن إسقاطها جميعها على الواقع المؤلم الذي تتخبط فيه البلاد بعد سقوط نظام ديكتاتوري.
وهناك عمل لدلع جلنبو عنوانه “تراكم” وهو عبارة عن ثلاث لوحات جدارية كتبت في بطاقته: “نور محمل الحب، يشتعل شوقاً للغفران، يغلق الماضي ليخلق السلام” وهو عبارة عن مواد مختلطة على قماش مع شمع مشتعل.
الفنان إياد ديوب، صاحب عمل بعنوان “معبر” وهو نحت شبكي كُتب في بطاقته: “بلدي هي جرحي المفضل لم… ولن يلتئم. هي معبري. أخوض فيه الواقع لعالم في خيالي! هربنا منها وإليها”. ويقول ديوب لـ”المدن”: “عملي يمثل جبل قاسيون، شبّهت البلد كلها بجبل قاسيون، الكتلة ككل هي كتلة واحدة، يمكننا تشبيهها بقطعة لحم تتفسخ وتنفصل عن بعضها البعض، لكنها تحمل نفسها بنفسها من طريق نقاط متعددة، وضعت الخطافات المعدنية التي تشبه ما يعلق به اللحام الذبيحة، لأنهم يغرسونها في لحم البلد وفي لحمنا في الوقت نفسه، فبقينا معلقين لا نستطيع أن نتركها ونغادر ولا نستطيع أن نبقى ونحب بعضنا البعض كما يجب، أحببت أن أخرج شيئاً إيجابياً منها فخرج معي طير، خياله خيال طير يحلق في السماء، لكنه في الحقيقة طير بجناح واحد لا يستطيع الطيران”. يضيف: “استخدمت هذه المادة المعدنية لأنها تشبه الشباك التي يصطادون بها السمك في البحر والتي تصطاد عادة عدداً كبيراً من الأسماك في وقت واحد وفي وقت قصير، كما يحدث معنا في هذه البلد، ربما برضانا وربما لا”.
ويختم ديوب: “لكن هناك حبّاً أكيداً وهناك علاقة مريضة وغير صحية بيننا وبين البلد، علاقة عاطفية غير منضبطة، حاولت أن أضع كل التكوين في إطار أبيض نظيف ومرتب حتى اضبط العمل لكنني لم أتمكن من ذلك وفقدت السيطرة على المنحوتة التي عربشت على الحائط وصنعت مدينة أخرى حتى خيالها صنع قاسيون آخر ومدينة أخرى”.
وتقول الفنانة آية زبيدة لـ”المدن”: “اسم عملي “استكان بخفة”، بمعنى أن الإنسان يستسلم أو يخضع أو يُجبر بخفة على شيء لا يريده، ولا يريد مواجهته، أنا اخترت ثلاثة مشاعر من أصعب المشاعر التي يمكن للإنسان أن يتقبلها في حياته، ومنها الإحباط والتعلق والفقدان، كما يحدث عندما نفقد شيئاً أو نفقد أشخاصاً أو نتعلق بذكريات لم نستطع استرجاعها، والإحباط يولد اكتئاباً. من خلال هذا العمل أحاول أن أجعل الناس تواجه مشاعرها هذه، وتتقبلها رويداً رويداً وتعطيها هذا الوقت حتى تسمح للجوهرة التي بداخلها أن تخرج وتضيء وتجعل هذه المشاعر الحزينة تتلاشى في المكان مثل الضوء الذي يأتي على قطع الكريستال فتعكسه وتشتته شيئا فشيئاً”.
وتضيف زبيدة: “هذه الكريستالة كان شكلها عشوائياً لأن كل إنسان داخله جوهرة تختلف عن الجوهرة داخل انسان آخر وكانت مضغوطة وقاسية وأحجارها من أحجام مختلفة، نحن تعرضنا في هذه الحياة لمشاعر قاسية جداً وتجارب كثيرة لم نستطع تحملها وصبرنا وبعدما تقبلناها انفجرنا وأضأنا”.
المدن
———————————–
الدفاع السورية تدعو المنشقين للعودة.. هل تأخر القرار؟
الأحد 2025/04/27
أعلنت وزارة الدفاع السورية، اليوم الأحد، عن البدء باستقبال طلبات الأفراد وصف الضباط المنشقين عن النظام السابق، الراغبين بالعودة إلى العمل ضمن صفوف الوزارة، وذلك تمهيداً لاتخاذ الإجراءات التنظيمية اللازمة لإعادتهم إلى الخدمة العسكرية.
خطوة جيدة ولكن
وفي تعليقه على هذه الخطوة، قال معاون وزير الداخلية في حكومة النظام السابق، اللواء محمد الزعبي، في تصريح لـ”المدن”، إن “الاستفادة من الخبرات السابقة لبناء المؤسسة العسكرية خطوة جيدة، ولكن حبذا لو شملت الضباط ممن لم تتلوث أيديهم بالدم السوري، كونهم أكثر خبرة وكفاءة ولديهم رصيد كبير من العلوم العسكرية”.
وفي هذا السياق، قال العميد المنشق أحمد رحال في تصريح خاص لـ”المدن” إن “قرار ضم المنشقين إلى وزارة الدفاع جاء متأخراً”، موضحاً أن “الحكومة الحالية فضّلت الاعتماد على الأشخاص الذين تثق بهم في المرحلة الأولى، واعتقدت أن الإعدادات والتدريبات التي يمتلكها المقاتلون في صفوف الفصائل التي انضمت إلى وزارة الدفاع تكفي لتغطية مساحة سوريا، لكنها اصطدمت بالواقع مع تنامي التحديات الأمنية والعسكرية في الساحل ومختلف المحافظات السورية”.
وأكد رحال أن “لجنة من الضباط المنشقين، يقدَّر عددهم بـ6 آلاف و400 ضابط منشق، وصلت إلى دمشق بعد تحرير سوريا بأيام وطلبت لقاء القيادة، لكنها لم تلتقِ أحداً”.
واستهجن رحال أن “الرئيس أحمد الشرع التقى حينها أعداداً كبيرة من الزوار، بما فيهم مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي، بينما رفض استقبال الضباط المنشقين والتواصل معهم”، مشيراً إلى أن “لقاء حكومة تصريف الأعمال مع رياض الأسعد لم يتم الإعلان عنه إلا بعد أن قام الأسعد بإحراج الحكومة والإعلان عن اللقاء بنفسه، مما أجبر الحكومة على نشر صور اللقاء والتعريف به كعقيد منشق، متجاهلة أنه قائد ومؤسس الجيش الحر”.
فرص الضباط العائدين
وأضاف رحال، وهو أقدم ضابط بحري منشق، أن “الضباط المنشقين كانوا يأملون أن تستفيد سوريا من خبراتهم في إعادة هيكلة وزارة الدفاع، بدلاً من الاعتماد على العناصر الأجنبية أو على عناصر تفتقر إلى الخبرات المناسبة للعمل في جيش نظامي”.
مشاكل الفجوة الزمنية
ولفت رحال إلى أن “هناك مشاكل تقنية تواجه دعوات عودة الأفراد وصف الضباط المنشقين، أبرزها الفجوة الزمنية”، موضحاً أن “الجندي المنشق الذي كان عمره قبل 14 عاماً 18 عاماً، أصبح اليوم يتجاوز الثلاثين من عمره، وبالتالي لم يعد قادراً على تأدية المهام المطلوبة من المجند العادي”، مضيفاً أن “هذه الفرضية تنسحب أيضاً على صف الضباط وحتى الضباط المنشقين”.
خطوة إعادة الهيكلة
يأتي هذا الإعلان استكمالاً للخطوات التي بدأتها الوزارة عقب سقوط نظام بشار الأسد، حيث كانت قد أعلنت في 16 آذار/مارس الماضي عن العمل على إعادة جميع المنشقين إلى الجيش، كل بحسب خبرته وكفاءته.
وقال رئيس شؤون الضباط في وزارة الدفاع السورية، العميد محمد منصور، في تصريحات نقلتها وكالة الأنباء الرسمية (سانا)، إن “الجيش السوري سيبقى عماد السيادة الوطنية، واستعادة الكفاءات والخبرات العسكرية التي انشقت وانحازت إلى الشعب في مواجهة نظام الأسد البائد، والتي خاضت معارك الدفاع عن الوطن، أمرٌ ضروري لتعزيز قدرات جيشنا المستقبلي”.
وأضاف أن الضباط العائدين سيشكلون ركيزة أساسية لبناء جيش سوريا الجديد، مؤكداً أن الوزارة تضع آليات تضمن الاستفادة المثلى من خبراتهم، وستعاملهم وفق كفاءاتهم وخبراتهم، مع منحهم المكانة التي يستحقونها، مشيراً إلى أن “تكريم هؤلاء واجب وطني”.
جهود بناء الجيش
وكانت وزارة الدفاع قد أعلنت في وقت سابق عن “عفو عام عن جميع العسكريين المجندين تحت الخدمة الإلزامية”، مؤكدة توفير الأمان لهم ومنع التعدي عليهم.
وفي السياق نفسه، أعلنت وزارة الداخلية السورية، في 27 كانون الأول/ديسمبر 2024، عن بدء استقبال طلبات العناصر المنشقين عن النظام البائد بين عامي 2011 و2021، الراغبين بالعودة إلى العمل ضمن كوادر الوزارة.
وجاء في نص البيان الذي نشرته وزارة الداخلية عبر صفحتها الرسمية على “فيسبوك”، أن “الفرصة متاحة لكل من انشق سابقاً عن الأجهزة الأمنية أو الشرطية للعودة والمشاركة في إعادة بناء مؤسسات الدولة الجديدة”.
——————————-
زيادة الرسوم الجمركية تزيد من تدهور معيشة السوريين/ هاديا منصور
تعزيز الإنتاج المحلي وتقليص العجز المالي دون مراعاة فقر الناس
28-04-2025
في الأحياء الشعبية المزدحمة والأرياف المنسية، تتكرر الحكاية بصيغ مختلفة، موائد فارغة، أدوية مفقودة، وأحلام مؤجلة، لكن هذه المعاناة التي يعيشها السوريون منذ سنوات لم تعد ثابتة، بل تفاقمت مؤخراً مع موجة ارتفاع أسعار غير مسبوقة أعقبت صدور سلسلة من القرارات الجمركية الجديدة في أوائل العام 2025 الحالي، ما عمَّقَ الفقر المزمن وزادَ من هشاشة حياة ملايين السوريين.
صدرت في 11 من كانون الثاني (يناير) نشرة الرسوم الجمركية الجديدة الموحدة التي تسري على جميع الأمانات الجمركية في المنافذ البرية والبحرية والمطارات، وشمل القرار زيادة الرسوم الجمركية على عشرات السلع المستوردة، بما فيها مواد غذائية أساسية كالسكر والأرز والزيوت النباتية، إضافة إلى مواد أولية صناعية وأدوية وقطع تبديل للسيارات والأجهزة الإلكترونية.
وجاءت الإجراءات الضريبية والجمركية الأخيرة التي اتخذتها الحكومة السورية الجديدة لتُثير موجة من الاستياء الشعبي في مختلف المحافظات، في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها سوريا منذ سنوات. هذه القرارات، التي تهدف إلى زيادة الإيرادات الحكومية وتقليص العجز المالي، جاءت في وقت يعاني فيه غالبية السوريين من الفقر المدقع وندرة مصادر الدخل، مما زاد من ظروفهم الحياتية القاسية وأثّرَ سلباً على قدرتهم الشرائية وحياتهم اليومية.
ودافعت الحكومة السورية الانتقالية عن القرار باعتباره «خطوة لتعزيز الإنتاج المحلي وتقليص العجز المالي». وقال مازن علوش، مدير العلاقات في الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية لوكالة سانا في وقت سابق، إن «الرسوم الجديدة خفّضت الرسوم المعمول بها سابقاً بنسبة تتراوح بين 50 و60 بالمئة على المواد الأولية»، معتبراً أن ذلك سينعكس إيجاباً على السوق والمواطنين.
تزامنت القرارات الجمركية مع تجميد الرواتب في القطاع العام، الذي لم يشهد أي زيادات تُواكب التضخم، بالإضافة إلى تراجع المساعدات الإنسانية بسبب خفض التمويل من قبل بعض المانحين الدوليين، وموجة الجفاف التي خفّضت الإنتاج الزراعي إلى النصف في بعض المناطق.
وقال برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إن تسعة من كل عشرة أشخاص في سوريا يعيشون في فقر، وإن واحداً من كل أربعة أشخاص عاطلٌ عن العمل، ولا يمكن لاقتصاد البلاد أن يستعيد مستواه كما كان عام 2011 قبل مضي عقد من الزمان في ظل نمو قوي.
وتُظهِر بيانات برنامج الأغذية العالمي (WFP) أن عدد السوريين المحتاجين للمساعدات الغذائية تجاوز 13.5 مليوناً مطلع 2025، مقارنة بـ12.1 مليون في العام السابق، بينما انخفضت قدرة البرنامج على تغطية الاحتياجات بنسبة 30 بالمئة بسبب نقص التمويل الدولي. ففي عهد نظام الأسد كانت الرسوم الجمركية تُقيّدُ عمليات الاستيراد والتصدير وتدفع العديد من التجار للاعتماد على عمليات تهريب البضائع، وسبق أن اشتكى تجارٌ من القيود المفروضة على الاستيراد، والرسوم الجمركية والضرائب المرتفعة التي أثرت على المنافسة في الأسواق الخارجية، بالإضافة إلى البطء في إنجاز المعاملات وعمليات التحكيم الجمركي.
وفي شمال غرب البلاد كانت إدارة معبر باب الهوى (قبل توحيد إدارة المنافذ في سوريا) تفرض رسوماً منخفضة على المستوردات والجمارك، مقارنة بتلك التي يفرضها النظام السابق على المعابر التي كان يسيطر عليها، وفي نهاية عام 2024، أعلنت حكومة دمشق المؤقتة إحداث هيئة عامة للمنافذ البرية والبحرية، وإلحاق الجمارك والمراكز الحدودية ومؤسسة المناطق الحرة بها.
أمام بقايا متجره الصغير في حي الفردوس بحلب، حيث كان ذات يوم يبيع المواد الغذائية، يقف الأربعيني يوسف الجلوم لا يملك سوى ذكريات عن أيام مضت. «نباتيون رغماً عنا»، يقول بنبرة يأس، ويضيف: «عائلتي المكونة من عشرة أفراد لم تذق طعم اللحم منذ شهور، حتى الدجاج أصبح رفاهية».
وفي مشهد آخر في دمشق، تكافح سميرة البكري، الأم لطفلة مصابة بالانسداد الرئوي المزمن، من أجل توفير الدواء لابنتها. «الدواء أصبح رفاهية»، تقول والدموع تملأ عينيها، وتضيف: «علبة الدواء التي كانت تكلفتها 50 ألف ليرة، أصبحت اليوم 180 ألفاً. كيف أختار بين علاج ابنتي وطعام الشهر؟». اضطرت سميرة إلى تقليل جرعات الدواء، مما زاد من تدهور صحة ابنتها؛ تشكو قائلة: «القرارات الجمركية قد تُصلِح ميزانية الدولة، لكنها تدمر حياة الملايين، نحن بحاجة إلى سياسات ترحم معاناتنا».
تختصر كلمات سميرة المشهد العام، انحدار اقتصادي حاد، ومعاناة إنسانية تتجذر يوماً بعد يوم، وبينما تسعى الحكومة إلى تقليص العجز المالي، فإن عجز المواطن عن تأمين قوت يومه بات هو الأشد وضوحاً.
أما رائد البكور، وهو ممرضٌ كان يخطط للزواج، وجد حلمه يتحول إلى سراب: «إيجار شقة صغيرة يساوي ستة رواتب، وسعر الثلاجة والغسالة يعادل راتب سنتين»، ويضيف بيأس: «لم أعد قادراً على الزواج، اضطررت لتأجيله إلى أجل غير مُسمّى». حال رائد يعكس وضع شريحة واسعة من الشباب السوريين الذين لم تعد لديهم القدرة على تحقيق أي استقرار اجتماعي، في الوقت الذي شهدت فيه الأسعار ارتفاعاً كبيراً وبقي فيه متوسط الرواتب في حدود 350 ألف ليرة (أقل من 40 دولاراً).
وجاءت القرارات الجمركية الأخيرة ثقيلة الوطأة على مروة عبد الرحمن، وهي أم لخمسة أطفال من ريف دمشق، التي تقول: «لم أَعُد أستطيع شراء حتى الأرز والزيت بكميات كافية لعائلتي. الأسعار ارتفعت بشكل جنوني، ودخلي كعاملة نظافة في إحدى المشافي العامة لم يطرأ عليه أي زيادة. أعتمدُ على المساعدات الإنسانية التي تصل بشكل متقطع». يعاني أطفال مروة الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و14 عاماً، من سوء التغذية، بينما لا تستطيع الأم شراء الأدوية أو المكملات الغذائية بسبب ارتفاع أسعارها، وتقول: «كل يوم نقترب أكثر من الهاوية، لا أعرف كيف سنستمر في العيش بهذه الظروف». وأردفت: «أمام هذه التحديات، تتضاءل قدرة السوريين على مواجهة الأيام القادمة، ولا شيء يشير إلى تحسن قريب، فلا زيادة مرتقبة في الأجور، ولا دعم مباشر للمواد الأساسية، ولا حتى خطة حكومية واضحة لمعالجة الفقر المتفاقم».
لم تقتصر تأثيرات القرارات الجمركية على الجانب الاقتصادي فقط، بل امتدت إلى الجانب الاجتماعي، حيث تفاقمت مشكلة الفقر وازدادت معاناة الأسر محدودة الدخل، والعديد من العائلات اضطرت إلى تغيير عاداتها الشرائية، والاعتماد على بدائل أقل جودة أو التخلي عن بعض السلع تماماً.
كما أدّت هذه الإجراءات إلى نُدرة بعض المنتجات في الأسواق، حيث أصبحت تكلفة استيرادها مرتفعة للغاية بالنسبة للتجار. التاجر علي عز الدين، الذي يدير محلاً لبيع وتجارة المواد الغذائية في حلب، يقول: «بعض المنتجات لم تعد متوفرة في السوق لأن تكلفة استيرادها أصبحت أعلى من سعر بيعها، الناس لا يستطيعون شراءها، والتجار لا يستطيعون تَحمّل خسائرها». ويضيف أن بعض السلع لم تعد تدخل السوق: «الأرز التايلندي، السكر الأبيض، الزيوت، لم يعد بإمكاننا تأمينها بسبب ارتفاع الكلفة، وغياب الاستقرار في الإجراءات الجمركية». وأوضح أنه قبل تنفيذ القرارات الجمركية الجديدة، كانت الرسوم المفروضة على السلع المستوردة أقل نسبياً، مما كان يسمح بوجود تنوع أكبر في السلع المعروضة في الأسواق بأسعار معقولة نسبياً، لكن الحكومة كانت تعاني من عجز كبير في الإيرادات، ما دفعها إلى اتخاذ إجراءات أكثر صرامة لزيادة الدخل.
وبالمقارنة مع القرارات القديمة، يرى عز الدين أن القرارات الجديدة أكثر تَشدُّداً وتأثيراً على حياة المواطنين، خاصة في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها البلاد، فبينما كانت الزيادات السابقة في الرسوم الجمركية محدودة وتستهدف سلعاً غير أساسية، فإن الزيادات الأخيرة طالت سلعاً أساسية لا غنى عنها للمواطنين.
وبعد امتناع الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية عن الإدلاء بأي تصريح، أرجعَ الخبير الاقتصادي أحمد العلي قرارات الحكومة السورية الجديدة للسعي إلى تحقيق عدة أهداف، أهمها تقليص العجز الجمركي، ذلك أن الحكومة تعاني من عجز كبير في الميزانية بسبب انخفاض الإيرادات وارتفاع النفقات، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة. ذلك إضافة إلى دعم الإنتاج المحلي من خلال جعل السلع المستوردة أكثر تكلفة، حيث تأمل الحكومة تشجيع المواطنين على شراء المنتجات المحلية، ما قد يعزز الصناعة الوطنية. وأشار العلي إلى رغبة الحكومة في تعزيز إيراداتها، في ظل انخفاض قيمة العملة المحلية وتراجع الدخل القومي، من خلال زيادة الرسوم الجمركية ودعم الإنتاج المحلي في ظل العقوبات الاقتصادية الدولية التي تفرضها بعض الدول على سوريا.
وأوضح العلي للجمهورية.نت أن القرارات الجمركية ربما تستهدف الأغنياء، غير أن الأكثر تَضرُّراً هم الفقراء والطبقة المتوسطة التي انهارت تماماً، «فالزيادات تزيد التضخم، مما يفقر من لديهم دخل ثابت. الموظف الذي كان راتبه بالكاد يكفيه، أصبح عاجزاً عن تلبية أبسط الاحتياجات».
صحيح أن الفقر ليس ظاهرة جديدة في سوريا، لكن الجديد هو انتقال شرائح كانت تُصنَّف ضمن الطبقة المتوسطة إلى حالة العجز التام عن تلبية حاجاتها الأساسية، حيث تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن نحو 90 بالمئة من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، وأن أكثر من ربع السكان يعيشون في فقر مدقع، أي أقل من 1.25 دولار في اليوم، فيما يعاني نحو 70 بالمئة من انعدام الأمن الغذائي بدرجات متفاوتة. لكن الاقتصادي أحمد العلي يرى أن «الفقر اليوم ليس نفسه فقر الأمس»، ويضيف في حديثه للجمهورية.نت: «ما كان يعد فقراً قبل ثلاث سنوات، أصبح يعتبر وضعاً معيشياً جيداً اليوم. دخل الناس ثابت، والأسعار تتضاعف».
إلى جانب الضرائب الجمركية، يشير العلي إلى عوامل أخرى ساهمت في هذا التدهور، مثل عدم تعديل الرواتب منذ أكثر من تسعة أشهر، وغياب أي زيادات على الأجور رغم ارتفاع التضخم، كما أن موجة الجفاف التي ضربت مناطق واسعة من سوريا هي الأسوأ منذ عام 1970، ما أدّى إلى تفاقم سوء الأوضاع خاصة في المناطق الزراعية التي كانت تعتمد على إنتاج محاصيل مثل القمح والشعير. ولفتَ العلي إلى أن ما يحتاجه السوريون اليوم هو سياسات اقتصادية أكثر توازناً تأخذ في الاعتبار ظروفهم المعيشية الصعبة، وتعمل على دعم الإنتاج المحلي دون أن تثقل كاهل المواطنين برسوم جمركية تزيد من معاناتهم، ويرى أن هذه الإجراءات إذا لم تُقرَن بسياسات تعويضية واضحة كالدعم المباشر، أو زيادة الأجور، أو حتى إلغاء الرسوم على السلع الأساسية، فإنها ستظل عبئاً يثقل كاهل المواطن الضعيف.
وأدت الزيادة في الرسوم الجمركية إلى ارتفاع كبير في أسعار السلع الأساسية، مما زاد من معاناة السوريين الذين يعيش أغلبهم تحت خط الفقر. وفقاً لتجّار تحدثوا للجمهورية.نت، فإن أسعار المواد الغذائية مثل الأرز والسكر ارتفعت بنسبة تصل إلى 30 بالمئة، في حين شهدت الأدوية ومواد البناء زيادات مماثلة.
وأبرز ملامح التعرفات الجمركية الجديدة كانت زيادات على السلع الكمالية، كالأجهزة الإلكترونية التي ارتفعت الرسوم الجمركية عليها بنسبة تتراوح بين 50 بالمئة و80 بالمئة، وتشمل الهواتف المحمولة والشاشات وأجهزة الكمبيوتر المحمولة. كذلك ازدادت التعرفات الجمركية على السيارات المستوردة بنسب تصل إلى 100 بالمئة على بعض الفئات، لا سيما السيارات الحديثة أو ذات المحركات الكبيرة، وفُرضت زيادات تصل إلى 60 بالمئة على الملابس الجاهزة المستوردة والعطور ومواد التجميل.
وشهدت السلع شبه الأساسية زيادات أيضاً، حيث ارتفعت الرسوم على الأجبان المستوردة والشوكولا والمعلبات بنسبة تراوحت بين 20 بالمئة و35 بالمئة. ورغم وعود الحكومة بدعم الصناعة، شملت الزيادات الجمركية بعض المواد الصناعية الأولية غير المُنتَجة محلياً، ما أثار انتقادات من الصناعيين حين سجلت بعض المواد زيادات جمركية بنسبة 15-25 بالمئة.
وبعد توجيه انتقادات للحكومة بسبب ما وصفه البعض بـ«القرارات العشوائية» التي لم تراعي القدرة الشرائية للمواطنين، وطرح التساؤلات حول وجود دراسات جدوى قبل فرض هذه الرسوم، جرت مراجعة جديدة في آذار (مارس) 2025 شملت تعديل بعض البنود بناء على شكاوى وردود فعل من التجّار والمواطنين، وتم إصدار إعفاءات أو تثبيت رسوم لبعض السلع الأساسية، كالقمح والأرز والسكر والزيت. كما استثنت الحكومة الأدوية من أي تعديل جمركي، لكن مواد غذائية ومعدات طبية محددة ما تزال تباع بأسعار مرتفعة.
هذا الارتفاع في الأسعار أدى إلى تراجع كبير في القدرة الشرائية للمواطنين، وأصبحت العديد من الأسر تعتمد على الحد الأدنى من السلع الأساسية، بل إن بعضها اضطر إلى الاستغناء عن بعض المواد الغذائية أو الأدوية بسبب ارتفاع أسعارها. وفي النهاية، تُظهِرُ الإجراءات الجمركية الأخيرة للحكومة السورية التحديات الكبيرة التي تواجهها في إدارة الأزمة الاقتصادية، وفي حين أن هذه الإجراءات قد تكون ضرورية لتعزيز الإيرادات الحكومية، إلا أن تأثيراتها السلبية على حياة المواطنين، خاصة الفقراء، تظل كبيرة ومؤلمة.
موقع الجمهورية
———————————
المستشرق السوري حين يزور بلده!/ أحمد جاسم الحسين
2025.04.28
من القار، اليوم، في حقل الدراسات التي تعنى بالاستشراق أنه لم ينته، بل تغيرت مفاهيمه وأدواته وطرائقه لأن الظرف التاريخي الذي تشكل فيه، والهدف منه قد تغيرا في ظل ظروف رقمية باتت تؤمِّن كثيراً من المعلومات التي كان يقوم بها. بل إن مصطلح الاستشراق لم يعد له هذا الرواج والجاذبية وحلت مصطلحات كثيرة بدلاً عنه من مثل الدراسات ما بعد الكولونيالية والثقافية والعابرة للثقافات والمقارنة….لأسباب عدة أهمها: أن المصطلح قادم من مرحلة الاستعمار القديم، وتلك مرحلة انتهت. اليوم قد يكون هناك استشراق لكن بأثواب جديدة ومعايير ومصطلحات وأدوات مختلفة ولتحقيق أهداف أخرى، بل هناك من يتساءل إن كان إبقاء استعمال المصطلح منطقي في ظل تقاعده أوربياً!
بات حقل الاستشراق اليوم متضمناً أنواعاً جديدة منه تنطلق بعضها من مركزية غربية تقوم على تقديم الآخر بأنه مصدر التهديد (الشرقي) وهناك من يلبي حاجات السوق الاستشراقي حيث يحتاج إلى الدعم عبر منظمات مقابل تنفيذ أجندتها. أما استشراق فرض النموذج فقد تكفل به التحكم بالمعرفة والعالم الرقمي. وظهر لدينا نوع جديد كلياً هو “استشراق ابن البلد” أو ما يسمى بالاستشراق الذاتي، حين يتبنى بعض أبناء المجتمع الشرقي النظرة الغربية إلى مجتمعاتهم بعد أن يقيموا سنوات في أوربا.
أتيح للسوريين أن يجربوا العيش في أوربا عبر اللجوء، إذ مرَّ على بدايته ثلاثة عشر عاماً وأكثر. ليست تجربة الهجرة جديدة على تاريخ الشعب السوري، لكن هذه المرة لم يأت اللجوء لتحسين الحياة أو الرغبة بالمغامرة، أو نتيجة لظروف اقتصادية فحسب، بل نتيجة لصراع سوري سوري وحروب دولية قامت على جغرافيتهم، فغدت خبرتهم الاستشراقية عاملاً قانونياً “إيجابياً” عليهم.
نظرت جهات غربية عدة إلى اللجوء بصفته استشراقاً جديداً وفرصة لجمع أكبر “داتا” مجانية في تاريخها عن الشعب السوري بصفته أحد النماذج المهمة، وكانت التحقيقات الواسعة التي يجريها المحققون في دوائر الهجرة واللجوء، التي يصرف عليها آلاف اليوروهات يومياً أكبر هدية يقدمها اللاجئون للأوربيين.
اللاجئون بصفتهم مستشرقين اكتشفوا أولاً بأول “ماكاينزمات” العقل الأوربي، وما هي أفضل السرديات التي يقدمونها له ويستطيعون من خلالها الحصول على لجوء بأقصر طريقة ممكنة!
بدا الاستشراق في هذا الميدان نوعاً من التآمر المفيد بين المتلقي والمنتج، إذ يقدم اللاجئ المنتج بضاعة سردية تتيح له الوصول إلى هدفه “جواز السفر الأوربي”، والمتلقي لا يريد أن يفكر خارج صندوق الصور المألوفة للشرقي لذلك يلتهم تلك السردية بكل سرور ورضا!
بعد سنوات عاد كثير من اللاجئين السوريين، بعد أن غدوا مستشرقين، يحملون جوازات سفر أوربية، محملين بقوتين: قوة أبناء البلد وقوة الجواز الأوربي وما رافقه من تجارب وخبرات. وجد كثير منهم أنفسهم أنهم بحاجة إلى اندماج معاكس هذه المرة في بلدانهم، لأنهم هم ذاتهم تغيروا، وبلدانهم تغيرت، وأهلها الذين بقوا فيها قد تغيروا.
اندهش أولئك المستشرقون الجدد من بلدهم حين سمح لهم انتصار الثورة بزيارته من دون خوف، فصار يسأل بعضهم: كيف يعيش الناس من دون كهرباء؟ سؤال مهم جداً يمكن أن يدوِّنه أيُّ مستشرق كحالة معرفية؟ لكن ربما المواطن المستشرق عليه أن يتبعه بسؤال كيف أخفف عن أهلي، في المرحلة الأولى، عدم وجود كهرباء؟ بمشروع مثلاً؟ ألواح طاقة شمسية؟
شعر المستشرقون الجدد في بلدانهم الجديدة أن القيود تزداد عليهم، حتى يحولوا مئة دولار إلى أهلهم شهرياً، بحجة الخوف من تمويل أنشطة مخيفة! فردوا على مقدمي المساعدة الاجتماعية الأوربيين: ما هي هذه الأنشطة التي أمولها بتلك المئة يورو! هب هذه طرفة؟ أم رغبة بإبقاء المال الأوربي يدور هناك ويحرك اقتصاد بلدانهم فحسب!
حاول مستشرقون عديدون من أبناء البلد أن يطبقوا تلك الخبرات التي اكتسبوها في البلدان الجديدة على بلدانهم الأم، غير أنهم اصطدموا بعدم وجود البنية التحتية والقانونية وكذلك كون كثير مما ينوون القيام به يعد في باب “الرفاهيات” شرقياً!
بدا أن كثيراً مما يحدث بين الشرق والغرب، عبر الاستشراق أو سواه، له خلفيات اقتصادية وفكرية واجتماعية وأنه غائر في النفوس، وليس من السهولة انتزاعه أو التخلي عنه، ولاحظ كثيرون أن نظرية لقاء الحضارات وصدامها فيه جوانب عدة، أقوى بكثير من النوايا، فكيف السبيل إلى علاقات متوازنة تشاركية، وكل طرف يعيش بمفاهيم خاصة به أو ظروف أو لديه التزاماته الاجتماعية والفكرية والدينية المختلفة.
المستشرق السوري اليوم، بات بعد زيارة الأهل الأولى والشوق إلى طعام المدن وحاراتها، غدا معنياً بالتفكير بالشأن العام السوري، وزيارة الأحياء المدمرة، والنفوس المدمرة كذلك ومحاولة المساعدة في الحلول كي لا يعيد تكرار تجربة المستشرق القديم.
كثير من المستشرقين السوريين اليوم وهم يعودون إلى بلدانهم يبحثون عن مؤسسات يمكن أن كونوا أعضاء فيها، فلا يجدون، هذا سؤال محق، يمكن أن يتبعه سؤال آخر: كيف استطاعت بلدانهم الأوربية عبر نحو ثمانين عاماً (أي منذ الحرب العالمية الثانية إلى اليوم) من بناء مؤسساتها؟ وما دور الجهود الفردية في ذلك؟ أم أن الأمر ثمرة تعاون بين الإرادة الفردية والجامعية والمجتمعية؟
لعلَّ أهم دور يمكن أن يقوم به السوري المستشرق وهو يعود إلى بلده الأم اليوم هو أن يكون جسراً متحركاً مرناً، ينقل المعرفة والتجارب ويكيفها ويتكيف معها، ويعيد قراءة هويته وتجاربه في ضوء ما حصل عليه من معارف وتجارب، وكذلك أن يسائل ثقافته الأم، مساءلة المحب الذي يريد أن يبني ويخطط وينطلق، ومحاولة الإسهام في تفكيك المنظومات التقليدية الضارة، لكن من المؤكد ليس أن يكون مقلِّداً أعمى، بل عبر النظر إلى طبيعة حاجات مجتمعه وخصوصيته بحيث يختلف عن دور المستشرق التقليدي، وكذلك لا يمنع أن يكون مستعرباً تارة ومستشرقاً تارة أخرى، ليس في الجوانب الفكرية والنصوصية بل كذلك في الحاجات اليومية والتكنيك والقوانين، بعيداً عن الانبهار الأعمى، بل يمكنه أن يكون مندهشاً واعياً، يقرأ ويحلل ويقارن ثم يوائم ويخطط وينطلق، وهو مدرك تماماً أن الطريق ليس أخضر، بل قد يكون ممتلئاً بالحفر والرؤية غير الواضحة، لكن النية الصادية والتخطيط السليم والكفاءة والقراءة العميقة ستوصله إلى هدفه حتى لو طالت المسافات.
تلفزيون سوريا
——————————-
الفصل الجندري وتوسع التسلط الذكوري في سوريا/ لمى قنوت ورهام قنوت رفاعي
28 نيسان 2025
تتقلص مساحات النساء بتنوعاتهن كلما توسع وتجذر حكم السلطة الجديدة في سوريا، وتُخصص لهن أحياز خاصة، مبنية على نظام فصل تمييزي حاد، باعتبارهن مصدرًا للغواية وأجسادًا تهدد الذهن الذكوري وتشتته، وبالتالي وجب عزلهن وإخضاعهن وتطويعهن ومراقبتهن كي ينطلق الذكور لمهامهم في بناء الوطن، وبذلك تعيد السلطة إلى أذهاننا نماذج حكم فرضت وصايتها الأيديولوجية على عموم الشعب بشكل عام، وعلى النساء بشكل خاص، خلال تحولات سياسية كبيرة مثل فترات الصراعات وما بعد الثورات، كالنموذج الأفغاني والليبي والإيراني على اختلاف السياقات.
سوريًا، ومنذ عام 2011، ثارت النساء بتنوعاتهن على الاستبداد، وكن في المقدمة، ثائرات يدافعن عن مواطنيتهن، وكانت الكثيرات منهن، وما زلن، قائدات في مجتمعاتهن ومعيلات لأسرهن، وخضن غمار النجاة بأنفسهن وبأسرهن وبمجتمعاتهن في مختلف المناطق تحت سلطات الأمر الواقع المتعددة، وقادت الكثيرات حراكات المحاسبة وتوثيق الانتهاكات وتوثيق الذاكرة من أجل دمقرطة التاريخ وجندرة مختلف الملفات السياسية والاجتماعية والدستورية والاقتصادية، كشريكات وفاعلات في بناء الوطن والمستقبل.
سياسة جس النبض
تلقي السلطة الجديدة “بالونات اختبار” (trial balloons)، وهي تكتيك يستخدمه صناع القرار عبر تسريب متعمد لمعلومات للإعلام لاستقراء الرأي العام حول قضايا مختلفة، ومثال على ذلك تسريب مسودة الإعلان الدستوري بعد ساعة من تكليف لجنة لصياغته، وتظهر عقلية الاختبار هذه أيضًا، في نمط سياسة إصدار قرارات والتراجع عنها حين يعلو الصوت ضدها، وفي غياب الشفافية والانفتاح السياسي التشاركي الحقيقي، تتسبب سياسات المد والجذر هذه في تشويش الرأي العام وحرف الحياة السياسية عن الحوار في جوهر القضايا والتحديات، وتُحول الطاقات نحو سجالات تصديق للشائعات أو القرارات ونفيها، فتتشرذم جهود المجتمع المدني والحقوقيين والمسيسين التقدميين، من النساء الرجال.
تتكثف مؤخرًا أخبار توسع جهود السلطة الجديدة والمتوافقين معها أيديولوجيًا بإحقاق الفصل الجندري (gender separation /segregation) في الفضاءات العامة المختلفة، وهو اصطلاحًا: الفصل الفيزيائي أو القانوني أو الثقافي للأشخاص بناء على الجنس البيولوجي أو الجندر ضمن منظومة ذكورية إقصائية مبنية على معيارية نمطية قطبية (gender polarization)، وتجدر الإشارة هنا إلى الجهود النسوية والحقوقية الساعية في حالات الفصل الجندري التي ترقى لمنظومة فصل عنصري شاملة (Gender apartheid) لإدراجها كجرائم ضد الإنسانية في القانون الدولي، مثل البنى الاجتماعية السياسية القائمة في أفغانستان وإيران، وسابقًا في السعودية.
ويتم اليوم في سوريا فرض هذه الإجراءات والفرمانات الجديدة تحت ذرائع مثل “الخصوصية الثقافية للأكثرية” و”حماية المرأة” و”ضمان المستقبل العلمي لشبان الأمة”، وغيرها من شعارات اليمين السياسي التي لطالما اشتبك الفكر النسوي معها وفكك أبعادها وتجلياتها التمييزية والاضطهاد الناتج عنها.
وبين سياسة جس النبض وحملات التهويل والتزييف الإلكترونية التي انتعشت عقب إسقاط النظام البائد، والسياسة المزدوجة للسلطة، يكثر التشكيك والتقليل من شأن الهواجس النسوية من هذه التوجهات الأيديولوجية ومآلاتها وانعكاسها على الحياة العامة والحريات الفردية والجماعية وحقوق الإنسان للنساء وفئات ومكونات مجتمعية أخرى من غير لون “هيئة تحرير الشام” ورجال الدين المُرَحب بخطابهم.
وفي تأكيد على أحقية هذه التحذيرات وجب النظر في فكر وتاريخ مَن تُعين السلطة الجديدة لرئاسة وزارة العدل، وهو مؤشر كافٍ لفهم الموقف الأيديولوجي لهذه السلطة، بعيدًا عن محاولاتها الرمزية (tokenist) للتوصل إلى مساومة توفق بين المطالب الأوروبية والأمريكية لرفع العقوبات وتطبيع العلاقات معها من جهة، ومن جهة أخرى، بين آمال السلطة وفئة من الشعب تعتبر أن “المكون السني” ومن يُحسب عليه من ليبراليين وعلمانيين ويساريين في سوريا، هم جميعهم عبارة عن كتلة صماء متجانسة تتطابق مع أيديولوجية وممارسات هذه السلطة.
“العدل” والنساء في فقه السلطة الجديدة
إن تعيين شادي الويسي، وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال الذي ظهرت له مقاطع فيديو وهو يعدم امرأتين ميدانيًا بتهمة “الزنا”، بحسب ادعائه، يعد بأقل تقدير علامة على تساهل هذه السلطة مع جرائم قتل النساء (Femicid) والعنف المبني على النوع الاجتماعي، ورؤيتها لشرعية ممارسة الدولة لدور شُرَطي على أجسادهن ووكالتهن عليها (Agency)، أما بالنسبة للطبيب مظهر الويس، وزير العدل الحالي في الحكومة الانتقالية، فكتابه “دورة في علم القضاء الشرعي” يطرح تساؤلات كثيرة عن فقه السلطة الجديدة تجاه “العدل” وشكل الدولة التي تَشرَعُ ببنائها.
يحدد الويس في كتابه صفات وشروط القاضي (ص 12)، ومنها أن يكون مسلمًا، وألا يكون “كافرًا”، فلا “تجوز ولاية الكافر على المسلم”، وأن يكون بالغًا، عاقلًا، ذكرًا، “فلا يجوز قضاء المرأة”، واعتبر الويس في كتابه أن قول الطبري وابن حزم في جواز قضائها، وبعض من “أجاز لها القضاء فيما تجوز فيه شهادتها”، وجواز حكمها في الأموال وليس في “الحدود”، هي جميعها أقوال ضعيفة، فبالنسبة للمدرسة الفقهية التي يتبعها الويس “العلّة في عدم جواز قضائها لعدم الاختلاط مع الناس، والأصل للمرأة أن تكون في بيتها، كما أن القضاء موضع للهيبة ولا هيبة للمرأة، وأيضًا فالقضاء لا بد له من فهم الواقع والاختلاط بالواقع، فالقول الصحيح إنه لا يجوز لها القضاء”، وأضاف إلى شروط القاضي بأنه يجب “أن يكون حرًا، فالمملوك ليس له ولاية على نفسه، فكيف يكون له ولاية على غيره”، وهذا يدفعنا للتساؤل: بأي إطار تأتي فكرة “المملوك” في هذا العصر؟ وأي حقوق إنسان نتحدث عنها في ظل هذه العقلية! وما تداعيات الوصم التكفيري لفئات من المجتمع، خصوصًا في ظل سلم أهلي هش!
هيبة القضاء ورهبة الحسبة
عند النظر في كتاب الويس عن “كيفية أداء الأمانة في المقاصد الشرعية الخمسة”، يتحدث عن تشريعات قضائية عقابية ردعيّة وُضعت “لمنع الانحراف” (ص 8)، كقتل المرتد وضرب المبتدع لحفظ الدين، وإقامة القصاص لحفظ النفس، و”إقامة حد الزنى وحد القذف، لحماية النسب والعرض”، وغيرها من الأحكام، ويركز الويس على هيبة القضاء ورهبة الحسبة، والحسبة هي مؤسسة موازية للقضاء “تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر”، مثل “الأمر بالحجاب وصلاة الجماعة إذا ظهر تركها، والنهي عن الفسوق والفجور والتبرج”، ويكون عمل الحسبة في الأسواق والشوارع، أي لمعاقبة “المنكرات الظاهرة”، حسب قوله، ومقام الحسبة “مقام الرهبة والردع الفوري”، ولا يجوز على “المحتسب المعيّن من والي الأمر أن يتستر على مرتكب الإثم في حدود الله، أما المتطوع فيستحب له أن يتستر على الحدود”. وهذا فعلًا ما أبرزته فيديوهات صورها أفراد محسوبون على السلطة تُظهر تعنيف أطفال وشبان وحلق رؤوسهم بغاية التشهير والعقاب لتحرشهم اللفظي بالنساء، وفي هذه الممارسات تقويض مباشر لبناء الدولة الحديثة، وترهيب للناس في الشارع، وليست “حلولًا” حقيقية لرفع الوعي الجمعي ومناهضة العنف المبني على النوع الاجتماعي.
إن المغالطات التي يقع فيها التقدميون في ترك الدفاع عن حقوق النساء بتنوعاتهن، والسكوت عن تهميشهن، والفصل الجندري الذي بدأ يستشري، ستطول كل من يختلف عن أيديولوجية هذه السلطة، عاجلًا أم آجلًا، وعليه فالوقوف معًا، وفي الصفوف الأمامية من أجل الدفاع عن الحريات والحقوق، هو واجب وضرورة كي لا نقول يومًا: أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض.
عنب بلدي
————————-
الديمقراطية شرك!/ غزوان قرنفل
28 نيسان 2025
لطالما شاهد السوريون لوحات طرقية في الموطن السابق لـ”جبهة النصرة” التي استبدلت جلدها وأسمت نفسها “هيئة تحرير الشام”، وأخواتها من المجموعات الجهادية المحلية والدولية في إدلب وريفها، كُتب عليها “الديمقراطية شرك” و”الديمقراطية تحت أقدامنا”، وتلك في حقيقة الأمر قناعات راسخة لديها وجزء من منظومتها الفكرية، لأنها ببساطة تعتقد أن الديمقراطية تكفل مشاركة الناس وإشراكهم في التشريع والحكم، وهو شيء يتنافى مع قناعاتهم بأن التشريع وظيفة إلهية فوض لأجلها بشر محددون، ولا يجب أن تترك لعبث العامة، وهي أيضًا إشراك للناس في اختيار الحاكم، بينما هم يؤمنون بأن اختياره يتم من الله، ولا يمكن بحال الدمج بين إرادة الله وإرادة البشر، لأن في ذلك انتقاصًا من مقام الألوهية التي تجعل هذا المقام مساويًا أو في ميزان واحد مع رأي البشر، وهذا هو الشرك بعينة الذي يستوجب فصل الرأس الذي تدغدغه مثل تلك الأفكار “الكفرية” عن الجسد الذي يحمل هذا الرأس!
وبالتالي، وضمن هذا المنظور للأمور، يمكن تفسير ما أدلى به مؤخرًا السيد حسن الدغيم، المدير السابق للتوجيه المعنوي في “الجيش الوطني”، والذي يشغل الآن في السلطة الجديدة مقامًا أو مكانًا لا نعرفه على وجه الدقة، والذي قال فيه إن “المرحلة الانتقالية تراعي أن الديمقراطية تخيف”، بما معناه أن الديمقراطية ستكون خطرًا على السلطة الجديدة، لأن “أحزابًا وشخصيات ستأتي من أوروبا والخليج ومعها أموال كثيرة وقد تسيطر مباشرة على الحياة السياسية، لذلك كان هناك حذر”!
إذًا، يدرك ذاك الذي تغنى دائمًا بالظعينة (التي تمشي من الباب إلى إدلب، ثم دمشق لاحقًا، لا تخشى إلا الله والذئب على غنمها) أن ترك الأمور لمحض خيارات الإرادة الحرة للناس غالبًا سيشكل خطرًا على مشروع السلطة الجديدة، وأنهم جعلوا من أنفسهم أوصياء على المجتمع وخياراته، وحجبوا عن السوريين في الخارج ومعظم الداخل والمكونات الأخرى في المجتمع حق الخيار والاختيار، ولأجل تعزيز ذلك حرصوا على أن تكون فترة المرحلة الانتقالية طويلة ليتمكنوا من تجذير أنفسهم في بنية السلطة التي يشكلونها على هواهم لا على هوى السوريين، وحصلوا فيها على أدوات الحكم والإدارة واحتكروها كلها بين أيديهم ومنحوها لزعيمهم الأوحد، بانتظار صياغة دستور يجسد تلك الأفكار المشوشة بنصوص مكتوبة، ربما بلغة تحاكي العصر في الشكل وتجافيه بالضرورة في المضمون، يتيح حكم سوريا لنصف قرن آخر تحت عباءة فكر ماضوي يجفل من معطيات وأدوات العصر في الحكم وإدارة شؤون الدولة والناس.
كلمة الديمقراطية نفسها لم ترد في أي تصريح أو خطاب للرئيس الشرع، كما لم ترد في مخرجات مؤتمر الحوار ولا في وثيقة الإعلان الدستوري على الإطلاق! والمسألة لا تتعلق بالأقوال المجردة فحسب، بل أيضًا بالأفعال التي يمكن أن تقرأ مضامينها بالسياق العام للسياسات والقرارات، التي لا تشي أبدًا بأن هذه السلطة تسعى حقًا نحو تحول ديمقراطي، بل نحو تكريس نمط من الحكم الثيوقراطي الذي تغلب عليه وتدار فيه الدولة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، من رجال الدين الذين يظنون أنهم يشغلون ويديرون مواقعهم في السلطة بتفويض إلهي لا بتفويض شعبي، واستطرادًا فهم يؤمنون بالضرورة أنه لا سبيل لهم لمغادرة مناصبهم إلا إذا قضى الله أمره!
هي إذًا سلطة المتغلب التي تفرض نفسها عنوة بقوة ورهبة ما تملكه من سلاح، تحاول أن تبني لنفسها شرعية للحكم بدعم إقليمي ودولي مفترض، مراهنة في ذلك على عدم رغبة هذه الدول بمزيد من الفوضى في البلاد والمنطقة، وأن لا بديل عن تلك السلطة في الوقت الحالي على الأقل لإدارة وضبط تلك الفوضى.
أما عن شرعيتها الشعبية، فهي لا تزال تراهن على ما حصلت عليه من زخم وقبول شعبي لا يزال حتى اللحظة يعلق آمالًا عليها بالاستجابة، لتأمين الحد المعقول من الخدمات الأساسية وتحسين أوضاعهم الاقتصادية، بما يخفف عنهم وينقلهم من مستوى الفاقة والجوع إلى مستوى القدرة على الحصول على لقمة العيش اليومية لا أكثر، بعد أن توارت لديهم كل القضايا الأخرى المتعلقة بالمستقبل أمام حلكة ظلام الواقع الحاضر.
يدرك السوريون بلا شك أن حالهم اليوم لا يتيح الانخراط في حالة ديمقراطية، فضلًا عن إنتاج أدواتها وتهيئة أوضاع داخلية تتيح ممارستها أصلًا، لكن هذا لا يعفي السلطة الحالية، إن كانت حقًا تؤمن بها بشكل ما أو تريدها بصورة ما، من التأسيس لها سواء على المستوى الدستوري، وهذا لم يحصل، أو بعدم إنتاج سلطة سياسية موازية في الخفاء تحتكر القرار السياسي وتقرر السياسات العامة كبديل احتكاري للسلطة عن حزب “البعث” المنحل، وهذا ما فعله الشيباني بقراره إنشاء أمانة عامة للشؤون السياسية تتبع وزارته ويكون لها ممثلون في كل المحافظات السورية، أو بعدم تعطيل عمل الأحزاب السياسية وتجميد مفاصلها ريثما تجد السلطة وقتًا وتقرر إصدار قانون جديد للأحزاب.
إن المسار الذي تمشي عليه السلطة في كل ما قررته من سياسات وإجراءات لا يشي على الإطلاق إلا بالضد تمامًا، من إمكانية خلق ظروف ملائمة لتحول ديمقراطي حقيقي، وأزعم أن قناعتها بأن “الديمقراطية شرك” التي كانت تعلنها قبل وصولها للسلطة، لا تزال قناعة ثابتة وراسخة ولم تتبدل أبدًا، سوى في أنها لم تعد تعلن ذلك بالقول بل تفعله بالممارسة، وهذا ما سيدفع بسوريا إلى نفق معتم ربما لا تخرج منه أبدًا.
عنب بلدي
———————————-
مستقبل سوريا: هل يحكم “الشرع” الفراغ بعد إسقاط “الأسد”؟/ أحمد منصور
سوريا ما بعد “الأسد” و”الشرع”: تقاطع المصالح الدولية وتحديات السلطة الفصائلية في المرحلة الانتقالية
2025-04-28
يمثل سقوط نظام الأسد وتنصيب أحمد الشرع على رأس السلطة الانتقالية منعطفاً حاسماً، إلا أن طبيعة هذه السلطة المنبثقة عن تحالفات فصائلية هي بذاتها متباينة من حيث إختلاف التكوين والمصالح، تثير تساؤلات جوهرية حول شرعيتها ومدى استقرارها وقدرتها على إدارة المرحلة الانتقالية المعقدة، تستطيع أنْ تحكم الفراغ بعد إسقاط الأسد.
إذا بدلاً من سلطة مركزية قوية تعيد هيكلة مؤسسات الدولة، وتنقل ولاءها من مراكز النفوذ في الدولة إلى الدستور والحكومة، مع مراعاة ضرورة تطوير أدائها لخدمة واقع إداري جديد يضمن استقرار سوريا، نجد أن سوريا تم وضعها أمام وبين سلطة حديثة العهد، مدعومة بتحالفات فصائلية، لكل منها أجندتها ومصالحها الخاصة.
هذا الواقع الجديد يفرض تحديات مضاعفة. فالسلطة الجديدة تفتقر إلى التجربة الإدارية والسياسية اللازمة لحكم البلاد، وبالتالي قد تكون عرضة للانقسام والتناحر الداخلي بين الفصائل المكونة لها. كما أن شرعيتها قد تكون موضع شك من قبل قطاعات واسعة من المجتمع السوري، التي لم تشارك في عملية إختيارها و تنصيبها أو ترى فيها ممثلاً حقيقياً لتطلعاتها.
في هذا السياق، يزداد تعقيد تفاعل الجهات الدولية والإقليمية. فبدلاً من التعامل مع سلطة مركزية منتخبة واضحة المعالم، أصبح يتعين عليهم التعامل مع ائتلاف هش من الفصائل، لكل منها دعم محلي وإقليمي ودولي مختلف. وقد يؤدي هذا إلى نشوب صراعات بالوكالة وتصعيد التوترات الإقليمية.
ووفق تباين المصالح الدولية لا بدَّ من تسليط الأضواء على دور تلك الدول ومنها:
الولايات المتحدة، التي تصر على الإبقاء على العقوبات، قد تنظر إلى هذه السلطة الفصائلية بعين الريبة، خشية من عدم قدرتها على فرض الاستقرار أو تحقيق تغيير حقيقي، أو من وقوعها تحت نفوذ أطراف لا تتوافق مع مصالحها.
روسيا، من جهتها، قد ترى في هذا الواقع فرصة لتعزيز نفوذها من خلال دعم فصائل معينة أو لعب دور الوسيط بينها.
الصين، كعادتها تركز على ضمان مصالحها الاقتصادية، وقد تتعامل بحذر مع سلطة غير مستقرة.
الاتحاد الأوروبي، يقدم مساعدات إنسانية، قد يجد صعوبة في توجيه هذه المساعدات بشكل فعال في ظل وجود سلطة فصائلية غير مركزية.
دول الخليج متناقضة المصالح، التي قد تكون دعمت بعض هذه الفصائل في السابق، قد ترى في هذه السلطة الجديدة فرصة لتحقيق أهدافها الإقليمية وفي منأى عن مصالح جيرانها، لكنها قد تخشى أيضاً من عدم استقرارها.
تركيا، التي لها نفوذ مباشر على فصائل معينة على الأرض السورية، ستلعب دوراً حاسماً في تشكيل مستقبل هذه السلطة. فدعمها أو معارضتها لفصائل معينة يمكن أن يحدد مسار المرحلة الانتقالية بأكملها.
نقاط التوافق بين هذه الأطراف ستكون أكثر صعوبة في التحقق في ظل وجود سلطة ذات خلفية فصائلية . فلكل طرف أجندته الخاصة فيما يتعلق بالفصائل التي تدعمها أو تعارضها.
مواقف دولية وإقليمية
رفض الولايات المتحدة رفع العقوبات سيضاعف من التحديات التي تواجه هذه السلطة الفصائلية، حيث ستجد صعوبة أكبر في الحصول على الموارد اللازمة لإدارة البلاد وتلبية احتياجات الشعب.
وبالنسبة إلى المساعدات الأوروبية والإماراتية قد تكون حاسمة في هذه المرحلة، لكنها قد تكون مشروطة بمدى قدرة السلطة الجديدة على تحقيق الاستقرار وإظهار قدرتها على الحكم.
في الختام
يبقى مستقبل سوريا في ظل هذه السلطة الفصائلية يبدو أكثر غموضاً. حيث هناك خطر حقيقي من تفكك الدولة أو استمرار حالة عدم الاستقرار مع إمكانية نشوء الصراع بين الفصائل. ومدى قدرة هذه السلطة على تجاوز نقاطها الخلافية و خلافاتها وبناء تقاطع المصالح مع عموم المجتمع السوري، وكسب ثقة الشعب السوري والمجتمع الدولي، تلك المسائل سوف تكون حاسمة في تحديد مسار البلاد نحو الاستقرار أو الفوضى.
ضمن هذا التصور، أعتقد أنه يتوجب على السياسيين ورجال الاقتصاد والأعمال والنخب الفكرية والثقافية دراسة ديناميكيات وأبعاد وحيثيات هذه السلطة الفصائلية بعناية، من حيثية وطنية حيادية بعيداً عن الانحياز والمواربة، وتأثيرها على المصلحة السورية، وهل تتجه نحو الاستقرار أم لا. ويتخلل ذلك وضع استراتيجيات مرنة للتعامل مع هذا الواقع المعقد، مع التركيز على تركيا والحوار الشامل الذي يضمن تمثيل جميع أطياف الشعب السوري. وهذا أهم ما تحتاجه سوريا اليوم:
———————————-
متغيّرات المنطقة وآفاق التفاهم والنهوض/ عبد الباسط سيدا
29 ابريل 2025
هناك مجموعة من التمنّيات تظلّ مجرّد تمنّيات تنتمي إلى عالم الأحلام غالباً، لا تتحقّق. وهناك مجموعة أخرى في البرزخ الفاصل بين الحلم والواقع، تتغيّر مواقعها تبعاً لتطوّرات الظروف والمتحوّلات على المستويَين الموضوعي والذاتي، وتفاعل ذلك كلّه مع الرؤى والاحتياجات الجديدة للقوى المؤثّرة، المُساهِمة في عملية بلورة معالم اللوحة الجديدة التي تتشكّل محلّياً وإقليمياً ودولياً.
قبل سنوات، كنا نحلم بإمكانية حصول توافق إقليمي بين القوى الفاعلة في منطقتنا، يضع حدّاً للصراعات والحروب والتوتّرات، ويفتح الآفاق أمام تعاون بنّاء بين القوى المعنية على أساس المصالح المشتركة، والرغبة في تمكين الجيل الشاب من أداء دوره لصالح استقرار المنطقة وازدهار مجتمعاتها ودولها على مختلف المستويات، وذلك كلّه، لو تحقّق، لمهّد الطريق بصورة فعلية أمام تعاونٍ مثمرٍ بين سائر دول المنطقة. واليوم، يبدو أن هذه التمنّيات، القابلة للتحقّق (إذا صحّ التعبير) باتت أقرب إلى الواقع منها إلى عالم الأحلام.
هذا رغم التعقيدات والمخاطر والتحدّيات الموجودة كلّها، سواء بالنسبة إلى ما يحصل في قطاع غزّة من عدوان شرس على المدنيين الغزّيين من إسرائيل، بذريعة ضرورة التخلّص من حركة حماس، أو بالنسبة إلى تحرّكات بقايا محور المقاومة، والقوى القريبة منها في دول المنطقة. ومع ذلك، ما زالت الطريق طويلةً بين هذه التمنّيات والعالم المُعاش، وما زالت هناك مفاجآت ومخاطر كثيرة، خاصّة أن القوى الإقليمية ليست وحدها تتحكّم بالمسارات، أو بالفصل في عملية ضبط التوافقات، وإجراء المراجعات. هذا بالإضافة إلى المنافسات والصراعات والتناحرات الداخلية البينية، سواء بين مراكز القوى والأجنحة ضمن كلّ قوة إقليمية، وهي الصراعات التي غالباً ما تنتهي بصيغة من صيغ الاستقواء على المخالفين عبر الأجهزة الأمنية، أو من طريق تفاهمات مع القوى الخارجية، وبدعم منها.
مناسبة هذا الحديث، ما جرى (ويجري) من متغيّرات ومستجدات في الوضعَين الإقليمي والدولي خلال العقدَين الماضيَين على مستوى الإقليم، وهي المتغيّرات التي شهدتها الأنظمة الجمهورية العربية في ظلّ موجتَي “الربيع العربي” الأولى والثانية، وقبل ذلك الحرب بين إسرائيل وحزب الله في لبنان، وإسرائيل و”حماس” في غزّة، إلى جانب الدور الإقليمي المتعاظم لإيران، وتدخّلها السافر في شؤون دول المنطقة ومجتمعاتها، والتغطية على سياساتها التوسّعية عبر اعتماد تكتيك استغلال المذهب لصالح المشاريع السياسية، وادّعاء نصرة المظلومين من الشيعة وحماية مراقدهم، ومحاولة الهيمنة على المرجعيات الشيعية الوطنية في المنطقة، لتقدّم نفسها المرجعية الشيعية الرئيسة (إن لم نقل الوحيدة) على المستوى العالمي. ولبلوغ ذلك، لجأ النظام الإيراني إلى سياسات إحداث تغييرات بنيوية في النسيج المجتمعي لدول المنطقة التي هيمنت عليها، بالإضافة إلى مساعيه الرامية إلى التمدّد في مختلف المساحات بحجج وذرائع شتى، بينما الهدف الأساس بالنسبة إلى النظام المعني كان دائماً ضبط الأمور بناءً على حنين إمبراطوري النزعة، يتمثّل في محاولات السيطرة على الطرق الاستراتيجية، وضمان المعابر الحدودية، والمحافظة على خطوط الإمداد من إيران إلى لبنان عبر العراق وسورية. هذا إلى جانب استغلال الأوضاع والتباينات في اليمن.
وبعد الضربة القوية التي تلقتها “حماس” في قطاع غزّة، ودفع ثمنها في المقام الأول المدنيون الغزّيون الذين كانوا ضحية تضارب الأجندات المحلّية والإقليمية، وحتى الدولية، وفي أجواء الحرب العدوانية الشرسة المستمرّة التي أعلنها نتنياهو على غزّة بحجّة القضاء على “حماس”، ومن ثمّ الضربات المميتة التي تلقاها حزب الله في لبنان؛ وسقوط سلطة آل الأسد في سورية، وتركيز القصف الأميركي على الحوثيين في اليمن، والتهديدات الإسرائيلية، وحتى الأميركية، التي طاولت فصائل الحشد التابعة لإيران في العراق، والضغوط على الحكومة العراقية من أجل تحجيم مدى تأثير هذه الفصائل في المشهد السياسي العراقي. وما يُستشفّ من تصريحات المسؤولين العراقيين وتحرّكاتهم أن تلك التهديدات جدّية، وليست مجرّد كلام عابر مكرّر.
الملاحظ في هذا السياق أن النظام الإيراني أدرك أن المعطيات والمعادلات قد تغيّرت، وما أقنعه بذلك أكثر تمثّل في الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها إيران نتيجة السياسات الخاطئة التي اتبعها النظام المعني في مدى أكثر من 40 عاماً، وهي السياسات التي تسبّبت باستنزاف الموارد الإيرانية في مشاريع توسّعية مغلّفة بشعارات “تصدير الثورة”، و”مناصرة المظلومين”، و”تحرير القدس”، و”معاداة الشيطان الأكبر”. هذا، إلى جانب الصراعات والخلافات البينية بين أجنحة الحكم نفسها، والاصطدام المستمرّ بين سياسات النظام وممارساته، وتطلّعات الشعب الإيراني بمكوناته كلّها، ورغبة هذا الشعب في حياة حرّة كريمة ترتقي إلى مستوى تضحيات وطموحات وقدرات الإيرانيين.
في يومنا الراهن، هناك حديث حول إمكانية الوصول إلى اتفاقيات مستقرّة مع الجانب الأميركي على صعيد الملفّ النووي، ورفع العقوبات، أو على الأقلّ التخفيف منها، وحتى البحث في إمكانية الاستثمارات الأميركية في إيران. هذا بالإضافة إلى الحديث عن بوادر تحسّن العلاقات بين السعودية وإيران، أو على الأقلّ استعداد الطرفَين لعقد التفاهمات، والتركيز في المصالح المشتركة، وإرجاء التباينات، أو على الأقلّ تعليقها، بشأن القضايا الخلافية، على أمل التوافق عليها مستقبلاً. والسعودية اليوم (كما نتابع ونرى) تقوم بدور نشط فاعل على مختلف المستويات، العربية بصورة عامّة، والإسلامية والإقليمية والدولية. وهي بسياستها المعتدلة الاستيعابية تحاول باستمرار، وبالتعاون مع دول منظّمة التعاون الخليجي، تهدئة الأجواء عبر طرح المبادرات الواقعية التي تراعي مختلف الحساسيات. وإلى جانب السعودية وإيران، هناك تركيا، القوة الإقليمية المحورية بحكم تاريخها وموقعها وعضويتها في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وغير ذلك من الأسباب. هذا فضلاً عن تاريخ حافل من المنافسات العلنية والمضمرة مع إيران سواء في آسيا الوسطى أو في العراق وسورية، أو ربّما في مناطق أخرى.
وفي سياق الحديث عن القوى الإقليمية الكبرى المؤثّرة في منطقتنا، لا يمكن تجاهل إسرائيل التي استفادت من التدخّلات الإيرانية في شؤون مجتمعات المنطقة ودولها، من جهة دفع بعض دولها، بالتنسيق مع الأميركان في عهد ترامب الأول، نحو اتفاقيات تطبيع ثنائية معها، لتتمكّن من التهرّب من استحقاق التعامل الجدّي مع المبادرة العربية الشهيرة، مبادرة العاهل السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز التي التزمها مؤتمر القمّة العربية في بيروت عام 2002. وعلينا ألا ننسى ضمن السياق نفسه، أهمية مصر ودورها بوصفها من القوى الأساسية في المنطقة، رغم المصاعب التي تعيشها على الصعيد الداخلي من جهة الأوضاع الاقتصادية. والسؤال هنا بخصوص العلاقات بين هذه القوى، وغيرها من دول إقليمنا: هل ستؤثّر المتغيّرات التي تمت، أو المتوقّع أن تحصل في المستقبل المنظور، بالتخفيف من حدّة التوتّرات في المنطقة، وتساهم بدفع دولها نحو إمكانية الحديث عن مشاريع اقتصادية تنموية مشتركة بينها، تكون فاتحةً لإنهاء عهد طويل من الخصومات والحروب التي بدّدت كثيراً من الموارد الاقتصادية والبشرية، وتسبّبت بإنهاك المنطقة في جميع الميادين؟
وبالتكامل مع هذا السؤال، ربّما يكون من المناسب طرح السؤال التالي أيضاً: هل يمكن التحدّث عن إمكانية عقد مؤتمر إقليمي عام، يكون إطاراً لتوافق بين دول المنطقة وشعوبها؟ مؤتمر تشارك فيه أيضاً القوى الدولية المؤثّرة من أجل الوصول إلى تفاهمات وتوافقات بشأن حلّ المشكلات الموجودة، واحترام تطلّعات شعوب المنطقة، ورغبتها في حياة حرة آمنة كريمة مستقرّة. ويُشار في هذا المجال على وجه التحديد إلى ضرورة مساعدة السوريين للنهوض بمجتمعهم ووطنهم والوصول إلى برّ الأمان؛ والعمل من أجل حلّ عادل للقضية الفلسطينية على أساس “حلّ الدولتّين”، وكذلك حلّ عادل للقضية الكردية في دول المنطقة على أساس رفع الظلم والاعتراف بالحقوق ضمن إطار المحافظة على الوحدة الوطنية. هل سنصل إلى هذه المرحلة قريباً، أو على الأقلّ هل توجد بوادر أو مؤشّرات توحي بإمكانية انتظار حدوث مثل هذا الأمر مستقبلاً؟… هو أمر إن حدث، فسيفتح المجال أمام شعوب المنطقة التي انهكتها الصراعات والحروب لتتنفس بحرّية، ولتستعيد قسطاً ولو محدوداً من حيويتها. وربّما يفتح هذا الأمر المجال أمام إمكانية التحدّث عن اتحاد أو تجمّع اقتصادي يكون على قربٍ من (وتفاعلٍ مع) الاتحاد الأوروبي، ومنفتح على سائر القوى الدولية المستعدّة للدخول في شراكات اقتصادية استراتيجية على أساس المصالح المتبادلة.
ما زالت منطقتنا تحتفظ بقيمتها الجيوسياسية والاقتصادية، ولها دروها اللافت في ميدان تمازج الحضارات والثقافات، وهي معروفة بتاريخها الطويل في ميدان التعايش بين الأديان والمذاهب والإثنيات، وفي مقدورها أن تنهض بفضل مواردها البشرية والمادّية، شرط أن تحظى دولها بإدارت عادلة نزيهة بعيدة النظر، إدارت تضع مستقبل شعوبها وأجيالها المقبلة في مقدّمة أولوياتها.
العربي الجديد
————————–
أحمد الشرع في بغداد/ أحمد سعداوي
29 ابريل 2025
ما إن أعلنت الحكومة العراقية موعدَ انعقاد القمّة العربية في بغداد (17 مايو/أيار المقبل)، حتى صار محورها دعوة أحمد الشرع، الرئيس الانتقالي في سورية ما بعد الأسد. وليس ببعيد، أثيرت من جديد قضية الحدود في المياه الإقليمية بين العراق والكويت، واشتعلت مواقع التواصل بالحديث عن خور عبد الله، والتجاوزات المفترضة للكويت على المياه العراقية. يندرج هذان الموضوعان في سياق اضطراب الصورة عن علاقة العراق مع دول الإقليم، سيّما التي تلاصق الحدود العراقية، وهو سياق محتدم من سنوات، فلم تسلم دولة مجاورة من مناوشات وأخذ وردّ، لهذا السبب أو ذاك، بالإضافة إلى “الفيل في الصالة”، أي الدور غير المريح لإيران في العراق.
مرافعاتٌ قُدّمت في برامج حوارية سياسية في القنوات الفضائية العراقية، أو في مواقع التواصل الاجتماعي، عن أسباب عدم الترحيب بالرئيس الشرع، ولكن أحداً من هؤلاء لم ينظُر إلى المصلحة الوطنية للعراق في هذه المرحلة. لقد تغيّر النظام في سورية وانتهى الأمر، وإن كان يعجبنا النظام الجديد أو شكل السلطة التي تريد إنشاء نظام جديد، أو لم يعجبنا، فهذا شأن السوريين. نتضامن مع الأخبار الأمنية المؤسفة، ونتمنّى بدوافع إنسانية وقومية ودينية الخير وصلاح الحال لسورية الجارة الشقيقة، ولكن ليست لدينا صلاحيات أكثر. وما هو أجدى أن نفكّر في مصالح بلدنا، فهل من مصلحة العراق اليوم أن يحوّل سورية عدوّاً؟ أليس من أسباب دفع الأمور نحو اتجاهات إيجابية في سورية أن نمدّ أسباب المصالح الاقتصادية والأمنية بين البلدَين؟
هناك عراقيون (كلّ حسب اتجاهات تفكيره الخاصّة)، لا يحبّون هذا الرئيس أو ذاك الزعيم من الدول المجاورة. ومع ذلك، يتمتّع العراق مع هذه الدول بعلاقات إيجابية، لأن في ذلك مصلحة العراق، الذي يريد طيّ صفحة الحروب والاضطرابات الأمنية، ويرسّخ السلام الاجتماعي في البلد، والذي هو أساس التنمية الاقتصادية. يمكن للعراق أن يقطع علاقاته مع دولة ما آسيوية أو أفريقية أو من أي مكان بعيد آخر في العالم، وقد لا يتضرّر كثيراً، ولكن ماذا نفعل مع “القدر الجغرافي”، ومع التداخل الطبيعي والديني والقومي والتاريخي مع الدول المجاورة للعراق؟… يتذكّر العراقيون جيّداً كيف كان حال العراق في تسعينيّات القرن الماضي، حين رُفِعت أستار العداوة بينه وإيران، ودول الخليج العربي، ولم يكن لديه منفذ إلى العالم الخارجي سوى الطريق البرّي إلى عمّان.
وعلى ذكر إيران، هناك من يريد بناء جدار عازل بينها وبين العراق، ولكن هذا تفكير غير واقعي، نحن نريد ازدهار العلاقة مع إيران، ولكن المطلوب من النظام الإيراني أن يتعامل مع العراق باعتباره دولةً مستقلّةً، ويكون التواصل من خلال الأطراف الرسمية، وأن ينهي أشكال التدخّل الأخرى التي تثلم من سيادة المؤسّسات العراقية. الأمر نفسه بالنسبة إلى الكويت، فهي ستبقى مجاورةً للعراق، ولا مصلحةَ في تصعيد الكراهيات معها. يمكن الضغط بالوسائل المشروعة على الحكومة العراقية لدفعها إلى التعامل بحرص أكثر تجاه مصالح العراق في مياهه الإقليمية المحاذية للكويت، ولكن من دون استعادة أشباح الماضي وتأجيج الشارع.
انفتاح الحكومة العراقية على الشرع، والحديث عن فتح أنبوب النفط العراقي المارّ عبر الأراضي السورية إلى موانئ المتوسّط (وغيرها من المشاريع)، بالإضافة إلى تقديم المساعدات المالية، ينبئان باتجاه صحيح إزاء الاستثمار في سورية الجديدة، وترك الشأن الداخلي السوري للسوريين. خصوصاً بعد تاريخ مرير من الكوارث التي كان يرسلها نظام بشّار الأسد عبر الحدود إلى العراق.
ستكون مفاجأةً إذا ظهر الشرع في القصر الجمهوري ببغداد، ولكنّه على الأرجح سيرسل ممثّلاً عنه. وفي كلّ الأحوال، ستكون الزيارة تطوّراً إيجابياً للعلاقة بين البلدَين، اللذين بقيا في حالة من الضبابية والتوتّر خلال العقدَين الماضيين.
العربي الجديد
—————————
القوى السياسية والمدنية بعد سقوط الأسد: مخاض عسير نحو مستقبل جديد/ حبيب شحادة
29 ابريل 2025
شكّل سقوط الأسد تحوّلاً جذرياً فاصلاً في تاريخ سورية الحديث، نتجت منه تيارات سياسية واقتصادية واجتماعية وحتى دينية، تهدف إلى إعادة تشكيل مستقبل البلاد بناءً على رؤى مختلفة ومطالب تراوح بين أن تكون سورية دولة مدنية/ علمانية، أو إسلامية معتدلة/ متشدّدة، وهناك من يسعى لأن تكون سورية دولة القانون والحرّيات بغضّ النظر عن شكل الحكم.
في خضم هذا المخاض العسير الذي تعيشه البلاد بعد سقوط النظام السابق في 8 ديسمبر/ كانون الأول الفائت، انفتح الفضاء العام أمام جميع التيارات المدنية والسياسية، وحتى الناشطين والمثقفين لمخاطبة الرأي العام، وصولاً إلى المشاركة في الحياة السياسية وكتابة دستور جديد للبلاد تجري على أساسه الانتخابات.
ما خريطة تلك القوى السياسية والمدنية والدينية، وهل تتمكّن من لعب دور محوري في مواجهة قوة الفصائل العسكرية التي أسقطت النظام وتسلمت السلطة، لإعادة إنتاج نظام سياسي ديمقراطي مدني؟ وماذا عن الأحزاب السابقة لسقوط النظام، وما دورها؟ وماذا عن دور النساء في بناء سورية؟
أكثر من 20 جسماً.. وأول معارضة
منذ سقوط النظام، نشأ أكثر من 20 جسماً سياسياً ومدنياً ودينياً ونسوياً في سورية، تدعو في أغلبها إلى بناء دولة القانون والتعدّدية، وتسعى جميعها لحجز مساحة في إعادة بناء الدولة، بغضّ النظر عن حجمها ومدى تأثيرها غير المعروف، ومنها تجمّع الشباب المدني، وتجمُّع القوى الوطنية السُّوريَّة (قوس)، والتجمّع الوطني للساحل السوري، والحزب الدستوري السوري (حدس) ومجموعة السلم الأهلي، وتيارات أخرى كتيار (فكرة) والتيار المدني الديمقراطي، والمجلس الإسلامي العلوي، إلخ. لكن هذه التيارات السياسية والمدنية والدينية المختلفة والمتعددة قد تُعقّد عملية التوافق على دستور جديد ونظام حكم مستقر، رغم ارتفاع الأصوات والآمال والمطالب لدى عموم السوريين بالانتقال إلى حالة شبه مثالية على مستوى العمل السياسي والمدني.
بعد شهرين على تسلم الرئيس أحمد الشرع، ظهرت أول معارضة سياسية بقيادة السياسي هيثم منّاع، نتيجة رفضها مشاركة بقية القوى والتيارات السياسية، إضافةً إلى أنّ هذه “السلطة جاءت بتفويض من العسكر في مؤتمر النصر، وأنها ذات لونٍ طائفيٍّ ومناطقي واحد”، وفق ما قال منّاع في تصريح صحافي.
وتحدّث صلاح نيوف، أحد مؤسّسي التجمّع الوطني للساحل السوري (جزء من أربعة تجمّعات في جغرافيات سورية مختلفة) عن أنّ العسكر اليوم يمثلون سلطة الإكراه المحتكرة للعنف المشروع. وأضاف: “فشلت سلطة العسكر في ادّعاء احتكارها العنف الشرعي نتيجة انتشار العنف غير الدولتي من جماعات كثيرة باسم الدولة الجديدة، يتقاسم هؤلاء العسكر معها الكثير من الأفكار الإيديولوجية والتنظيمية على الأرض. وهذه التركيبة الثنائية من العنف تصعّب المواجهة على القوى السياسية والمدنية الناشئة، وفشل تلك القوى والتيارات سيؤدّي إلى تغوّل السلطة العسكرية الجديدة على المجتمع والدولة، ما ينتج عصراً استبدادياً آخر. كذلك إنّ نجاح القوى المدنية والسياسية يحتاج، بحسب نيوف، إلى قوانين تنظم العمل السياسي والمدني بعيداً من أية محاولة للإقصاء الفكري والإيديولوجي، وإعلام حر تنظمه قوانين حديثة تحترم حرية التعبير والرأي، ودستور حديث يكفل حقوق وواجبات المواطنة الكاملة لكل سوري.
ومن التشكيلات التي أعلنت عن نفسها، لجنة متابعة الحوار الوطني، حزب الحياة الجديدة، تحالف دعم الديمقراطية والحريات، تحالف المواطنة السورية المتساوية، تجمّع سورية الديمقراطية، حملة الشعب السوري واحد، المبادرة السورية للحيز المدني، حزب سورية الهوية، تيار فكرة، التيار المدني الديمقراطي، الجبهة السورية الحرة، تيار دليل، شبكة وصل.
العسكر والمجتمع المدني
وتفيد الحقائق التاريخية بأن العسكر هم من شكّلوا الدولة في سورية وساسوها منذ أيام المماليك في العصور الإسلامية الوسيطة، وفق مؤسس تجمُّع القوى الوطنية السُّوريَّة (قوس)، نبيل صالح، وقال لـ”سورية الجديدة” إن العسكر لم تكن حكوماتهم مدنية قَطّ، إذ غلفوا العسكرة بالشريعة، وربطوا حكوماتهم بالسماء للتسلّط على أهل الأرض. ودعا صالح العسكر إلى الانضواء داخل ثكناتهم لحماية الدولة، من دون أن يتدخّلوا في الشأن السياسي. وبغير ذلك، “سنعيد إنتاج انقلاباتنا العسكرية، ونكرّس بنى الاستبداد التاريخية”، حسب وصفه.
المجالس الدينية
بعد سنواتٍ من سيطرة النظام السابق على الطائفة العلوية، وجد المكون العلوي مع سقوط هذا النظام أنه أمام مرحلة جديدة مليئة بالتحدّيات والمخاوف، رغم الطمأنات التي أطلقتها الإدارة الجديدة بشأن حماية الأقليات وضمان حقوق جميع السوريين، بغضّ النظر عن طوائفهم أو خلفياتهم. ومع تصاعد الخوف بين الأقليات، برز صوت رجال الدين العلويين عبر إنشاء مجالس دينية “طارئة” في المحافظات باسم “المجلس الإسلامي العلوي الأعلى” في سورية والمهجر، وهو المجلس الأول في تاريخ الطائفة العلوية.
وبحسب البيان التأسيسي للمجلس المكون من 130 شيخاً، فإنّ “هذا المجلس سيكون فعّالاً حتى انتهاء المرحلة الانتقالية وإنشاء دولة يحكمها الدستور، وتتمثل أهدافه بتأكيد أن الطائفة العلوية جزء أصيل من نسيج سورية، وأن أبناءها يعملون يداً بيد لبناء مستقبل أفضل للبلاد، من خلال تعزيز التآخي بين مكوّنات المجتمع السوري، ودعم الوحدة الوطنية، والمشاركة في الحوار الوطني الشامل”.
وقد يكون نشوء هذه المجالس نتيجة لافتقاد الأمان، وكذلك فرصة للتشابه مع الطوائف الأخرى التي تعتمد مرجعيات ومؤسّسات مختلفة في التمثيل الاجتماعي والشرعي، وحتى السياسي، وفقاً لجاموس، الذي قال: “الطائفة العلوية غير محتاجة لمثل ذلك المركز”، مؤكّداً أهمية الوسائل السياسية والثقافية والفكرية الوطنية العامة بديلاً لأي عملية تطييف، مهما كانت بسيطة أو كبيرة. كذلك إن المجالس الإسلامية العلوية تطبيق عملي لملء الفراغ السياسي ـ الاجتماعي الذي أحدثه سقوط النظام السابق، والذي حصر الطائفة، وفق تعبير نيوف، “في حزب السلطة وجيشها ومنظماتها وبنيتها الأمنية”، ما جعلهم يعيشون حالة فراغ كبيرة جداً عند سقوطه.
ويعتقد نيوف أنّ هذه المجالس يجب أن تبقى داخل الفضاء الخاص تمثل المؤمنين بها، ويمكن مشاركتها في الحياة الثقافية للسوريين العلويين، لكن يجب أن تتوقف هنا، كما قال لـ”سورية الجديدة”، مشدّداً على أن المجلس الإسلامي العلوي يجب ألا يقدّم نفسه تنظيماً سياسياً أو إيديولوجياً للمجتمع العلوي. بينما يرى صالح أن تشكيل المجلس في هذا الوقت آني ومؤقت، وسيزول تأثيره ويُنسى باستتباب الأمن وتحقيق السلم الأهلي. فالسوريون العلويون اندمجوا في ثقافة المواطنة، واعتبروا الدولة مجلسهم ومؤسّساتها حاميتهم. وعن الدافع إلى تشكيل هذا المجلس، أكد صالح أنّ تعامل السلطات الجديدة مع المجالس الدينية حصراً دفع قسماً من العلويين باتجاه تشكيل مجلس تمثيلي يشكّل المشايخ ثلثه ولا يرأسونه.
لا أحزاب سياسية
حلّت القيادة السورية الجديدة، الجبهة الوطنية التقدمية وحزب البعث، ومنعت إعادة تشكيل هذه الأحزاب، على أن تعود جميع أصولها إلى الدولة السورية، وذلك بعد أكثر من 50 عاماً على تشكيلها. وهذا القرار منسجمٌ مع طابع السلطة، بحسب جاموس، الذي قال إنّ الحل الأفضل تشكيل قوة تفرض قوانين ديمقراطية تنظم النشاط السياسي الحزبي. وأوضح أنّ دور الأحزاب التقليدية في المشهد المقبل منوطٌ بقدرتها على تصحيح وضعها الداخلي، وجمع ذاتها وتطويرها كفاحياً، مقارنةً بحالة شبه الاستسلام أيام النظام الديكتاتوري، موضحاً أن موقف بعض تلك الأحزاب من قرار حلها يشكّل موقفاً متماسكاً ورافضاً.
إلى ذلك، اعتبر القيادي في الحزب السوري القومي الاجتماعي، طارق الأحمد، أن حل الأحزاب سيحول سورية إلى “ديكتاتورية”، وقد فعل جمال عبد الناصر الشيء نفسه عام 1958، ما أدّى إلى تجفيف الحياة السياسية في سورية.
دور النساء
حجزت الحركة السياسية النسوية السورية مساحة خاصة للنساء بالشأن السياسي، عندما أطلقت مؤتمرها الصحافي أخيراً في دمشق، وفق العضو في الحركة سلمى الصياد، التي قالت لـ”سورية الجديدة” إنّ أحد أهداف الحركة تمكين النساء في الدور السياسي، مشيرةً إلى ضرورة عمل كل القوى المدنية والسياسية والديمقراطية في مواجهة قوة العسكر لتكون سورية دولة ديمقراطية. وتحاول الحركة إيجاد توازنات وتحالفات مع غيرها من القوى السياسية لإيجاد تحالف عريض نحو مدنيّة الدولة، كما قالت الصياد.
وبحسب الباحث نيروز ساتيك، النسوية شرطٌ للتحول الديمقراطي، “إذ لا حرية دون تحرّر النساء”، وفق قوله. وقال لـ”سورية الجديدة” إنه لا يمكن الحديث عن تشكيل القوى والتيارات السياسية والمدنية من دون الإيمان بحرّية المرأة والعمل على أخذ دورها في المجتمع السياسي.
هل كثرة هذه التيارات والقوى من فقاعات الصمت السياسي على مدى العقدين الفائتين؟ وهل تستطيع هذه التيارات والقوى تجاوز الانقسامات لبناء توافق وطني شامل؟
العربي الجديد
————————————
رئيس في الوقت الضائع/ أنس أزرق
29 ابريل 2025
لعبت شخصيات سياسية في التاريخ السوري الحديث والمعاصر، أدواراً مهمة في الفترات الانتقالية لصالح غيرها وما انتهى هذا الدور المؤقت حتى قام من عملوا لصالحه باستلاب مسؤولياتهم.
أدارت بعض هذه الشخصيات سورية أياماً قليلة، كما السياسي السرياني سعيد إسحاق نائب رئيس مجلس النواب حين استقال رئيس الدولة هاشم ألأتأسى عام 1951 احتجاجا على تدخّل مجلس العقداء بقيادة أديب الشيشكلي في إدارة كل شاردة وواردة واعتقال الشيشكلي رئيس مجلس النواب ناظم القدسي واستقالة الحكومة، فكان سعيد إسحاق رئيسا للبلاد 24 ساعة. كذلك لم يتسن لعبد الحليم خدّام الذي أصبح في يونيو/ حزيران عام 2000 رئيسا للجمهورية لمدة 37 يوما، لشغور الرئاسة بوفاة حافظ الأسد، سوى أن يصدر قرارين: الأول بترقية بشّار الأسد من عقيد إلى فريق، والثاني تعيين بشّار قائداً عاماً للجيش والقوات المسلحة.
الزعيم فوزي سلو
من هذه الشخصيات الزعيم فوزي سلو (1905-1972)، وزعيم هنا رتبة عسكرية، عيّنه العقيد أديب الشيشكلي (1909-1964) رئيسا شكليا من ديسمبر/ كانون الثاني 1951 إلى يوليو/ تموز 1953 وكانت بداية المعرفة بين الشيشكلي وسلو خلال اشتراكهما في حرب فلسطين عام 1948. وقد فرض الشيشكلي بعد انقلابه على حسني الزعيم في أغسطس/ آب 1948 أن يكون سلو وزيرا للدفاع، وقبل الرئيس هاشم الأتاسي الذي حكم الشيشكلي خلال الفترة الأولى من ورائه إلى أن جاء معروف الدواليبي رئيساً للوزراء فرفض ذلك، فقام الشيشكلي بانقلابه الثاني في نوفمبر/ تشرين الثاني 1951 الذي عيّن بموجبه فوزي سلو رئيسا للدولة. وقد استغل الشيشكلي سلو لإصدار قانون حظر الأحزاب وإغلاق معظم الصحف وانتهى سلو بعد سقوط حكم الشيشكلي مستشاراً لملك السعودية سعود بن عبد العزيز، وعاد إلى دمشق بعد تقاعده ليموت ويدفن فيها.
الفريق لؤي الأتاسي
تسلم الفريق لؤي الأتاسي (1926- 2003) رئاسة الدولة بعد انقلاب 8 آذار (1963)، والذي مكن لاحقاً من تفرّد حكم البعث في سورية، رغم أن الأتاسي لم يكن بعثيّاً. وأخرج انقلابيو 8 آذار العقيد الاتاسي من سجن حكومة الانفصال، ورفعوه إلى رتبة فريق بسبب مشاركته بانقلاب فاشل لإعادة الوحدة مع مصر.
لم يستمر الفريق الأتاسي في الحكم سوى أربعة أشهر، حيث استقال حين أصدر البعثيون أحكام الإعدام بحق الناصريين الذين اشتركوا بمحاولة انقلاب 18 تموز (1963) التي قادها جاسم علوان، ونفذوا الأحكام بدون توقيعه مستغلّين سفره إلى مصر.
أحمد الحسن الخطيب
أسند حافظ الأسد قائد انقلاب 16 تشرين الأول ( 1970)، والمشهور بالحركة التصحيحية، رئاسة الدولة السورية مؤقتا لنقيب معلّمي سورية أحمد الحسن الخطيب (1933-1982) ريثما يرتب أوضاعه ليتسلم كرسي الرئاسة. واحتفظ الأسد يومها بوزارة الدفاع بالإضافة إلى منصب رئاسة الوزراء. وتقول الراوية أن الخطيب، وهو رئيس الدولة، كان لا يسمح لنفسه بالدخول إلى اجتماعات القيادة، متقدّما على رئيس الوزراء الحاكم الحقيقي حافظ الأسد.
لم يُصدِر الرئيس الخطيب أي مرسوم، ولم تتعدّ أيامه على كرسي الرئاسة سوى ثلاثة أشهر وأربعة أيام من 18 نوفمبر/ تشرين الأول 1970 إلى 22 فبراير/ شباط 1971 حيث استلم الأسد الرئاسة ولم يتركها حتى مات في حين عُين الخطيب رئيسا لمجلس الشعب، وأيضا لفترة قصيرة امتدت حوالي تسعة أشهر ليتسلم بعدها رئاسة حكومة اتحاد الجمهوريات العربية (مصر، سورية، ليبيا) لكنه بقي عضوا في القيادة القُطرية حتى عام 1975، وقرر ألا يرشّح نفسه لعضوية القيادة القُطرية في المؤتمر القُطري السادس عام 1975 معلنا “أن الجو معبّأ ضدي”. وغاب الخطيب عن الساحة السياسية متقاعداً في منزله يلعب الورق والطاولة مع زملاء مبعدين أمثاله حتى وفاته عام 1982.
ولد عام 1933 في قرية صلخد بجبل العرب. ويقول أحد أقاربه، المخرج هشام الزاعوقي، إن اسم العائلة هو مصري الخطيب، وهي من قرية نمر في ريف درعا، وسكن والده حسن في السويداء بسبب عمله شرطياً هناك. ويضيف: “أحبّ أحمد الخطيب السويداء، وتملك مزرعة هناك يقضي فيها معظم وقته إلى درجة انه عرف في حوران باسم أحمد الدرزي”.
درس الأدب العربي في جامعة دمشق، وانتسب هناك لحزب البعث، حيث تعرّف على أساتذة الحزب، ومنهم ميشيل عفلق وصلاح البيطار. وكان نشاطه الحزبي ضعيفاً وشهرته بين رفاقه محدودة، وبعد التخرّج أصبح مديراً لثانوية التجهيز الأولى جودت الهاشمي، أشهر ثانويات دمشق حينها، ولكن أحد قياديي الحزب، وهو المفكر عبد الله عبد الدايم، وفّر له فرصة عمل في قطر مدة عام مديرا للمدرسة الثانوية فيها.
يذكر الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس في كتابه “أيام في قطر” (دار الشروق للنشر والتوزيع، عمّان، 2022) أنه في أثناء عمله في الدوحة تعرّف على أحمد الخطيب ومحمود الأيوبي الذي عيّن رئيس وزراء سورية بين عامي 1972 و1967، حيث كان الخطيب مديراً للمدرسة الثانوية في الدوحة والأيوبي مدرّساً للغة العربية فيها: “أحمد الخطيب ومحمود الأيوبي حضرا إلى قطر عام 1957، وكانا تؤامين لا ينفصلان وصديقين حميمين ينتميان بحماسة بالغة وقناعة راسخة لحزب البعث السوري، وقد أحضرهما الدكتور عبد الله عبد الدايم”، وكان القيادي البعثي عبد الله عبد الدايم قد استلم إدارة المعارف في قطر عاماً واحداً.
ويضيف عباس: “لم يصدف أن قابلت أحدهما على انفراد، وانما بقي الاثنان متلازمين طيلة مدة إقامتهما القصيرة في قطر”.
بعد انقلاب البعث في 8 آذار/ مارس 1963، صار الخطيب عضواً في المجلس الوطني لقيادة الثورة، وانتخب نقيباً لمعلمي سورية.
يروي عضو القيادة القُطرية لحزب البعث، مروان حبش، عن الخطيب: “لم يكن مشهوراً في أوساط الحزب، ولم يعرف له حضور لا في الجامعة ولا في المظاهرات التي كان يقودها الحزب في الخمسينيات من القرن الماضي. بعد 8 آذار 1963 جرى حل نقابة المعلمين القائمة في زمن الانفصال، وإسناد موقع نقابة المعلمين له. وعندما جرى تشكيل المجلس الوطني للثورة في 1965 اختير رئيس نقابة ليكون عضواً فيه. كان يحاول إرضاء كل الأطراف في الحزب، ولم يعلن أي موقف مع التيارات والأطراف المتصارعة داخل “البعث” آنذاك. كان طيّعاً، وعرف عنه آدميته، وكان يرضي الجميع ويحاول حل الأمور بتوافق”.
يضيف حبش إن حافظ الأسد يوم 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 1970 “اتصل بأكثر من شخصية حزبية محاولاً استمالتها إلى جانب انقلابه، وطلب من رئيس الدولة نور الدين الأتأسى أن يبقى في مناصبه الحكومية والحزبية، ولكن الأتاسي وكثيرين من القيادات الوازنة رفضوا طلبه، فأصدر قراره بتشكيل القيادة القُطرية الموقّتة التي اجتمعت، وقرّرت تعيين أحمد الخطيب رئيسا للدولة، وحافظ الأسد رئيسا للوزراء بالإضافة إلى احتفاظه بوزارة الدفاع”.
يروي مصطفى طلاس في مذكّراته “مرآة حياتي: العقد الثالث” عن اجتماع القيادة القُطرية المؤقّتة: “طلب الرفيق حافظ الأسد من الرفاق ترشيح من يرونه مناسباً لمهام منصب رئيس الدولة. وبدأ يسأل عن أعمار الرفاق، وكان أكبرنا سنا في الواقع عبد الحليم خدام المولود عام 1929، ولكن الرفيق أحمد الخطيب قال: صحيحٌ أنا مسجّل من مواليد 1933، ولكنني بالحقيقة من عمري أكبر من ذلك بخمس سنوات، لأني من مواليد 1928 وهكذا رست المهمة على الرفيق أحمد الخطيب”.
يضيف طلاس: “قال الرفيق أحمد الخطيب لزوجته ثريا الحافظ وهو إلى جانبها في السرير: يا أم حسان سوف استلم غدا وظيفة مهمة، فقالت له: وزير تربية؟ فقال أكبر، فقالت له: رئيس وزراء؟ فقال لها: أكبر، فقالت له: لم يبق سوى رئيس دولة! فقال لها: هذا ما أقصد، فقالت له: أنت أكيد جنيت يا أحمد، وأدارت ظهرها وراحت في سبات عميق”.
أما عضو القيادة القُطرية عبد الله الأحمد فكتب في مذكّراته غير المنشورة بعد أن أخرجه حافظ الأسد من سجن المزة أنه طلب منه المرور عليه في رئاسة الوزراء و”اتصل مع الرفيق أحمد الخطيب رئيس الدولة وتبادلا الحديث حول موضوعنا، واقترح عليه أن يزور اتحاد العمال غداً وأنا معه ليشرح لهم موقفنا السياسي، وقال له “سيمر بك (أبو علي) لتنسيق الأمر”. وبعد ساعة كنت في بيته خلف المشفى الإيطالي بمؤازرة سائق مجلس الوزراء، وكانت جلسة مودّة فيها القليل من الكلام الجدّي، فقد أمضى وقتاً يشرح لي فيه عن رئيس الدولة الجديد الذي ليس لديه ستائر لمنزله، معتذراً بأن الورشة ستقوم ليلاً بتركيب الستائر”. وأضاف الأحمد:” وفي اليوم التالي، بدأنا الجلسة في العاشرة صباحاً مع اتحاد العمال واستمرّت ساعتين، وكانت غير موفقة على الإطلاق بقيادة الرفيق أحمد الخطيب، لأنه تناول الأشخاص، ولم يتناول المواضيع إلا نادراً، ولم يحصل من الحضور إلا على إصرار على الموقف السلبي”. … ومساء ذلك اليوم، هتف إليّ الرفيق حافظ الأسد مستفسراً، فشرحت له ما كان، فقال: “شرح لي رئيس الدولة بعض الجوانب ثم سألني، ماذا تقترح؟ فقلت: هذا أمرٌ خارج كل الشكليات والمناصب، فأنت صاحب البرنامج، وأنت قائد الحركة وعليك تولي هذا الأمر حزبياً ونقابياً وشعبيا”.
ويتضح من سياق كل الروايات القليلة المتجمعة عن دور الخطيب أنه دور محلّل السلطة لحافظ الأسد الذي قبض عليها حتى الممات، ثم ورثها لابنه بشّار الأسد فأضاعها وأضاع البلد.
العربي الجديد
—————————
من مشاعر عائد إلى سورية/ عمر كوش
29 ابريل 2025
انتابتني مشاعر مختلطة، عند عودتي إلى سورية بعد 13 عاماً من الغياب القسري، يتقدّمها إحساسٌ بفرح غامر بعودتي إليها، وسعادة تعجز هذه السطور عن وصفها. شعرتُ بأنني استعدتُ وطني.
بنهاية حالة اليأس المديدة التي انتابتني، وانتابت سوريين كثيرين في السنوات القليلة الماضية، صرتُ، بعد سقوط نظام الأسد البائد، أشعر بأنه بات لي وطنٌ يحضنني، وأستطيع العيش فيه، أو العودة إليه وقتما أشاء، وأفتخر به أمام الناس، وبات يمكنني التجوّل بحرية في شوارع وأحياء مدنه وبلداته. لكن سرعان ما ينغّص هذه المشاعر حزنٌ على ما آلت إليه أوضاع البلد وناسه، يسري مع التنقل في أحياء مدينة دمشق وسواها من المدن السورية، وتلمّس ما آلت إليه أوضاع الوطن والناس، بعد 14 عاماً من دمارٍ نشره نظام الأسد في معظم أنحائه، وآثار الخراب التي خلفها نظام الطاغية في كل مكان، إضافة إلى التردّي الكارثي لأحوال معظم السوريين المعيشية، والتمزّق الذي طاول نسيجهم الاجتماعي.
إذاً عدتُ إلى بلدي، بعد ابتعاد قسري مديد. وما يميّز عودتي عن طريق مطار دمشق أنها تحمل معنى مختلفاً بالنسبة إليّ (وإلى آخرين من السوريين)، إذ عدتُ مُرحّباً بي، حيث لم يسبق أن سمعت موظفاً في الأمن العام يقول لي: أهلاً ببلدك سورية. كما لم يستغرق دخولي أرض الشام سوى دقائق بعد أن حطت الطائرة. والأهم أن قلبي لم تزدد سرعة خفقانه هذه المرّة، خوفاً من اعتقال ورمي في زنازين نظام الطاغية، ذلك الخوف الرهيب الذي كان ينتابني على الدوام قبل الخروج من سورية ودخولها، وخاصة عند تقديم جواز سفري لموظف الأمن العام، حيث كانت الدقائق تتحوّل إلى ساعات طويلة، ويحمرّ وجهي، وتعرق يداي، وغالباً ما يتصبّب عرقٌ باردٌ من جبيني في لحظات الانتظار التي تسبق إنهاء الموظف تدقيقه حول اسمي، ووضعه ختم الدخول أو الخروج.
كانت عودتي هذه مختلفة تماماً، إذ آخر مرة سبق ودخلت فيها مطار دمشق، كانت في 30 إبريل/ نيسان 2011، عائداً من أنقرة، بعد مشاركتي في مؤتمر “دروس من التجربة التركية”، نظّمه مركز القدس للدراسات السياسية في عمّان، بالتعاون مع مركز الأبحاث السياسية والاقتصادية الاجتماعية (سيتا) في أنقرة. لم أتمكّن من الذهاب إلى بيتي، على الرغم من أنني أخبرت زوجتي وطفليّ بأنني وصلت إلى مطار دمشق، بل اعتقلني ضابط أمن المطار، ومعه عناصر أمن من المطار مباشرة، من دون أن يوجهوا إليّ أي تهمة، وبالأحرى اختطفوني، ثم وضعوني مقيّد اليدين ومعصوب العينين في المقعد الخلفي لسيارة مع عنصري أمن، ورموا بي بعد أن سارت السيارة مسافة طويلة في أحد فروع الأمن. وبقيت مرميّاً في أحد ممرّات الفرع ثلاثة أيام من دون أن يُسمح لي بالحركة، ومن دون أن أعرف في أي منطقة أنا، أو في أي فرع أمني. ولم أعرف ذلك إلا في اليوم الرابع لاعتقالي، حين وضعوني في زنزانة صغيرة مع ستة معتقلين آخرين، أخبرني أحدهم أنني في فرع المخابرات الجوية في مطار المزّة العسكري الذي كان يترأسه المجرم جميل الحسن. أطلق سراحي بعد نحو شهرين من الاعتقال من دون أن توجّه إليّ أية تهمة محدّدة، ولم أسمع سوى مغمغة من ضابط التحقيق أن أحد مخبريهم كتب فيّ تقريراً.
على الرغم من خروجي من الاعتقال، فإنني لم أتحمّل تكلفة البقاء طويلاً في غياهب مقبرة نظام الأسد، فاضطررت إلى مغادرة دمشق، وتركت ورائي بيتي وناسي وعملي، وأصبحت ناجياً مثل سائر الناجين السوريين، الذين كلفتهم نجاتهم من المقبرة الأسدية 13 عاماً من الاغتراب والغياب القسري عن البلد.
بعد عودتي إلى دمشق، كنتُ في تجوالي اليومي فيها أشبه بمن استعاد ذاكرته، أنظر بشيءٍ من الدهشة والاستغراب إلى شوارعها وساحاتها وأحيائها، التي سبق لي وتجوّلت فيها أو مررتّ بها مئات المرّات قبل 13 عاماً. لا أتذكّر تفاصيلها للوهلة الأولى، لكن سرعان ما أستعيد صورها القديمة، لتبدأ المقارنة المرّة مع صورها الجديدة، وتنطلق الحسرات والتأوهات، ويسود الصمتُ الثقيل، فالشوارع والساحات والأبنية متّسخة ومهترئة، بل وكئيبة المظهر. ووجوه الناس في معظمها مثقلة ومتعبة، وما زالت تعاني من آثار عهود الاستبداد، لكنها فرحة بالتغيير الكبير الذي حصل، إذ بالرغم من التركة الثقيلة للنظام البائد ينتشر الأمل بأن القادم من الأيام سيكون الأفضل، وتسود حالة من العزيمة على إعادة بناء ما دمّره النظام البائد.
تحكي وجوه الناس في دمشق وسواها أشياء كثيرة عما عانوه وشهدوه في الأربع عشرة سنة السابقة. قال لي سائق تاكسي “معظم الناس الذين لم يغادروا البلد دفعوا ثمناً كبيراً، نيّال الذين تمكّنوا من الخلاص من جحيم الأسد”. ثم صمت قليلاً، وتابع “يكفي أننا لم نعد نرى صور الهارب، ولا صور أبيه وأخيه، التي كانت تضغط على أعصابنا كل يوم”.
لم تعد الحياة في مدن سورية وبلداتها كما كانت، فقد تغيّر ملمحها وإيقاعها، واختلفت تفاصيل يوميّاتها، وصارت تتدفق بوتيرة جديدة، حيث تتداخل أصوات صرافة العملة وباعة الألبسة والمواد الغذائية، في شوارعها المتشابكة وأزقتها العتيقة، مع أصوات محرّكات السيارات، وتمتزج فيها رائحة المازوت بدخان السجائر والأراكيل في المقاهي، حيث يدخن الجميع في جميع الأماكن بلا استثناء، بينما لا تتوقف نقاشات السياسيين في المقاهي والقاعات، ومن دون “لا إحم ولا دستور”، هذه الأمثولة الشعبية التي تعود إلى أوائل ثلاثينيات القرن الماضي عندما جرى في مصر تعطيل العمل بدستور 1923، وكانت الشرطة المصرية تعتقل من كانوا يناقشون الدستور في المقاهي.
فرحت كثيراً بعودة السياسة بقوة إلى المجتمع السوري، وبزوال الخوف من الخوض فيها، حيث باتت متداولة في الأحاديث والنقاشات العلنية، وعاد أغلب السوريين إلى امتلاك مكانهم في الفضاء العام، للدفاع عن الحرّيات العامة والخاصة، وتوجيه الانتقاد لكل مظاهر الخلل والنقص، فثمّة شيء في عيون الناس، وأحاديثهم، يوحي بأنهم عازمون على المشاركة في بناء مستقبلهم ومستقبل بلادهم، وكسر كل الحواجز التي تعترض طريقهم.
العربي الجديد
—————————————-
في نقاش بديهيّات/ فدوى العبود
29 ابريل 2025
بعد سقوط الأسد ومعه الأبد يتابع قطار السوريين رحلته، ولكن من دون تبدّل في المحطّات. إذ لا يعرف أحدٌ وجهته، وهل سيتوقف في محطّة أو هاوية!
اعتقد بعضهم أن حقبة انطوت، بينما كان المتشائمون أكثر حذراً. وبين هذا وذاك، يقف السوري أمام واقع جديد، يتطلب منه قدراً من الوعي، أو بالأحرى تغيير أفق الوعي الذي لوّثته علاقات السلطة والتخوين السابقة، فالعلاقات التي تشكّلت ضمن منظومة ثقافية وسياسية متهالكة لا تؤسّس لمنظومة تعايش سليم. وإذا كان التغيير يحتاج وقتاً، فإن التفكير يحتاج إرادة وقدرة على رؤية حجم الأذى الذي طاول وعيهم.
ومع أنّ الشرخ عميق، إلا أن المؤلم أنهم فقدوا أبسط البديهيات التي تقوم عليها الحياة، كالحريّة وحقّ الاختلاف واحترام النضج. إذ ضاعت الحدود بين الحريّة والفوضى، والتبس عليهم الفرق بين الاختلاف والعداوة. ولم يكن هناك أي تمييز بين النضج كتجدد وحكمة وبين النفاق كانقلاب ومداهنة لسلطة الأقوى. وبدت هذه البديهيات طارئة على فهم السوريين.
وبينما يزداد الوضع المعيشي سوءاً، راحوا يفتحون دفاتر قديمة، إذ ينبش أحدهم في ماضي الآخرين، ليعثر فيه على أحكام لإدانتهم. ولا نتحدّث هنا عن ماضي المجرمين والقتلة، ومن تلوثت أياديهم بالدماء. وليس القصد بالطبع الذين انقلبوا من حال إلى حال، فهذا سياق آخر؛ بل تلك الطريقة المجانيّة في الاتهام، وهي نابعة من غضب وسوء فهم يفسّره انقطاع 54 سنة بينهم، فلطالما شابت علاقاتهم الريبة والحذر في عهدي الأب والابن؛ وإذ كانوا بين موظفٍ وعاملٍ ومدرّس وطبيب وإعلامي، فلكل منهم قصة مع السلطة. وهي ليست حكاية سعيدة بالضرورة، إنها أشبه بالزواج القسري، حيث يعدّ صمت الزوجة رضىً.
يتناسى السوريون أن الوعي متغيّر، وأن الحقيقة لا تظهر للجميع في وقت واحد، ووفق المقاييس التي وضعت للتخوين، سيكون جميع السوريين مُدانين، يعرف الذين عاشوا في حقبتي الأب والابن أن منهم من ساعدته ظروفه على رفض الظلم، وبعضهم آثر السلامة والسكوت على ما للأخيرين من إدانة أخلاقيّة، لكنها لا تصل إلى حدّ تخوين الآخر أو عقابه ونبذه.
وفي السياق، تكشف قضايا كثيرة عن هذا القصور في مجاراة منطق الحياة، كقضية الشاعرة المنقّبة التي تعرّضت لهجوم من شاعرات أخريات، تعرّضن لهجوم من الطرف المضاد لمظهرهن السافر. وتناسى الطرفان أن العلّة ليست في ما نرتديه، بل كيف نفكر وما الذي نفكر فيه؟ وحتى في الحالة الأخيرة الاختلاف طبيعي.
انقسم السوريون بعد الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024. توجّس سوريون من السلطة الجديدة وميولها، وراح هؤلاء المُصابون بالإسلاموفوبيا يبحثون في كل خطوة تخطوها هذه السلطة عن زلل. وفي المقابل، انبرى آخرون للتنديد بالعلمانية وأنصارها، واتهم هؤلاء العلمانيين بالفجور. بينما راح مندفعون في التيار الديني يستغلون فرصة الفوضى لفرض رؤاهم على واقع لم يعد يحتمل الأدلجة في جميع توجهاتها. وتصرّفوا كأنهم دخلوا دار قوم لوط. أو كأن الشعب السوري فاسقٌ ويحتاج من يعلّمه الإيمان، مختزلين الدين في المظهر، نازعين عنه سمْته الحضاريّة وطابعه الإنساني.
وبما أنه لا حرية بدون وعي ولا كرامة إلّا بكليهما، فإن الحالة الغرائزية العامة في الواقع السوري، أبعد ما تكون عن ذلك، إذ يتّخذ الدفاع عن فكرة حتى بين صفوف المثقفين سمة القبائليّة، أو يقعون في ازدواجية المعايير الذي يمكن أن نتفهمه من سياسي تحكمه المصلحة لا من مثقف، فمن دافعوا عن المظلوم يوماً هم أنفسهم الآن يطلقون أحكاماً ظالمة، لأنهم يميلون إلى هذه السلطة لا تلك.
يحتاج السوري اليوم إلى طاولة حوار مع ذاته، وبعد الاتفاق معها على أولى البديهيّات، يجدُر به التوجّه إلى مقاعد الحياة ليتعلم من جديد أبجديات الحياة التي شوّهتها البنادق وشوّشتها الدماء وخطّ عليها الطغيان مبادئه. ربما نحتاج إلى سارتر وروسو سوريين. يكتبان على سبّورتنا ويعلماننا البديهيات التي غابت عنّا، وأولها: أن الدفاع عن حرية الآخر حماية لحرية الذات.
ينسى السوريون دوماً، ويجب تذكيرهم أن الرؤساء والأمراء والقادة يمضون بينما تبقى الشعوب، وهم في غيبوبتهم هذه يؤسّسون لمستقبل أبنائهم قادماً قاتماً لا يقلّ غموضاً عما سبق.
العربي الجديد
——————————–
شرق الفرات: أغانٍ وحكايات وموسيقى.. ليس نفطاً وقمحاً فحسب/ محمود عبد اللطيف
29 ابريل 2025
يجهل سوريون كثيرون شكل الحياة الحقيقية في شرق بلادهم، وزادت الصور النمطية التي رسختها الدراما والدعاية السياسية التي مارستها الأطراف كافة خلال سنوات الحرب، من جهل سكان بقية المحافظات بشكل الحياة ضمن منطقة الجزيرة السورية وحوض الفرات، إلّا أنّ الحقيقة الراسخة طوال قرون خَلَت أن هذه المنطقة التي تتداخل جغرافياً وثقافياً مع البادية السورية والغرب العراقي والجنوب الشرقي من تركيا، أوجدت لنفسها هويةً قد تكون من أقدم الهويات الحيّة عبر التاريخ، على الرغم من تعدّد الجهات السياسية والعسكرية التي سيطرت عليها منذ الحضارات الأولى.
السؤال الأوّل الذي قد يخطر على بال أي شخص عند التفكير بمنقطة باتت تعرف إعلامياً باسم “شرق الفرات”، منذ العام 2017، ومن خلال حديث الحكومة التركية تحديداً خلال المعارك التي شهدتها مناطق جرابلس، ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، هو مَن يسكن تلك المنطقة؟ وتشير الإجابة إلى تنوّع عرقي وديني وطائفي مثير للاهتمام، فالمنطقة على مستوى المكوّنات العرقية يسكُنُها “العرب – السريان – الآشوريين – الكلدان – الكرد – شيشان (يعرفون محلياً باسم جيجان) – أرمن – شراكس”، وعلى المستوى الديني يقسم سكانها إلى مسلمين ومسيحيين وإيزيديّين، وضمن مدينة القامشلي ما تزال هناك أملاك ليهود المدينة، التي تقع في جزئها الشمالي على الشريط الحدودي مع تركيا، وهناك تعداد ضخم من اللّغات واللهجات المحكيّة في المنطقة، ويقول الصحافي فايز جدوع لـ”سورية الجديدة” إنّ تنوّع اللكنات المحكيّة للغة العربية قد يصل إلى حدّ التبدّل من حي إلى آخر في مدينة الحسكة، ومن عشيرة إلى أخرى، فعشائر مثل “شمّر والشرابيين والخواتنة”، لكل منهم لهجة مختلفة تماماً عن بقية العشائر العربية، كما أنّ السريان والمسيحيين يتحدثون بلكنة تعرف باسم “الميردلية”، وهي منسوبة إلى مدينة ماردين التركية، التي كانت سوريةً حتى بدايات القرن العشرين، كما أنّ لهجة سكان مدينة دير الزور قد تُسمع في محافظة الحسكة؛ إذ إنّ أقدم العوائل العربية التي سكنت مدينة الحسكة على وجه الخصوص، تتحدّر أساساً من مدينة دير الزور، كما أنّ ثمة تمايزاً كبيراً بين اللهجة العربية للعشائر التي تعرف باسم “الشوايا”، عن اللكنة التي يتحدث بها أبناء مدينة دير الزور أنفسهم، وخلال التجوال في مدينة الحسكة أو بين القرى يمكن أن تتبدل اللغة المستخدمة كلياً، فإنْ توجهت إلى الغرب من المدينة ستجد مجموعة من القرى التي تعرف باسم “خط الخابور”، أو “قرى الخابور”، التي يتصادف أن سكان غالبيتها هم من “الآشوريين”، الذين يمتلكون لغة خاصة تعدّ من أقدم اللغات الحية، إضافة إلى اللغة الكردية التي ستجدها في عدد كبير من المدن والقرى الواقعة ضمن منطقة الجزيرة السورية.
ويفيد الموسيقيّ حبيب جارو بأنه حين يخرج من بيته ويريد أن يلقي السّلام على من يصادفهم من معارفه، قد يستخدم خمس طرق مختلفة لنطق كلمة “مرحبا”، على مستوى اللهجة واللغة، ويقول لـ”سورية الجديدة” إنّ التنوع الكبير للموسيقى في مناطق الجزيرة السورية وحوض الفرات ناتج أساساً عن تنوع الثقافات والقوميات التي تعيش في هذه المنطقة، وهي تُحيي الكثير من الأساطير والحكايا التي ما يزال سكان المنطقة يُحيونها، فعلى سبيل المثال فإنّ الإبادة الأرمنية التي عاشتها هذه الأقلية في بدايات القرن العشرين ما تزال حاضرة في الأغاني والتراتيل الكَنَسيّة الخاصة بالأرمن، وقد انتقلت بعضُ الألحان إلى لغة أخرى من خلال استخدام اللّحن المنسوب إلى التراث الكرديّ، على سبيل المثال، مع كلامٍ عربيّ منطوق بلهجة العشائر، أو منطوق بلهجة الميردلية، ويحتوي التراث والموروث الكردي على أغانٍ ملحمية ما زالت تجسّد الأساطير القديمة، كما أنّ الموسيقى العربية يمكن وصفها بـ”الطقوس الحية”، التي انتقلت من العزف على وتر الربابة الوحيد إلى آلات أخرى، والتداخل الموسيقيّ بين مكونات المنطقة يصل حدّ التطابق في أنواع الآلات الأساسية كما في “البزق والجنبش (آلة تشبه البزق ويعزف عليها بطريقة مشابهة للعزف على العود).
لا ينفصلُ الرقص عن الموروث الموسيقيّ لمنطقة الجزيرة السورية، التي يضم تراثها عديداً من الدبكات والرقصات، وإن كانت إحداها منسوبة إلى مكوّن ما، فذلك لا يعني أنّها حكرٌ عليه، فالأعراس، بوصفها مكاناً لاستخدام هذا النوع من الموروث، قد تشهد دبكات كردية مثل “الشيخاني والباكية والهورزي”، ولكل منها إيقاع له سرعة معينة، وستجد فيها دبكات أخرى مثل “العربية بتعدّد مسمياتها وأنواعها”، و”الجوبي – الجولاقي”، وصولاً إلى دبكات سريانية وآشورية مثل “خاصديه”.
و”المولية” هي العلامة الفارقة لغناء حوض الفرات، وهي نوع يكتب كلامه على البحر البسيط، ويغنّى على مقامات موسيقية عدّة منها الصّبا والنهاوند والبيات، وغالباً ما يكون المقطع الواحد مؤلفاً من أربعة أشطر، الثلاثة الأولى منها تتطابق في القافية، والأخير ينتهي بياءٍ وهاء مشدّدة، وقد تكون الأشطر الثلاثة الأولى قائمة على “الجناس”، في الكلمة الأخيرة، فتتطابق في البناء اللفظي وتختلف في المعنى، والطريف أن هناك تنافساً كبيراً بين سكان محافظتَي دير الزور والرقة حول نسب “المولية”، فالبعض يقول إنّ “المولية ديريّة”، والآخرون ينسبونها إلى الرقّة، إلّا أن الاتفاق جرى على تسميتها بـ”المولية الفراتية”، مع التمييز بين الإيقاع السريع في دير الزور والبطيء في الرقة.
أساطير حيّة وأدب ثري
تعد منطقة الجزيرة والفرات من المناطق التي ما تزال فيها أسطورة “عشتار” حاضرةً وحيةً، من خلال غناء الأطفال حين هطول المطر “أم الغيث غيثينا”، وهم يطوفون على منازل القرية حاملين بعضاً من الأواني ليجمعوا ما تمنحه لهم النسوة من قمح، و”أم الغيث” هي عشتار وفقاً للكثير من المرويّات الشعبية، والنسوة تستجيب لغناء الأطفال لأنهم سيردّدون “والـ تنطينا (تعطينا) بـ الطبشي (الصحن)، إنْ شاء الله وليدها يمشي، والـ تنطينا بالطاسة (وعاء) إم حجول الركاصة (الرقاصة)”، وباعتبار الأسطورة نوعاً من الأدب الحي للشعوب، فإنّ الحديث عن التنوع الكبير للأدب في الجزيرة السورية يأتي من أنها ذات مشارب ثقافية متنوعة.
ويقول الكاتب والمخرج المسرحي إسماعيل خلف: ربما أمكننا الاستفادة من التنوع الثقافي في سورية، ووضعه في خدمة الثقافة الأم (الثقافة العربية)، والثقافاتِ الأخرى؛ السريانية والكردية والآشورية؛ وربما الشركسية، وإذا ما عدنا إلى البدايات وجدنا أن سورية كانت جزءاً صميماً من طريق الحرير، الذي يربط الشرق بالغرب، وجسرَ الانتقال من الجمع والالتقاط والصيد إلى الزراعة فالتجارة. ويتجمع الناس حول مراكز الصناعة أو الطاقة أو التكنولوجيا اليوم، ولو عدنا عشرة آلاف أو اثني عشر ألف عام، أي إلى زمن اكتشاف الزراعة، لفهمنا كيف سيجتمع الناس حول هذا المرفق الحيويّ لخدمته والاستفادة من عائداته، وهو ما يفسّر التنوع الإثنيَّ الكبير في سورية.
يوضح خلف أن سورية دخلت الإسلام فتعرّبت بالعرب العاربة والمستعربة من الأقوام التي دخلت الإسلام، بهذا المعنى فالعربية هي الثقافة الأم اليوم، وإلى جوارها ثمّة ثقافات أخرى، فالكرد يشكّلون القومية الثانية في البلاد، والسريان هم أيضاً يملكون ثقافتهم الخاصة، وهذا حال الأشقاء الآشوريين والأرمن والشركس والشيشان. إذن؛ نحن نحتاج إلى تشجيع الثقافات الأخرى تأليفاً وترجمة، ثم الاشتغال على ترجمة من الثقافة الأم وإليها، هكذا ستغتني الثقافة الأم، وتغتني تلك الثقافات بلا حدود، ونحن نحتاج إلى مناخ ورؤية ديمقراطيتَين تأخذان هذا التنوع بالحسبان، إذ لهذه الثقافات جميعاً خصوصياتها، فولكلوراً وثقافةً، في التعبير عن شخصيات هذه المكوّنات، ما سيعطي الثقافة الأمَّ ثراءً غير مسبوق، ولنا في الفسيفساء بوصفها جزءاً من تراث المنطقة، خيرُ مثال.
ليست قماشاً فقط
تحمل الملابس في الجزيرة السورية معاني ودلالات أكثر بكثير من كونها أقمشة لستر الجسد، ففي داخلها تلتقي الثقافات والسنين، وتعبر عن البيئة المحلية التي تصنع الملابس من موادها، مثل القطن والحرير والصوف، ويقول الباحث ديب السرحان، مؤلف كتاب “الهوية الثقافية للجزيرة السورية”: ” يعود تاريخ اللباس التراثي في الجزيرة السورية إلى مئات الأعوام، وهو الزيّ الأساسي لأهالي البادية والريف في مناطق شمالي شرقي سوريا، بحيث يمثّل الهوية الثقافية التي تتناقلها القبائل والعشائر والعائلات من جيل إلى آخر، لترسيخ القيم الإنسانية والاجتماعية التي تعبّر عن حضارة المنطقة وتاريخه”.
يضع رجال العشائر على رؤوسهم قطعة قماشية تحمل رموز الصيادين في النهر من أمواج ومربعات شبكة الصيد، وتسمى شماخ حين يعلوها العقال، ويَشْمر حين تلف حول الرأس، وكوفية حين توضع على الرأس دون عقال. ونكَاب حين يغطي جزء منها نصف الوجه، وسُلك إذا وضعت على الكتفين. وتطوى من منتصفها وتثبت على الرأس بواسطة العقال، الذي يُصنع من شعر الماعز. تختلف سماكتها وألوانها بين البيضاء التي تقي من حرارة الصيف، والملونة التي تضاف إليها خيوط منسوجة لزيادة سماكتها بهدف الوقاية من البرد.
على الجسد، يرتدي الرجال سروالاً واسعاً فوق ثوب فضفاض بكمين طويلين، وفوقه رداء ملون مفتوح من الأمام يسمى “الزبون”، وعادة ما يضاف حزام عريض فوق اللباس، قد يكون مبطناً ليُستخدم جيباً. السترة الصغيرة المصنوعة من الجوخ أو الساتان تسمى “الدامر”، والسترة المصنوعة من القماش الثقيل المطرز تسمى “الدراعة”. يرتدي الرجال أحياناً عباءة فوق الملابس، تكون خفيفة في الصيف، ومبطنة بجلد الغنم في الشتاء وتسمى “الفروة”.
أما النساء، فاللباس التقليدي يتألف من عباءة طويلة داكنة اللون بالنسبة للسيدات وزاهية بالنسبة للفتيات، وتزيّن غالباً بأقراط ذهبية أو فضية أو يطرز بعضها، مع وشاح يعصب الرأس. هذه الأزياء ليست مجرد ملابس، بل هي تعبير عن الهوية الثقافية والتاريخية للمجتمعات التي تعيش في هذه المنطقة، مما يعكس تاريخاً طويلاً من التعايش والتفاعل بين مختلف المكونات
في تراث الجزيرة السورية، تلعب الملابس التقليدية دوراً مهماً في المناسبات الخاصة مثل الأعراس والاحتفالات الدينية والاجتماعية. هذه الملابس ليست مجرد أزياء، بل تحمل رموزاً ودلالات ثقافية تعبر عن هوية وتراث المنطقة.
النساء يرتدين في المناسبات “الصاية”، وهي ثوب مفتوح من الأمام مصنوع من الحرير أو القطن، ومزين بتطريزات وزخارف بسيطة. في المناسبات الخاصة، تُضاف إلى الصاية قطع من المجوهرات التقليدية مثل الأقراط والقلائد الذهبية أو الفضية، مما يزيد من جمال وأناقة الزي.
لم تكن منطقة الجزيرة والفرات منطقةً لسكان أقلّ تحضراً من بقية سكان سورية كما يوسم الشوايا، ولم يكن الكرد يوماً انفصاليين أو منطويين على أنفسهم، كما تشير السرديات السياسية التي روّجتها عنهم القوى التي لم تقبل منحهم حقوقهم الثقافية، ولعله ليس من المصادفة بمكان أن تكون المنطقة الأثرى في سورية بالتنوع والتعدد الثقافي هي الخزّان الاستراتيجي للثروات السورية، وبالتالي فإن الحديث عن “شرق الفرات”، وفقاً للمسمّيات المستحدثة خلال سنوات الحرب السورية، يعني “قمحاً وقطناً ونفطاً.. والكثير الكثير من الموسيقى والغناء والحكايا”.
العربي الجديد
——————————–
غرفة سوريّة وطوائف/ شعبان عبود
29 ابريل 2025
ربما سيستغرب كثيرون لو قلتُ إني أشفق وأتعاطف مع شاب صغير، لديه لحية، ويحمل سلاحاً، ويتحدثُ بلغة طائفية مقيتة، لغة عنيفة تكفّر السوري الآخر وتشيطنه، وترى فيه خصماً وعدوّاً. نعم، لا أحمل كثيراً من الضغينة إزاء هؤلاء، لأني أعرف ماذا تفعل الثورات والحروب في المجتمعات، وأعرف أن تلك الثورات والحروب ستترك آثاراً طويلة وعميقة في الذات الفردية والجمعية لكل السوريين، وستفرض نفسها بقوة حين رسم مستقبل بلادنا، ونحن نرى ذلك كل يوم.
أتعاطف مع هذا الشاب “الطائفي” وأُشفق عليه أيضاً لأنه بصراحة لم يعش طفولة طبيعية وسويّة، ولم يترعرع في بلد طبيعي، إنه مريض تماماً، ونما وكبر في وقت كانت فيه سورية كلها مريضة.
هو وُلد وترعرع في قلب الحرب، وفي وقت انقسمت سورية فيه إلى ثورة ونظام قمعي، إلى معارضة وموالاة، إلى قتلة وضحايا، وفي وقت وُلدت فيه الفصائل المسلحة، والحواجز على الطرقات، والتنظيمات الإرهابية والأفكار المتشددة، وفي وقت كانت تُقصف فيه بالطيران مناطق ومدن وقرى فيما أخرى لا يطاولها القصف والموت. هناك جيل جديد وُلد وترعرع في قلب كل ذلك. وعليه، لنتخيل طفلاً عمره كان خمسة أو عشرة أعوام عند بداية الثورة والحرب، لنتخيل كيف وفي أي بيئة عاش وترعرع وصار رجلاً، وكسب لاحقاً ثقافته ومعرفته عن الآخر؟
لا يعرف هذا الشاب عن السوري الآخر سوى أنه عدو وخصم، هو لم يره أو يسمعه، هو لم يتعرّف إليه في المدرسة أو الجامعة ليكتشف أنه يشبهه كثيراً، هو تعرّف إليه بعد أن قُصف منزل عائلته وبعد أن قُتل بعض من أهله، وبعد أن اضطُر بعضٌ من أحبته للهروب عبر البحار. وفي قلب ذلك كله، لم يكن فوق رأسه سقف مدرسة أو جامعة، ولم يسمع بنيلسون مانديلا، بل كان هناك رجل دين وقائد تنظيم فوق رأسه. هذا الجيل يختلف تماما عن جيلنا نحن، لم يعش طفولة تشبه طفولتنا، لم يكتشف ولا يعرف الآخر كما اكتشفناه وعرفناه نحن.
نحن، أو جيلنا، عاش في ظروف طبيعية إلى حد ما، صحيح أننا جميعاً نشأنا في مناخ وتحت ظل نظام استبدادي، لكن رغم ذلك كانت هناك بيئة من الاستقرار، بيئة سمحت لنا أن نذهب إلى المدارس والجامعات حيث تعرفنا إلى السوري الآخر.
أنا على سبيل المثال، وهناك مئات الآلاف مثلي، وحين غادرت قريتي “بنّش” في محافظة ادلب متوجها إلى دمشق لأدرس الصحافة في جامعتها، اكتشفت وقتها أن سورية أكبر بكثير من قريتي تلك، والكلية حيث درست وفي المدينة الجامعية حيث سكنت ونمت مع طلبة جامعيين آخرين في غرفة واحدة، اكتشفت أن هناك سوريا كرديا وسوريا مسيحيا وسوريا علويا وسوريا درزيا، كان وقتها اكتشافاً رائعاً. ولاحقا، ومع الوقت، اكتشفت اكتشافاً آخر، أن هؤلاء المختلفين عني وعن أهل قريتي الذين يدرسون معي على مقاعد الدراسة وينامون معي في الغرفة بالمدينة الجامعية يشبهوني كثيراً، رغم أنهم يختلفون باللهجات وطريقة الكلام، فنحن جميعاً كنّا نعاني وقتها من ضائقة مالية، وكنا جميعا نعتمد على “مكدوس” وأجبان وزيتون وبرغل أمهاتنا كمؤنة تساعدنا على الاستمرار في تلك المدينة الكبيرة، وعلى بعض من قروش آبائنا، كنّا نتبادل أحياناً السترات والسراويل والأحذية، لم يكن لدينا إمكانية الشراء وترف التسوق. لكن لم يكن هناك قصف وموت وحرب، كان كل شيء طبيعياً.
لاحقاً تفرّقنا، نحن الطلبة المتشابهون والمختلفون، وبعد سنين طويلة، وكما يعلم الجميع أتت الثورة ثم الحرب، ومع الحرب اكتسبت كلمات مثل سنّي وعلوي وكردي ودرزي معاني جديدة، صارت هويات، صارت أقاليم، صارت قتلة وضحايا، تفرّقنا من جديد أيضا بسبب الحرب، لكن قلة منّا تشبثت بتلك الغرفة الصغيرة في المدينة الجامعية.
العربي الجديد
———————————
رسالة خاصة/ يعرب العيسى
29 ابريل 2025
السيدة كريستالينا غورغيفا المديرة العامة لصندوق النقد الدولي:
سمعتُ تصريحاتك الودودة تجاه سورية قبل أيام، وسرّني أنك تهتمين بنا، وأنك تريدين مساعدتنا على إعادة الإعمار. وكنتُ قد سمعت تصريحات مشابهة صدرت عن زملاء لك في الصندوق، وتصريحات أخرى لأبناء عمومتك الأقربين، أقصد أصدقاءك وشركاءك في البنك الدولي.
لكن تصريحك الودود، بالحقيقة هو ما حرّضني لأكتب لك هذه الرسالة الشخصية، على سبيل إبراء الذمة، فلا أقلّ من أن نقابل الودّ بالودّ، والصراحة بالصراحة.
سيدتي الكريمة: أنت تمهّدين الآن لعلاقة ستنشأ فيما بعد بين مؤسّستك العظيمة وبلدي الضعيف. وكلانا يعلم أن ذلك لا يمكن أن يجري الآن، وأن قدرتك على تنفيذ وعودك مرهونةٌ بتعقيدات دولية كثيرة، أولها حصول الحكومة السورية على الاعتراف الدولي، وإنّ الأمر، مثل كل شيء مهم في العالم، سيبدأ من واشنطن.
صحيحٌ أن كل ما يقال عنكم ومنكم ما زال في إطار الكلام، وأن الوقت طويل جداً، حتى تبدأ أول خطوة عملية. لكن، في كل الأحوال، وتحسّباً لأي طارئ، أريد أن أبلغك بموضوع يتعلق بخططكم المستقبلية لبلادي، قبل أن تنشغلوا بموضوع آخر، مثل فتح دفاتركم القديمة في بيرو، أو تكفين الجثث الاقتصادية التي تناثرت خلفكم في اليونان، أو الردّ على الاتهامات الفظيعة التي تقولها بحقكم النقابات في البرازيل، أو أشياء مزعجة أخرى، يمكن أن تأتي من أي مكان عبرتم فيه على مدى عقود.
أنا مواطن سوري، لا أمثل حزباً سياسياً، ولا تجمّعاً مدنياً، ولا جماعة طائفية أو عرقية، وقد استأذنت زوجتي وولدَي، بمخاطبتك باسمهم. وبالتالي، أحدّثك باسم أربعة أشخاص، ستكون حصّتهم في النهاية من خططكم الاستراتيجية بحدود 356 دولاراً أميركياً، فالخبراء الذين تعاملوا معكم سابقاً أعلموني أن سقف ما ستتمكن سورية من اقتراضه في النهاية سيكون 2.5 مليار دولار، بعد تحقيق مئات الشروط التي لا يمكن تحقيق أغلبها، ولأن عدد السوريين الآن يقارب 28 مليوناً، فستكون حصة كل سوري 89 دولاراً تقريباً.
يؤسفني أن أقول لك رسمياً ومنذ الآن: أننا لن نسدّد الـ 356 دولاراً، ولا نعترف بها، ولا نوافق على التعامل معكم باسمنا. غالباً لن أكون حياً حين يأتي موعد السداد، لكن ابنتي وابني سيرفضان ذلك أيضاً.
ولديك، بالطبع، حلول عدّة للتعامل مع هذا التحذير، إذ يمكن شطب حصّتنا من “راس الكوم” وعدم تسليمها للحكومة السورية (أي حكومة سورية) بالأساس، ويمكنك كذلك اعتماد الأغلبية الانتخابية معياراً ملزماً للأقلية الانتخابية، في حال ابتسم لك الحظ وجرت انتخابات في وقتٍ ما من السنوات العشر المقبلة. ويمكنك اعتماد التغلّب معياراً واقعياً لتحديد من تتعاملين معه. ولكنني أنبّهك أن الزمن يدور، وطبع الدروب التعرّج. يمكنك كذلك اعتبار الرقم سخيفاً، وتقومي بتجاهله، وهذا أيضاً خيار خطر، لأنني قد أصبح أكثر من أربعة أشخاص، وربما يمنحني أولادي أحفاداً كثيرين في السنوات المقبلة، ونصبح جماعة كبيرة. لديك خيارات أخرى كثيرة، ولكنني أبرأت ذمّتي نحوك.
قبل أن أقرأ تصريحاتك، وأقرّر مخاطبتك مباشرة، قرأتُ تصريحاتٍ للمسؤول الذي ستتعامل معه بلادنا كثيراً في مقبل الأيام، وهو نائب رئيس البنك الدولي للشرق الأوسط: عثمان ديون.
وانتبهت من اسمه أنكم تريدون حصرنا بالزاوية، كي لا نقول يوماً: لمَ لمْ تُرسلوا لنا إشارة؟
العربي الجديد
————————–
هذا التراث السوري الأثري المنسي/ بشير البكر
29 ابريل 2025
تعرّض تراث الجزيرة السورية الأثري للنهب في الأعوام الأخيرة، وجرى الحديث عن عمليات نهب آثارٍ من منطقة حوض الفرات بالقرب من مدينة البوكمال، ارتكبتها مليشيات محسوبة على إيران. وحسب شهادات من أبناء المنطقة، عمليات السطو على الآثار قائمة منذ بداية اندلاع القتال في هذه المنطقة قبل سنوات، وجرى ذلك من أطراف متعددة، ومنها ما تم نقله إلى إيران، وذهب الباقي إلى أيدي مهرّبين يعملون في الأسواق الدولية. ورغم أن هذا النشاط محرّم على المستوى الدولي، فإن ما يجري اعتراضه من آثار مسروقة لا يشكل سوى الجزء اليسير من كمّيات كبيرة.
الجزيرة السورية منطقة خصبة وأرض مثالية لتجارة الآثار لعدة أسباب. الأول أن هذه المنطقة غنية أثريا نظراً إلى تعاقب الحضارات عليها منذ عهود ما قبل الميلاد، مثل الحثيين والآراميين والبابليين والآشوريين، فهي تعدّ جزءاً أساسياً من حضارة ما بين النهرين (ميزوبوتاميا). ولهذا السبب، عرفت نشاطات تنقيب واسعة منذ مطلع القرن العشرين، وتم وضع اليد على أجزاء كبيرة من آثارها، ويبقى المثال الصارخ ما قام به الدبلوماسي الألماني ماكس فون أوبنهايم الذي نقل القسم الأكبر من كنوز تل حلف إلى ألمانيا. وتل حلف منطقة تقع على ضفاف نهر الخابور في مدينة راس العين في محافظة الحسكة. وتذكر معلومات تاريخية أن الآراميين من “بيت بحياني” استولوا، في القرن العاشر ق.م، على تل حلف التي أعيد تأسيسُها تحت اسم غوزانا.
وكما هو معروف، قام أوبنهايم بعمليات تنقيب في عام 1899 استمرّت عامين، بينما كان يمسح المنطقة لبناء سكة حديد الحجاز التي كانت فكرة ألمانية بتمويل من دويتشه بنك، واكتشف هناك قصوراً تاريخية وقطعا فنية بحالة جيدة وتماثيل. ومثّل اكتشافه هذا حدثا هاما في تاريخ التنقيب عن الآثار. وعاد في 1911 إلى تل حلف. وبدأت عملية التنقيب، بمساعدة حوالي 500 من السكان المحليين. وخلال ذلك عثروا على القصر الغربي، وعلى معالم أثرية عليها رسوماتٌ واضحةٌ لحيوانات وبشر، وتماثيل حجرية ساحرة. ثم عثروا على القصر الشمالي الشرقي، وعلى سور المدينة، وبوابات، ومدافن، وحجرة سمّيت القاعة الثقافية. وتمكّن أوبنهايم بطرق شتى من نقل أكثر من 500 قطعة معروضة حالياً في متحف برغامون في برلين، منها تماثيل حجرية، ولقى من القبور، وملابس شرقية قديمة. كلها جمعها أوبنهايم خلال جولاته إلى الشرق، ويعود القسم الأكبر منها إلى تل حلف، المكان نفسه التي توجد فيه مدينة أو دولة الآرامية “غوزانا” المذكورة في الإنجيل. وبعد انتهاء عمليات استخراج الآثار من تل حلف، بقي قسم منها في متحف حلب. أما ألقسم الأكبر فقد استولى عليه أوبنهايم وشحنه على 13 عربة قطار من حلب إلى ألمانيا.
وليس تل حلف الكنز الأثري الوحيد في هذه المنطقة، بل هناك مئات الكنوز الأثرية على ضفاف الأنهار مثل الخابور والجغجغ نزولا نحو الفرات، في مناطق تتبع مدينتي دير الوزر والرقة، وأغلبها تعرّض للنهب والسرقة سابقا على يد عصابات منظّمة شارك فيها متنفذون من النظام السوري السابق.
السبب الثاني الذي جعل منطقة الجزيرة مستباحة أثرياً عدم وجود سلطة سورية مسؤولة تهتم بحماية بالثروة التراثية، وتحميها من النهب والدمار بسبب الحروب. وحسب شهود من الجزيرة، تقاسمت الثروات المادية في المنطقة الأطراف التي سيطرت عليها. وتصرّف كل منها بالآثار التي تقع تحت سلطته. ويعود السبب الثالث إلى وجود أسواق دولية لهذه الآثار التي يجري تهريبها وبيعها وفق آليات تهريب، تقوم بها عصابات دولية متخصّصة، تنشط أساساً داخل مناطق النزاعات والحروب، ويعرف بعض الآثار طريقه إلى أسواق دولية مرموقة في عواصم تحارب هذا النشاط وتجرّمه. والسبب الرابع، هناك من له مصلحة في طمس هوية المنطقة وتاريخها. وتشهد على ذلك المشاريع السياسية التي باتت تطرح لمستقبل الجزيرة بعيداً عن سورية.
إذا كان الإيرانيون سرقوا الآثار السورية، فإن ما يؤمل، على الأقل، أن يكون مصيرها مثل مصير آثار تل حلف، التي نهبها أوبنهايم، وأقام لها متحفاً خاصاً، وهي تحتل جناحاً خاصاً في برلين اليوم، فهي على الأقل موجودة ومعروضة للزوار، ويعرف العالم أنها جزء من تاريخ سورية، الأرض التي ولد فوقها التاريخ.
العربي الجديد
—————————
الاحتقان الطائفي: مواجهات بين السنة والدروز في حمص والسويداء
الإثنين 2025/04/28
تعيش المدينة الجامعية في مدينة حمص وسط سوريا، حالة من الاحتقان الطائفي بين الطلاب السنة والدروز، انقلبت إلى تهديدات بالقتل، ما استدعى إجلاء الطلاب الدروز، وذلك قبل أن ينتقل الشحن إلى داخل مدينة السويداء، بين مسلحين من الدروز والبدو السنة، وسط دعوات إلى التهدئة واتخاذ إجراءات لتخفيف الاحتقان الحاصل.
مواجهات في المدينة الجامعية
وقالت مصادر متابعة لـ”المدن”، إن الحادثة بدأت في المدينة الجامعية، عندما انتشر بين الطلاب السنة، تسجيل لشيخ من دروز السويداء يدعى مروان كيوان، يشتم فيه النبي محمد، قبل أن يتجمع عدد الطلاب السنة في باحة المدينة ويهتفوا نصرةً للنبي.
وأضافت أن الطلاب هاجموا عدداً من زملاءهم الدروز في المدينة الجامعية، ما أدى إلى جرح بعضهم، فيما سيّر بعض الطلاب السنة مظاهرة داخل المدينة، “نصرة للإسلام والنبي محمد”.
واعتبر مصدر من السويداء في حديث لـ”المدن”، أن “اعتداء الطلاب على زملاء لهم من الدروز”، حادثة مُدانة وغير مبررة، لأن التسجيل المنتشر لا يمثّل الدروز في سوريا إنما يمثّل كيوان، واصفاً إياه بـ”الشيخ الموتور”، مشيراً إلى أنه تم إجلاء جميع الطلاب الدروز من الدينة على إثر الحادثة، بعد ما انتشر من تهديدات ودرءاً للفتنة.
ولفت إلى أن “التسجيل كان مفبركاً، وخرج كيوان ونفاه جملة وتفصيلاً”، مشدداً على أن التسجيل فتنوي، ونشره في هذه التوقيت، ما هو إلا تأجيجاً لحالة الاحتقان الطائفي في جميع المناطق السورية، مؤكداً أن هذه الحالة لا تخدم البلاد في هذه المرحلة، ويجب على الحكومة السورية وغيرها من الأطراف والشخصيات، اتخاذ إجراء للحد من هذا الاحتقان.
نبذ الطائفية
في غضون ذلك، صدر عن أبناء الطائفة الدرزية بيان، طالب بالوقوف في وجه الفتنة الطائفية، مشددين على الإدانة للتسجيل المنتشر المسيء للنبي محمد، كما أكدوا على أن صاحب التسجيل، لا يمثل الدروز ولا أخلاق الطائفة.
وأعرب البيان عن رفض ما حصل من اعتداء على الطلاب الدروز في المدينة الجامعية، محذراً من أن “يتحول الحادث الفردي إلى ذريعة لاعتداءات منظمة على أبناء طائفتنا في الجامعات والمدن، ولبث خطابات الإبادة والفتنة التي لا تخدم إلا أعداء الأمة”.
وقال البيان: “نرفض أن نُدفع إلى حرب طائفية لا نريدها ولن نكون وقوداً لها. ونقول بوضوح إن الجماعات المتطرفة التي تهدد وتتوعد وتكفر لا تمثل الإسلام، ولا تمثل أهل السنة والجماعة الذين نكنّ لهم كل الاحترام والتقدير”، مؤكداً أن الطائفة الدرزية هي جزء من النسيج العربي في بلاد الشام. ودعا إلى تهدئة النفوس وضبط الخطاب الديني، ونبذ الانتقام والفتنة.
وخلال ما حصل في المدينة، انتشرت مقاطع مصورة لطلاب يهددون بقتل الطلاب الدروز والعلويين وغيرهم ممن يشتمون النبي محمد، وسط دعوات لإجراءات تحد من الخطاب الطائفي.
مواجهات مع الدروز
وامتدت آثار ما حدث في المدينة الجامعية إلى داخل أحياء مدينة السويداء، إذ تحدثت تقارير عن اشتباكات مسلحة بين دروز وعدد من البدو داخل أحياء البدو في المدينة، تخللها إطلاق قذيفة صاروخية.
وقال مصدر من السويداء لـ”المدن”، إن الحادثة كانت محصورة داخل أحياء البدو، ولا ترتقي لتوصف بالاشتباكات، لكنها مؤشر غير صحي، وجاءت امتداداً لحالة الشحن والاحتقان الطائفي لما حصل في المدينة الجامعية في حمص، كما أنه حدث من سلسلة أحداث تنبع من نفس الدوامة الطائفية.
ولفت إلى أن تطور المواجهات بين البدو والدروز، هو رهن بالأجواء المشحونة طائفياً على كامل التراب السوري، لكنه توقّع عدم تطوره خلال هذه المرحلة.
على خطٍ موازٍ، دعا شيخ عقل الطائفة الدروز في السويداء حمود الحناوي إلى نبذ الفتنة والطائفية قائلاً: “أيها السوريون نتوجه إليكم جميعاً من مقام مشيخة عقل طائفة المسلمين الموحدين الدروز محذرين من الفتنة وإثارة النعرات الطائفية التي تعود عواقبها على مجتمعنا بالتفرقة”.
وأضاف في مقابلة مع شبكة “السويداء24″، قائلاً: “علينا أن ندرك بأن هناك مندسين يصطادون في الماء العكر ويتربصون بالمجتمع ويجب أن يحاسبوا وينالوا العقاب الشديد من الجميع”، داعياً أبناء العشائر من البدو، “للوقوف صفاً واحداً لدرء مثل هذه المخاطر التي تعكر صفو الجميع”.
——————————
المخابرات السورية وتلافي فخ الدولة الأمنية/ مهيب الرفاعي
الثلاثاء 2025/04/29
مثّل جهاز المخابرات في سوريا منذ وصول حزب البعث إلى السلطة عام 1963، ركيزة أساسية لبناء نظام سلطوي مغلق، يقوم على المراقبة، والقمع، وتكريس الولاء الفردي لشخص الحاكم. ومع تسلم حافظ الأسد السلطة عام 1970، تحوّل هذا الجهاز إلى كيانات موازية للدولة، تمتد في كل مفاصلها ويخترق مؤسساتها الاجتماعية، والاقتصادية، والدينية، والثقافية. ومع انتقال الحكم إلى بشار الأسد عام 2000، ثم اندلاع الثورة السورية عام 2011، دخلت هذه الأجهزة مرحلة غير مسبوقة من البطش المنظم، مُمارسةً دوراً أساسياً في سحق الحراك السلمي وتحويله إلى صراع مسلّح، عن قصد، لإفشاله وكسب الرأي العام العالمي لا سيما من خلال تبني الرواية العالمية في “الحرب ضد الإرهاب”، بعد سلسلة من الإجراءات الأمنية المتعمدة التي سهلت خروج بعض المعتقلين الإسلاميين المتشددين السابقين لدى المخابرات السورية من المعتقلات، وغض النظر عنهم ليدخلوا في مسار عسكرة الثورة السورية لتتدخل الآلة العسكرية والأمنية لسحقها.
لم تكن المخابرات السورية مجرد أدوات لضمان الأمن العام، بل صارت دولة داخل الدولة. في عهد الأسد الأب ثم الابن، تحوّلت سوريا إلى مختبر نموذجي للدولة البوليسية والدولة الاستخباراتية “Intelligence State”، حيث تحكم الأجهزة الأمنية كل تفاصيل الحياة اليومية: من الجامعات، إلى النقابات، إلى المساجد، وحتى داخل المنازل. ولم يكن هناك جهاز أمن واحد، بل منظومة متداخلة من الفروع المتنافسة تشمل المخابرات العسكرية، المخابرات الجوية، أمن الدولة، والأمن السياسي. كل شعبة من هذه الشعب لها فروع أمنية وكل فرع له سجونه، وشبكة مخبرين سريين، وميزانية مفتوحة مخصصة، وجيش صغير يؤدي مهام الاقتحام والاعتقال، في مناخ لا مركزي ومتعدد ومتفرع بحسب المهام والعمليات. هذا التعدد لم يكن خطأً تنظيمياً، بل مقصوداً، لضمان عدم تشكّل مركز قوة أمنية قادر على التمرّد أو حتى مجرد التفكير به؛ لا سيما وأن ضمن المخابرات العامة هناك قوة أعلى من قوة، لتعزيز مناخ التوجس والرقابة المتبادلة.
عقيدة مخابرات نظام الاسد
ترتكز العقيدة الأمنية لنظام الأسد على الهيمنة الكاملة والتجسس المنهجي والتحكم بمفاصل الدولة والمراقبة المطلقة للسوريين والمقيمين، بالإضافة إلى الرغبة الدائمة في التغلغل في بعض الدول المجاورة، لا سيما لبنان، بهدف فرض وصاية سياسية وأمنية وعسكرية تخدم مصالحه. كما تنطلق من مبدأ وهمي قائم على الانتشار الأمني لحفظ أمن الدولة من أي عدوان خارجي (دإسرائيلي-غربي)، او أي تهديد داخلي (دجماعات وخلايا إسلامية نائمة)؛ لا سيما وأنه روّج لهذا الخطر منذ ثمانينيات القرن الماضي بعد هجومه على حماه بحجة وجود جماعة “الإخوان المسلمين”، وصولاً إلى 2011 وإطلاقه نظرية “المؤامرة الكونية” وأسْلمة الثورة السورية وتصنيفها ضمن خانة “الجهادية السنية” وتحويل الحراك إلى حراك إسلامي عسكري وليس ثورة مدنية. و تلبية لمتطلبات هذه العقيدة، طوّر نظام الأسد أجهزة استخبارات ككيانات مستقلة نسبياً عن الهياكل الحكومية، مدعومة بثقافة أمنية قمعية متجذرة، تعود إلى حقبة حافظ الأسد و”حركته التصحيحية” ، وتعمل وفق شبكة معقدة من الولاءات والطائفية والمؤسسات الموازية التي منحتها سلطة فوق القضاء، وفوق الحكومة، وحتى فوق الحزب الحاكم نفسه، بالإضافة إلى استخدام ملفات المخابرات السورية كأدوات ضغط على دول الجوار و بعض الدول الغربية لا سيما فرنسا والولايات المتحدة.
بنية وهيكلية جهاز المخابرات السوري
تزايدت الحاجة إلى فهم البنية المؤسسية لمخابرات نظام الأسد، بالنظر إلى دورها المحوري في قمع الشارع السوري وإخفات أي صوت مطالب بالتغيير والحرية والعدالة، أو حتى التجرؤ على المطالبة بالحقوق والحريات، وتحويل أي أزمة السياسية إلى صراع طويل الأمد، سواء طال سوريا أو خارجها. تمثل هذه الأجهزة العامود الفقري لنظام الأسد، وهي مسؤولة بشكل مباشر عن سياسات الاعتقال التعسفي، والإخفاء القسري، والتعذيب المنهجي الذي طاولت مئات الآلاف من السوريين خلال 54 عاماً من الحكم. يتكون الجهاز الأمني في سوريا من أربعة مؤسسات رئيسية هي: شعبة المخابرات العسكرية التي تعدّ الأكثر ارتباطاً بالمؤسسة العسكرية السورية، وتضم فروعاً مختصة بالضباط والقطعات والتشكيلات العسكرية، وتشرف على عمليات التوجيه السياسي والعسكري في القطع العسكرية؛ إضافة إلى فرع “فلسطين” المتخصص بقضايا الفلسطينيين والحركات الإسلامية، وقد توسع ليشمل العمل الداخلي الواسع لا سيما بعد عام 2011؛ والمخابرات الجوية التي تمتاز بطابعها السري والتعتيم سواء على مستوى عدد العناصر أو القيادات (ما عدا اللواء جميل الحسن الذي ارتبط اسمه بعمليات القمع بعد 2011) أو المهمات التي تقوم بها عناصر الشعبة، وهي إحدى أكثر المؤسسات الأمنية ولاءً للنظام وتتولى مهام الأمن الجوي والمراقبة التقنية وتنسيق العمليات مع وحدات الدفاع الجوي وتأمين الطيران الرئاسي والمطارات العسكرية والمدنية، وتأمين تنقلات رئيس النظام والمسؤولين الأمنيين في الرحلات الخارجية؛ والمخابرات العامة (أمن الدولة) المتخصصة بمراقبة الأنشطة السياسية العامة في البلاد ومتابعة الشؤون الخارجية، ورصد أية احتمالات لعمل “مشبوه” داخل الدولة لا سيما من التيارات الإسلامية والأحزاب السياسية ولها أفرع تتعامل مع وتشرف على عمل وزارات الإعلام والاتصالات وتراقب عمل الإنترنت والمواقع الالكترونية للأفراد والمؤسسات وتراقب تحركات المغتربين السوريين، كما تقوم بتدريب الكوادر الأمنية وتقديم الدعم اللوجستي لباقي الأجهزة، لا سيما في مهمات التجسس والتجسس المضاد؛ والأمن السياسي الذي يضطلع بدور محوري في مراقبة المجتمع والسيطرة عليه، حيث تخضع اسميذً لوزارة الداخلية لكنها فعلياً ترتبط بمكتب الأمن القومي، مما يمنحها صلاحيات واسعة. تتوزع مهامها على عدة فروع في دمشق والمحافظات، وتشمل أقساماً متخصصة مثل مراقبة الطلاب، الأديان، الأحزاب، الشرطة، العمال، الأمن الاقتصادي، شؤون الأجانب، والفنادق والمطاعم، ما يعكس تغلغلها في تفاصيل الحياة اليومية. ينسب إلى الأمن السياسي انتهاكات جسيمة، شملت الاعتقال التعسفي لآلاف المدنيين، وممارسة التعذيب الممنهج الذي أدى إلى وفيات عديدة تحت التعذيب، وسط تجاهل تام للمعايير القانونية والإنسانية. تولى قيادة الشعبة عدد من الشخصيات مثل اللواء محمد ديب زيتون، ورستم غزالة، وزهير حمد، وجميعهم يُعدّون مسؤولين بشكل مباشر عن السياسات القمعية المتبعة.
يبلغ عدد العاملين في هذه الأجهزة حوالي 120 ألف شخص، بينهم ما لا يقل عن 2000 ضابط برتب مختلفة. تشير بعض التقديرات إلى أن الغالبية الساحقة من الكوادر القيادية تنتمي للطائفة العلوية، وهو ما يمنح الطابع الأمني السوري بعداً طائفياً في بنيته التكوينية. ويقع المقر الرئيسي لجميع الأجهزة الأمنية في العاصمة دمشق، وتندرج تحتها فروع متعددة تُشكّل نسخاً مصغرة عن الإدارة العامة. وتضم هذه الأجهزة ما مجموعه 48 فرعاً رئيسياً، إلى جانب عدد من الفروع الأصغر المنتشرة في المحافظات (مفارز أمنية)، إضافة إلى فروع سرية لا تُعرف مواقعها أو طبيعة عملها. تُشرف على هذه الأجهزة كافة جهة مركزية هي “مكتب الأمن الوطني”، الذي تأسس بموجب مرسوم رئاسي صدر عام 2012، ليحل محل “مكتب الأمن القومي” بعد تفجير مبنى خلية الأزمة، والذي أطاح بعدد من كبار الضباط والمستشارين الأمنيين، وهو المكتب الذي كان مسؤولاً عن تنفيذ الخطة الأمنية للتصدي للحراك الثوري.
دور المخابرات في قمع الثورة
منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، تصاعد دور هذه الأجهزة بشكل غير مسبوق، إذ لم تكتفِ بالمراقبة والقمع، بل تحوّلت إلى ذراع حربية وعسكرية بحد ذاتها؛ تقتل وتدير وتفاوض وتنسق مع الميليشيات الخاصة الرديفة (الدفاع الوطني وميليشيات شيعية إيرانية وعراقية ولبنانية) التي تلقت دعماً مباشراً من إيران، حيث تعاون الحرس الثوري مع المخابرات السورية في عمليات الاقتحام والتفتيش والاعتقال والتحقيق، وأُنشئت غرف عمليات مشتركة في المدن الرئيسية. أما روسيا، فقد أمدّت هذه الأجهزة بتقنيات حديثة في التجسس والرقابة السيبرانية، بل وأشرفت على إعادة هيكلة بعضها بعد التدخل العسكري الروسي في 2015، لا سيما جهاز الأمن العسكري وجهاز المخابرات الجوية. وفقاً لمعطيات ميدانية، بلغ عدد المعتقلين أكثر من 215 ألف شخص منذ عام 2011، بينهم أكثر من 70 ألفاً مصنفين كمختفين قسرياً. من بين هؤلاء، ما يقارب 9 ألاف طفل، و4 ألاف و500 امرأة. وقد تم توثيق مقتل أكثر من ألفين و500 معتقل تحت التعذيب، منهم 84 طفلاً و25 سيدة.
تُستخدم سجون هذه الأجهزة كمراكز انتهاكات جسيمة، تتضمن التعذيب الجسدي والنفسي، والعزل، والحرمان من الرعاية الصحية، والتصفية الميدانية. بعض الأفرع المعروفة بممارساتها القاسية تشمل فرع “فلسطين” التابع للمخابرات العسكرية، والفرع 221 المعروف بفرع الجبهة أو فرع سعسع، ومسؤول عن انتهاكات جسيمة وصلت حتى الغوطة الشرقية، والفرع 248، وفرع التحقيق في المخابرات الجوية، والفرع 285 في أمن الدولة.
انهيار الشبكة وظهور بديل
شكّل سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر 2024 لحظة فارقة في تاريخ سوريا المعاصر، ليس فقط لأنه أنهى حكماً امتد لعقود، بل لأنه كشف عن البنية الحقيقية لنظام أمني مخابراتي كان يحكم البلاد من خلف الستار، وفكّك أكثر شبكات المخابرات تعقيداً في المنطقة، وأزاح شبح عنصر المخابرات المرافق لكل سوري. فمع دخول فصائل المعارضة إلى مقرات الأمن في دمشق ومدن كبرى، انكشفت آلاف الوثائق، من ملفات التحقيق إلى كشوف العملاء والمخبرين والتقارير الأمنية السرية. البعض منها وصل إلى الإعلام، والبعض الآخر سُلّم إلى حكومات أجنبية مثل تركيا وفرنسا وألمانيا، بحكم وجود ملفات مخابرات خارجية معلقة لا سيما ملفات لبنان والأردن وملفات الفصائل الفلسطينية، وملفات الجماعات الإسلامية والجهاديين المهاجرين الإسلاميين، خصوصاً وأن ضباطاً كثر فرّوا خارج البلاد، وبعضهم قُتل أو اختبأ، فيما سعى آخرون إلى تبييض صفحاتهم، بعد أن تفككت شبكات المراقبة، وانهارت البنى اللوجستية التي طالما اعتمدت عليها الأجهزة في إحكام قبضتها على سوريا.
هذا الانهيار خلق فراغًا أمنياً مقلقاً، استغلته تنظيمات متطرفة للعودة بنشاط محدود، خصوصاً في البادية السورية. في المقابل، ظهرت سلطات أمنية محلية عشوائية، تغلب عليها الانتماءات الفصائلية والمناطقية، ما عزز من حالة التشظي التي باتت تعاني منها البلاد. وفي محاولة لإعادة الإمساك بالمشهد الأمني، أعلنت الحكومة الانتقالية في كانون الثاني/يناير 2025، عن تأسيس “المديرية العامة للاستخبارات”، كمؤسسة أمنية جديدة يفترض أن تكون خاضعة للرقابة المدنية والبرلمانية. تولى قيادتها وزير الداخلية الجديد، أنس خطاب، وجرى تنظيمها ضمن أربع وحدات رئيسية: مكافحة الإرهاب، الاستخبارات الداخلية، الأمن السيبراني واستخبارات الحدود. يتلقى الضباط الجدد تدريباً متخصصاً في مراكز متقدمة ضمن برنامج لإعادة تشكيل الجهاز الأمني السوري وفق نموذج حديث يُفترض أن يستبدل دولة الأمن بدولة القانون. ورافق ذلك اعتماد سياسة “العفو المشروط” التي سمحت بانضمام بعض الضباط السابقين مقابل تسوية أوضاع، وخضوع لتحقيق عدلي، والتزام بعدم الانخراط في العمل السياسي.
لكن رغم هذه الجهود، يظل المشروع هشًّا أمام تحديات متعددة، تبدأ من غياب العقيدة الأمنية الوطنية، إلى تعدد مراكز النفوذ داخل الجهاز نفسه، فضلاً عن ضعف الإمكانيات التقنية، وغياب قاعدة بيانات مركزية، وشبكات رصد إلكترونية وميدانية فعالة. هذه الثغرات تجعل من الجهاز الجديد ساحة صراع بين أطراف مختلفة: فصائل تعتبر نفسها “أصحاب نصر”، مدنيون يطالبون بالرقابة والمحاسبة، وضباط قدامى يسعون لإعادة التموضع داخل الهيكل الجديد، وقوى دولية تريد وضع يدها على الجهاز. إقليمياً، تعمل قوى كبرى على استثمار هذا المشهد المتغير: تحاول إيران الإبقاء على نفوذها عبر خلايا نائمة يتم تفكيكها تدريجياً بالتعاون مع تركيا والسعودية؛ فيما تسعى روسيا، رغم انسحابها العسكري، إلى الضغط عبر ملفات استخباراتية ضخمة لم تُكشف بعد. إسرائيل من جانبها تراقب الوضع عن كثب، وتنسق بهدوء مع بعض القيادات المحلية في الجنوب، بينما بدأت الولايات المتحدة مشروعاً مشتركاً لتأهيل كوادر أمنية جديدة شرق الفرات، مع التركيز على مكافحة داعش وتعزيز الحوكمة.
التحدي البنيوي وسؤال الهوية
لا يتعلق السؤال الأعمق الذي يواجه سوريا ما بعد الأسد فقط بهيكلة جهاز أمني جديد، بل بهوية هذا الجهاز ودوره في الدولة الجديدة. فالاستخبارات السورية في عهد الأسد لم تكُن مجرد مؤسسات أمنية، بل كانت أذرعاً لسلطة شمولية تدير المجتمع من خلال الخوف والسيطرة والاختراق في ظل وجود نظام سلطوي شمولي استخدم الإرهاب والتجسس والاغتيالات كأداة سياسية، ووظّف وكلاء محليين وخارجيين في عملياته لتفادي أي إدانة مباشرة.
وبعد سقوط الأسد، تبرز أمام سوريا أربعة سيناريوهات ممكنة لتفعيل جهاز المخابرات السوري، يمكن القول فيها بالتفكيك الكامل للأجهزة السابقة كما حصل في العراق، وهو سيناريو يحمل في طياته مخاطر فراغ أمني قد تستغله الجماعات المسلحة، أو إعادة الهيكلة ضمن قيادة تكنوقراطية أو عسكرية منضبطة، يتم فيها تطهير الجهاز من العناصر الإجرامية دون تدمير كامل البنية سواء الإدارية او التحتية، أو إعادة التدوير، أي استخدام الأجهزة القديمة من قبل قوى إقليمية جديدة تسعى للنفوذ، وهو السيناريو الأخطر لأنه يعيد إنتاج المنظومة القمعية بأقنعة مختلفة، أو فتح الأرشيف الأمني، على غرار ما حصل في ألمانيا الشرقية، ما يسمح بعملية مصالحة وعدالة انتقالية، لكنه يحتاج لقرار سياسي شجاع يتخطى فيه العمل المخابراتي التقليدي.
الواقع أن الأزمة ليست في الجهاز بحد ذاته، بل في “العقل الأمني” الذي سيطر على السياسة والمجتمع لعقود. هذا العقل الذي رسّخ فكرة أن الدولة تُحكم من الأمن، لا من القانون. وأن المواطن يُراقَب، لا يُخدم. وأن الخطر يأتي من الداخل قبل الخارج. وما لم يتم تفكيك هذه الثقافة، فإن أي جهاز جديد سيظل رهينة عقلية قديمة.
اليوم، ومع تقارب تركي-خليجي، وانكفاء روسي-إيراني نسبي، وصعود أميركي، فإن البلاد تدخل لحظة “إعادة اكتشاف” للأمن. بعض بقايا الأجهزة القديمة تحاول التسلل إلى المؤسسات الجديدة، فيما تنتظر أخرى لحظة مناسبة للعودة. وفي هذا المفترق التاريخي، يبقى مصير المخابرات السورية مفتاحاً لفهم طبيعة التحول المقبل: هل نحن أمام ولادة نظام ديمقراطي فعلي؟ أم مجرد إعادة تدوير لديكور سلطوي جديد؟ الجواب يتوقف على ما إذا كنا سنكتفي بتغيير الأسماء والهياكل، أم سنواجه الشبح الحقيقي: الثقافة الأمنية التي أرّخت لسوريا الأسد، وأنتجت أسوأ أشكال السلطة الأمنية في المنطقة.
المدن
——————————————-
ليس في سورية أكثريّة سياسيّة حاسمة لا لحُكّامها الحاليّين – ولا لغيرهم.
Farouk Mardam Bey
لدينا أقلّيّاتٌ إثنيّة وطائفيّة (لنقل من 30 إلى 35% من السكّان) تتوجّس من هؤلاء الحكّام منذ تسلّمهم السلطة، وقد تأكّدت مخاوفها بعد مجزرة الساحل واستهتار السلطة بآثارها المريعة على النسيج الوطني وإفلات المجرمين من العقاب.
وخلافاً للتصوّرات السائدة، لا يُمثّل أحمد الشرع وصحبه الأكثريّة الإثنيّة الطائفيّة (أي العرب المسلمين السنّة)، بل هامشاً منها بضيق أو يتّسع بحسب أفعالهم لا أقوالهم، ولا يُمكن أصلاً في أيّ ظرفٍ كان أن يُمثّلها أحدٌ برمّتها بسبب تنوّعها الجغرافيّ والاجتماعي والثقافي ومزاجها السياسيّ الميّال إلى التعدّديّة.
وواقع الحال أنّ هيئة تحرير الشام، بسبب تناقضاتها الداخليّة أو هوسها بالسلطة المطلقة أو حذرها من بعض الفصائل الجهاديّة المتحالفة معها، لم تنفتح على هذه الأكثريّة ولم تسعَ إلى استقطاب نُخبها المدينيّة على الرغم من حاجتها الماسّة إليها ومن موقف هذه النخب الإيجابي أو المُحايد على الأقلّ، وشرعت في بناء دولتها مُعتمدةً على “حواضر البيت”، ومُصرّة إصراراً عجيباً على ارتكاب الخطأ بعد الخطأ.
وأغلب الظنّ أنّ الدولة الناشئة ستعمل تدريجيّاً، للتعويض عن فشلها الأمني والمعيشي، على فرض وصايتها الدينيّة – الأخلاقيّة، ثمّ السياسيّة، على المجتمع السوري، خصوصاً على أكثريّته العربيّة السنّيّة، مُحاولةً الاستفادة من العطالة السياسيّة التي يُعاني منها منذ عشرات السنين، ولكنّها لن تنجح إلّا باستعداء فئاتٍ اجتماعيّة لم تُناصبها العداء من قبل.
وفي حساب الموالاة والمُعارضة، على “الديموقراطيّين العلمانيّين”، أو من يصفون أنفسهم بهاتين الصفتين، أن يعوا بأنّهم “الأقلّيّةٌ” الأضعف على الصعيد الوطنيّ العام وضمن كلّ إثنيّة وطائفة، ولن يتغيّر الأمر ما داموا قانعين بتعاويذهم “الليبيراليّة” المُملّة، يستعيضون بها عن النضال السياسيّ المُنظّم.
وأمّا اليسار (وكم نحن بحاجةٍ إلى يسار!)، فقد أصبح فزّاعةً رثّة تتندّر بها العصافير
——————————–
الدبلوماسية السورية تواجه عقبات المرحلة الانتقالية..إعادة الهيكلة بعيدة المنال/ محمد كساح
الثلاثاء 2025/04/29
لا يعكس طرح وزارة الخارجية استبياناً للدبلوماسيين المنشقين، خطوة جدية نحو إعادة هيكلة السفارات وتبديل طواقمها الإدارية بطواقم جديدة، بقدر ما يشكل إجراءً رمزياً يهدف إلى فتح قناة إعادة تدوير الخبرات الدبلوماسية ولو تدريجياً، كما أن عقبات كبيرة تقف أمام أي تغيير دبلوماسي جذري يطاول السفارات التي لا تزال تغص بموظفي النظام السابق.
لا تغييرات ملموسة حتى الآن
ويبدو أن ما يحدث مع الدبلوماسيين المنشقين، يماثل ما جرى مع نظرائهم القضاة والضباط، حيث لا تزال ملفاتهم مؤجلة لحين الانتهاء من بعض الأولويات كضبط الأمن ورفع العقوبات الغربية.
وأفادت مصادر سياسية مطلعة “المدن”، بعدم حدوث أي تغير جذري على الواقع الدبلوماسي السوري في الخارج، حيث لا تزال السفارات تُدار من قبل موظفي النظام السابق والدبلوماسيين السابقين الذين لم يتم اتخاذ أي إجراء بحقهم حتى الآن.
كما أشارت المصادر إلى أن طرح الاستبيان الذي يخص الدبلوماسيين السابقين ليس جديداً، إذ يتم إرسال نفس الرسالة ونفس الاستبيان منذ أكثر من شهرين تقريباً، دون حدوث أي هيكلة جديدة للسفارات السورية أو أي تبدلات ملموسة تخص الكادر الدبلوماسي.
حلول واقتراحات
ويرى السياسي السوري المقيم في الولايات المتحدة، أيمن عبد النور، أن دعوة السفراء والدبلوماسيين المنشقين في حال تمت بشكل فعلي، تمهد لـ”إنجاز كبير” يتعلق بإعادة هيكلة الدبلوماسية السورية التي تعد “مسألة ملحة وضرورية”.
ويضيف عبد النور لـ”المدن”، أن قسماً من هؤلاء الدبلوماسيين لن يسمح له سنه الكبير بالالتحاق بالسلك الدبلوماسي، مقترحاً إجراء تعديلات قانونية بحيث يتم تجاوز هذه العقبة وبالتالي استيعاب الجميع، إما كاستشاريين أو موظفين ضمن السلك الدبلوماسي.
بدوره، يرى الدبلوماسي السابق بسام بربندي أن إعادة فتح كل السفارات وهيكلتها “ليست قضية ضرورية في الوقت الراهن”، مقترحا في حديث لـ”المدن”، أن تولي الخارجية السورية اهتماماً كبيراً بالجانب القنصلي، لأن عدد السوريين في الخارج كبير جداً وهم بحاجة ماسة للخدمات، فضلاً عن كون هذا الإجراء طريقة لرفد ميزانية الدولة.
وبما أن المرحلة تقتضي إعادة تشكيل البلد وعلاقاته مع العالم اقتصادياً وأمنياً وسياسياً، فمن الضروري، بحسب بربندي، “وجود فريق قانوني محترف وواسع حيث لا مكان للهواة”، كما يمكن التركيز في افتتاح السفارات على الدول المهمة لا يمكن إغفالها مثل الاتحاد الأوروبي، دول الخليج، دول الجوار والدول التي تحوي جاليات سورية كبيرة.
سلوك انتقالي متردد
ولا يزال النشاط الدبلوماسي والقنصلي في المرحلة الحالية، محكوما بسلوك انتقالي متردد، تتداخل فيه نوايا الانفتاح مع رسائل غير مستقرة، إذ هناك محاولات للظهور بمظهر الدولة الطبيعية، لكن في العمق لا يزال النشاط الدبلوماسي خاضعاً لتكتيكات اللحظة أكثر من كونه انعكاساً لاستراتيجية دولة ذات مشروع سياسي متكامل.
ومن هذا المنطلق، يوضح الكاتب والباحث الأكاديمي مالك الحافظ، أن الدبلوماسية ليست فقط “تمثيلاً شكلياً أو إرسال سفراء”، بل هي تعبير عن رؤية الدولة لنفسها وعلاقتها بالعالم، ويؤكد لـ”المدن”، أنه “ما لم تُعلن السلطة الانتقالية بشكل شفاف عن تصوراتها للسيادة والتحالفات وموقع سوريا من الصراعات الدولية والإقليمية، فإن كل جهد دبلوماسي مهما كانت نواياه حسنة، سيبقى في حدود التجريب لا التأسيس”.
وتعليقا على إصدار وزارة الخارجية السورية استبياناً مخصصاً للدبلوماسيين المنشقين عن النظام المخلوع، يرى الحافظ أن أي خطوة في اتجاه دمج الخبرات السابقة ستصطدم بجملة عراقيل مركّبة، بعضها إداري وبعضها أعمق يتعلق بطبيعة السلطة الانتقالية نفسها.
ومن أبرز هذه العراقيل أن وزارة الخارجية ما زالت حتى الآن غير واضحة المعالم من حيث بنيتها ونطاق استقلالها عن التوجيهات الأمنية أو العقدية، فمن غير الممكن إعادة بناء الجهاز الدبلوماسي عبر استبيانات فقط، من دون رؤية شاملة تُعرف ماهية السياسة الخارجية لسوريا الجديدة هل هي سياسة مدنية تمثل دولة وطنية، أم أداة دعائية تحكمها الحسابات العقائدية، وفقا للباحث مالك الحافظ.
————————
رسائل دمشق إلى الخارج: ماذا عن الداخل؟/ عمر قدور
الثلاثاء 2025/04/29
لم تنل تصريحات كوري ميلز، عضو الكونغرس الأميركي، اهتماماً من السوريين. إذ نقل عن الرئاسة انفتاحها على تحسين العلاقات مع إسرائيل. التصريح نقله قبل أسبوع تلفزيون “العربي”، وهو جزء مما خرج به ميلز، الذي نقل أيضاً استعداد الرئاسة للانضمام إلى اتفاقيات أبراهام، وفق تفاهمات معينة، وذكر أنه سيسلّم الرئيس الأميركي رسالة من الرئيس الانتقالي أحمد الشرع. الأوساط الموالية للسلطة تجاهلت تماماً هذا الجانب، وهي نفسها قبل شهور ما كانت لتفوّت مثل هذه الأقوال أيام العهد البائد.
وقبل أربعة أيام قال أسعد الشيباني، وزير الخارجية، أمام مجلس الأمن: “أعلنّا مراراً التزامنا بأنّ سوريا لن تشكل تهديداً لأي دول في المنطقة والعالم، بما فيها إسرائيل”. الشيباني طالب المجلس بالضغط على إسرائيل كي تسحب قواتها التي تجاوزت خط اتفاقية الهدنة بين البلدين، وتجاهل تصريحات إسرائيلية عديدة تُعدّ تدخلاً سافراً في تفاصيل الشأن السوري. يُذكر أنه تم اعتقال اثنين من حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية في سوريا، قبيل سفر الشيباني إلى نيويورك، فيما عُدّ شروعاً في تنفيذ مطالب أميركية.
القائمة بأعمال البعثة الأميركية لم ترحّب بالشيباني، بخلاف ما فعل مندوبو الدول الأخرى. وكررت أن بلادها تواصل تحميل السلطات السورية المؤقتة المسؤولية عن نبذ وقمع الإرهاب، وتبني سياسة عدم اعتداء على البلدان المجاورة، واستبعاد المقاتلين الأجانب من تسلّم مناصب رسمية، ومنع إيران من استغلال الأراضي السورية، والتخلص من أسلحة الدمار الشامل. وأضافت المندوبة دوروثي شيا أن الشعب السوري يستحق قيادة شفافة ومسؤولة، ملتزمة بمستقبل أكثر سلاماً وازدهاراً بعد الدمار في ظل حكم الأسد.
وقد صار معلوماً أن واشنطن وضعت شروطاً عديدة من أجل تمديد رفع العقوبات الاقتصادية على سوريا لمدة سنتين، يُنظر بعدها فيما إذا كانت السلطة قد أحرزت تقدّماً فيما هو مطلوب منها. ويُنظر داخلياً على نطاق واسع إلى حراك الرئاسة ووزارة الخارجية بأنه منصبّ على موضوع رفع العقوبات الأميركية التي تعيق عزم الدول الراغبة في تقديم المساعدات، وعلى ذلك تلقى الرسائل الإيجابية تجاه إسرائيل قبولاً، ويعتلي ملف العقوبات قائمة الأولويات من دون منازع.
الفكرة السائدة حالياً هي السعي لإقناع وسطاء، ومن ثم الإدارة الأميركية، برفع العقوبات. الفكرة نفسها تتضمن حصول السلطة على شرعية دولية فيما لو رُفعت العقوبات عنها، وبذلك تكون الشرعية الخارجية سابقة على الشرعية الداخلية المؤجّلة لخمس سنوات بموجب الإعلان الدستوري، حيث لن تشهد المرحلة الانتقالية انتخابات تُمتحن بها شعبية السلطة، أو تفرض عليها نوعاً من الرقابة. على هذا الصعيد يبدو التوجّه الداخلي محدَّداً بمخرجات ما سُمي مؤتمر الحوار الوطني، ثم الإعلان الدستوري، وعلى الجميع الالتزام به، أو الالتحاق به كما هو مطلوب من الإدارة الذاتية الكردية والسويداء غير الخاضعة كلياً للمركز.
أيضاً فيما يخص منطقتي الجزيرة والسويداء، يبدو سهلاً الاستسلام لفكرة أن التفاوض مع الخارج وإرضاءه هما السبيل لإخضاعهما للمركز، أو أنه السبيل الأسهل. إلا أن ذلك ينطوي على عدم إبداء اهتمام حقيقي بمطالب المنطقتين، ومنها مطالب يمكن القول بصلاحيتها للنقاش السوري العام، لأنها تنصرف إلى طبيعة النظام السياسي في البلد. وكما هو معلوم فالثورة السورية اندلعت أصلاً للاعتراض على النظام السياسي، وطالبت بالحريات وبنظام ديموقراطي تشاركي.
بالطبع، لا يجوز إنكار تأثير العامل الخارجي فيما يخص الجزيرة والسويداء، بما في ذلك التصريحات التركية المتتالية الخاصة بمستقبل مناطق الإدارة الذاتية. المسألة هي في الطريق الذي تسلكه السلطة لمعالجة الملفين المركّبين، فالتركيز على الخارج منزلق خطير مجرَّب في سوريا، وقد كان رضا الخارج دائماً يُصرف في الداخل بعدم الاكتراث بمتطلبات السوريين. وقد ظهر هذا حقاً بانشغال المستويات العليا من السلطة بالتوجه إلى الخارج، بينما هناك على الأرض ما يُنذر بكوارث كبرى، سواء لجهة التهديد الماثل بتفجير الوضع مجدداً في الساحل، أو الحوادث المتفرقة (لكن المتكررة) والتي قد تؤدي إلى انفجار مماثل خاص بالدروز. والحال مع الأكراد لم يعد مبشّراً كما كان عقب توقيع التفاهم مع قسد، خصوصاً بعد بيان الرئاسة الغاضب من البيان الذي أعقب المؤتمر الكردي الجامع لكافة التنظيمات الفاعلة.
واحد من انتقادات السوريين الأساسية لحكم الأسد كان مصوّباً على سعيه إلى إرضاء الخارج على حساب الداخل، وقد قيل الكثير (مدحاً وذمّاً) في تغليب الأسد الأب التوازنات الخارجية على الداخل، ويمكن بسهولة العودة للتاريخ وملاحظة تزايد إهمال الداخل كلما توطدت العلاقة مع الخارج. وعندما انطلقت الثورة في عهد الابن، ورفض مطالبها الأولى التي اقتصرت على الحريات والمشاركة السياسية، كان واضحاً أن الشطر الذي يكمل الإعراض عن مطالب الداخل هو تدعيم الشراكات الخارجية التي كان لها الغلبة على حكمه نفسه.
النموذج المعهود، في سوريا وغيرها، أن يستغل الخارج ضعف السلطة في الداخل لفرض شروطه. في حالتنا الراهنة، يصح القول إن السلطة ليست في أفضل حالاتها وهي تواجه انتقادات خارجية تخص ملفّات داخلية، حتى إذا كانت الانتقادات على سبيل الضغط لترضخ في بنود لا تتصل بالهمّ السوري. على سبيل المثال، استُهلت جلسة مجلس الأمن المذكورة بإحاطة للمبعوث الدولي إلى سوريا، ورد من ضمنها أن “العديد من السوريين غير متأكدين من مكانهم في سوريا الجديدة الناشئة. هناك تركيز للسلطة. ولا تزال خطط إرساء سيادة القانون، وعقد اجتماعي جديد، وانتخابات حرة ونزيهة في نهاية المطاف، غير واضحة”.
في الجلسة ذاتها تناوب معظم مندوبي الدول الأعضاء على الإشارة إلى مجازر الساحل، وإلى ضرورة معاقبة الجناة. وطالبت المندوبة الأميركية بمحاسبة “جميع مرتكبي الفظائع، وخصوصاً من هم في موقع القيادة، لإثبات أن لا أحد فوق القانون في سوريا الجديدة”. وأكدت السفيرة على “أن تُظهر القيادة المؤقتة بوضوح أنها تجاوزت ماضيها، وتلتزم بقيادة شفّافة ومسؤولة”، وعلى أن سياسة بلادها ستكون على أساس الأفعال.
بموجب رطانة عهد الأسد، توصف المطالب الأخيرة للسفيرة بأنها تدخّل سافر في التفاصيل الداخلية السورية، ولا يُستبعد أن يتسرّب بعض من الرطانة إلى الآن. لكن التذرع بالسيادة يغفل أن قوى الخارج تستغل استحقاقاً يُفترض أنه وطني، وأن يُعالج من دون وضعه في قائمة شروط لقوة دولية، مع التذكير بأن هذه القوة قد تتراجع في مطلبها هذا إذا حصلت على ما تريد من مطالب أخرى لها الأولوية لديها.
في وضع كالوضع السوري، ليس مطلوباً من أية سلطة الدخول في مواجهات خارجية، عسكرية أو سياسية، لا تتناسب مع حالة الانهيار. لكن من الملحّ إدراك أن موقع القوة الحقيقي المستدام هو في الداخل، وأن قاعدة “صفر مشاكل” في الخارج غير ممكنة طالما بقيت غير متحققة في الداخل.
المدن
—————————————-
خيارات «داعش» في سوريا… والاستثمار في «خيبات الجهاديين»/ سلطان الكنج
تهديد علني للشرع… وترقُّب لفتح سجون «قسد»
29 أبريل 2025 م
على رغم خسارته آخر معاقله في الباغوز القريبة من الحدود العراقية بريف دير الزور في مارس (آذار) 2019، ظل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) يشكل تهديداً جدياً لأمن سوريا واستقرارها عبر «مجموعات متنقلة» تنشط عبر البادية السورية. ومع سقوط النظام السوري في ديسمبر (كانون الأول) 2024 كان متوقعاً أن يعيد التنظيم رسم استراتيجياته والتكيّف مع الواقع الأمني الجديد.
ولم تفلح الحملات العسكرية التي شنّها النظام السابق بدعم جوي روسي، والحملات التي شنتها «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) بدعم من طيران التحالف الدولي في القضاء على التنظيم وتهديداته. كما أن سياسات الولايات المتحدة التي ركزت على منع ظهور التنظيم أو عودته إلى المدن مجدداً حققت نجاحات نسبية في إضعاف قدرات التنظيم العسكرية والقضاء على معظم قيادات الصفوف الأولى والثانية فيه، لكن التنظيم لا يزال يشكل تهديداً بشكل ما، وقد يستثمر في الأوضاع الأمنية «الهشة» في سوريا، ومع الانسحاب الأميركي المرتقب.
ولعل أحدث وأبرز تهديد للتنظيم هو البيان المصور الذي أصدره «داعش» في 20 أبريل (نيسان) 2025، مهدداً الرئيس أحمد الشرع، ومحذراً إياه من الانضمام إلى التحالف الدولي ضد الإرهاب، بعد طلب رسمي أميركي لمشاركة سوريا الجديدة في جهود مكافحة التنظيم وتفرعاته.
ومنذ سقوط النظام السوري في 8 ديسمبر 2024، رصدت «الشرق الأوسط» تصاعداً لافتاً في خطاب «داعش» الإعلامي عبر مجلة «النبأ»، التي بدأت في شن حملات تحريضية ضد الإدارة السورية الجديدة ورئيسها أحمد الشرع. ركزت هذه الحملات على مهاجمة سعي الحكومة الجديدة لبناء علاقات مع الدول العربية والمجتمع الدولي، عادّةً ذلك «خيانة» لتضحيات السوريين وتنازلاً عن مبدأ «تحكيم الشريعة» الذي لطالما تحدثت به «جبهة النصرة» بقيادة أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) في مرحلة ما، وهو الشعار نفسه الذي يرفعه التنظيم ذريعةً لوجوده، ولكسب المزيد من الأنصار والمؤيدين.
سلسلة ضربات موجعة
لكن واقعياً، وعلى رغم هذا التصعيد الإعلامي، فقد شهد الميدان العسكري تغيراً ملحوظاً؛ إذ اختفى تقريباً النشاط المسلح للتنظيم في البادية، وهو ما أثار تساؤلات عن طبيعة المرحلة المقبلة في استراتيجية التنظيم، لكن لا يخفى أيضاً إن «داعش»، ومنذ ديسمبر الماضي، تلقى سلسلة من الضربات الأمنية المؤثرة؛ ففي 11 ديسمبر، ومباشرة بعد استلامها زمام الأمور في سوريا عقب سقوط نظم بشار الأسد، أعلنت الحكومة السورية الجديدة بقيادة الشرع إحباط مخطط لاستهداف مقام السيدة زينب جنوب دمشق واعتقال خلية تابعة للتنظيم.
وفي 16 من الشهر نفسه، نفذت القيادة المركزية الأميركية غارات جوية قتلت 12 عنصراً من «داعش»، وبعد هذا بثلاثة أيام فقط، قُتل قيادي آخر للتنظيم في دير الزور فيما يعتقد أنه بتنسيق مع الإدارة الجديدة.
وفي 23 ديسمبر، استهدفت غارة أميركية شاحنة أسلحة تابعة للتنظيم، ثم في يناير (كانون الثاني) 2025، دعمت الولايات المتحدة عملية لـ«قسد» أدت إلى اعتقال زعيم خلية هجومية. وفي 16 فبراير (شباط) 2025، اعتقلت السلطات السورية الجديدة أبو الحارث العراقي، المتهم بالتخطيط لهجمات إرهابية داخل العاصمة دمشق.
بعض المراقبين يرجعون السكون الذي يقابل به التنظيم هذه العمليات النوعية، إلى استراتيجية جديدة يتبعها وتقوم على تخفيف الظهور العلني لتقليل الضغط الأمني عليه، وإعادة ترتيب صفوفه بعيداً من الأنظار. كذلك، يبدو التنظيم حريصاً الآن على إعطاء انطباع بأنه غير نشط؛ ما يمنحه فرصة لإعادة بناء خلاياه بهدوء في المدن والقرى بعيداً من رقابة الأجهزة الأمنية المتمركزة في المدن.
تغيير في التكتيك
وخلال سنوات، طوّر «داعش» أساليب قتاله التكتيكية بالاعتماد على هجمات ليلية خاطفة ينفذها أفراد معدودون ضمن «مجموعات صغيرة متنقلة» تضم ما بين ثلاثة إلى خمسة أشخاص سرعان ما ينسحبون إلى مواقع انطلاقهم؛ ما يصعّب تتبعهم ويقلّل من فرص استهدافهم. هذه التكتيكات جعلت التنظيم يحتفظ بحضور نشط دون الحاجة إلى قواعد دائمة أو مراكز قيادية مكشوفة؛ الأمر الذي أربك جهود القضاء عليه لعقود.
وفي مناطق سيطرة «قسد»، تبنى التنظيم نمطاً آخر من العمل، مستغلاً التوترات العشائرية والخلافات المحلية.
مصادر عشائرية تحدثت لـ«الشرق الأوسط» وكشفت عن أن بعض الهجمات التي استهدفت «قوات سوريا الديمقراطية» نُفذت من قِبل أفراد عشائر محليين، لا يرتبطون تنظيمياً بـ«داعش» بشكل رسمي، ولكنهم تحركوا وفق تكتيك التنظيم للمناورة الأمنية والتخفي؛ ما زاد من صعوبة كشف هوية الفاعلين الحقيقيين، وأضفى طابعاً منظّماً على أعمال فردية متفرقة، وهذا يعني أن التنظيم يجد في هذه البيئة فرصة لزيادة نشاطه ووجوده، مستغلاً غضب المجتمع العشائري على قوات «قسد».
خبرة إدلب والاستراتيجية الشاملة
في السياق، صرح مسؤول في الأمن العام السوري لـ«الشرق الأوسط»، مفضلاً عدم الكشف عن اسمه، قائلاً: «نحن خبرنا (داعش) جيداً في إدلب وتمكنا سابقاً من تفكيك خلاياه، حتى في أوقات كان التنظيم أقوى مادياً وأمنياً، بينما كنا نحن أضعف من اليوم. لكننا الآن أكثر جاهزية وخبرة».
وأكد المسؤول أن الحكومة السورية الجديدة تعتمد «استراتيجية أمنية شاملة تقوم على إعادة بناء الأجهزة الأمنية وتنسيق عملها للكشف المبكر عن الخلايا النائمة، تعزيز التعاون مع دول الجوار لضبط الحدود ومنع عبور المقاتلين، ومواجهة خطاب التنظيم المتطرف عبر حملات توعية مجتمعية ومراقبة النشاط الإلكتروني، وتفكيك البيئات الحاضنة عبر تحسين الخدمات الأساسية، ومكافحة الفساد، وتوسيع برامج التنمية المحلية».
وأضاف المصدر الأمني، أنه لا يستبعد «استهداف التنظيم شخصيات مدنية أو أمنية بارزة عبر عمليات سريعة، مثل تفجير عبوات ناسفة صغيرة، أو تنفيذ عمليات اغتيال انتقائية»، مؤكداً أن «التنظيم في داخل المدن قد يعتمد الخلايا النائمة لتنفيذ مثل هذه العمليات، كما أنه من الممكن له أن يستغل الأحياء العشوائية والمناطق غير المنظمة مخابئ مؤقتة؛ ما يفرض تحديات إضافية على الأجهزة الأمنية».
تحريض ضد الإدارة الجديدة
رأى الباحث في مركز «أبعاد»، عرابي عرابي، أن التنظيم يمر الآن «في مرحلة الإنهاك والاستنزاف، ويحاول تأسيس خلايا صغيرة لضرب الاستقرار الأمني دون أن يسعى للسيطرة على مناطق جغرافية كما كان في السابق»، وأوضح عرابي لـ«الشرق الأوسط» أن التنظيم «يواجه شحاً في الموارد المالية والكوادر البشرية، بالإضافة إلى ضغط إقليمي متزايد بفضل تحسن التعاون الأمني بين سوريا والعراق». لكن، وبحسب عرابي: «سيحاول تنظيم (داعش) استغلال حالات السخط داخل صفوف الفصائل المسلحة الأخرى، خصوصاً بين المقاتلين من ذوي الخلفيات الجهادية الذين قد يشعرون بخيبة أمل تجاه خطاب الحكومة السورية الجديدة الذي يبتعد عن الطرح الإسلامي».
وبحسب عرابي، يعتمد التنظيم على «خطاب تحريضي» متزايد يصور الإدارة الجديدة «خائنةً لدماء السوريين»، مستغلاً قضايا مثل «تأخر العدالة الانتقالية، والشعور بالتهميش الإداري أو الإقصاء السياسي، كما يعمل على بث دعايته عبر قنوات (تلغرام) وشبكات إعلامية سرية».
ولم تستثن هذه الحملات التي تبادلتها مجموعات عبر وسائل التواصل الجانب الشخصي للرئيس الشرع لتحسب ضده تفاصيل كثيرة، بدءاً بمظهره ولباسه والصورة العامة التي يسعى إلى تصديرها للخارج عن حاكم سوريا الجديدة، لا سيما تلك التي جمعته بزوجته في لقاء أنطاليا الأخير.
وتواجه الحكومة السورية الانتقالية تحديات كبيرة في تحقيق الاستقرار الأمني والاقتصادي في البلاد مع واقع معقد يشير إلى انقسامات داخلية وتوترات مع قوات «قسد» في شمال شرقي سوريا ومع بقايا النظام السابق في مناطق الساحل، بالإضافة إلى علاقة شائكة بأبناء الطائفة الدرزية.
في الوقت نفسه، تحاول الإدارة اكتساب شرعية «دولية» وعربية وإرساء أسس حكم فعلي، فحتى الآن لم تعترف الولايات المتحدة «رسمياً»، ولا تزال غالبية العقوبات الدولية مفروضة على سوريا، في حين اتخذت دعوة الرئيس الشرع إلى القمة العربية المقبلة في بغداد مفاوضات دبلوماسية عدّة قبل أن يتم توجيهها بشكل رسمي.
وفي ظل هذه التعقيدات، لا شك في أن تنظيم كـ«داعش» سوف يستغل حالة عدم الاستقرار والفراغ الأمني مع افتقار الحكومة الجديدة إلى قوات كافية لتأمين البادية السورية والمناطق النائية. ويوفّر العنف الطائفي المستمر والعداوات في أجزاء مختلفة من البلاد بيئة مواتية لعمل التنظيم خاصة مع تلكؤ الإجراءات الحكومية في تحقيق العدالة الانتقالية لإنصاف ذوي ضحايا النظام السابق؛ ما يدفع التنظيم إلى أن يقدم نفسه على أنه «البديل» الأفضل من الحكومة للقصاص من المتورطين بالدم السوري، وهذا ما تفصح عنه أدبيات التنظيم وخطابه الإعلامي في الأسابيع الأخيرة، بحسب أكثر من موقع إلكتروني تابع له.
وما يزيد المخاوف أكثر من التجنيد المحتمل بين صفوفه، هو التركيز على إطلاق سراح السجناء من قياداته ومقاتليه ويجاورون بضعة آلاف محتجزين لا يزالون تحت إشراف قوات «قسد» ومصيرهم يخضع لشد وجذب.
لذلك؛ قد تكون مواجهة التنظيم واحدة من أكبر التحديات العلنية والضمنية المطروحة على الحكومة الجديدة؛ لما يتطلبه الأمر من موازنة بين ما تفرضه شروط إدارة دولة من سيطرة على كامل التراب السوري، وتخفيف الانقسامات المجتمعية والصعوبات الاقتصادية من جهة والعمل على تبديد انتشار آيديولوجيا التنظيم وإلحاق المقاتلين والبيئة الحاضنة له بالتغيير الجذري الذي طرأ على «هيئة تحرير الشام» نفسها. وذلك لا يتم إلا بالتنسيق مع الدول الفاعلة لتبادل المعلومات الاستخباراتية وتعطيل القدرات المالية للتنظيم والحد من عمليات التجنيد، إضافة إلى دعم المجتمع الدولي لجهود تحقيق الاستقرار في سوريا.
الشرق الوسطى
————————–
منصات التواصل وحرب السرديات/ محمد إبراهيم
2025.04.29
مع احتلال وسائل التواصل الاجتماعي الفضاء العام، ومع سهولة استخدامها كأداة للتعبير عند الغالبية العظمى من الناس، لم يعد الكذب وتغيير الحقائق امتيازًا ومميزًا للسلطات تبرر من خلاله أخطاءها وأدوات قمعها. بل أصبح سلطة قائمة بذاتها، تمارسها كتلة كبيرة من الجماهير وتعيد إنتاجها بشهية مفتوحة في فضاء مفتوح بلا رقيب. ضاعت الحقيقة، لا لأن السلطات أخفتها أو تلاعبت بها كما هي العادة في الأنظمة الشمولية أو حتى في بعض الديمقراطيات، بل لأن هذا الجمهور نفسه قرر تمزيقها، تفكيكها، إعادة تشكيلها بما يتناسب مع أهوائه ومعتقداته وصراعاته وهوياته المأزومة. لم تعد الحقيقة شيئًا يُبحث عنه، بل أصبحت مسرحًا تُعرض عليه الرغبات، وتتجسد فيه الأوهام على هيئة “حقائق” مطلقة، لا تقبل الشك ولا النقد.
حنة أرندت حذّرت من الأنظمة التي تجعل من الكذب جزءًا بنيويًا من سلطتها، ولكن أخطر مما حذّرت منه هو ما نعيشه اليوم: جمهور كبير يمارس عبر وسائل التواصل الاجتماعي الكذب ويبرّره ويجعل منه واجبًا أخلاقيًا. جمهور لا يرفض الحقيقة فقط، بل يحتقرها لأنها تُربك اصطفافه، وتشكك في سرده، وتمنعه من التلذذ بوهم امتلاك المعنى. فأن تكون “مع القضية” اليوم يعني أن تروّج ما يخدم روايتك، حتى لو كان زائفًا، وأن تهاجم كل من يحاول مساءلتك أو نقدك.
وسائل التواصل الاجتماعي التي كان مؤملًا منها بأنها ستكسر احتكار الإعلام الرسمي، سرعان ما تحوّلت إلى ساحة حرب شعارات وصور مفبركة ومقاطع مجتزأة، تُوظَّف لتأكيد موقف أو تسويغ تحالف أو شيطنة طرف. كل طرف في هذا الصراع بات يملك “حقيقته”، وصار الدفاع عنها أكثر أهمية من فحصها أو التثبت منها. هكذا صارت “الحقيقة” مادة خام، يعجنها كل فريق وفق رغبته ويخبزها على نار هويته.
هذا الجمهور، جمهور وسائل التواصل، لم يعد يكرر الأكاذيب، بل يُنتجها من داخله، من حاجته لأن يرى العالم كما يريد، لا كما هو. في كل منشور، في كل تغريدة، في كل تعليق غاضب أو صورة منزوعة من سياقها، ثمة إرادة لإعادة تشكيل الواقع لا وفق معايير عقلانية، بل انطلاقًا من قناعات مسبقة، من انتماء ضيق، من حقد دفين أو خوف مكبوت.
في هذا الفضاء، أصبح الكذب ممارسة يومية كأداة للتخوين ورمي التهم. لا ينجو منها معارض ولا موالٍ، لا مستقل ولا محايد. يكفي أن تختلف في صياغة جملة أو توقيت منشور لتُرمى بتهمة الخيانة أو التواطؤ. الكذب هنا لم يعد مجرد خروج عن الصدق وقلب الحقيقة، بل هو فعل لغوي يولد من الحاجة لإعادة تشكيل الواقع بما يخدم الجماعة. في الحالة السورية، هذه الحاجة مفرطة، دامية، مضطربة. كل خطاب مشبع بحمولة وجدانية، بكل ما فيها من ألم وانكسار وغضب وقسوة، فلا يعود النقاش حول الحقيقة، بل إلى أي مدى يخدم القول الانتماء الضيق والأيديولوجيا المتحجرة.
هكذا تفككت منظومة الصدق، بفعل انخراط الكثير من الناس، في صناعة الأكاذيب وفق مواقعهم السياسية والطائفية والعرقية. فكل سردية لها جمهورها، وكل رواية تملك من يروّجها، وكل فيديو مفبرك يحظى بمن يدافع عنه بوصفه “دليلًا دامغًا”. في هذا المناخ، لم تعد مواقع التواصل الاجتماعي منابر لحرية التعبير كما وُعدنا، بل أصبحت مصانع لتدوير الزيف، وساحات حرب خطابية تنعدم فيها أي مرجعية مشتركة للحقيقة.
هذا الانهيار في منظومة الصدق لا يعود فقط إلى عنف النظام السياسي الذي استمر أكثر من خمسين عاماً، بل إلى الجمهور نفسه، الذي استبطن منطق القتل والدمار الذي استمر على مدى أربعة عشر عاماً وبات يعيد إنتاجه على شكل خطاب شعبوي يتجلى بأوضح صوره: خطاب مبسّط، عاطفي، يقيني، لا يقبل التعدد ولا الرماديات. وكل من يخرج عن جماعة ما يُقصى، يُخوَّن، يُسحق. هكذا تسهم وسائل التواصل، لا فقط في نقل المأساة، بل في إعادة إنتاجها رمزيًا كل يوم، من خلال التجييش المستمر، والتحشيد اللفظي، واليقينيات المصمتة.
وقد وجدت الشعبوية في هذا المناخ أرضها الخصبة. فبينما كانت في الماضي ترتبط بخطاب قادة يستدرجون الجماهير بعواطف بسيطة ضد “النخب الفاسدة”، فإنها اليوم انتشرت أفقيًا، ولم تعد بحاجة إلى زعيم كارزمي، بل إلى خوارزميات تدفع بالمحتوى الأكثر إثارة وغضبًا إلى السطح. وسائل التواصل الاجتماعي أعادت إنتاج الشعبوية على مستوى كل فرد، فصار كل مستخدم زعيمًا صغيرًا لجمهور صغير، يلهب مشاعرهم، يؤكد مخاوفهم، ويعزز إحساسهم بأنهم وحدهم من يملكون الحقيقة. الكذب هنا لا يُنشر فقط، بل يُحتفل به، لأنه يؤكد للناس ما يريدون سماعه، ويعفيهم من عناء التفكير النقدي.
كل فيديو مسرّب، كل صورة من مذبحة، كل تصريح مجتزأ، يتحوّل إلى مادة لتمرير خطاب تعبوي. لا أحد يسأل عن السياق، عن المصدر، عن التحقق. المهم أن “نرد”، أن “نصطاد” موقفًا، ونحوله إلى (ترند) يؤكد انحيازنا لمن يملك القدرة على الترويج، على الصراخ، على التشهير، لمن يفرض روايته بوصفها الوحيدة الممكنة.
هذا العنف الناعم من خلال لوحة المفاتيح وشاشة فضية وتطبيقات سهلة هو ما رصده بيير بورديو حين يتحدث عن العنف الرمزي في كتابه (الحس العملي) بأنه: “عنف ناعم خفي غير مرئي، وهو خفي مجهول من قبل ممارسيه وضحاياه في آن واحد، ويتجلى هذا العنف في ممارسات قيمية ووجدانية وأخلاقية وثقافية، ويوظف أدواته الرمزية، مثل: اللغة، والصورة، والإشارات، والدلالات، والمعاني، وكثيرًا ما يتجلى هذا العنف في ظلال ممارسة رمزية أخلاقية ضد ضحاياه”.
ذلك العنف الذي لا يُمارس بالعنف المادي والفيزيائي، بل باللغة، بالتأويل، بتكرار الكذب. يمارسه جمهور وسائل التواصل الذي لا يقمع بالسلاح، لكنه يُرعب ويقمع من خلال اللايك والإعجاب والردود المنفلتة من أي ضوابط. جمهور وسائل التواصل لا يمنع الكلام، لكنه يُفرغه من معناه. ففي زمن المنصات، ليس المهم أن تقول شيئًا صادقًا، بل أن تقول ما يُراد لك أن تقوله كي تبقى ضمن “الجماعة”، كي لا تُنبذ أو تُخوّن.
هكذا، تحوّلت وسائل التواصل من أدوات فضح وتوثيق، إلى آليات لإعادة إنتاج العنف الرمزي، وتكريس الانقسام، وتسليع الألم، وتطبيع الكذب. صار الكذب “وطنيًا” حين يخدم الموقف، والحقيقة” خيانة” حين تفضح خللًا داخل الصف. في هذا المناخ، الحقيقة تُسحق، لا مرة، بل في كل منشور، وفي كل لحظة.
فالمثقف الذي انحاز في البداية للحقيقة، وجد نفسه بعد حين مضطرًا للتماهي مع أحد الخطابات الجماهيرية كي لا يُقصى. والناشط الذي وثّق المجازر، صار ينتقي الصور والكلمات التي لا تزعج “الجمهور”، كي يبقى في الواجهة.
نعوم تشومسكي وصف الإعلام بأنه آلية دعائية تخدم مصالح السلطة، لكننا اليوم نعيش لحظة أكثر تعقيدًا: الجمهور نفسه صار وسيلة دعاية. كل فرد لديه منصة، وكل صوت بات قابلًا للانتشار، لكن من دون أدوات للتحقق أو رغبة في التثبت. في هذه الفوضى، الحقيقة تُدفن لا تحت ركام الأكاذيب فحسب، بل تحت موجات التصفيق التي تمنح الزيف حياة أطول، وما أكثر المصفقين.
والأخطر أن من يمارسون هذا التزييف والتلاعب لا يرونه تلاعبًا، بل “موقفًا نضاليًا”، و”رؤية تحليلية”، و”حقيقة موازية”. الكل يقتطع من الواقع ما يناسبه، ثم يضخّه كحقيقة نهائية. لا فرق بين يميني متطرف، أو ليبرالي انتقائي، أو طائفي غاضب، أو مثقف يائس؛ كلهم يسهمون في هذا الانهيار الرمزي الذي يجعل من الحقيقة شبحًا هشًا، لا مكان له في وعي الجماعات المعبّأة.
وهكذا، يندمج الكذب والتزييف في كل خلية من خلايا الحياة العامة. ليس بوصفهما انحرافًا، بل كقاعدة ضمنية للسلوك الجمعي. صار الكذب هو ما يُنتظر، ما يُصدّق، ما يُشجَّع، لأن الناس لم تعد تبحث عن الحقيقة، بل عمّا يريحها، عمّا يؤكد تصوراتها المسبقة، عمّا يجعلها تشعر بالانتماء والانتصار الرمزي.
في هذا المشهد المشوّش، تصبح مقاومة الكذب أكثر تعقيدًا. لم يعد يكفي فضح الأكاذيب الكبرى، بل تجب مساءلة رغبة الجمهور ذاته في تصديقها، ومواجهة شهوة الانخراط في الوهم الجماعي باسم “الحقيقة”. في زمن السرديات المتصادمة، تصبح الحقيقة فِعلًا نادرًا، فعلًا ينطوي على شجاعة، على عزلة، على قدرة مرهقة على السباحة ضد التيار، وسط طوفان من التأويلات التي تفتك بالمعنى.
لم يعد الكذب فعلًا فرديًا محصورًا في النيات السيئة، بل أصبح ظاهرة جماعية تنمو في التربة الخصبة للانتماءات الأيديولوجية، وتتشظى على شاشات الهواتف المحمولة، حيث تتحول الرغبات والهواجس إلى “حقائق” تُصاغ بلغة يقينية، وتُبث في كل اتجاه. وسائل التواصل الاجتماعي، التي وُعدنا بأنها ستمنح صوتًا للحقّ المهمش، تحوّلت إلى مرآة مشروخة تعكس انقسامات المجتمعات وخطاباتها الملوثة، لا إلى مرآة للحقيقة.
المشهد الرقمي اليوم أشبه بساحة حرب رمزية، حيث لا ينتصر مَن يملك الحقيقة، بل مَن يملك القدرة على إنتاج سردية جذابة، صادمة، وقابلة للمشاركة، إذ تصبح المعلومات خاضعة لمنطق السوق، لا لمنطق العقل أو البرهان. كل منشور هو عرض مسرحي لجمهور مشحون، جمهور لا يبحث عن التفسير، بل عن تأكيد أفكاره المسبقة. وكأننا في عصر تتبخر فيه الثوابت، وينهار فيه المعيار الأخلاقي المشترك، فلا يبقى من الحقيقة سوى أشباح تتجول على هيئة ترندات، محمّلة بما يشتهي الناس لا بما هو واقعي.
إن ما يجري ليس مجرد فوضى معلوماتية، بل انقلاب رمزي على مفهوم الحقيقة نفسه. من لا يملك الحقيقة، يخلق سردية، ومن لا يملك السردية، يُسهم في تكرار سردية الآخر، حتى ولو عن غير قصد. هذا الانهيار في منظومة الصدق لا يحدث من أعلى فقط – من القادة أو الإعلام الرسمي – بل من القاعدة، من الجمهور الذي يسهم كل يوم، بمنشوراته وتعليقاته ومشاركاته، في تزييف المشهد.
وهكذا، يتحوّل الكذب من أداة سلطوية إلى ممارسة جماهيرية، ويتحوّل الجمهور من ضحية إلى فاعل نشط في إعادة إنتاج الوهم. لذلك مهمة التفكيك والنقد اليوم لم تعد مقتصرة على كشف كذب السلطة، بل على كشف كذبنا نحن – كجماعات وأفراد – حين نفضّل أفكارنا وعقائدنا على الحقيقة، وانتماءاتنا الضيقة على مفهوم الوطن.
في هذا المشهد المرتبك، لا يمكن إعفاء المثقف من المسؤولية. فالمثقف، الذي كان يُفترض أن يكون ضمير اللحظة وصوت المساءلة، وجد نفسه في ظل هذا الجو المشحون بالترندات واللايكات مهددًا بالعزلة أو الاتهام إن لم ينخرط في خطاب جماعته. لم يعد يطرح الأسئلة، بل يعيد ترديد الشعارات. أصبح مروّجًا لا ناقدًا، تابعًا لا مستقلًا.
المثقف وقع بين شهوة التأثير وخوف الإقصاء. فقد صوته المستقل، وتحول، في كثير من الأحيان، إلى ناقل رسائل، لا منتج أفكار. كما لو أن الثقافة تحوّلت إلى ملحق إعلامي، أو هوامش على متون الصراع. وأصبح المثقف الذي يرفض الاصطفاف “مريبًا”، والإعلامي الذي يرفض تسويق الكذبة “مشبوهًا”، والصحافي الذي يطالب بالتدقيق “عميلًا”.
لكن، في قلب هذا الخراب الرمزي، لا تزال هناك فسحة للمقاومة. ليست مقاومة مسلحة، ولا حتى خطابية، بل مقاومة تبدأ من الوعي وتتشكل في اللغة. حين يصبح الكذب نمط حياة، يصبح قول الحقيقة فعلاً ثورياً، خيارًا وجوديًا لا بديلاً له. لا تكمن المهمة اليوم في فضح الأكاذيب فقط، بل في إعادة إحياء الثقة بإمكانية المعنى، في القدرة على التفكير النقدي خارج جاذبية الجماعة، والقول الهادئ وسط عاصفة الصراخ.
لا خروج من هذا الانهيار إلا بإعادة تأسيس علاقة جديدة مع الحقيقة: لا بوصفها يقينًا نهائيًا، بل بوصفها أفقًا للمساءلة، وجهدًا مستمرًا في التنقيب، ورفضًا دائمًا لاختزال المأساة في شعارات أو “بوستات” صاخبة. وهذا يتطلب مثقفًا شجاعًا، وإعلامًا مهنيًا، وجمهورًا لا يخاف من أن يرى الحقيقة، حتى حين تُخالف رغبته.
في المحصلة، مقاومة الكذب والتزييف لا تُمارس فقط عبر تقنيات التحقق والمراجعة، بل عبر بناء ثقافة تسأل قبل أن تصدّق، تشكّ قبل أن تتبنى، تصغي قبل أن تحكم. ثقافة لا ترى في الخلاف خيانة، ولا في التساؤل ضعفًا، ولا في التصحيح انحيازًا. إنها مقاومة تشتغل ضد تدجين اللغة، ضد فُتات الترند، ومنطق اللايكات، والإدانة بلا دليل. مقاومة تعرف أن الحقيقة هشّة، لكن هشاشتها لا تُبطل قيمتها، بل تجعل الدفاع عنها ضرورة أخلاقية.
تلفزيون سوريا
—————————-
رسائل التاريخ إلى سورية الجديدة: دور المغتربين السوريين في البعثات العثمانية/ محمد السكري
2025.04.29
لطالما ما حظي ملف “هجرة العقول” أو “البعثات” باهتمام خاص، إذ يشكل إحدى أهم الظواهر السياسية الحديثة، في التأثير على مصير الدول، وتكمن أهمية الهجرة ومن ثم العودة، في الوقوف عند والأسباب الموضوعية والانعكاسات المحتملة، وقد كان أهم ما يمكن الوقوف عنده هو “نتيجته”، حيث تنطلق الظاهرة الشهيرة تلك من دوافع مختلفة وأسباب متباينة.
في تركيا، مثّلت المرحلة الأخيرة من عمر الدولة العثمانية في بدايات القرن التاسع عشر، إحدى أهم مراحل التحول حيث باتت “هجرة العقول” أمراً لا مفر منه، لكن سياق الهجرة حينها مشروط بما يمكن تسميته “الهجرة المشروطة” الهجرة والتعلم مقابل العودة لخدمة الدولة.
في سوريا، تبرز اليوم ملامح مشابهة لحد ما، لما جرى خلال مرحلة البعثات العثمانية من حيث النتيجة، وذلك مع عودة العقول السورية من جديد عقب سقوط نظام الأسد، بعدما استعانت الحكومة الجديدة بكثير من الخبرات السورية القادمة من خارج البلاد بوصفهم “تكنوقراط”. وقد ظهرت الحاجة لفهم الآثار المستقبلية التي من المفترض أن تتركها عودة العقول السورية إلى سورية من جديد في استحقاق بناء الدولة السورية وذلك بالاستفادة من التجارب الأخرى.
في الحقيقة، خلال محاولة فهم الآثار في عودة العقول السورية، حاولت العودة لنموذج قريب من سوريا، ومشابه له إلى حد بعيد وقد يدخل في صلب هوية الدولة السورية التقليدية، لا من حيث السياق الذي دفع الناس للهجرة، وإنما عند محاولة الإحاطة بالآثار المباشرة التي خلفتها الهجرة نفسها عند العودة لتركيا. ومن هنا، عُرفت تركيا ما سمي حديثاً خلال مرحلة الانتقال من السلطنة إلى الجمهورية بـ”التغريب” وهو مصطلح أطلق على العقول التي هاجرت من تركيا ومن ثم عادت لتكون البيروقراط التركي السياسي والاجتماعي.
في القرن التاسع عشر، بدت المعاناة والفجوة التركية مع الغرب أكثر من المتوقع، مما دفع السلطان “محمود الثاني” لتبني مسار “البعثات الطلابية” إلى الدول الأوربية وخاصةً فرنسا، وذلك لدى الإدراك بأن استمرار الدولة محتوماً بعملية تحديث شاملة في قطاعاتها الإدارية والعسكرية، مما يتطلب إرسال بعثات طلابية للتعلم والعودة لتطوير النظم الإدارية والتعليمية والعسكرية في البلاد، بالتالي لم تكن حينها الحاجة “ثقافية” بقدر ما هي سياسية وعسكرية من أجل إنقاذ خطر بدا أكثر وضوحاً على المستوى القريب في موازين القوى بين الدولة العثمانية والقوى الغربية.
حينها، كان الغرب منتشياً بثورة تنويرية على جميع الأصعدة وفي معظم المجالات في العلوم التطبيقية والإنسانية، حتّى أنّها وصلت لسجالات بين العقلانيين والتجريبيين؛ تلك السجالات صنعت أوروبا الحديثة لاحقاً، حيث أنّها حفّزت مكنة العلم كي لا تتوقف، على عكس الدولة العثمانية في أواخرها التي كانت تعاني من انسدادات تاريخية ناتجة عن هيمنة المطلقات واليقينيات السياسية والاجتماعية؛ منها في سلوك الحكم والدولة والعلوم الاجتماعية، وفي المجمل كبت هذه المشكلات لقرن كامل -ربما ظهرت أول أعراضه في القرن الثامن عشر- لم يساعد على حل المشكلة وهذا ما أدركه “متأخرين” الحاكمين العثمانيين.
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ازداد عدد البعثات العثمانية إلى أوروبا ولا سيما في سياق التنظيمات التي اعتبرت أول آثار البعثات لأوروبا حيث انتقلت حينها الدولة العثمانية من فكر السلطنة إلى فكر الدولة الحديثة أو ما يمكن تسميته أكاديمياً “النظرية السياسية الحديثة”، وجزء من ذلك كان إعادة تعريف الهوية لتصبح مواطنية متأثرة بفكر “الدولة الوطنية” الذي بدأ ينمو أكثر في كنف فرنسا عقب الثورة الشهيرة هناك.
في الواقع، لم يكن الساسة في الدولة العثمانية يتوقعون أن تلك البعثات ستؤثر في فكر الدولة والمجتمع ولاحقاً ستشكل برنامجاً خاصاً للبعثات سيتحول لحركة معارضة سياسية ستكون الأضخم منذ قرون، إذ تعاملت مع المسار كونه تقنياً يساعد على إعادة تعريف القوة داخل الدولة، وقد حققت بالفعل الدولة حينها مبتغاها في تشكيل المدرسة الحربية والبحرية الحديثة وعرقلت سقوط الإمبراطورية، لكن بذات الوقت تسارع الحديث عن الإصلاحات السياسية والدستورية والحريات وتعريف الدولة عبر القانون لا الفرد أو النظام المطلق وهو ما سماه الحداثيون العثمانيون “المشروطية”، وقد كان “نامق كمال” من أبرز الشخصيات التركية التي عرفت بدفاعها عن المسار الإصلاحي واشتهر بشعاره “الحرية أساس التقدم” وذلك خلال محاولة المواءمة بين الإسلام والديمقراطية، ومن ثم اشتهر بمسرحيته “المبشّر، وقد تسبب صدامه السياسي في نفيه إلى دمشق، حيث توفي هناك.
ضمن هذه البيئة التي تتراكم فيها الأفكار الشبابية الجديدة ويتفاعل عبرها العالم الجديد، ولدت أولى الحركات الإصلاحية من البعثات نفسها تحت مسمى “العثمانيون الجدد” ومن بعدها ارتفعت وتيرة الصدام السياسي داخل الدولة العثمانية، فلم يعد لدى القادة إلا التفاعل مع هذه المتطلبات كما فعل السلطان “عبد الحميد الثاني” بإعلانه عمّا سُمي “القانون الأساسي” ولاحقاً “تجميده”.
ارتفعت مدارس الحركات الإصلاحية بشكل كبير منها كانت متأثرة بالبعثات لفرنسا وأخرى تشعر أنّ النموذج العثماني أقرب للإصلاحات الأنجلوسكسونية في المملكة المتحدة، ومع تراكم الحركات المناهضة زاد عدد الحركات والأحزاب والقوى السياسي، منها كذلك “الأتراك الجدد” ولاحقاً “الكماليون” ومن ثم تفرّعت حركات قومية عديدة منها كانت “العربية” التي أسست لاحقاً دولة “المملكة السورية” العام 1920 ومعظم مؤسسي المملكة كانوا من البعثات أو من المتأثرين بها، أو ممن مهدوا لها كحال “عبد الرحمن الكواكبي” أو “محمد كرد علي” الذي شغل لاحقاً منصب وزير المعارف، ومعظم القيادات الوطنية السورية التي إمّا درست في فرنسا أو في إسطنبول، كما في حال البطل السوري “يوسف العظمة” الذي كان في دفعة مؤسس الجمهورية التركية “مصطفى كمال أتاتورك” مطلع القرن العشرين حيث درسا معاً في المدرسة الحربية التي شكلها المبتعثين خلال فترة السلطان محمود الثاني.
ولعلّ قراءة عودة العقول السورية في المرحلة الجديدة عبر عدسة البعثات العثمانية، تساعد على إدراك أن نتيجة هذه الهجرة قد تصل إلى تغيير الثقافة السياسية بمجملها، ولا سيما في سياق مشابه لسوريا والذي يعيش مرحلة ما بعد الثورة السورية، التي كانت نقطة التحول العظيمة في تاريخ سورية الحديث. ما يعني أن العقول السورية التي هاجرت ستكون نواة لحركات سياسية جديدة في سورية تنطلق من النظرية السياسية الحديثة، وإعادة تعريف الدولة وشأنها والحريات العامة ومساحاته، ما يعني بناء مشروع الدولة السورية الحديثة. ملف البعثات أو عودة المهجرين قسراً يتم تجاهله من قبل كثيرين خلال معالجتهم لملف السوريين، تلك المعالجات التي تقتصر على رؤية محدودة لمكونات الشعب السوري الجغرافية.
ومما يزيد من فرصة هذه الفئة، أنها تلقت تعليماً في مستويات مرتفعة جداً في جامعات دول متقدمة جداً في العلوم الإنسانية والتطبيقية، لحد مشابه لما جرى في كنف الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر مع لفت النظر للفوارق السياقية بكل تأكيد، غير أنّ الفارق الجوهري يكمن بأن البعثات العثمانية عادت إلى دولة قائمة وإن كانت مريضة، في حين يعود السوريون إلى دولة تبنى من الصفر، بجانب أن السياق السوري مختلف في الحديث عن الثورة الرقمية والعولمة مما يمنح أدوات أكثر قوةً وتأثيراً.
تظهر التجربة العثمانية أن عودة العقول لا تنعكس فقط على تقنيات وإدارات حديثة، بل كذلك في مفاهيم سياسية وثقافية ولا سيما في ظل الحديث عن مجتمع سوري متفاعل ضمن المجتمعات المدنية السورية والغربية وتشير التجربة نفسها بأنّ المماطلة في الانفتاح على التغيير ستكون نتائجه غير جيدة. بالتالي، إن عودة المغتربين السوريين قد يؤدي إلى نشوء تيارات سياسية عديدة ومنظمات مدنية واسعة -بدأت فعلياً بالظهور- منها تلك التي تتمسك بالديمقراطية وفصل السلطات وحقوق الإنسان والحريات العامة وتشكيل الهوية الوطنية الجامعة.
من هنا يصبح دراسة آثار “العودة” وليس فقط “الهجرة” استثماراً بالمستقبل الوطني السوري واستشرافاً حقيقياً للواقع السوري الجديد كلما تفاعلت مع الحكومة السورية نجحت في تحقيق التنمية والاستقرار وبناء دولة القانون والحريات القائمة على ثلاثية: التعددية والديمقراطية والمدنية والإسراع في فتح المجال السياسي والمدني وتجاوز المعادلة الأمنية وتشكيل البرلمان ومن ثم قانون للأحزاب والإعلان عن قانون الجمعيات السوري الجديد بجانب تشكيل لجنة خاصة تتبع لوزارة الخارجية لاستقطاب الكفاءات والكوادر السورية والعمل معها، فنموذج البعثات العثمانية ليس سياقاً زمنياً ماضياً فحسب، وإنما حتمية تاريخية تتكرر وما زالت تتكرر؛ فالتاريخ لا يموت، التاريخ يعيش بيننا.
————————
أبعاد استراتيجية لتطبيع سوريا العلاقات مع العراق/ حسن الشاغل
2025.04.29
مع سقوط نظام بشار الأسد وبدء مرحلة سياسية جديدة في سوريا، تزداد أهمية إعادة صياغة العلاقات الخارجية بما يتناسب مع معطيات الواقع الجديد. وبناءً عليه لابد من إعادة بناء تفاهمات جديدة مع العديد من الدول وفي مقدمتها دول الإقليم والجوار.
ويُعد التعامل مع الملف العراقي من أعقد وأهم الملفات التي تواجه السلطات السورية. لما لهذا الملف من تعقيدات سياسية وأمنية واقتصادية وثقافية. ومما يصعب الأمور أكثر أن كلا الطرفين مازال يعيش في تبعات العلاقات السابقة، فالسوريين عانوا من توغل الميليشيات العراقية على زمن نظام بشار الأسد المخلوع، بالمقابل يوجد عدم تقبل لبعض التصنيفات الاجتماعية والسياسية العراقية للإدارة السورية الجديدة.
من المهم إدراك أن مصير الاستقرار في كل من سوريا والعراق مترابط بشكل وثيق، حيث تتداخل الملفات الأمنية، الاقتصادية، والاجتماعية عبر الحدود المشتركة.
ويضع الوضع الإقليمي الجديد دمشق وبغداد أمام تأسيس علاقات جديدة قائمة على المصالح المتبادلة والاحترام المتبادل للسيادة الوطنية، إلا أن هذا يحتاج لجانا مشتركة من الطرفين لإعادة تهيئة المناخ الملائم لعودة العلاقات وبناء الثقة.
وبناءً عليه تتناول المقالة الأبعاد الاستراتيجية المشتركة بين العراق وسوريا والتي قد تدفع البلدين لإظهار مزيد من التنسيق والعمل المشترك لتحقيق المصالح المشتركة في المستقبل القريب.
البعد الأمني
يمثل البُعد الأمني أحد الأعمدة الرئيسية في العلاقات بين سوريا والعراق، خاصة في ظل التحديات الإقليمية المتشابكة التي شهدها البلدان خلال الفترات الأخيرة. فقد أصبح الأمن المشترك ضرورة ملحّة لاستقرار كل من سوريا والعراق، لا مجرد خيار يمكن تجاوزه.
فضبط الحدود بين البلدين ليس بالأمر الهين، فمع امتداد الحدود بين البلدين لأكثر من 600 كيلومتر، والتي معظمها مناطق صحراوية غير مأهولة بغالبيتها، مما يضعف الدولتين في فرض الأمن على الحدود، إلا بالتنسيق والتعاون، وتنفيذ عمليات ميدانية مشتركة على الحدود.
وتبرز التحديات أمام البلدين، في تباين بعض المصالح الإقليمية والدولية وتأثيرها على كلا البلدين، وهشاشة بعض المناطق السورية والعراقية القريبة من الحدود بعد سنوات من الحرب، ما يجعل فرض الأمن الكامل تحديًا لوجستيًا وميدانيًا في الوقت الحالي،
سوريا الوليدة، تواجه الملف الأمني الذي يعد أهم تحدٍ أمام الإدارة الجديدة، إذ مازالت تعاني البلاد من تحديات أمنية تعيق الوصول إلى نقطة الاستقرار في البلاد. وباعتبار المناطق المحاذية للعراق غير مستقرة ورخوة أمنياً بعض الشيء، ما يبقي احتمالية تشكل خلايا مدعومة في المناطق الحدودية.
بناءً عليه، يعد تحقيق الاستقرار الداخلي بالنسبة لسوريا بشكل عام والمنطقة الشرقية المحاذية للعراق بشكل خاص، ضرورة ملحة، ويقترن نجاح فرض الأمن على المنطقة الشرقية ببناء علاقات الثقة والتعاون مع العراق، وإيجاد آلية تنسيق مشتركة تؤدي بطبيعة الحال إلى ضبط الحدود وتأمينها.
البعد الاقتصادي
يعد العراق سوقاً تجارياً مستهلكاً لجميع السلع الخدمية والعينية، وكانت سوريا الأكثر تصديراً للعراق بعد الغزو الأميركي عام 2003، ألا أن الحركة التجارية انخفضت بحدة بعد اندلاع الثورة عام 2011.
والآن يمكن الحديث عن إعادة تهيئة الظروف اللازمة لتنشيط الحركة التجارية بين دمشق وبغداد، لتعود الأخيرة كأحد أبرز الأسواق المستوردة من سوريا، وذلك لعدة أسباب، وأهمها: أولاً، القرب الجغرافي وقصر المسافة، الذي يخفض من أجور النقل. ثانياً، جودة المنتجات السورية (النسيجية، الغذائية، الدوائية). ثالثاً، الأسعار السورية المنافسة.
كما يمكن للدولتين تحفيز الاستثمار فيما بينهما، وتعزيز التجارة البينية عبر تأسيس مناطق تجارة حرة بين البلدين، ما ينعكس بشكل إيجابي على الصناعة والاقتصاد السوري، من ناحية إعادة تشغيل عدد من المصانع، وتشغيل اليد العاملة، ودخول إيرادات مالية للدولة.
من جانب آخر، تشكل سوريا عمقاً جيواستراتيجياً للعراق باعتبارها ممراً حيوياً وحلقة وصل بين مراكز إنتاج النفط العراقي وبين سوق الطاقة الدولية عبر الموانئ السورية على البحر المتوسط. فمن المعروف أن العراق بلد غني بالنفط، ونقاط تصديره محدودة، حيث يعتمد على ميناء الفاو الضيق في تصدير جزء من إنتاجه، فيما تعتمد مناطق الشمال على التصدير عبر خط أنابيب يمتد من كركوك إلى ميناء جيهان التركي. لذلك يبحث العراق عن طرق جديدة للتصدير تحمل جدوى اقتصادية.
وهنا تبرز الحاجة لإعادة تفعيل خط أنابيب كركوك بانياس، والذي يبلغ طوله حوالي 800 كيلومتر، وقدرته الاستيعابية للتصدير تبلغ حوالي 300 ألف برميل يومياً، قابلة للزيادة. بالمقابل قد يتم الدفع بتطوير خط الأنابيب أو بناء خط أنابيب جديد بقدرة استيعابية أكبر من حقول الإنتاج إلى موانئ البحر المتوسط عبر الأراضي السورية.
كلا الدولتين ستحقق مزايا ومصالح من تشغيل خطوط الأنابيب بين البلدين، العراق سيرفع من سعته التصديرية للنفط مستقبلاً مما سيحقق عوائد مالية لميزانية الدولة، وتسهيل الوصول إلى الأسواق الأوروبية.
وفيما يتعلق بسوريا، فستحصل الدولة على عدد من المكاسب: أولاً، عوائد مالية سنوية يتفق عليها لقاء مرور خطوط الأنابيب من أراضيها وعبر موانئها. ثانياً، أسعار مخفضة من النفط، باعتبار سوريا دولة عبور. ثالثاً، تعزيز أهمية سوريا كممر طاقة إقليمي.
وتشغيل خط الأنابيب مازالت تعيقه العديد من العقبات، وأهمها، حول الطرف الذي سيمول بناء خط الأنابيب أو في إعادة تهيئة خط أنابيب كركوك بانياس والذي قد يحتاج مبالغ مالية قد تتجاوز المليار دولار. كما يتطلب تأمين مسار الخط أمنياً من أي عمليات تخريب، فضلاً عن وجود عقوبات دولية على سوريا.
البعد السياسي
إن بناء سوريا لعلاقات قوية ومتوازنة مع العراق يمثل ركيزة أساسية لنجاح المرحلة الانتقالية في سوريا، ولضمان انخراطها الإيجابي في محيطها العربي والإقليمي من جديد.
لأن البُعد السياسي يشكل حجر الزاوية في العلاقات الثنائية، الذي يتطلب تطوير العلاقات وإعادة تفعيل القنوات الدبلوماسية، ورفع مستوى التمثيل السياسي بما ينسجم مع طبيعة المرحلة الجديدة في سوريا.
تلفزيون سوريا
———————————
==================
عن الأحداث التي جرت في الساحل السوري أسبابها، تداعياتها ومقالات وتحليلات تناولت الحدث تحديث 29 نيسان 2025
لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي
الأحداث التي جرت في الساحل السوري
—————————-
مواجهة الأشباح… السلم الأهلي وبناء الثقة/ سمر يزبك
29 ابريل 2025
يُستخدم مصطلح “السلم الأهلي” في سورية كما لو أنه علامة على عودة الحياة إلى طبيعتها، لكنّه توصيفٌ مُضلِّل، لا لأنه غير دقيق فحسب، بل لأنه يتغافل عن سؤال أعمق: ما معنى “الحياة الطبيعية” بعد كلّ ما جرى قبل سقوط النظام وبعده؟ وهل الصمت المتبادل بين السوريين استقرار، أم خوف مؤجَّل؟
الرهان اليوم لا يتعلّق بمنع السلاح، بل بكيفية التعامل مع ما خلّفه من انقسامات في الوعي، فما حدث لم يكن بين غرباء، بل بين أبناء الوطن الواحد، وقد ارتكز على تصنيفاتٍ حادّة: خائن، عميل، شهيد، طائفي، وطني، شبّيح. هذه المفردات، وإن تراجعت من الخطاب الرسمي بعد سقوط النظام، ما تزال حاضرةً في الأحاديث، في النظرات العابرة، وفي صمت القرى الصغيرة وخوفها المتراكم. السلم لا يُفرض من أعلى. لا تصنعه اللجان، بل يُبنى من الأسفل: من تفكيك الخوف، ومساءلة السرديات التي شرعنت العنف، وترميم الثقة بين الأفراد والمجتمعات. وحتى اليوم، لم يشهد السوريون مراجعةً حقيقيةً لما حدث، ولا اعترافاً متبادلاً بالخطأ، ولا حتى بدايةً لمسار عدالة انتقالية، ولو رمزية. الدولة والمجتمع معاً يتعاملان مع الذاكرة كأنّها عبء يُستبدل به الصمت.
في مناطق كثيرة، يُختزل “التعايش” إلى مجاورة حذرة. يتفادى الناس الصدام لا لأنهم تصالحوا، بل لأنهم أُنهكوا من الخسارات. الخوف لم يغادر، بل غيّر وجهه: هناك من يخاف من السلطة الجديدة، من الجار، من الكلمة، من نفسه. والسلطة بدل أن تكون وسيطاً راعياً للثقة، تكتفي بدور الرقيب الصامت الذي يمنع الانفجار من دون أن يزيل أسبابه. في الأحياء المختلطة طائفياً، أو تلك التي شهدت تبدّلاً في السيطرة، يظهر توتّر صامت يشبه هدنةً غير معلنة. كأن الناس اتفقوا على قاعدة ضمنية: لا نتحدّث عن الماضي، لا ننبش، لا نُكثر من الأسئلة. لكن هذا “السلام” القائم على النسيان القسري سرعان ما ينهار عند أول احتكاك، لأن ما لم يُقل لا يموت، بل يُكنس تحت البساط. ورغم تكرار مصطلح “السلم الأهلي”، تغيب أدواته الحقيقية: لا برامج لإعادة دمج وتعويض الضحايا، ولا حتى البحث عنهم بالحدّ الأدنى؛ لا إعلام يعترف بتعدّد الروايات؛ لا حوارات تشاركية، ولا نقاش عام، ولا سردية وطنية مشتركة عمّا جرى. والأسوأ أن من يطرح هذه الأسئلة يُتّهم بإثارة الفتنة، وكأنّ المشكلة في مَن يُشير إلى الجرح، لا في الجرح ذاته.
السوريون اليوم عالقون في ما يشبه “الزمن المؤجَّل”: لا عودة ممكنة إلى ما كان، ولا أدوات لتجاوز ما حدث. حالة من التجميد الرمزي تُغذّي غياب الثقة، ليس فقط بين الفرد والدولة، بل بين السوريين أنفسهم.
ليست المصالحة نصاً قانونياً، بل عملية لإعادة صياغة العلاقة بين الذات والآخر، بين الفرد والمجموعة، وبين الجماعة وسرديتها عن نفسها. في هذا السياق، تصبح الذاكرة عبئاً شخصياً. لا أحد يريد أن يسمع من الآخر ما رآه أو عاشه. ومع الوقت، يُستبدل بالألم الصمت، ثمّ التأقلم القسري. وهكذا، يتحوّل السلم الأهلي غلافاً هشّاً، أشبه بواجهة بناء مرمّمة، تخفي خلفها شقوقاً داخلية تواصل التمدّد.
بناء الثقة لا يتم بالشعارات، بل من خلال الممارسة اليومية؛ في المدرسة، حين يُسمح بتعدّد الروايات؛ في الإعلام، حين يُتخلّى عن خطاب الغلبة؛ في القضاء، حين تُفتح أول نافذة للعدالة؛ وفي السياسة، حين يُعترف بالعمق الاجتماعي للنزاع. السلم ليس غياب الحرب، بل حضور عقد اجتماعي جديد، يعترف بما جرى، ويعيد تعريف معنى العيش المشترك. وهذا لا يتحقّق من دون سياسة عامّة تجاه الذاكرة، تُقرّ بأن الوطن لا يُبنى بالنسيان، بل بالجرأة على القول. لأنّ العنف، في النهاية، لا يبدأ بالسلاح، بل بالمعنى الذي لا يُقال، وبالتاريخ الذي لا يُسأل.
العربي الجديد
——————————–
جديدُ مسألة الاقليات/ حسان القالش
29 ابريل 2025
كان الآباء المؤسّسون لكيان الدولة السورية يتشاركون في عقليّة أو آلية تفكير سياسي غير ناضجة، ما يعود إلى طبيعة نضالهم ضدّ الاستعمار، ومن مرتكزات هذه العقلية إنكار وجود الأقليات، فمن 1928 وحتى 1939 كانت فرنسا قد ابتزّتهم مستخدمة هذه المسألة. وبهذا؛ بدا طبيعياً، من دون أن يكون مبرّراً، أن تتّسم سياسة الآباء المؤسّسين، سواءً إبّان الانتداب أو بعده مباشرة، بمنحى إقصائي ضدّ الأقليات، وهذا راجع إلى إدراك هؤلاء السياسات الكولونيالية الأوروبية التي استخدمت مسألة الأقليات لتقسيم المنطقة. على أنّ الأقليات في سورية كانت هي المبادرة للسعي إلى دخول حظيرة الوطن، وناضل شبابها المثقف لرفع مستوى وعي جماعاتهم، للوصول إلى الاستنتاج المصيري أنّ لا ضامن لبقائهم سوى الاندماج بالكيان والدولة. في المحصلة، جرى توحيد التراب من دون توحيد القلوب، واستفحلت “مسألة الأقليات”، إحدى العلل الرئيسية في الكيان السوري الحديث، في الوطن المنشود وغير المكتمل.
ومن رحم مسألة الأقليات ولدت “المسألة العلويّة” على يدَي نظام آل الأسد، فكان ما كان من اعتماده على العلويين في المناصب التي تحميه وتضمن أبديّته، ولم يكن ذلك خيار العلويين جماعةً، بل حصيلة تخريب ممنهج قام به آل الأسد. وبمرور سنوات طويلة، تحوّل العلويون إلى رعايا بدرجة مُضاعفة عن غيرهم، فهُم رعايا في دولة تسلّطية لا تعترف بالمواطنة، ورعايا الشريحة الصغيرة من طائفتهم التي تمنحهم مكرمات حياة الكفاف. وفي الوقت ذاته، كان جهل السوريين بأحوال غيرهم من السوريين، وانتشار الأفكار المغلوطة، قد أدّى إلى تنامي الضغينة الشعبية تجاه العلويين، باعتبارهم الجماعة صاحبة الامتياز، وهذا ما استثمر به آل الأسد فجرى تعزيز كراهية السُنّة ضدّ العلويين، وخوف العلويين من احتقان السُنّة، ولابدّ من الاعتراف بأنّ سنوات الثورة لم تفعل شيئاً تجاه هذه القنبلة الاجتماعية الموقوتة، وهذا ما أوجد نبوءةً عند الطرفَين، تقول بحصول مجزرة طائفية رهيبة ضدّ العلويين بعد سقوط النظام، خشيَ منها بعضهم وتمنّاها جمهور عريض للأسف.
وبالفعل، تحقّقت النبوءة، وجرت مذبحة طائفية ضدّ العلويين. نعم، كان هذا متوقّعاً، وربّما محتوماً. لكن، ما هي مخاطر ما حدث على أرض الواقع اليوم وفي هذه المرحلة؟ الخطر في ما حدث يكمن في أنّ المجازر لم تحدث بعد سقوط النظام مباشرة، وردّة فعل على زواله، بل عندما كانت حكومة أمر الواقع هي المسؤولة عن أمن البلاد والعباد، وهناك من يتّهمها بأنها طرف شارك، بطريقة أو بأخرى، في هذه المجازر، فالفصائل “غير المنضبطة” التي أمعنت في القتل هي تشكيلات تتبع للحكومة. وقبل ذلك، كان الغرور قد أخذ بالحكومة في تعاطيها مع العلويين تحديداً، فلم تمتلك معرفة حقيقية بهم، ولا قدّرت أوضاعهم الاجتماعية.
سؤال آخر، نابع عن سؤال المخاطر: هل انتهت المسألة هنا؟ والجواب بالطبع: لا، بل بدأت بداية جديدة. فعدا عن أنّ الثقة قد فُقدت بين الحكومة وجماعة كاملة، فيها أغلبية وازنة من الراغبين بالاستقرار السياسي ومن كارهي آل الأسد، فاستمرار خطاب التبرير والإنكار لوقائع المذبحة، الذي يشمل شريحة غير صغيرة من مثقفين ونُخب، من محسوبين على الحكومة، أو متعاطفين معها، إنما يقول إنّ الضغينة والتمييز ليسا في طريقهما إلى الزوال. وما إنكار أو تسفيه ظاهر اختطاف فتيات علويات أخيراً إلا دليل آخر على ذلك. لقد تكرّس الشّرخ الاجتماعي بالدمّ، وهذا الشرخ هو، بلغة عزمي بشارة، من نُذر أزمة الدولة التي تهُزّ استقرارها، إن كنّا فعلاً في صدد بناء “دولة”.
العربي الجديد
————————————-
«تجليّات» رامي مخلوف/ مشاري الذايدي
28 أبريل 2025 م
رامي مخلوف رجل النظام الأسدي الكبير – سابقاً – وابن خال بشّار الأسد الذي اختلف معه ومع زوجته أسماء، وسلخ ثنائي بشار – أسماء، منه كل مصالحه الاقتصادية العظمى، التي بناها بسبب كونه قريب الأسد وكان عضواً في النخبة الحاكمة.
رامي هذا نشر على «فيسبوك»، وهو لائذٌ حالياً بالساحل السوري، التالي:
«من رَحِم هذا الإقليم أعلنُ ظهور فتى الساحل المؤيد بقوةٍ من الله، لنصرة المظلومين، وتقديم يد العون للمحتاجين، فسيكون خادم العباد بأمر رب البلاد، فمن أراد معرفة المزيد فليبحث عنه بصدقٍ وتدقيقٍ».
من هو فتى الساحل هذا، وماذا سيفعل؟ يخبرنا «مولانا» رامي أن هذا المخلّص سـ«يغيّر المشهد السوري والمنطقة بأكملها، وسيقهر الظالمين ويذلّهم ويسحقهم، ويعزّ المظلومين وينصرهم ويرفعهم، والله على ما أقول شهيد. وكل ذلك من علم محمد وآل محمد صلوات الله عليهم أجمعين، المدون منذ مئات السنين. فنحن أمة (اقرأ)، للأسف لا تقرأ».
رامي، بالجانب العملي، أخبرنا عن تشكيله قوات ضخمة، مع «أخيه النمر»، ويقصد العقيد سهيل الحسن، غرضها صون منطقة الساحل، وتقريباً استقلالها، لكن لم يفصح صراحة عن ذلك، ملوّحاً بالاستعانة بالروسي. لكن ما يهمّ هنا هو «تجليّات» الشيخ رامي الروحانية، والأدبيات القيامية والـApocalyptic.
مخلوف يغرف من معينٍ قديم، يشرب منه القانطون عند شُحّ الأمل وتملّح الحياة، حينها يكون المخلّص أو «فتى الساحل» مع رامي مخلوف، هو الأمل الحقيقي!
لدينا في تاريخ الساحل القريب رجل ذهب أكثر بهذا الدرب، وهو سلمان المرشد الذي نادى بنفسه مخلّصاً بل وصاحب نبّوة، وكوّن جيشاً وشرطة وإدارة، لكنه أعدم 1946 ليخلفه ابنه، مُجيب، ويكرّس «الديانة المرشدية» ويُعدم هو الآخر.
الحقُّ أن بلاد الشام وكذا العراق، في محيطنا العربي، طيلة التاريخ، منبعٌ لمثل هذه الملاحم والشخصيات الأسطورية، مُنتجة ومستهلكة في آنٍ واحد لأدب الملاحم والقياميات التاريخية، ويذكر المستشرق الألماني القديم فان فلوتن نماذج في العراق والشام، بعصرٍ مبكّر، مثل موسى بن الصحابي طلحة بن عبيد الله، وكذا ابن الأشعث، زمن الحجّاج بن يوسف، الذي كان ينادي بنفسه «القحطاني صاحب الزمان» وغيرهم كثير، كمحمد بن الحنفية… الذي كان متغيّباً بجبل «رضوى» في ينبع: «عنده عسلٌ وماء» كما قال كُثيّر عزّة.
في سوريا كانت وما زالت هذه الأدبيات فاعلة فعلها، مع السنة والشيعة والمسيحيين، وعلى ذكر السنة، فإن أدبيات «جبهة النصرة» و«داعش»، مُتخمة بالكلام عن صاحب «المنارة البيضاء» و«فاتح الشام» وغير ذلك كثير.
رامي وجماعته، لهم شركاء من طوائف أخرى في هذه السوق… القاتلة.
الشرق الأوسط»
—————————–
استعراض وقدرة مشكوك فيها.. ماذا وراء إعلان رامي مخلوف تشكيل قوة عسكرية؟/ ثائر المحمد
2025.04.28
أطلق رامي مخلوف، ابن خال رئيس النظام المخلوع بشار الأسد، إعلاناً مطولاً ومثيراً للجدل، تضمن تشكيل ما سماه “قوات النخبة”، التي قال إن تعدادها يقارب 150 ألف مقاتل مع قوة احتياطية مماثلة، لكن من حيث الجدية، أثار إعلان مخلوف تشكيل قوة بهذا الحجم شكوكاً واسعة، سواء من حيث الإمكانات اللوجستية أو السياسية أو حتى مدى قدرته الحقيقية على تحريك هذا العدد من العناصر، إذ لا توجد مؤشرات واقعية تثبت حتى الآن وجود كيان عسكري بهذا الحجم يرتبط به.
ويعزز ما سبق الانطباع بأن خطاب مخلوف أقرب إلى استعراض إعلامي يرمي إلى الضغط السياسي أكثر من كونه إعلاناً عن قوة جاهزة على الأرض. ومع ذلك، لا يمكن إغفال أن مخلوف يملك تاريخاً من النفوذ المالي والاجتماعي، لا سيما في الساحل السوري الذي يحاول استثارة مشاعره من خلال استحضار “المجازر” والحديث عن “حق الدفاع عن النفس”.
على مستوى الرسائل السياسية، عمل مخلوف على تمرير عدة رسائل متقاطعة عبر منشوره، أولها تحميل بشار الأسد مسؤولية مباشرة عن “تدهور سوريا وسقوطها”، وثانيها تقديم نفسه كبديل وطني حريص على المصالحة والتنمية، وثالثها محاولة استرضاء الروس بإعلان استعداده لوضع إمكانياته تحت إشرافهم المباشر. كما تضمن بيانه تلميحات إلى أنه لا يمانع في التواصل مع حكومة دمشق إذا كانت الغاية “حماية الإقليم الساحلي” وتوفير الأمن، في خطاب مزدوج يجمع بين المواجهة والانفتاح.
ماذا جاء في إعلان مخلوف؟
أعلن رامي مخلوف تشكيل قوات مسلّحة جديدة تحت مسمى “قوات النخبة”، زاعماً أن تعدادها يبلغ 150 ألف مقاتل مع قوة احتياطية مماثلة، إضافة إلى لجان شعبية تضم نحو مليون شخص.
ووصف مخلوف بشار الأسد بـ”الأسد المزيف”، متهماً إياه وعائلته بالتسبب بـ”سقوط سوريا” عبر إقصاء من وصفهم بـ”رجال الحق”، وعلى رأسهم ما يسمى “النمر” (سهيل الحسن)، مكرراً ادعاءاته السابقة بأنه كان سنداً للجيش والدولة قبل أن يتم عزله ومصادرة ممتلكاته.
وزعم مخلوف أن قواته تهدف إلى حماية “الإقليم الساحلي” السوري ومكافحة الفقر، داعياً إلى تعاون مشترك مع حكومة دمشق، في محاولة لتسويق مشروعه الجديد باعتباره “مبادرة للمصالحة والتنمية”.
وفي ختام بيانه، ناشد مخلوف روسيا لرعاية “الإقليم الساحلي”، مقترحاً وضع إمكاناته الاقتصادية والعسكرية تحت إشرافها، متحدثاً عن ضرورة التواصل مع حكومة دمشق لإيجاد صيغ عمل مشترك، في موقف يعكس تناقضاً بين ادعاءات التعاون وانتقاداته اللاذعة للحكومة.
وجهاء بستان الباشا يرفضون منشور رامي مخلوف
أصدر وجهاء وأهالي قرية بستان الباشا، مسقط رأس رامي مخلوف، بياناً رافضاً للرسائل والمنشورات الصادرة عنه، مؤكدين أن ما يصدر عن أي شخص فرّ خارج البلاد “لا يمثلهم ولا يعبر عن من ينتمي لتراب هذا الوطن”، بل يعبر فقط عن “أطماع قائله بدور يستجديه حتى لو تسبب بمزيد من الأذى والجروح لأبناء الساحل الطيبين الشرفاء”.
وجاء البيان عقب اجتماع عقده وجهاء القرية، حيث أكدوا رفضهم القاطع لأي طرح يؤدي إلى تفكك وحدة سوريا أرضاً وشعباً، وتمسكهم بالسلم الأهلي والإرادة السورية الخالصة.
ونشر مهيار بدرة، من وجهاء قرية بستان الباشا وعضو لجنة السلم الأهلي في المنطقة، البيان الذي جاء فيه أن أهالي القرية المقيمين فيها، ومن ضمنهم آل مخلوف، شاركوا في صياغة البيان الرافض لأي منشور صادر من الخارج يسبب مزيداً من الأذى لأبناء الساحل.
وشدد البيان على التزام أهالي بستان الباشا بتحقيق السلم الأهلي ووحدة سوريا أرضاً وشعباً، مؤكداً أن موقفهم هذا ثابت “سواء كان المنشور الذي تم تداوله مزيفاً أو حقيقياً، كائناً من كان مصدره”.
ما دوافع رامي مخلوف؟
اعتبر الباحث في الشأن الأمني والسياسي عبد الله النجار أن رسالة رامي مخلوف الأخيرة تمثل تحريضاً واضحاً على إشعال أعمال عنف جديدة في الساحل السوري، مشيراً إلى أن توقيت الرسالة ومضمونها يعكسان مستوى من “قلة الحياء والفظاظة”، بحسب وصفه، إذ يتفاخر مخلوف بمشاركته في دعم النظام المخلوع طوال السنوات الماضية إلى جانب شخصيات مصنفة كمجرمي حرب مثل سهيل الحسن.
وأوضح النجار أن رامي مخلوف كان أحد أبرز الداعمين لعصابات النظام خلال فترة الحرب، مستفيداً من ثرواته ورؤوس أمواله في الالتفاف على العقوبات الدولية المفروضة على الأسد، مشيراً إلى أن عائلة مخلوف، وعلى رأسها والده محمد مخلوف، لعبت دوراً محورياً في سرقة الاقتصاد السوري على مدار خمسين عاماً.
وأكد أن هذه الرسالة لم تصدر عن عبث، بل تأتي في سياق محاولات مخلوف للعودة إلى الواجهة، بعد أن كان والده أحد أعمدة الحكم إلى جانب بشار الأسد وعائلته.
ولفت الباحث في لقاء مع تلفزيون سوريا إلى أن حديث مخلوف عن تشكيل 15 فرقة بعدد يقارب 150 ألف مقاتل، إضافة إلى قوة احتياطية مماثلة ومليون شخص من اللجان الشعبية، يمثل محاولة مكشوفة لتزعم العلويين وتقديم نفسه كـ”وجه سياسي” للطائفة في مواجهة الحكومة، مشيراً إلى أن رامي مخلوف يحاول الإيحاء بأنه سيحمي العلويين ولن يدخل في أي تسوية مع السلطة قبل ضمان مصالحهم، وهو خطاب يتقاطع بشكل غير مباشر مع الطروحات الفيدرالية التي بدأت بالظهور مؤخراً في المشهد السوري.
وحذر النجار من خطورة تجاهل هذه التحركات، مبيناً أن بعض المعلومات التي انتشرت مؤخراً تتحدث عن محاولات لإثارة الفوضى في الساحل السوري، وأن الدولة اضطرت لنشر قوات إضافية لحفظ الأمن هناك، معتبراً أن رامي مخلوف لا يمتلك القدرة الذاتية على التنظيم أو قيادة هكذا عمليات معقدة، بل يعتمد على المال لربط بعض المجموعات الصغيرة، مؤكداً أن هناك دولاً إقليمية تدفع نحو استغلال هشاشة الوضع السوري، وأن مخلوف ليس إلا “واجهة لأجندات خارجية” تتحرك في الخفاء عبره.
“تخريف ولعب في الوقت بدل الضائع”
رأى الصحفي علي عيد أن المنشور الذي أطلقه رامي مخلوف يأتي في إطار السعي لتقسيم المجتمع السوري وإعادة إنتاج الاصطفافات الطائفية، لكنه شدد على أن الغالبية العظمى من أبناء الطائفة العلوية لا يعيرون أي اهتمام لما جاء في كلام مخلوف.
واعتبر عيد في لقاء مع تلفزيون سوريا أن الطائفة العلوية قد تم استغلالها طوال عقود من قبل عائلة الأسد، وتم الزج بها في صراعات لا تعبر عن مصالحها الحقيقية.
ولفت الصحفي إلى أن هناك معلومات تفيد بأن صفحة فيسبوك التي يستخدمها رامي مخلوف كانت قد أُسست في البداية لمصلحة ماهر الأسد عام 2012، قبل أن تُنقل لاحقاً إلى اسم رامي مخلوف في عام 2015، ما يعزز الشكوك بأن ما يحدث هو مجرد إعادة توزيع أدوار بين أجنحة النظام القديمة، ولعب “في الوقت بدل الضائع”.
ووصف عيد إعلان مخلوف عن تشكيل 150 ألف مقاتل من “قوات النخبة” وقوة رديفة مماثلة، إضافة إلى مليون من اللجان الشعبية، بأنه “تخريف”، معتبراً أن الأرقام غير منطقية عسكرياً أو ديموغرافياً، وتشبه محاولات لشد عصب بعض المجموعات الهامشية أو الخلايا النائمة أو الأفراد المنعزلين المتبقين في الجبال وبعض المناطق.
“مخلوف لا يملك رصيداً”
رأى الباحث النجار أن رامي مخلوف لا يمتلك اليوم أي رصيد شعبي بين أبناء الطائفة العلوية، مشيراً إلى أن أبناء الطائفة يحملونه، إلى جانب بشار الأسد، مسؤولية الأوضاع المتدهورة التي يعيشونها. وأكد أن مخلوف، برأيه، شخصية سقطت منذ زمن ولم يعد لها وزن حقيقي في المجتمع.
وأوضح الباحث أن هناك مجموعات من الفلول بحاجة إلى دعم مادي، وقد تمكن رامي مخلوف، بتوجيه من جهة خارجية لم يسمها، من ربط هذه المجموعات ببعضها البعض، متعهداً بتقديم الدعم المالي لها. وأشار إلى أن هذه المجموعات قادرة على خلق بعض الفوضى لفترة محدودة، لكنها غير قادرة على إحداث تغيير استراتيجي واسع.
ولفت إلى أن هذه المرحلة المؤقتة قد تشهد مصادرة الأصوات الحرة بين أبناء الطائفة، على غرار ما حدث في مناطق شرقي الفرات، حيث يصعب على أي كردي سوري التعبير بحرية عن رأيه، متوقعاً أن يحاول مخلوف الظهور أمام السلطات كـ”وصي” على الطائفة العلوية.
وبيّن الباحث أن مخلوف، رغم نبرة التصعيد في بيانه، حاول في نهايته الإبقاء على “شعرة معاوية”، عبر دعوته إلى وساطة من “الأصدقاء الروس”، وتقديم نفسه كحلقة وصل بين العلويين والسلطات.
وختم الباحث بالتأكيد أن الطائفة العلوية، مثلها مثل باقي مكونات المجتمع السوري، تزخر بقامات ثقافية وفكرية ووطنية تتجاوز بكثير عائلة مخلوف، التي قال إنها تورطت في الفساد ونهب مقدرات السوريين لعقود طويلة، مؤكداً أن السوريين اليوم بحاجة إلى بناء مستقبلهم بعيداً عن أسماء ارتبطت بتاريخ من الدم والسرقة.
تلفزيون سوريا
—————————————
عودة رامي مخلوف.. من رجل أعمال إلى زعيم مناطقي؟
27 أبريل 2025
كشف رامي مخلوف، ابن خال الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، عن عودته إلى الواجهة عبر دور مختلف، لا كواجهة اقتصادية كما كان سابقًا، بل كـ”قائد مناطقي” يسعى إلى إعادة رسم معادلة القوة في الساحل السوري، معلنًا عن تشكيل 15 فرقة عسكرية قوامها نحو 150 ألف مقاتل، إلى جانب فرق ولجان شعبية أخرى تحت شعار حماية “الإقليم الساحلي”، في خطاب طغى عليه الشحن الديني والمظلومية الاجتماعية.
وفي منشور مطوّل على منصة “فيسبوك”، كتب مخلوف أن “مشاهد مجزرة الساحل لم تفارقنا حتى يومنا هذا، وما زالت جثث شهداء المذبحة تتوافد على شواطئ البحار هنا وهناك، مشوهة الوجه، مقطوعة الرأس”، مشيرًا إلى أن المجازر المُرتكبة في الساحل السوري ستؤدي إلى “معجزة إلهية سيُقلَب عاليها سافلها، ويغير المشهد السوري والمنطقة بأكملها”.
ومثلما درجت العادة في منشوراته الأخيرة، أعاد مخلوف التذكير بخلافه مع الأسد الذي وسمه بـ”المزيف”، مشيرًا إلى أنه لو لم يبعده مع اللواء في نظام الأسد، سهيل الحسن، عن المشهد العام “لما سقطت سوريا”، وفق تعبيره، زاعمًا أن الدعم العسكري، بالإضافة إلى الاقتصادي والاجتماعي والإداري الذي وفره لنظام الأسد، منع “البلاد من الانهيار طيلة فترة الحرب”.
وادعى مخلوف في منشوره أنه شكّل بالاشتراك مع الحسن “15 فرقة، تعدادها قارب 150 ألف من رجال النخبة إلى جانب قوة احتياطية مماثلة بهذا العدد”، كما أضاف أنه تم العمل على تشكيل “لجان شعبية تصل إلى مليون شخص جاهزين لتلبية نداء الحق”، وتابع قائلًا “نحن شعب ظُلمنا في عهد النظام السابق، وذُبحنا في عهد النظام الجديد، فمن حقنا الدفاع عن أنفسنا بوجه كل من يأتي لذبحنا”.
وزعم ابن خال الأسد المخلوع أنه يمد يده “لكل السوريين من شمال البلاد إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها”، مدعيًا أنه “لا يسعى إلى الانتقام أو الاعتداء”، بل إلى “بداية عهد جديد قائم على الأخوة والمحبة والتسامح”. كما دعا إلى “التوحد لمحاربة الفقر والجوع”، مؤكدًا أهمية “إعادة بناء سوريا اقتصاديًا واجتماعيًا وعسكريًا”.
وحذّر مخلوف الحكومة السورية الجديدة من “فشلها في حماية المدنيين من الذبح والقتل والخطف”، مشيرًا إلى أن “مجزرة حمص شاهد على غياب الأمن”. ودعا إلى “التعاون لضمان الأمن، خاصة في إقليم الساحل”، مقترحًا “بداية عهد جديد عنوانه الأمن والأمان للجميع”، وربط أي تسوية لإعادة أعماله إلى سوريا بعودة الأمان إلى الساحل السوري، موكدًا على أن علم النظام السابق هو العلم الرسمي في الساحل.
وفي نهاية المنشور، أعلن عن ظهور “فتى الساحل المؤيد بقوةٍ من الله”، في إشارة إلى قيادته للمجموعات التي أعلن عن تشكيلها مع الحسن، مناشدًا المجتمع الدولي، وفي مقدمتهم روسيا بتقديم الحماية للساحل السوري، واضعًا “كل الإمكانيات الاقتصادية والعسكرية والشعبية تحت إشرافهم”، زاعمًا أن ذلك يضمن أنه “ليست غايتها الانتقام من أحد، وإنما حماية أهلنا في الإقليم الساحلي من أي اعتداء يتسبب بمجزرةٍ أخرى”.
بين وحدة وهمية ودعوات للحماية الدولية
يعود مخلوف في هذا المنشور إلى المشهد السوري، لا بوصفه رجل الأعمال النافذ، الخازن السابق لودائع الأسد، كما كان في مرحلة ما قبل الصراع، بل كـ”قائد مناطقي” يتبنى خطابًا تعبويًا محمّلًا بالرمزية الدينية والمظلومية الاجتماعية. يظهر مخلوف بمظهر من يسعى إلى “حماية الساحل” وإعادة “بناء الوطن”، متكئًا على خطاب يعيد صياغة الولاءات من دولة مركزية إلى روابط مناطقية، في سياق بالغ الهشاشة والاضطراب.
وفي منشوره الأخير عبر “فيسبوك”، ادعى مخلوف تشكيل قوات نخبة قوامها 150 ألف مقاتل مع قوة احتياطية مماثلة، إضافةً إلى تأسيس لجان شعبية مليونية، مقترحًا حماية “الإقليم الساحلي” بدعم خارجي. يكشف هذا الخطاب عن تحوّل خطير يتمثل بانتقال بعض النخب التقليدية من منطق الدولة الواحدة إلى فكرة الكيانات المحلية المحمية بقوى دولية، في ظل تصاعد التدخلات الروسية لإعادة هندسة خريطة السيطرة والنفوذ.
يحمل طرح مخلوف خطورة مزدوجة. فهو من جهة، يعزز النزعات المجتمعية الانفصالية عبر تحويل المخاوف المشروعة إلى مطالب مناطقية تهدد وحدة البلاد. ومن جهة أخرى، يفتح الباب أمام سابقة خطيرة تتيح لقوى محلية أخرى المطالبة بإدارات مستقلة بدعم خارجي، مما يعيد إلى الأذهان نماذج مأساوية مثل “لبنان الحرب الأهلية” أو “ليبيا الميليشيات”، حيث تغيب الدولة لصالح شبكات مناطقية مسلحة ومدعومة دوليًا.
ليس تفصيلًا ثانويًا
طلب مخلوف لرعاية روسية مباشرة ليس تفصيلاً ثانويًا. إذ إن روسيا، التي تسعى لحماية مصالحها في سوريا ما بعد الأسد، تجد نفسها أمام معضلة معقدة، وذلك عبر التزامها بضمان وحدة الأراضي السورية أو تحولها إلى شريكة ضمنيًا في تفكيكها عبر ترتيبات مناطقية. إذ إن القبول بدعم كيان محلي في الساحل قد يحفظ مصالحها الميدانية، لكنه يضرب جوهر الرؤية الروسية التقليدية لدولة سورية موحدة تحت وصاية مركزية.
في جميع الأحوال، يبدو واضحًا أن ابن خال الرئيس المخلوع لم يغادر ساحة السلطة فعليًا، بل أعاد تموضعه داخلها عبر خطاب ديني – اجتماعي – مناطقي جديد، يحاكي المزاج الشعبي المتأزم ويستثمر في مخاوف التفكك والانهيار، حيثُ يسعى إلى بناء شرعية موازية، تستند إلى العصبية المناطقية والشعور بالظلم.
إذ على الرغم من أن خطاب مخلوف يسوّق نفسه كرد فعل على الخوف والمعاناة، إلا أنه في جوهره يؤسس لمشروع تفكيك لا حماية. وبين بؤس الواقع وإغراء السيطرة المحلية، يكمن خطر فقدان الحلم السوري بوطن موحد، والانزلاق نحو مشاريع التجزئة المموهة تحت شعارات النجاة والمصالحة. وهنا تحديدًا، تكمن المفارقة الكبرى بين خطاب المصالحة المعلن، وحقيقة الانقسام الذي يحمله في طياته.
—————————-
==================
واقع وكواليس الاتفاق بين “قسد” وحكومة الجمهورية العربية السورية مقالات وتحليلات تتحدث يوميا تحديث 29 نيسان 2025
لمتابعة تفاصيل هذا الملف اتبع الرابط التالي
دوافع وكواليس الاتفاق بين “قسد” وأحمد الشرع
—————————-
ملاحظات حول “الرؤية الكردية المشتركة” الصادرة عن مؤتمر “كونفرانس وحدة الصف والموقف الكردي في روجآفايي كردستان”/ مهند الكاطع
🔹قبل كل شيء، دعونا نتأمل في عنوان المؤتمر ذاته ليتبين لنا حجم التناقض بين الشعار والمضمون:
فالمؤتمر، الذي يدّعي سعيه نحو “الوحدة الوطنية السورية”، انعقد تحت عنوان واضح الدلالة:
“وحدة الصف والموقف الكردي في روجآفايي كردستان” — أي “كردستان الغربية”، وهو مصطلح انفصالي صريح لا يحتاج إلى كثير عناء لقراءته مبني على الإيمان أن مناطق معينة من سورية هي جزء من كردستان الكبرى (خطاب تتبناه معظم أدبيات الأحزاب الكردية يمكنكم مراجعتها للتحقق).
فكيف يُعقل أن يدعو مؤتمر ما إلى (وحدة وطنية سورية وشراكة وطنية)، في حين يسبغ على مناطق سورية كاملة هوية قومية خاصة لاتعكس أصلاً الواقع الديموغرافي ولا الهوية التاريخية لهذه المناطق؟
🔹وما يوضح النزعة السلبية في هذا الخطاب، أن القائمين على هذه الرؤية اعتمدوا كعادة الخطاب الحزبي الكردي استخدام مصطلحات وتسميات كردية (دخيلة) على الأسماء الأصلية التاريخية للمدن الجزراوية، من قبيل: تسمية رأس العين بـ “سري كاني”، وتحويل تل أبيض إلى “كري سبي” في معرض الحديث عن عودة النازحين وإغفال موضوع “المهجّرين قسراً” من ناحية #الشيوخ بأكملها (60 ألف نسمة) في منطقة عين العرب منذ عشر سنوات حتى يومنا هذا.
وبذلك، لا تقتصر المحاولات على المطالبة بحقوق قومية فحسب، بل تمتد كذلك إلى إعادة هندسة الجغرافية السورية لغوياً، ضمن سياق رمزي يهيئ لتكريس انفصال ثقافي وقومي عن الإطار الوطني الجامع.
أما نص الوثيقة (الرؤية)، فيواصل السير على هذا الخط المتذبذب؛ إذ تبدأ بمطالب “شراكة وطنية” متساوية، لكنها سرعان ما تنتقل إلى مطالبة بحزمة امتيازات حصرية للأكراد:
▪️ إعادة رسم الحدود الإدارية للمناطق التي يقطنها الأكراد لصناعة اقليم كردي يتناسب مع مصطلح (روجافاي كردستان) حتى مع استحالة ذلك ديموغرافيا وعملياً!
▪️حكم وإدارة ذاتية
▪️لغة كردية رسمية في الدستور.
▪️مؤسسات ثقافية مستقلة وإعلام رسمي خاص .
▪️إدارة ذاتية منفصلة عن السلطة المركزية▪️
▪️ مبادئ فوق دستورية.
كل ذلك تحت عنوان “الوحدة الوطنية”، مما يجعل المرء يتساءل: عن أي وحدة يتحدثون؟ وحدتهم هم، أم وحدة سورية؟ وإذا كانت هذه الوحدة فما هو الانفصال إذن ؟
🔹وتغفل الرؤية حقيقة بالغة الأهمية: أن المناطق التي يصرون على تسميتها “مناطق كردية”، مثل الحسكة والقامشلي ورأس العين وتل أبيض وعين العرب والرقة، هي في حقيقتها مناطق ذات أغلبية عربية تاريخياً وحاضراً، ولا ننفي كذلك أصالة وجود العشائر الكردية منذ مرحلة ما قبل العمران عندما كانت منطقة رعوية موسمية لعشائر مختلفة، لكن كذلك لا يجب إنكار أن المناطق هذه شهدت منذ عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين (في زمن الانتداب الفرنسي) هجرات كردية كثيفة من تركيا والعراق بفعل ظروف أمنية و سياسية واقتصادية معروفة، وحصل معظمهم على أراضي و حقوق مدنية تدريجية وليس العكس، ولم يتم التعامل معهم كغرباء أو محتلين!
🔹 كما تتجاهل الوثيقة أيضاً أن إحصاء 1962، الذي يوصف بـ “إجراءً استثنائياً ظالماً”، لم يكن سوى محاولة تنظيمية من حكومة العظم (حكومة الانفصال عن مصر) لمواجهة تسلل سكاني غير شرعي، حيث باتت الجزيرة بمثابة محطة لالتقاء كل مهاجري القرن العشرين حينها ومن كل الأطياف، هددت تلك التغييرات آنذاك التوازن الديموغرافي المحلي في الجزيرة السورية وضاعف أعداد السكان خلال عشر سنوات للضعف، مما جعل شروط منح الجنسية اثناء الاحصاء للأشخاص الذين يثبتون وجودهم في سورية قبل عام 1945 وكان يكفي شاهدين لاثبات ذلك لكن الكثير وقتها خشية الذهاب للعسكرية وبتحريض من ملاكين الأراضي الذين خشيوا من مقاسمة أراضيهم اقنعوا الكثير بمحاولة اثبات مجيئهم بعد 1945 فتم تقييد اكثر من 25 الف وقتها ضمن سجلات الاجانب وظهرت هذه المسألة والتي سعى بشار الاسد استثمارها في بداية الثورة بمنح الجنسية لهم، وعليه يجب أن تراجع هذه الاجراءات كلها والحذر من تجنيس مقاتلين حزب العمال الكردستاني بحجة انهم من ضحايا ذلك الإحصاء .
🔹تطالب الرؤية بإلغاء جميع “الإجراءات الاستثنائية” التي تمس الأكراد، ومن بينها ما تسميه (الحزام العربي) ذلك المشروع الذي بقي حبراً على ورق لانه كان يقضي بنقل الأكراد جميعهم من المناطق الحدودية لمناطق داخل سورية وإسكان عشائر عربية من الجزيرة بمكانهم، وهذا لم يحدث البتة، واستحضار إسكان 40 قرية لمن تضرروا من سد الفرات وغمرت قراهم واراضيهم وتعويضهم من املاك الدولة في الجزيرة حتى لو كانت الاهداف سياسية، لكنها لم تحدث الأثر الذي يتم تصويرها على أنها مآسي طالت الكرد دون غيرهم! علماً أن معظم الملاكين في الجزيرة الذين ذهبت أراضيهم بقوانين الاصلاح الزراعي كانت لملاكين عرب بالأصل.
بعبارة أخرى: يريدون من خلال تلك السرديات وموضوع قرى المغمورين الإيحاء بأن الوجود العربي كله طارئ وهو من منجزات الحركة التصحيحية المجيدة! وبالتالي يجب محو تاريخ المنطقة وإعادة كتابة “قصة سكان أصليين” حسب رواية جديدة منسوخة من مؤلفات أربيل أو قنديل، وربما قريبا ينتجون فيلماً بعنوان: “روجآفاي كردستان في العصر البرونزي”
🔹وفي مفارقة لافتة، الوثيقة مع مطالبتها بالغاء “الاجراءات الاستثنائية” التي تمس الأكراد، تطالب بإجراءات استثنائية جديدة لصالحهم:
إدارة ذاتية، خصوصية قومية، مبادئ فوق دستورية، حصة من الثروات الطبيعية، وتعويضات جماعية، وفق موازين قومية لا وطنية، بما يوحي بأن المساواة المطلوبة هي مساواة من طرف واحد:
[كل الحقوق لنا… والبقية يتقاسمون ما تبقى].
أو
[ ماهو لنا فهو لنا لوحدنا.. وماهو لكم فهو لنا ولكم]
♦️ختاماً،
لا يمكن بناء وطن عبر تفكيك هويته الوطنية الحضارية والثقافية المشتركة إلى جزر قومية متناثرة بحجة وجود طيف من الاثنيات والطوائف. ولا يمكن تحقيق العدالة عبر توهّم إمكانية فرض وقائع سياسية وجغرافية جديدة تتجاهل التاريخ والمجتمع والتوازنات السياسية والاجتماعية.
سورية ببساطة، ليست تركة استعمارية فرنسية ولا أمريكية ولا إيرانية حتى يتم التعويل بأخذ قطعة منها، وليست سجلاً عقارياً يمكن تغييره بإرادة طرف واحد مهما كانت مبرراته العاطفية أو السياسية.
وسورية بتاريخها الحضاري العريق والقديم والأسطوري، أكبر من أن تختزلها خطابات المحاصصة العرقية أو أن تقسمها خرائط الهوى الطائفي و القومي المستحدث.
وسكان سورية بعض كل تضحياتهم وما قدموه، لن يكونوا كومبارس في مسرحية قومية كردية.
—————————-
الكرد في منتصف طريق إلى دمشق/ سميرة المسالمة
الإثنين 2025/04/28
تفيد الحالة السورية شبه المستقرة حالياً، بعد تحريرها من النظام السابق، بإمكانية العودة لفتح كل القضايا المسكوت عنها، ومنها المسألة الكرديّة التي لها وجهان: الأول يتعلق بحقوق المواطنة ومكانتها في الدولة والمجتمع السوري، بحكم طبيعة السلطة السابقة التي كرست العداء بين المكونات السورية. والثاني، يتعلق بكونها قضية قومية، مما يستوجب مناقشتها الآن -من كل الأطراف المختلفة معها، والمتوافقة عليها- باحترافية سياسية، ومداخلة وطنية تؤكد وحدة الأراضي السورية، وقدرة شعبها على العيش السلمي المشترك، بحقوق مواطنة متساوية، وعابرة إلى الحقوق الجمعية، لتحقيق أكبر قدر من احترام الخصوصيات الثقافية لمختلف المكونات السورية، وتقاسم الواجبات تجاه عملية إعادة بناء الدولة السورية، وخلق إجماعات وطنية تؤسس للجمهورية السورية الجديدة.
ومن هنا، تكمن أهمية ما جرى في مؤتمر “وحدة الموقف والصف الكردي” في القامشلي، يوم السبت الماضي، من مناقشة الاختلافات التي تجمهرت الأحزاب الكردية خلفها، وتسببت في انشقاقاتها، وتفريق وحدة صفها، وصولاً لوثيقة مشتركة تثبت الخطوط العريضة لتفاهماتهم، وتنطلق منها أساسيات حواراتهم مع السلطات السورية، لحل القضية الكردية التي بقيت عالقة بين إرادة الانضواء تحت راية سوريا الواحدة، والمطالبات بحكم ذاتي، أو دولة كونفدرالية، ما كان من شأنه ان يثير الشكوك حول نية الانفصال مستقبلاً.
فبينما استبعدت بعض الاقتراحات المتعلقة بمطالب غير واقعية، وجدت الحلول الوسطية مكانها في الوثيقة، التي كانت حصيلة جمع الأحزاب تحت سقف واحد بجهود دولية متعددة، فالحديث عن سوريا اللامركزية (التي طالما أشرت إليها في مقالاتي كحل تنموي واقتصادي لكل المناطق السورية)، يعد مقاربة منطقية للحلول التي يمكن طرحها مع سلطة دمشق، والتي اعتمدت الواقعية خلال الاتفاق الأولي بين الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية (أحمد الشرع)، والقائد العام لقوات سوريا الديمقراطية (مظلوم عبدي).
ويمكن القول: إن الاتفاق سرّع من عملية المصالحة الكردية- الكردية، نظراً لما تمتع به الطرفان الموقعان عليه، من برغماتية إيجابية تجاه مطالب مشروعة من كليهما، وهو الاتفاق الذي يمكن من خلاله استكشاف إرادة السلطة السورية الجديدة بالحفاظ على الحوار، كأداة لحل المسائل العالقة، والحفاظ على وحدة سوريا.
ولعلّ هذا الاتفاق بما يوحي من إمكانية إنهاء الصراع العربي- الكردي في سوريا والمنطقة عموماً، هو ما شجع أيضاً على تكثيف الوساطات الدولية لجمع الأحزاب والخروج بورقة عمل واحدة يمكن اعتبارها أساساً للمصالحة الداخلية، ووثيقة للإجابة عن أسئلة محورية على خلفية الطروحات الكردية غير المتناسقة، وبعضها كان قد جنح إلى ما هو غير ممكن التحقيق، على الأقل في المرحلة الحالية، ما كان يقودنا إلى استمرار حالة التشتت، واللا حل، التي تعطل مسيرة إعادة بناء مشروع الدولة السورية، ولعل شبه الاجماع الكردي الحاصل اليوم على سوريا لا مركزية، تضعهم في منتصف الطريق إلى دمشق، بديلا عن طروحات الاتحادية أو الكونفدرالية التي تتركهم بعيداً عنها، نتيجة ما اعتاد بعضهم على طرحه كنموذج للدولة السورية.
قدمت الوثيقة رؤيتهم الخاصة لشركائهم السوريين، وللمحيط الإقليمي والدولي، فأجابت عن أسئلة مهمة وأساسية كنت ذكرتها في مقالة في جريدة “العربي الجديد” في آذار من عام 2017، وهي “كيف ينظر السوريون الكرد إلى المشهد العام للحل في سوريا؟ وهل يعتبرون قضيتهم جزءاً من هذا المشهد؟ أم يرون أن لهم مشهداً مستقلاً تماماً؟ هل يرون أنفسهم كسوريين معنيين بالتغيير نحو المواطنة والديمقراطية في البلد؟ أم يرون أنفسهم ككرد فقط؟ أم يرون أنفسهم في تقاطع بين هاتين العمليتين، وَفْقَ صيغة دولة فدرالية أو لا مركزية؟
وعليه، فإن مجموع المطالبات التي أجمعت عليها الأحزاب الكردية، تؤكد انصهارهم بالقضية السورية ككل، رغم ميلها للتركيز على خصوصية مناطقها، إلا أنها في الوقت نفسه، يؤخذ عليها أنها تحمل السلطة الحالية تبعات أخطاء نظام الحكم السابق، والوحدة السورية- المصرية، وحالة الفساد والفوضى التي عمت البلاد خلال الحكم الفاسد في عهدي الأسد الأب والابن، وفي ظل الحرب الهمجية التي شنها نظام بشار الأسد على الشعب السوري، منذ عام 2011 وحتى فراره من سوريا في 8 كانون اول/ديسمبر 2024.
ما يعني أن المطالب قد تحتاج إلى تقنين من جهة، وإلى امتلاك المرونة الكافية لمن يفاوض بشأنها من جهة مقابلة، لتكون حكومة الرئيس الشرع قادرة على التعامل معها، وفق منطق الممكن والمتاح والقابل للتطبيق، سواء لأنه يستدعي بنية تحتية مؤسساتية تحمله، أو بنية تشريعية تتعامل مع التغيير وفق إرادة الشعب السوري بكامل أطيافه، بكل الأحوال فإن التقاط الإشارات الإيجابية من الطرفين الحكومي والكردي، وتوظيفها في مشروع وطني جامع، يضع سوريا على سكة الطريق الصحيحة، نحو المستقبل الذي يستحقه كل السوريين على اختلاف قومياتهم وطوائفهم.
المدنية
——————————-
اتفاق الشرع وعبدي في مهب التجاذبات السياسية/ محمد أمين و سلام حسن
29 ابريل 2025
دخل الاتفاق بين الإدارة السورية الجديدة، و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، المبرم في مارس/آذار الماضي، الموقع بين الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد “قسد” مظلوم عبدي، في مهب التجاذبات السياسية التي طفت على سطح الأحداث في البلاد. يأتي ذلك بعد صدور وثيقة من قوى سياسية سورية كردية رأت دمشق أنها تهدد وحدة البلاد ولا تتماشى مع مضامين اتفاق الشرع وعبدي أخيراً، والذي كان الهدف منه تجنيب البلاد دورات عنف جديدة.
واتهمت الرئاسة السورية، “قسد” بعدم الالتزام ببنود اتفاق الشرع وعبدي. وأشارت في بيان أول من أمس الأحد، إلى أن التصريحات الصادرة أخيراً عن “قسد” تتعارض بشكل صريح مع مضمون الاتفاق و”تهدد وحدة البلاد وسلامة ترابه”. كما أكدت الرئاسة رفضها القاطع “أي محاولات لفرض واقع تقسيمي، أو إنشاء كيانات منفصلة تحت مسميات الفيدرالية، أو الإدارة الذاتية دون توافق وطني شامل”، مشددة على أن وحدة سورية خط أحمر، وأي تجاوز لذلك يعد خروجاً عن الصف الوطني ومساساً بهوية سورية الجامعة. وأوضحت أنه لا يمكن لقيادة “قسد” أن تستأثر بالقرار في منطقة شمال وشرق سورية، محذرة من تعطيل عمل مؤسسات الدولة السورية في المناطق التي تسيطر عليها “قسد”، وتقييد وصول المواطنين إلى خدماتها واحتكار الموارد الوطنية وتسخيرها خارج إطار الدولة.
نظام لامركزي
وحمل البيان نبرة حادّة لأول مرة تجاه هذه القوات وقوى سياسية سورية كردية دعت بعد اجتماع عقدته، يوم الجمعة الماضي، في القامشلي إلى إقرار دستوري بوجود قومي للأكراد، وضمان حقوقهم دستورياً، وتوحيد المناطق الكردية بوصفها وحدة سياسية إدارية متكاملة في إطار سورية اتحادية. كما طالبت تلك القوى بنظام حكم برلماني في سورية يتبنى التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة وفصل السلطات، ويعتمد مجالس المناطق في إطار النظام اللامركزي. وكان لافتاً مطالبة المجتمعين بـ”توحيد المناطق الكردية بوصفها وحدة سياسية إدارية متكاملة في إطار سورية اتحادية”، وهو ما يُنظر إليه على أنه شكل من أشكال التمهيد لتقسيم البلاد. كما طالبوا بـ”تشكيل هيئة دستورية برعاية دولية تضم ممثلي كافة المكونات السورية لصياغة مبادئ ديمقراطية، وتشكيل حكومة من كافة ألوان الطيف السوري ومكوناته بصلاحيات تنفيذية كاملة”، في نسف واضح للإعلان الدستوري الذي أعلنته الإدارة السورية، منتصف الشهر الماضي.
ونص اتفاق الشرع وعبدي على دمج كافة المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرق سورية ضمن إدارة الدولة السورية، بما فيها المعابر الحدودية والمطار وحقول النفط والغاز، بما لا يتجاوز نهاية العام الحالي. كما نص على “رفض دعوات التقسيم وخطاب الكراهية ومحاولات بث الفتنة بين كافة مكونات المجتمع السوري”، و”ضمان حقوق جميع السوريين في التمثيل والمشاركة في العملية السياسية وجميع مؤسسات الدولة، بناءً على الكفاءة، بغض النظر عن خلفياتهم الدينية والعرقية”. وشُكلت بالفعل لجان متخصصة للتفاوض في كل الملفات لتمهيد الطريق أمام استعادة الدولة السورية السيطرة على الشمال الشرقي الذي تسيطر عليه “قسد”، ووضع حد لمحاولات حثيثة لفرض واقع يفتح الباب أمام مشروعات لتقسيم البلاد. ولكن يبدو أن اتفاق الشرع وعبدي بات في مهب تجاذبات سياسية حادة بين الإدارة السورية الجديدة والقوى الكردية.
ويشي البيان الذي أصدرته الرئاسة السورية إلى أن دمشق تشكك في جدية “قسد” بالمضي في تنفيذ بنود الاتفاق على ضوء المطالب التي أعلنت عنها القوى السياسية الكردية الجمعة. وتبدو القوى السياسية الكردية، خصوصاً حزب الاتحاد الديمقراطي وهو المسيطر على “قسد”، والمجلس الوطني الكردي، تتمرس خلف هذه المطالب، لا سيما لجهة المطالبة بنظام لامركزي. وترفض دمشق نظاماً لامركزياً وتعده خطوة واسعة باتجاه شرذمة البلاد على أسس عرقية وطائفية، وتطرح بالمقابل فكرة المواطنة الكاملة لكل السوريين بغض النظر عن العرق والدين والمذهب “دون الحاجة لأي تدخل خارجي أو وصاية أجنبية”. وجرى تنفيذ عدة اتفاقات فرعية عن اتفاق الشرع وعبدي الأساسي، فـ”وحدات حماية الشعب” الكردية انسحبت أخيراً من حيي الشيخ مقصود والأشرفية في مدينة حلب بعد ترتيبات مع الأمن العام في المدينة. كما توصل الطرفان لتفاهمات تخص سد تشرين على نهر الفرات في ريف منبج، فضلاً عن استمرار التفاوض حول ملف التعليم والنفط. ورغم مرور أكثر من 40 يوماً على توقيع الاتفاق، إلا أنه لم تحدث حتى اللحظة اختراقات مهمة خصوصاً في الملفات الأكثر أهمية من قبيل دمج “قسد” في الجيش السوري وتسليم المعابر والسجون وموارد النفط.
صمود اتفاق الشرع وعبدي
لكن الباحث السياسي المقرب من الإدارة الذاتية في شمال شرق سورية، إبراهيم مسلم، رأى في حديث مع “العربي الجديد” أن اتفاق الشرع وعبدي “غير معرض للانهيار”، مضيفاً أن “الجانبين يحتاجان هذا الاتفاق”. وأوضح أن “دمشق بحاجة إلى قسد لتحسين العلاقة مع الولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه تحتاج قسد إلى الاتفاق لتخفيف حدة التهديد التركي”. وبرأيه هناك “سوء قراءة” للوثيقة التي صدرت عن اجتماع القوى الكردية في القامشلي، مضيفاً أن “الوثيقة أكدت على وحدة سورية. كل طرف من حقه طرح رؤيته لسورية المستقبل والإجماع الوطني هو من يحدده. أعتقد ان ما جاء في الوثيقة يتوافق مع مضامين اتفاق الشرع وعبدي”. وحظي الاتفاق بين الإدارة السورية و”قسد” برضى إقليمي ودولي، فالولايات المتحدة دفعت الجانبين إلى ردم هوّة الخلاف بينهما وحسم مصير الشمال الشرقي من سورية سلماً، وتجنّب الحلول العسكرية. وبعد إبرام الاتفاق بدأت واشنطن بسحب جانب من قواتها المتمركزة في شمال شرق سورية.
وفي هذا الصدد، رأى القيادي في المجلس الوطني الكردي، شلال كدو، في حديث مع “العربي الجديد”، أن “اتفاق الشرع وعبدي سيستمر”، معرباً عن اعتقاده أن معظم بنوده ستطبّق “لكونه أبرم بإشراف أميركي وموافقة تركيا ورضى عربي وإقليمي ودولي واسع”. لكنه لفت إلى أن الاتفاق يواجه عدة تحديات في طريق تنفيذه فـ”الملفات كثيرة ومعقدة ومتشابكة بين الطرفين سواء كانت عسكرية أو إدارية أو مالية أو ما يتعلق بمصادر النفط”. لكن أبرز تحد، وفق كدو، هو “مخرجات مؤتمر (اجتماع القوى الكردية) وحدة الصف الكردي، فحكومة دمشق أبدت امتعاضها الكبير والشديد من هذا المؤتمر ومخرجاته”. وبرأيه “ربما يكون هذا البيان أو هذه الرؤية السياسية المشتركة الذي صدر عن المؤتمر يشكل عائقاً أمام تنفيذ هذا الاتفاق، ولكنني أعتقد أنه سيجد طريقه إلى النور شيئاً فشيئاً”. وباعتقاده “هناك مصلحة مشتركة للطرفين اللذين وقّعا على هذا الاتفاق”، مضيفاً أن “قسد يجب أن يندمج في النهاية مع وزارة الدفاع السورية ولا بد للسلطات السورية الجديدة أن تعمل على احتوائها كونها قوة عسكرية كبيرة وربما أكبر من الجيش السوري الجديد، ومدعومة أميركياً وشعبياً في المناطق الشرقية وبالتالي لا مناص من تنفيذ هذه الاتفاقية”.
أما المحلل السياسي فريد سعدون، فقال في تصريح لـ”العربي الجديد”، إن اتفاق الشرع وعبدي “عسكري أكثر من كونه سياسياً”، مضيفاً أنه “لا بد من تنفيذه لتجنّب أي صدام يمكن أن تستغله جهات متطرفة”. ولفت إلى أن ما تم التوصل إليه في حلب وسد تشرين يؤكد أن الجانبين بصدد تنفيذ الاتفاق. وأضاف: “لا أعتقد أن الحكومة في دمشق ستغامر بدخول حرب مع قوات قسد في ظل وجود القوات الأميركية في البلاد”، مشيراً إلى أن القوى الإقليمية والدولية “لا ترغب بالفوضى في سورية، لذا ستلعب دوراً إيجابياً في تنفيذ اتفاق دمشق مع الجانب الكردي”. وبرأيه فإن المطالب الكردية خاضعة للتفاوض في دمشق.
العربي الجديد
—————————–
3 نقاط تثير مخاوف دمشق وأنقرة من تحركات أكراد سوريا/ د. سعيد الحاج
28/4/2025
دعا مؤتمر أكراد سوريا إلى سوريا ديمقراطية لا مركزية يتمتع فيها الأكراد بحقوق سياسية وثقافية ضمن رؤية لسوريا اتحادية أو فدراليّة، ما استدعى ردًا من الرئاسة السورية، وسيستدعي اهتمامًا تركيًا بعدّه نكوصًا عن الاتفاق بين الإدارة السورية، وقوات سوريا الديمقراطية.
السياق
كان أكراد سوريا في مقدمة الأطراف المستفيدة من التطورات اللاحقة للثورة السورية، ولا سيما ضعف قوة وقدرات الحكومة المركزية، فأعلن حزب الاتحاد الديمقراطي الإدارة الذاتية بداية عام 2014، على ثلاثة كانتونات في الشمال السوري، وبدأ الحديث عن فكرة دولة/ دُويلة كردية.
وكانت تركيا في مقدمة الرافضين لذلك من باب التأثير السلبي المتوقع على الملف الكردي الداخلي، إذ إن حزب الاتحاد الديمقراطي هو الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني المصنف كمنظمة إرهابية وانفصالية في تركيا. وقد أدى ذلك فعلًا لنكوص الأخير عن المسار السياسي الداخلي، واستئناف الهجمات، وإعلان الإدارات الذاتية في جنوب وجنوب شرقي تركيا.
نفذت أنقرة عدة عمليات عسكرية للحيلولة دون إنشاء كيان سياسي على حدودها الجنوبية يرتبط بالكردستاني، وبقي الدعم الأميركي للمليشيات الكردية الملف الخلافي الأبرز بين أنقرة وواشنطن، ولم يخفف منه سعي الأخيرة لتحويل وحدات حماية الشعب – الذراع العسكرية لحزب الاتحاد – إلى قوات سوريا الديمقراطية “قسَد” بتطعيمها بعناصر إضافية. وبقيت أنقرة تلوّح بعملية عسكرية إضافية ضد قسد ما لم تتخلَّ عن مشاريعها الانفصالية ذات الطابع الإقليمي.
مع إطلاق عملية “ردع العدوان” ورصد تحركات لقسد، تحرّكت الفصائل المنضوية تحت الجيش الوطني السوري المقرب من تركيا ضد الأخيرة.
ومع سقوط النظام، تحوّلت مناطق شرق الفرات التي تسيطر عليها قسد إلى مصدر القلق الأبرز لكل من دمشق وأنقرة بعدِّها التهديد المحتمل لوحدة أراضي سوريا، خصوصًا بعد تصريحات من كل من الحكومة “الإسرائيلية” وقيادات في قسد بخصوص التعاون المحتمل، ولا سيما ضد تركيا.
جددت أنقرة تلويحها بعملية عسكرية جديدة ضد قسد، لكنها أبدت ارتياحها لأي مساعٍ داخلية سورية – سورية تمنع سيناريوهات التقسيم، ولذلك فقد عبّرت عن ارتياحها للاتفاق الذي عقده الرئيس السوري أحمد الشرع مع قائد قسد مظلوم عبدي في مارس/ آذار الفائت، خصوصًا أنه أتى بعد نداء عبدالله أوجلان بحل العمال الكردستاني، وإلقاء السلاح، وإن ظل ترحيب أنقرة حذرًا ومصحوبًا بتأكيد متابعتها للتنفيذ وإبقائِها جميع الخيارات على الطاولة.
المؤتمر
يوم السبت الفائت، نظمت قوى وأحزاب كردية سورية في مدينة القامشلي بمحافظة الحسكة مؤتمرًا للحوار الوطني الكردي تحت عنوان “مؤتمر وحدة الموقف والصف الكردي”، شارك فيه أكثر من 400 شخصية سياسية من ممثلي الأحزاب الكردية في مقدمتها حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي. كما شارك في المؤتمر قياديون في أحزاب كردية من العراق وتركيا، فضلًا عن ممثلين عن الولايات المتحدة، وفرنسا والتحالف الدولي ضد تنظيم الدولة.
وقد جاء المؤتمر الذي هدف لبلورة موقف موحد للقوى الكردية السورية نتاجًا لسنوات من التفاوض بين التيارين الرئيسين في المشهد السياسي الكردي السوري: حزب الاتحاد الديمقراطي، والمجلس الوطني الكردي، وبوساطة مباشرة من القيادي الكردي العراقي مسعود البارزاني، وكذلك برعاية فرنسية وأميركية.
جاء توقيت المؤتمر لافتًا، إذ عقد بعد الاتفاق المشار له بين الشرع وعبدي والذي قضى بدمج قسَد في مؤسّسات الدولة، وتأكيد وحدة الأراضي السوريّة، ورفض التقسيم، وتضمن مدة للتنفيذ حتى نهاية العام، ثم بعد مواقف لقسد انتقدت الإعلان الدستوري، ثم تشكيلة الحكومة الأخيرة اللذَين رأت أنهما لا يعكسان التنوع السوري.
في ختام المؤتمر، أعلن عن وثيقة سياسية تأسيسية من 26 بندًا موزعة على محورين رئيسين: المجال الوطني السوري، والمجال القومي الكردي، بعدِّها منطلقًا للحوار “مع جميع الأطراف” الكردية منها والإدارة السورية. وقد دعت الوثيقة إلى حقوق سياسية وثقافية للأكراد ضمن رؤيتها لسوريا ديمقراطية ولا مركزية.
وفي تعقيبها على مخرجات المؤتمر، أصدرت الرئاسة السورية بيانًا دعا قسَد للالتزام الصادق بالاتفاق المبرم مع الإدارة، وانتقد ما أسماه تكريس واقع فدرالي أو إدارة ذاتية دون توافق، وحذّر من توجهات نحو تغيير ديمغرافي في بعض المناطق، مؤكدًا على أن “وحدة سوريا أرضًا وشعبًا خط أحمر”، وأن تجاوز ذلك يُعدُّ “خروجًا عن الصف الوطني، ومساسًا بهوية سوريا الجامعة”.
مؤشرات مقلقة
يؤكد بيان رئاسة الإدارة السورية أنها ترى في مخرجات المؤتمر نكوصًا عن اتفاق مارس/ آذار بين الشرع وعبدي، لا سيما أنه تزامن مع تعثّر تطبيق الاتفاق الخاصّ بسدّ تشرين.
شكّل المؤتمر في بعض تفاصيله ومخرجاته مصدر قلق لدمشق، وهو قلق تشاركها فيه أنقرة. ففي المقام الأول، لم يكن المؤتمر “كرديًا سوريًا” صرفًا، فكان البعد الكردي الإقليمي حاضرًا بشكل لافت في الحضور والكلمات الرئيسة، وتحديدًا حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وممثل مسعود البارزاني من العراق، وحزب ديمقراطية ومساواة الشعوب من تركيا. كما أن مشاركة ممثلين عن واشنطن وباريس والتحالف الدولي منحت المؤتمر بعدًا دوليًا لا تحبّذه دمشق.
لم تقف الرمزيات عند هذا الحد، بل حضر العلم السوري ضمن عدة أعلام أخرى في منصة المؤتمر، ما يقدح من وجهة نظر دمشق في “سوريّة” المؤتمر، والتزام السقف الوطني المحلي، فضلًا عن الإشارة في مخرجات المؤتمر للإدارة السياسية كأحد الأطراف التي سيُتوجه لها للحوار حول الوثيقة السياسية التأسيسية.
في المضمون، ثمة ثلاث نقاط رئيسة تثير قلق دمشق بشكل كبير:
أولاها الدعوة الضمنية للفدرالية (أو الإدارة الذاتية؟)، رغم الحديث المتكرر على لسان أكثر من متحدث وفي الوثيقة عن وحدة سوريا. حيث ينص البند الرابع من المحور الأول (الوطني السوري) على “سوريا لا مركزية” تتضمن التوزيع العادل للسلطة والثروة “بين المركز والأطراف”.
كما أن البند الأول من المحور الثاني (القومي الكردي) يدعو إلى “توحيد المناطق الكردية كوحدة سياسية إدارية متكاملة في إطار سوريا اتحادية”. وهي بنود ترى دمشق أنها لا تتفق ووحدة سوريا أرضًا وشعبًا ونظامًا سياسيًا.
أما الثانية فهي السعي لإقحام أطراف خارجية في ملفات داخلية، مثل الدعوة “لتشكيل هيئة دستورية برعاية دولية” تضم ممثلي كافة المكونات السورية، وتشكيل حكومة من كافة ألوان الطيف السوري “بصلاحيات تنفيذية كاملة”، وهو ما لا يكتفي بنسف الإعلان الدستوري الذي أعلنته الإدارة السورية، وإنما يدعو لدور خارجي “يرعى” هذا المسار.
وأما النقطة الثالثة فهي الدعوة لنظام حكم برلماني بما يتعارض مع توجهات الإدارة السورية الانتقالية، وإن كان أقل إزعاجًا من البنود المتعلقة بالنظام السياسي، ومكان المكوّن الكردي منه.
هذه النقاط تثير قلق تركيا كذلك، أولًا من حيث هي تراجع عن اتفاق قسد مع الإدارة السورية، وثانيًا لأنها بهذا المعنى تعيد إحياء هواجس الفدرالية والإدارات الذاتية وسيناريوهات التقسيم، وثالثًا بسبب ما تردد عن دعوات لإنهاء الوجود التركي العسكري في سوريا، وإلغاء اتفاق أضنة، وغير ذلك مما يلي أنقرة بشكل مباشر، وإن لم يُنص على ذلك في الوثيقة فيما نشر.
لم يصدر تعقيب رسمي مباشر من أنقرة على المؤتمر، لكن يتوقع أن يكون موقفها محذرًا من المسارات الانفصالية ومشاريع الفدرالية والإدارات الذاتية والنكوص عن اتفاق مارس/ آذار الفائت، وخصوصًا في جزئية اندماج قوات قسد في المؤسسة العسكرية الرسمية.
وبالتالي، سيعود الخطاب الرسمي التركي للتلويح بالتدخل المباشر في حال نكصت قيادة قسد عن الاتفاق ورفضت حل نفسها و/أو الاندماج، ما يعني عودة العملية العسكرية ضمن خيارات أنقرة، بشكل منفرد أو – وهو الأرجح – بالتعاون مع دمشق.
لا شك أن قرار عملية عسكرية جديدة لن يكون سهلًا في ظل الظروف الحالية والتطورات الأخيرة، لكن تركيا ترى أنها أمام فرصة تاريخية لا ينبغي التفريط فيها وإلا صير إلى تثبيت حقائق يمكن لها الإضرار بها على المدى البعيد، كما أنها تنظر لقرار سحب بعض القوات الأميركية من سوريا كعنصر ضغط إضافي على قسد سيعمل لصالحها وصالح دمشق.
وهو الأمر الذي تدركه قسد بالتأكيد، ولذلك فقد كان من اللافت تأكيد أكثر من قيادي كردي لوسائل الإعلام على أن الوثيقة السياسية هي منطلق (وليست نهاية) للحوار مع دمشق، وأن هناك مرونة عالية ورغبة حقيقية في التوصل لاتفاق معها.
حتى ذلك الحين، ستطالب أنقرة الإدارة السورية بالتعامل بحزم وحسم مع هذا الملف، وستعرض بالتأكيد دعمها وإمكانية المساعدة في أي مسار تنتهجه دمشق إزاءه. ما يعني أن القرارات النهائية لكل من أنقرة ودمشق ستتبلور بشكل أوضح بعد الحوار المفترض أن يجرى بين الإدارة السورية والقوى الكردية بخصوص الوثيقة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
كاتب وباحث فلسطيني
الجزيرة
——————————
مع تصاعد التوترات الميدانية.. هل بات اتفاق دمشق و”قسد” مهددًا بالانهيار؟/ أغيد حجازي
في تطور ينذر بتعقيد المشهد في شمال شرق سوريا، كشفت مصادر متابعة عن “تعليق العمل” بالاتفاق بين الحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية “قسد” في أحياء الشيخ مقصود والأشرفية وبني زيد في حلب، مؤكدةً أن اللجنة المشتركة المكلفة بتطبيق الاتفاق تواجه تحديات كبيرة، كما أن تعثر التوصل إلى حل حول سد تشرين يعمق الخلافات المتزايدة، في ظل توترات ميدانية تهدد بانفجار الوضع مجددًا.
ويواجه الاتفاق، الذي وقّع في 10 آذار/مارس 2025 بين الرئيس السوري أحمد الشرع، والقائد العام لـ”قسد” مظلوم عبدي، والذي عُدّ خطوة مفصلية نحو إعادة توحيد الأراضي السورية تحت إدارة موحدة؛ اختبارًا قاسيًا مع تفاقم الخلافات حول آلية التنفيذ، وتزايد التدخلات الإقليمية.
خريطة السيطرة: المساحة الجغرافية والقوة الاقتصادية والعُدّة العسكرية
تسيطر “قسد”، المدعومة من التحالف الدولي، على ما يقارب 60 ألف كم مربع (30% من مساحة سوريا)، تضم مناطق متعددة المكونات: كردية، وعربية، وسريانية، وآشورية، ومجموعات صغيرة تركمانية وأرمنية ويزيدية. تشمل هذه السيطرة كامل محافظتي الرقة والحسكة (عدا رأس العين وتل أبيض)، وأجزاء واسعة من محافظة دير الزور، وريف حلب، بالإضافة إلى تواجدها داخل مدينة حلب نفسها في حيّي الشيخ مقصود والأشرفية.
الأهمية الاستراتيجية لهذه المناطق لا تقتصر على الجغرافيا فقط، بل تمتد إلى احتوائها على 95% من احتياطي النفط والغاز السوري، بما في ذلك أهم الحقول مثل “الجفر” و”عمر” و”التنك” و”التيم”، ما يجعلها ورقة ضغط اقتصادية وسياسية بيد “قسد”.
ومن الناحية العسكرية، حسب تصريح سابق لعبدي، تمتلك “قسد” أكثر من 100 ألف مقاتل. هذه القوة تحظى بدعم عسكري أميركي مباشر، ولا يقتصر هذا الدعم على الأسلحة وتقديم الخبراء والمستشارين، إذ تقوم قوات التحالف والقوات الأميركية بشكل خاصّ بعمليات تدريب مستمرة لعناصر “قسد”، تُقام غالبيتها ضمن قاعدة “هيمو” الواقعة على طرف مدينة القامشلي.
عثرات التنفيذ: الأسرى وسد تشرين
بدأت الخلافات بين الحكومة السورية و”قسد” بعد يومين من توقيع الاتفاق، بسبب الإعلان الدستوري الذي جاء دون إشارة صريحة إلى الحقوق الكردية، كما كانت تريد “قسد”، مما أثار غضبها؛ لأنها ترى أن الاعتراف الدستوري بالحكم الذاتي هو ضمانة لوجودها، وأن الدستور المقترح لا يتماشى مع الاتفاق الذي وُقِّع مع الحكومة السورية، حسب تصريحات “قسد”.
كما ظهرت تعقيدات في مراحل التنفيذ الأولى للاتفاق، خاصة في مسألة تبادل الأسرى، حيث طالبت “قسد” بتسليم أسرى مُعتقلين لدى الجيش الوطني، بينما طالبت الحكومة السورية بالأسرى لدى “قسد”. وأدى اتساع الخلاف ليشمل قضايا أخرى تتعلق بالإدارة الأمنية لسد تشرين، حيث تصر الحكومة على السيطرة الكاملة، بينما تطالب “قسد” بإدارة مشتركة.
يرى الباحث السوري، سامر الأحمد، وجود فشل في الاتفاق بسبب اختلاف التفسيرات حول بنوده من قبل الأطراف المعنية. وفيما يخص قضية سد تشرين، يقول الأحمد حسب معلومات متوفرة له: “إن الحكومة تسعى للسيطرة الإدارية والأمنية على السد، بينما يطالب الطرف الآخر ببقاء الموظفين في مواقعهم لتشغيل السد، ووافقت الحكومة بشرط أن يتبع الموظفون إلى وزارة الطاقة. إلا أن بعض الأطراف في قسد تُصر على أن يتبع الموظفون للإدارة الذاتية الكردية”.
يضيف الأحمد: “تم الاتفاق مبدئيًا على أن تتولى الحكومة الإدارة الأمنية للسد، مع انسحاب الفصائل العسكرية غير التابعة لها. لكن الطرف الكردي تراجع لاحقًا وطالب بوجود سيطرة أمنية مشتركة، بحيث تسيطر الحكومة على المنطقة غرب السد، بينما تتحكم “قسد” في المنطقة شرقه، مما زاد من تعقيد الموقف”.
وبحسب معلومات الأحمد، فإن “اجتماعًا قريبًا سيكون بين الأطراف لتسليم السد إلى الحكومة السورية، وإن لم يتم التوصل إلى اتفاق، فإن الوضع قد ينفجر مما يؤدي إلى انهيار الاتفاق بالكامل”.
يشير الكاتب والباحث السياسي، حسين عمر، إلى أن الاتفاق بين حكومة دمشق و”قسد” يتضمن تحييد سد تشرين، لكن تنفيذ ذلك يرتبط بموافقة تركيا، التي كانت تدعم هجمات الجيش الوطني على السّد، وأن السيطرة على السد ستعود بالكامل إلى الدولة السورية، التي ستشرف على تشغيله كجزء من سيادتها بعد إعلان أنقرة وقف إطلاق النار.
وفيما يخص تبادل الأسرى، جرى تبادل نحو 250 أسيرًا بين مديرية الأمن الداخلي في حلب و”قسد” كمرحلة أولى ضمن ما وصف بعملية “تبييض السجون” إلا أن خلافات أدت إلى تعثر باقي المراحل.
في هذا السياق، يؤكد عمر عدم وجود أسرى من الجانب الكردي لدى حكومة دمشق لعدم وقوع اشتباكات منذ عام 2016 بين ما كان يعرف بـ”هيئة تحرير الشام” وبين “قسد”، وإنما الأسرى هم بيد الجيش الوطني، وأن سبب التأخير في عملية تبادل الأسرى يعود إلى رفض “الجيش الوطني” تسليم الأسرى الذين بحوزته إلى الأمن العام، ما يجعل حل هذه الإشكالية مسؤولية الحكومة السورية، التي يجب أن تفرض إرادتها.
اتفاق حيي الأشرفية والشيخ مقصود
وقعت الإدارة السورية الجديدة، ممثلة بلجنة مكلفة من “رئاسة الجمهورية”، اتفاقًا، 1 نيسان/أبريل، مع “المجلس المدني لحيي الأشرفية والشيخ مقصود” في مدينة حلب. ونص الاتفاق على 14 بندًا بهدف “تعزيز العيش المشترك، والحفاظ على السلم الأهلي، وتحقيق أهداف الثورة السورية في الحرية والكرامة، وانطلاقًا من الإيمان بأن التوافق بين مختلف مكونات الشعب السوري هو السبيل الأمثل لمواجهة التحديات الراهنة”.
وأكد الاتفاق على انسحاب القوات العسكرية من الحيين إلى منطقة شمال شرقي سوريا، وحظر المظاهر المسلحة فيهما. كما نص الاتفاق على “تبييض السجون من قبل الطرفين في محافظة حلب، وتبادل جميع الأسرى الذين تم أسرهم بعد التحرير”، و”تشكيل لجان تنسيقية لتسهيل الحركة بين مناطق حلب وشمال شرقي سوريا، ولجان داخل الحيين لتطبيق الاتفاقية على أرض الواقع”.
إلا أن التوتر في الحيين عاد بعد حملات دهم نفذتها قوى الأمن التابعة لـ “قسد”، وعمليات اعتقال استهدفت وافدين جددًا إلى المنطقة، ما أعاد إلى الأذهان أجواء ما قبل الاتفاق. ورغم خروج دفعتين من وحدات حماية الشعب الكردية من الحيين منذ مطلع نيسان الجاري، لا تزال الأخيرة تحتفظ بمئات المقاتلين فيهما لفرض سيطرتها عبر قوات الأمن الداخلي.
يعتبر الأحمد أن “نجاح اتفاقية الشيخ مقصود هو اختبار حاسم لمدى جدية الالتزام الكامل بالاتفاقيات، وأن العقبات لا تزال قائمة، حيث تسعى ‘قسد’ للضغط على الحكومة لإدراج تفاصيل دمج المؤسسات الخدمية والتعليمية والقضائية ضمن الاتفاق، بينما تركز الحكومة على الأولويات الأمنية والعسكرية أولًا، باعتبارها الأساس لتحقيق الاستقرار”.
ويقول الأحمد: “إن الاعتراف بالمؤسسات الخدمية الكردية (كالتعليم والقضاء) سيعزز وضع ‘قسد’ كسلطة حكم ذاتي داخل الدولة، مما يخلق وضعًا معقدًا يشبه حكومة داخل الحكومة. ورغم الصعوبات، فإن هناك دعمًا دوليًا لنجاح الاتفاق، لكن يبقى السؤال: هل ستنجح الضغوط الدولية في إجبار حزب العمال الكردستاني على الانخراط الجدي في التنفيذ الفعلي للاتفاق؟ الأمر لا يزال غامضًا، والجميع في انتظار التطورات القادمة”.
من جهته، يعتقد حسين عمر بوجود “جهات تُريد إنهاء هذه الاتفاقية والقضاء عليها، بسبب عدم رضا هذه الأطراف منذ اليوم الأول عنها، مما سيشكل عبئًا على الطرفين في الأيام القادمة”. ويشير إلى أن “هناك جهات أو شخصيات داخل الحكومة نفسها، أو داخل ما يُسمى ‘المجاميع المسلحة’ التي لم تُشكّل بعدُ ضمن الجيش السوري الجديد، تؤثر بشكل كبير في الموقف”.
وبحسب عمر، فإن “تعليق الاتفاق أو إنهاءه لن يحصل، بل توجد إشكاليات محدودة سيتم حلها بالتفاهم بين الطرفين، إذا توافرت الإرادة الحقيقية لديهما”.
يؤكد عمر استنادًا إلى مصادر مقربة من قيادة “قسد” التزامها الكامل ببنود الاتفاقية، وأن العمل على الأرض مستمر. كما أكدت مصادر من داخل الحيّيْن أن “الحواجز المشتركة بين قوات الأسايش وقوات الأمن العام التابعة لحكومة دمشق لا تزال قائمة حتى الآن، وتُدار الأمور بتفاهم دون صراع أو تراجع من أي طرف”.
ضغوط إقليمية ودولية
التطورات الميدانية ترافقت مع تصعيد عسكري تركي، حيث استهدفت ضربات جوية مقرًّا لوحدات حماية الشعب في ديرك، ما أثار موجة توتر داخل “قسد”.
من جهة أخرى، يسعى الجانب الكردي إلى حشد دعم دولي. فقد التقى مظلوم عبدي بوفد من الخارجية الفرنسية في أربيل، حيث أكد الطرفان أهمية التوصل إلى اتفاق سلمي مع دمشق.
ورغم نفي مصادر كردية رسمية تعليق الاتفاق، وإصرارها على استكمال الحوار، فإن مراقبين يرون أن التحركات الميدانية، مواصلة حفر الأنفاق وحشد القوات وتنفيذ عمليات انتشار، تشير إلى تجهيز لمعركة آتية، ويقول المراقبون إن “التعثر في تطبيق بنود حيوية يشير إلى هشاشة الاتفاق، في ظل وجود عوامل إقليمية معقدة وضغوط متعارضة قد تؤدي إلى انهيار الاتفاق بالكامل، خاصة بعد تخفيض قسد كمية النفط المرسلة إلى الحكومة السورية بنسبة 50%، بعد بروز خلافات بين الطرفين حول تطبيق بنود الاتفاقات كما كشفت بعض المصادر”.
في ظل هذا المشهد، يبقى السؤال الأبرز: هل سينجح الضغط الدولي، خصوصًا من الولايات المتحدة وفرنسا، في إبقاء الاتفاق حيًا، أم أن سوريا مقبلة على جولة جديدة من الصراع في الشمال الشرقي؟
الترا سوريا
—————————–
كيف سيتعامل الشرع مع مخرجات مؤتمر الأكراد؟/ عمر كوش
29/4/2025
ما تزال تحديات وملفات عديدة تواجه السلطة الجديدة في سوريا، وذلك على الرغم من سقوط نظام الأسد البائد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، حيث عقدت في 26 من أبريل/ نيسان الجاري، غالبية القوى السياسيّة الكردية مؤتمر “وحدة الصف والموقف الكردي” في مدينة القامشلي السورية.
ثم ظهر منشور نسب إلى رامي مخلوف، أبرز رموز الفساد في عهد النظام الاستبدادي، متحدثًا عن “مجزرة الساحل”، ومبشرًا بولادة “فتى الساحل”، و”إعادة تنظيم قوات النخبة” التي ادعى أنها تضم نحو 150 ألف عنصر، إلى جانب تشكيل لجان شعبية قوامها مليون شخص. وذهب إلى حدّ مطالبة المجتمع الدولي، وروسيا بوضع إقليم الساحل تحت رعايتهما المباشرة.
لم يتأخّر الناشطون من الساحل السوري في الرد على مخلوف والتبرؤ منه، كونه “لا يمثل العلويين، بل يمثل الفاسدين الذين استغلوا الطائفة، وسرقوا قوت السوريين”، وأكدوا أن الطائفة العلوية “تتبرأ من هذا الخطاب الطائفي الانقسامي”، ولن تنجر وراء الأكاذيب والمؤامرات الاستخباراتية.
ما يثير السخرية المرّة هو حديث مخلوف عن “نصرة المظلومين”، كونه يشكل إهانة لذاكرة السوريين الذين ذاقوا ويلات نظام الاستبداد الأسدي، وكان شريكًا أساسيًا فيه.
ولعل الخطير في الأمر هو أن الجهات المعادية للتغيير السوري تصعد من خطاب الانقسام الطائفي، والتفتيت المناطقي في مرحلة دقيقة تمر بها سوريا الجديدة، وتحاول التعافي من تبعات نظام الأسد، فيما توجه تلك القوى سهامها نحو ما تبقى من النسيج الوطني السوري، محاولة إعادة إشعال بؤر التوتر الطائفي والمناطقي.
غير أن ما يستحق التوقف عنده هو مؤتمر “وحدة الصف والموقف الكردي”، الذي خرج بمطالب وتوصيات أثارت جدلًا واسعًا بين عموم السوريين، واستدعى ردًا سريعًا من الرئاسة السورية، رفضت فيه أي محاولات فرض واقع تقسيمي، أو إنشاء كيانات منفصلة تحت مسميات الفدرالية أو “الإدارة الذاتية”، دون توافق وطني شامل، معتبرة أن وحدة سوريا أرضًا وشعبًا خطّ أحمر، وأي تجاوز يعدّ خروجًا عن الصف الوطني، ومساسًا بهُوية سوريا الجامعة.
بداية، لا يعدُّ مؤتمر القامشلي هو الأوّل من نوعه بين القوى الكردية السورية، التي يشكّل كل من حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي قطبَيها الأساسيّين، فقد سبق أن عقدت مؤتمرات واجتماعات بين الطرفين في مدينة أربيل بإقليم كردستان العراق، وبرعاية الزعيم الكردي العراقي مسعود البارزاني، ونتجت عنها اتفاق “هولير 1″ الذي وقّعه في 11 يونيو/ حزيران 2012، كل من المجلس الوطني الكردي، و”مجلس شعب غربي كردستان” اللذين شكلهما حزب الاتحاد الديمقراطي، وحركة المجتمع الديمقراطي. وكانت غايته بلورة مشروع سياسي وقيادة الصف الكردي، والتواصل مع قوى المعارضة السورية للوصول إلى سوريا ديمقراطية وفدرالية.
ونتج عن الاتفاق تشكيل لجان أمنية وخدمية وسياسية، لكنه بقي حبرًا على ورق. ثم حاول مسعود البارزاني استيعاب الخلافات الحاصلة بين الطرفين، وتمكن من عقد لقاءات واجتماعات بينهما، أفضت إلى اتفاقية أخرى بينهما تحت مسمى اتفاقية “هولير 2” في ديسمبر/ كانون الأول 2013، ونصّت على شراكة الطرفين في إدارة المناطق السورية الكردية عسكريًا وسياسيًا.
بيدَ أنّ “مجلس شعب غربي كردستان” تنصّل بعد أشهر قليلة من الاتفاق، لتنتهي الهيئة الكردية العليا فعليًا مع انضمام “المجلس الوطني الكردي” إلى “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية”، فيما أعلن “حزب الاتحاد الديمقراطي” عن “إدارة ذاتية” للمناطق الكردية، مؤلفة من ثلاثة كانتونات، هي: عفرين، وكوباني، (عين العرب) والجزيرة. ثم جرى توقيع اتفاقية في دهوك العراقية في 22 أكتوبر/تشرين الأوّل 2014، لكنها لم تنفّذ على الأرض.
تولت كل من الولايات المتحدة، وفرنسا رعاية الحوار بين القوى الكردية في سوريا بعد فشل جهود مسعود البارزاني، ونجحتا هذه المرّة في عقد اجتماع القامشلي، الذي حضره ممثلون عن حزب العمال الكردستاني التركي، وتمّ رفع علمه في المؤتمر وبمستوى أعلى من مستوى الأعلام الأخرى بما فيها العلم الوطني السوري.
لا شك أن عقد مؤتمر للقوى والأحزاب السياسية الكردية السورية مرحّب به إن كانت غايته إنهاء ما خلّفته السنوات من توترات في الشارعين الكردي والعربي، والخروج بورقة عمل واحدة من أجل الانخراط في الجسد السوري الجديد، وإعادة بناء الدولة السورية، وفق مبادئ المواطنة المتساوية، ودولة الحق والقانون، وضمان حقوق كافة المكوّنات السورية وتمثيلها سياسيًا.
كما أنه لا خلاف على إقرار المشاركين في المؤتمر، وثيقة تأسيسية تعبّر عن إرادة جماعية، وتقدّم مقاربة واقعية لحلّ عادل وشامل للقضية الكردية في إطار سوريا موحّدة، “بهويتها متعددة القوميات والأديان والثقافات، ويضمن دستورها الحقوق القومية للشعب الكردي، ويلتزم بالمواثيق والمعاهدات الدولية لحقوق الإنسان، ويصون حرية المرأة وحقوقها ويمكنها من المشاركة الفاعلة في المؤسسات كافة”.
ولا خلاف أيضًا على أن يطالب المشاركون في المؤتمر الكردي بأن يكون نموذج الحكم في سوريا لا مركزيًا، بوصفه بديلًا عن الأطروحات الاتحادية أو الكونفدرالية التي تنادي بها أحزاب كردية، ما يعني جنوح قوى المؤتمر إلى النهج الواقعي الذي باتت تتعامل به بعض القوى الكردية مع الحالة السورية الجديدة بعد سقوط نظام الأسد البائد.
لكن المستغرب هو تفسير بعض الأحزاب السياسية الكردية بأن اللامركزية المقصودة هي لا مركزية سياسية وإدارية، ما يعني إعادة الأمور مجددًا إلى المطالب الفدرالية والحكم الذاتي، خاصة أن وثيقة المؤتمر تدعو إلى “توحيد جميع المناطق الكردية ضمن وحدة سياسية إدارية متكاملة، في إطار سوريا اتحادية”، في وقت تحرص فيه الإدارة السورية الانتقالية على التعامل برؤية سياسية جامعة مع التحديات التي تواجه وحدة البلاد.
لذلك فضّلت الحوار مع قوات سوريا الديمقراطية (قسَد)، وجرى توقيع اتّفاق بين الرئيس أحمد الشرع، ومظلوم عبدي في العاشر من مارس/ آذار الماضي، أقرّ بأن “المجتمع الكردي مجتمع أصيل في الدولة السورية، وتضمن الدولة السورية حقه في المواطنة وكل حقوقه الدستورية”، وذلك في خطوة سياسية غير مسبوقة في تاريخ البلاد، تعكس تركيز الإدارة السورية على استعادة وحدة البلاد، وانفتاحها على منح الأكراد لا مركزية إدارية في المناطق التي يشكلون فيها أكثرية، وصون حقوقهم الثقافية والقانونية، مع حرصها على دمج قوات “قسد” في الجيش السوري الجديد.
وبالتالي تقتضي الوطنية السورية بألا تذهب الأحزاب الكردية التي اجتمعت في القامشلي إلى المطالبة بـ”تشكيل جمعية تأسيسية برعاية دولية تضم ممثلي كافة المكونات السورية لصياغة دستور بمبادئ ديمقراطية، وتشكيل حكومة من كافة ألوان الطيف السوري ومكوناته بصلاحيات تنفيذية كاملة”، لأنها تحيل إلى عهود الوصاية الدولية المرفوضة من طرف غالبية السوريين، بمن فيهم غالبية السوريين الأكراد.
أخيرًا، تعكس مخرجات مؤتمر وحدة الموقف الكردي بعض الاستقواء، وانعدام الثقة بالحكومة المركزية، لذلك رفعت الأحزاب الكردية سقف مطالبها كي تساومها، ويكون لها حصة في السلطة، لكن المرفوض سوريًا هو ما يشكل تهديدًا يمسّ وحدة البلاد وسيادتها. والسؤال المطروح: هو كيف ستتعامل الحكومة السورية مع مخرجات هذا المؤتمر؟
لن تخرج الإجابة عن أن الحكومة السورية ليس أمامها سوى بذل مزيد من الجهود، وانتهاج لغة الحوار للتعامل مع التحديات التي طرحتها أحزاب المؤتمر، وكذلك لمواجهة التحديات الأخرى التي تواجهها في منطقة الساحل السوري والجنوب أيضًا، لأن بناء سوريا الجديدة يتطلب صدرًا واسعًا، وعقلًا سياسيًا جامعًا يؤمن بضرورة إشراك الجميع، وبمرجعية المواطنة والقانون فوق الاعتبارات الطائفية والفئوية والمناطقية، لأن الدولة ليست امتيازًا حصريًا لأي طائفة أو حزب أو هيئة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
كاتب وباحث سوري
الجزيرة
———————————-
بيان مؤتمر القامشلي وتداعياته على مفاوضات قسد مع الحكومة السورية/ حسن النيفي
2025.04.29
استقبل كثير من السوريين بمزيد من الارتياح والغبطة نبأ اتفاق العاشر من آذار الماضي الذي وقعه الرئيس أحمد الشرع وقائد “قوات سوريا الديمقراطية” ( قسد ) مظلوم عبدي، ولم يكن مبعث هذا الارتياح الشعبي قائماً على توقّع نتائج مباشرة يمكن أن تتمخّض عن هكذا اتفاق، بقدر ما هو منبعث من شعور يحتاجه السوريون جميعاً، وهو الترجمة الحقيقية لضرورة حلّ الخلافات السورية – السورية عن طريق الحوار واستبعاد العنف.
كانت هكذا خطوة تفاوضية من طرف الجانبين الشرع – عبدي من شأنها أن تؤسس لمسيرة من الحوار الوطني ليس بين العرب والكورد فحسب، بل بين جميع الأطراف السورية التي اختلفت فيما بينها طوال السنوات السابقة، ثم تعزّز شعور السوريين بمزيد من التفاؤل حين تلت اتفاق آذار تفاهمات أخرى بين دمشق وقوات “قسد” حول حَيّي ( الأشرفية والشيخ مقصود) وعلى إثر تلك التفاهمات تم تبادل الإفراج عن الأسرى والمعتقلين من كلا الجانبين، في خطوة كان لها تداعيات اجتماعية وإنسانية طيبة، وحين استمرّت التفاهمات بين الجانبين لتشمل ( سد تشرين) لتعزّز الاعتقاد لدى غالبية السوريين بأن هكذا تفاهمات إنما تمضي نتيجة لوصول الطرفين (الحكومة وقسد ) إلى القناعة بأن قدرة السوريين على بناء دولتهم الجديدة مرهونة بقدرتهم على حل خلافاتهم الداخلية عن طريق الحوار وتغليب المصلحة الوطنية العامة على الإرث السابق من التنافر، وكذلك مرهون بقدرة كلا الطرفين على تلمّس حاجات السوريين وتقدير حجم مأساتهم طوال أكثر من عقد من الزمن، وأن الواقع المأسوي الذي أفرزته سنوات الحرب ينبغي أن يعزّز في نفوس المتفاوضين وأذهانهم معاً إحساساً عالياً بالمسؤولية يجعلهم يرون الأولويات الوجودية للشعب السوري (حق الحياة والعيش الكريم وتوفر الخدمات واستبعاد الحرب والعنف والحصول على الأمان ) هدفاً مشتركاً ينبغي الوصول إليه.
في الثالث عشر من آذار الماضي أعلنت رئاسة البلاد عن توقيعها على إعلان دستوري ليكون مرجعية دستورية للمرحلة الانتقالية، وقد أثار مضمون الإعلان جملةً من الملاحظات والانتقادات ليس من جانب الكورد فحسب، بل من جميع السوريين، وهذا أمر طبيعي جداً، إذ ليس من اليسير أن يتناسخ جميع السوريين القناعات والأفكار، ولكن يبدو أن مواقف “قسد” من الإعلان لم تتوقف في حدود النقد والمطالبة بتعديل الإعلان الدستوري أو تغييره، بل كان لها تداعيات مباشرة على سيرورة التفاوضات الجارية مع الحكومة والتفاهمات التي أُبرمت سواء في العاشر من آذار أو فيما يخص حيّي ( الأشرفية والشيخ مقصود) أو فيما يتعلق بمسألة تحييد سدّ تشرين عن الخلافات ودائرة العنف، وبات واضحاً أن عملية التفاوض ما تزال ملغومةً بالمزيد من الريبة وعدم الثقة، بل هي قابلة للانتكاسة في أية لحظة يشعر بها أحد الأطراف بالغبن أو أنه لم يحقق ما يتطلع إليه.
واقع الحال يؤكّد أن ثمة مسائل أساسية ثلاثاً كانت غائبة عن مشهد المفاوضات، تتمثل الأولى بوجوب قناعة الأطراف المتفاوضة بأن تحقيق الأهداف المرجوّة من التفاوض لا يمكن أن يتحقق دفعةً واحدة، وأن عملية التفاوض تقتضي بالأصل المزيد من المرونة والاستعداد لتفهّم مطالب الطرف الآخر، وأن أي عقبة تعترض التوافقات يمكن أن يعاد النظر فيها، وبالمجمل فإن الوصول إلى توافقات نهائية حول أية مسألة إنما هي نتيجة لمسار تراكمي من الحوار وتبادل وجهات النظر وتدوير الزوايا ولا يمكن أن تتحقق كمنجزٍ جاهز مفاجئ. وتتمثل المسألة الثانية بتعدد مسائل الخلاف وموضوعات التفاوض، ذلك أن الاتفاق حول بعض منها والاختلاف حول بعضها الآخر لا ينبغي أن يثني الجميع عن المضي بالحوار، فما تمّ الاتفاق حوله ينبغي التمسّك به كمنجز مشترك، يكون حافزاً للمضي في تذليل الخلافات حول المسائل الأخرى. في حين تتمثّل المسألة الثالثة بوجوب الاعتقاد لدى جميع الأطراف المتفاوضة بأن الحوار الوطني والتفاوض بين الأطراف السورية – السورية يوجب على الجميع استبعاد مفهوم ( الربح والخسارة) لأن أي تفاهمات تفضي إلى تعزيز المصالح السورية العامة هي ربح عائدٌ إلى الجميع وليس فوزاً يحققه طرفٌ على آخر. وانطلاقاً من ذلك، كان يمكن لـ”قسد” أن تحتج أو تسجّل ما تشاء من ملاحظات على فحوى الإعلان الدستوري، وتطالب كما يطالب غيرها من السوريين بتعديل الإعلان أو تغييره، ومن حق الحكومة – في هذه الحال – القبول أو الاعتراض، أي أن العملية لا يمكن اعتبارها صراع إرادات أو ليّا للأذرع، بقدر ما هي مسار تفاوضي يخضع للأخذ والردّ وتقليب وجهات النظر والاحتكام إلى مبدأ الصالح العام قبل أي مكاسب فئوية أو حزبية.
في السادس والعشرين من نيسان الجاري أصدر مؤتمر القوى الكردية الذي انعقد في مدينة القامشلي وثيقة سياسية، أكّد أنها تمثل كافة أطياف الشعب الكوردي في سوريا، كما تضمنت هذه الوثيقة تصوّراً شاملاً عن رؤية القوى الكوردية للدولة السورية المستقبلية وفقاً للبيان الصادر عن المؤتمر، وبعيداً عمّا انطوت عليه بنود البيان النهائي من تصورات، إلّا أنه يمكن الإشارة إلى ثلاثة منها، باعتبارها تُجهِز على أية عملية حوار مستقبلية، وتسهم في تعزيز الفجوات التي ظن كثير من السوريين أنها قد رُدِمت:
إصرار “قسد” على الذهاب إلى الفدرالية والتي أسمتها باللامركزية، من دون تحديد ملامح هذه اللامركزية ولكن استيفاء مضامين بقية البنود التي تضمنها البيان يفصح بأن الفيدرالية هي خيار قسد الأخير.
تنظر “قسد” إلى تموضعها الحالي في الجزيرة السورية وحيازتها قوة عسكرية ومادية، وسيطرتها على مساحات من الجغرافيا السورية وكذلك سطوتها على موارد اقتصادية سورية هامة، على أنه مكسبٌ لـ”قسد” يجب الحفاظ عليه، بل هو الورقة الأقوى لها في أي عملية تفاوضية مع الحكومة السورية، وما لا تريد ذكره “قسد” هو أن تلك الجغرافيا التي تسيطر عليها هي أرض سورية لجميع السوريين وليست لـ”قسد” وحدها، ذلك أن معيار السطوة العسكرية الذي أتاحته سيرورة الحرب في سوريا لا يمكن اعتماده كمرجعية قانونية في التفاوض، وأن موارد تلك المناطق التي تسيطر عليها قسد هي موارد وطنية لجميع السوريين وليست لمن حاز السيطرة عليها.
يبدو أن مسألة الاستقواء بالخارج لن تكون عاملاً مطمئناً لمن أراد أن يكون شريكاً حقيقياً في بناء الدولة وليس وافداً إليها أو ضيفاً يحل على أرضها، فالمطالبة بتشكيل جمعية تأسيسية مطلب سوري عام، ولكن لماذا ينبغي أن يكون تحت حماية دولية؟.
لعله من المفيد لقسد، ولسواها من القوى الكردية السورية الأخرى، الوقوف عند أمرين اثنين:
إن معظم الأطراف الدولية النافذة في الشأن السوري، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية باعتبارها المظلة العسكرية لـ”قسد”، إنما تكمن مصالحها في سوريا حين تكون موحدة ، وقد بدا ذلك واضحاً في جميع مواقف تلك الدول، ولم تدع أي دولة من الاتحاد الأوربي أو تركيا أوروسيا أو أمريكا إلى تقسيم سوريا.
لعله من الصحيح أن معظم الأطراف الإقليمية والدولية تدفع باتجاه إيجاد حل للمسألة الكردية في سوريا، بما في ذلك الدول التي حضر ممثلون عنها في المؤتمر، وأيضاً بما في ذلك السوريون من باقي المكونات العرقية، إلّا أن هذا الدعم الإقليمي والدولي للمطلب الكوردي لا ينبغي ترجمته وفقاً للرغبات والأجندات الخاصة لـ”قسد” فحسب، بل يجب فهمه في ضوء مصالح تلك الدول والأطراف الإقليمية أيضاً.
ولئن كانت “قسد” تدين بالشكر والامتنان وتشيد بدور رئيس إقليم كوردستان السابق مسعود برزاني في مساعيه التي أسهمت بإقامة مؤتمر القامشلي، فقد كان أولى بها – في الوقت ذاته – أن تستفيد من تجاربه السابقة أيضاً بخصوص أي مشروع انفصالي، ولعل تجربة التصويت على انفصال كوردستان العراق لم تزل في الأذهان.
———————————-
نعم للفيدرالية في سوريا/ عبد الرحمن الناصر
قد تحتاج سوريا اليوم إلى فيدرالية ولكن ليس وفق الهوية الطائفية أو القومية كما يخطط دعاة التقسيم
28 نيسان 2025
في السادس والعشرين من نيسان 2025، عقدت “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) مؤتمراً جديداً تحت شعار “سوريا لا مركزية”، معلنةً رؤيتها السياسية التي تنادي مجدداً بما تسميه “التوزيع العادل للسلطة والثروة بين المركز والأطراف”. خلف هذا الشعار البرّاق تخفي قسد مشروعاً انفصالياً يسعى إلى تثبيت أمر واقع قائم على تقسيم سوريا على أسس قومية، تنذر بفتح أبواب صراعات لا نهائية.
لكن، لمَ لا نقلب الطاولة على الجميع؟ لماذا لا نذهب أبعد مما تطالب به قسد ونطرح الفدرالية الشاملة، ولكن بشكلها الصحيح، الجغرافي الجامع لا القومي أو الطائفي المفرّق؟ نعم، أقولها بوضوح: نعم للفدرالية في سوريا، ولكن على أساس وحدة الجغرافيا، لا تشرذم الهويات.
في العالم اليوم، تُعد الفدرالية، ليست التي على الطريقة القسدية، تُعد خياراً ناجحاً لضمان وحدة الدول مع احترام تنوعها المحلي، دون الحاجة إلى تقسيمها على أسس عرقية أو مذهبية. الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا الاتحادية وسويسرا، جميعها نماذج ناجحة لدول موحدة بنظام فدرالي جغرافي، حيث تُقسم البلاد إلى ولايات أو كانتونات بناءً على اعتبارات إدارية وتنموية لا على هوية سكان كل إقليم. فلماذا لا نتعلم من هذه التجارب، بدلاً من الوقوع في فخ التجزئة التي تنصبها لنا المشاريع الانفصالية؟
وقد رأينا نتائجه الكارثية واضحة في العراق.
قد تحتاج سوريا اليوم إلى فدرالية تضمن توزيع السلطات والثروات، وتمنع عودة الاستبداد المركزي، ولكن ليس وفق الهوية الطائفية أو القومية كما يخطط دعاة التقسيم، بل عبر إقامة ثلاثة أقاليم رئيسية:
إقليم الشرق: ويضم الرقة، الحسكة، دير الزور وتدمر، ليكون امتداداً اقتصادياً طبيعياً للبادية السورية وثرواتها الزراعية والنفطية.
إقليم الشمال: يشمل حلب، إدلب، حماة واللاذقية، مع ما تحمله هذه المدن من ثقل صناعي وزراعي واستراتيجي.
إقليم الجنوب: يجمع حمص، طرطوس، دمشق، السويداء، درعا والقنيطرة، بوصفه القلب السياسي والتاريخي لسوريا.
بهذا التقسيم الجغرافي، يتم تحقيق العدالة الإدارية بين الأقاليم، مع الحفاظ الكامل على وحدة الأراضي السورية وشعبها. كما يتم سحب البساط من تحت دعاة الفدراليات العرقية والطائفية، سواء أكانوا من “قسد” في الشرق، أو “حكمت الهجري” ومحيطه الطائفي في الجنوب، أو فلول النظام الذين قد يجدون في مشروع قسد فرصة لتقسيم الساحل تحت يافطة الحماية الطائفية.
ليست الفدرالية حلاً سحرياً لكل مشكلاتنا، ولكن بشكلها الصحي والصحيح الذي أشرت له، يمكن أن يقطع الطريق أمام الانفصال والتشظي. عبر فدرالية قائمة على الجغرافيا والمصالح المشتركة.
أما محاولات قسد لترويج “اللامركزية” بوصفها حلاً وسطاً، فما هي إلا قناع شفاف لإضعاف سلطة الدولة، الهشة أصلا، ومقدمة لمشروع انفصال تدريجي يبدأ بالحكم الذاتي وينتهي بالاستقلال. هذه اللعبة يجب أن تُفهم جيداً. اللامركزية كما تطرحها قسد، ليست مجرد توزيع إداري للسلطات، بل شرعنة لكيان قومي خاص، يخالف روح الثورة السورية التي قامت من أجل دولة لجميع أبنائها، بلا تمييز ولا إقصاء.
كذلك لا يمكن تجاهل أن قسد، رغم حديثها عن الديمقراطية والتمثيل، قامت على فرض سلطتها عبر القوة العسكرية، لا عبر انتخابات نزيهة أو تفويض شعبي حقيقي، مما يجعل ادعاءاتها الديمقراطية فاقدة لأي مصداقية سياسية أو أخلاقية.
من هنا تبدو الفدرالية الجغرافية خياراً تنظيمياً مهماً في حال تعذر تطبيق دولة ذات سلطة مركزية قوية، وتصبح الضمانة الوحيدة لمنع تفكك سوريا تحت شعارات براقة تخفى خلفها مشاريع خطيرة.
ختاماً: لا بد من التأكيد أن القبول بفدرالية جغرافية يجب أن يكون جزءاً من حل سياسي شامل يعيد للسوريين جميعاً حقهم في تقرير مصيرهم عبر انتخابات حرة ونزيهة، دون تدخلات عسكرية أو وصاية أجنبية. وفدرالية قائمة على الجغرافيا لا تمنع بناء هوية وطنية سورية موحدة.
كما أن معركة المستقبل ليست معركة حدود داخلية، بل معركة هوية وطنية. وكلما أسرعنا في تبني مشروع سياسي موحد، يقوم على فكرة المواطنة لا على العصبيات، كلما اختصرنا طريق الآلام نحو سوريا الجديدة التي نحلم بها جميعاً.
نعم، نعم للفدرالية الجغرافية في سوريا… لا لفدراليات العرق والطائفة والمليشيا.
العربي القديم
—————————
مؤتمر كردي برعاية فرنسية.. انقلاب على “قسد” أم دفعها إلى مسار جديد؟/ أحمد الكناني
28 أبريل 2025
أثار المؤتمر الذي عُقد تحت عنوان “وحدة الموقف والصف الكردي” في مدينة القامشلي، 26 نيسان/أبريل 2025، واختتم أعماله بمشاركة واسعة من القوى الكردية، ردود فعل مختلفة، لا سيما أنه جاء برعاية غير مباشرة من فرنسا، وتمخض عنه موقف سياسي موحد للتفاوض مع دمشق.
ولقد جمع المؤتمر مختلف الأطياف السياسية والحزبية الكردية في سوريا، حيث وضعت القوى المشاركة سلسلة من البنود والمطالب الموحدة لتقديم حل سياسي شامل للقضية الكردية، مع التركيز على إقرار دستور يضمن الحقوق القومية للشعب الكردي ضمن إطار إدارة لامركزية.
واعتبر مراقبون أن “الرؤية السياسية المشتركة”، التي أقرتها القوى الكردية المشاركة، بمثابة تحول جذري، متسائلين ما إذا كان هذا المؤتمر يمثل “انقلابًا سياسيًا” على نهج مظلوم عبدي، أم بداية مسار جديد للتفاوض مع دمشق؟
دور فرنسي في تعزيز اللا مركزية
لا يمكن إغفال الدور المحوري الذي لعبته فرنسا في تهيئة الأرضية السياسية لهذا المؤتمر، فقد استضافت أربيل لقاءً سياسيًا بارزًا جمع قائد قوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي، مع وزير الخارجية الفرنسي، جان نويل بارو، الذي وضع أسسًا لتوجيه “مؤتمر الوحدة الكردية”. وتُعتبر باريس من أبرز الداعمين الدوليين للإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، حيث سعت إلى حشد الدعم الدولي لتعزيز هذا النموذج كجزء من حل سياسي أوسع للأزمة السورية.
يرى الأكاديمي والباحث في الشؤون الكردية، مروان حمي، أن فرنسا تتبنى استراتيجية طويلة الأمد في دعم الملف الكردي بسوريا، من خلال إحياء مفهوم اللامركزية كإطار لاستقرار المنطقة. يتماشى هذا التوجه مع المطالب الكردية التاريخية، حيث تسعى باريس لتطوير نموذج الإدارة الذاتية الكردية كأساس قابل للتعميم في سوريا، وذلك عبر تعاون وثيق مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، مضيفًا أن فرنسا ربطت دعمها الإنساني والاقتصادي لسوريا بتحقيق إصلاحات سياسية تكفل اللامركزية، ما يوفر للكرد ضمانات نسبية بعيدًا عن هيمنة دمشق أو التهديدات التركية المستمرة.
من جهته، يؤكد الكاتب الصحفي والباحث في الشأن الكردي، جوان سوز، أن باريس اتخذت خطوات عملية ملموسة لدعم هذا المسار، منها تعيين ممثل رسمي للإدارة الذاتية في فرنسا، وتنظيم سلسلة لقاءات دبلوماسية في وزارة الخارجية الألمانية مع مسؤولين من الإدارة الذاتية، كما ساهمت فرنسا في توحيد الموقف الكردي السوري للحوار مع دمشق، بما يشمل أحزاب المجلس الوطني الكردي، وذلك في إطار تفاهمات أربيل التي حظيت برعاية أميركية.
مؤتمر وحدة الصف والموقف الكردي: تفاصيل المشاركة والأهداف
شارك في “مؤتمر وحدة الصف والموقف الكردي” أكثر من 400 شخصية سياسية واجتماعية وثقافية من مناطق مختلفة في سوريا وخارجها، وشملت المشاركة أحزابًا سياسية رئيسية مثل حزب الاتحاد الديمقراطي، المجلس الوطني الكردي، حزب المساواة وديمقراطية الشعوب، والمؤتمر القومي الكردستاني، إلى جانب منظمات المجتمع المدني، وحركة المرأة الكردية، وممثلين عن الشباب، وشخصيات ثقافية وفنية، وزعماء عشائر من مناطق مثل حلب، دمشق، الباب، وأعزاز.
في هذا السياق، يشير الباحث في “مركز عمران للدراسات الاستراتيجية”، أسامة الشيخ علي، إلى أن فرنسا مارست ضغوطًا مباشرة على مظلوم عبدي لإتمام اتفاق شامل بين مختلف المكونات الكردية، لا سيما المجلس الوطني الكردي، لافتًا إلى أن باريس أكدت دعمها للقضية الكردية بكافة أطيافها، وليس لـ”قسد” فقط، وهو ما تجلى في تصريحات وزير الخارجية الفرنسي خلال لقاءاته مع عبدي.
ورأى الباحث الشيخ علي أن الدعم الفرنسي لمسارات إقليم كردستان العراق الساعية لتوحيد الموقف الكردي السوري، عزز من شرعية المؤتمر وأعطاه زخمًا إقليميًا، حيث أشاد رئيس إقليم كردستان العراق، نيجيرفان برزاني، بالمؤتمر واعتبره “خطوة تاريخية”.
ملء الفراغ العسكري: الدور الفرنسي المتنامي
تشير التحليلات السياسية إلى أن اللقاءات التي جرت في أربيل تناولت بشكل أساسي الدور العسكري المستقبلي للقوات الفرنسية في سوريا، خاصةً في ظل تقليص الوجود العسكري الأميركي. وفي هذا الصدد، يوضح الباحث جوان سوز أن فرنسا تسعى لتوسيع دورها العسكري في الحرب ضد تنظيم “داعش” من خلال دعم قوات سوريا الديمقراطية “قسد” على الأرض. وقد بدأت فرنسا منذ أواخر عام 2024 بشن غارات جوية مكثفة على مواقع “داعش” في سوريا، بعد انقطاع دام سنوات. كما أطلقت برامج تدريب عسكري لقوات “قسد”، تشمل تزويدهم بمعدات دفاعية متطورة لمواجهة التهديدات.
لكن الأكاديمي مروان حمي يرى أن هذا التوسع الفرنسي يواجه تحديات معقدة، منها ضرورة التنسيق مع روسيا وسوريا، والتوتر المستمر مع تركيا التي تعارض أي دعم للكرد، إضافةً إلى محدودية القدرات العسكرية الفرنسية مقارنة بالوجود الروسي، ويضيف حمي أن الاستثمار الفرنسي في القضية الكردية قد يكون جزءًا من استراتيجية طويلة الأمد لتشكيل شراكات إقليمية بديلة، لكنه لن يتمكن من تعويض الانسحاب الأميركي بالكامل.
مخاوف دمشق وتداعيات المؤتمر
على الرغم من رفض دمشق لمخرجات المؤتمر الكردي، معتبرةً إياه خطوة نحو فرض واقع تقسيمي دون توافق وطني شامل، ما يهدد مسار التفاهمات القائمة بينها وبين “قسد”؛ تشير التحليلات إلى أن أبرز مخاوف دمشق تتمحور حول قرار قائد “قسد” مظلوم عبدي، تعليق حواره مع الحكومة السورية، وتفويض الوفد الكردي الجديد بالتفاوض نيابةً عن الكرد، ما يعيد المفاوضات بين دمشق و”قسد” إلى نقطة الصفر، ويزيد تعقيد العلاقة بين الطرفين في ظل الضغوط الدولية المتصاعدة.
الترا سوريا
——————————–
حقوق الأقليات في سورية…/ شفان إبراهيم
28 ابريل 2025
تنتقد النُّخب السورية مطالبة الأقليات القومية بحقوقها، وتصفها بالطرح الغربي الساعي إلى تفتيت البلاد، من دون البحث في جذر غياب أيّ مادة دستورية تصون حقوق تلك القوميات وفقاً للأبعاد الوطنية. علماً أن قمع الأقليات القومية وسحقها كانا من بين أسباب الدمار والخراب في أوروبا. لذلك من المهم دراسة أوضاع القوميات وتوثيقها في سورية بصورة متكاملة، وسيلةً لتقدير حجمها وحقوقها الحقيقية، والبحث في أفضل السبل لحل مشكلاتها وتقليص المعاناة التي تواجهها تلك الأقليات.
تاريخياً، ارتبطت هيمنة الدول بعضها على بعض في القرن الـ19 بالاستعمار، ثمّ بالقوة العسكرية، وفي القرن العشرين بالهيمنة الاقتصادية، وفي القرن الحادي والعشرين من خلال الثقافة كياناً مركّباً ينتقل اجتماعياً من جيلٍ إلى جيل، عبر المعرفة واللغة والمعتقد الديني والفنون والقانون. لكن الأنظمة، في العالم العربي، تتطلّب، عوضاً عن حلّ مشكلة الأقليات، واعتبارها قضايا محلّية وطنية وجودية، الحلّ الجذري، وإبعادها عن أيّ مفهوم غربي، تلجأ إلى محاولات الصهر والابتلاع.
حقوق الأقليات بعد الحربين العالميتين
استقر التوجّه الدولي بعد الحرب العالمية الأولى، على أن المسائل المتعلّقة بدراسة حقوق الأقليات القومية والدينية موضع اهتمام دولي مشروع، وليست شأناً داخلياً في أيّ دولة. علماً أن هذا الافتراض اعتمد منذ عام 1900، لتبرير صياغة معايير وآليات رقابية جديدة.
وخلال العقود الأولى للقرن العشرين، نُظر إلى المشكلة أنّها قصة الأقليات الانضمامية، فمع اقتسام إمبراطورية هابسبرغ التي حكمت النمسا والمجر، وإمبراطورية روسيا القيصرية التي انتهت عام1937، والإمبراطورية العثمانية التي حكمت تركيا وسورية والعراق وفلسطين وأجزاء من شبه الجزيرة العربية وشمال أفريقيا وشبه جزيرة البلقان. وتقسيم تلك الإمبراطوريات إلى عدة بلدان مستقلة حديثاً، تركّزت مشكلة الأقليات في أولئك الذين انتهوا إلى الجانب الخاطئ من الحدود الدولية، وهذا الأمر شمل الكرد في سورية وباقي القوميات في أغلب الدول العربية، إضافة إلى الدول الغربية، مثل الهنغاريين الذين وجدوا أنفسهم يعيشون في رومانيا، أو ألمانيين انضمّوا إلى بولندا، والأقارب في الطرف الآخر. لكن الفرق أن الدول الغربية عقدت معاهدات لضمان حماية متبادلة للقوميات التي تعيش في دول متجاورة، مثلاً منحت ألمانيا بعض الحقوق والامتيازات للسلالات البولندية التي تعيش داخل حدودها، ما دامت بولندا توفّر حقوقاً متبادلة للسلالات الألمانية التي تعيش في بولندا، ليتطوّر الأمر أكثر إلى معاهدات لحماية الأقليات، ومنح ضمانات أكثر على أساس دولي وقانوني في ظلّ عصبة الأمم المتحدة.
في حين أسس بناء النظام الدولي الجديد بعد الحرب العالمية الثانية، مقاربة بديلة، فجرى استبدال الحقوق الخاصة بالأقليات بحقوق الإنسان الشاملة. أي بدلاً من الحماية المباشرة للجماعات الضعيفة من خلال حقوق خاصة بهم، لحمايتهم عبر ترسيخ حقوق سياسية ومدنية لجميع الأفراد، جرى استبدالها بحقوق الإنسان الأساسية، مثل حرية التعبير والتجمّع والضمير، وتصويرها حماية جماعية للأقليات، بحجّة أنه حيثما كانت هذه الحقوق الإنسانية الفردية محميّة لن نحتاج إلى حقوق للأقليات.
بطريقة أكثر لطفاً، يمكن القول إن الاتجاه العام لحركات ترويج حقوق الإنسان، في ما بعد الحرب العالمية الثانية، تمثل في إدراج مشكلة الأقليات القومية تحت مشكلة أوسع لضمان الحقوق الفردية الأساسية لجميع الأفراد، ومن دون الرجوع إلى عضويتها في الجماعات العِرقية. وطرح مبدأ حقوق الإنسان بديلاً، مفهوم حقوق الأقليات، في إشارةٍ قويةٍ إلى أن الأقليات التي يتمتّع أعضاؤها بمساواة فردية في المعاملة لا يحقّ لها المطالبة بتسهيلات للحفاظ على خصوصياتها العرقية، لتتحوّل حقوق الأقليات بعد الحرب العالمية الثانية إلى شيءٍ معيبٍ وقضيةٍ غير ضرورية ومزعزعة للاستقرار. وخلال بضع سنوات قليلة اختفت حقوق الأقليات فعلياً من قاموس المفردات الدولية، أو كما صورها جوزيف كونز في عبارة شهيرة عام 1954: “في أواخر الحرب العالمية الأولى، كانت الحماية الدولية للأقليات موضة عظيمة، حيث وفرة معاهدات ومؤتمرات وناشطي عصبة الأمم المتحدة، وكم هائل من الكتّابات. أما الآن فقد عفا الزمن على هذه الموضة، أصبح الزي الذي يرتدي المحامي الدولي هو حقوق الإنسان”.
النقطة المرجعية التي أحدثت تغيراً في الموقف الدولي إزاء حقوق الأقليات كانت واحدة من شروط العهد الدولي للسياسة والمدنية، الذي أعلنته الأمم المتحدة في العام 1966، فورد في البند 27 أنه “في الدول التي توجد فيها أقليات عرقية أو دينية أو لغوية، فإن الذين ينتمون إلى مثل هذه الأقليات لا يُنكر حقّهم في الاجتماع مع الأعضاء الآخرين في جماعتهم والاستمتاع بثقافتهم الخاصة، وممارسة طقوس دينهم الخاص، واستخدام لغتهم الخاصة”. لم يخصّص هذا البند أيَّ حقوق خاصة للأقليات، بل كان إعادة تأكيد الالتزام بحقوق الإنسان الشاملة، ودعوة إلى الدول إلى ضمان حصول أعضاء جماعة الأقليات على الحرّيات المدنية نفسها التي يملكها غيرهم من المواطنين، أي دعوة إلى عدم التفرقة، ولكن من دون خصوصياتٍ على أساس اللغة والعرق.
إعادة أحياء حقوق الأقليات
تغيرت المواقف منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي تجاه حقوق الأقليات، وأعيد بالتدريج تفسير المادة 27 لتشكّل الحقوق الإيجابية للأقليات. ففي 1994 أعيد النظر في تلك المادة، وأكّدت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة أن تلك المادّة لا تفرض واجب عدم التفرقة لحماية الحرّيات المدنية، بل لا بدّ من تبنّي تدابير إيجابية لتمكين الأقلية وتهيئتها لممارسة هذا الحقّ بالاستمتاع بثقافتها. ثمّ تبنّت الجمعية العامة للأمم المتحدة إعلاناً لحقوق الأشخاص الذين ينتمون إلى أقليات قومية أو عرقية أو دينية أو لغوية، وتأكيد إعادة صياغة العبارات الرئيسية للمادة “27” ليوضّح أنها تفرض التزامات إيجابية تمكّن الأقليات من الاستمتاع بثقافتهم.
انعكست إعادة صياغة المادة “27” في إيجاد مؤسّسات وإجراءات مختلفة خاصة بالأقليات، مثل إنشاء جماعة عمل للأقليات تابعة للأمم المتحدة في العام 1995، برعاية لجنة فرعية من حقوق الإنسان تابعة للجنة حقوق الإنسان، وتعيين خبير مستقلّ من الأمم المتحدة لموضوع الأقليات في عام 2005. أي، أصبح هناك طريق خاصة للأقليات للاستمتاع بثقافتهم وحقوقهم القومية الخاصة، وجاءت نتيجة وثمرة عمل ثلاث من أقوى المنظمات الأوروبية الحكومية: المجلس الأوروبي، والاتحاد الأوروبي، والمنظمة الأوروبية للأمن والتعاون.
لم يقترن الحديث عن حقوق الأقليات بالفعل والتطبيق، والإلزام القضائي، لكن قرار جعلها أحد مقاييس انضمام أيّ دولة إلى الاتحاد الأوروبي، شكّل تأثيراً واضحاً ومباشراً في سياسات كثير من دول ما بعد الشيوعية. كما أن مفهوم الدولة الحديثة تغيّر كثيراً خلال العقود الماضية، وفي الخطاب الدولي المعاصر نجد أن فكرة الدولة المركزية أو الموحّدة، توصف على أنها تحتوي مفارقات تاريخية تُلغي غير المنتمين إلى دوائر السلطة أو ذوي الهويات الخاصة. في حين يُنظر إلى الدول متعدّدة اللغات والمستويات، وذات البناءات الداخلية المستعدّة للاعتراف بالمناطق الإقليمية والأقليات وتمكينها، على أنها تمثل المنظور الأكثر حداثة. والدول التي تمسّكت بشدة بالنموذج الوحدوي والمركزي القديم، وواصلت إنكار وجود الأقليات توصف على نحو متزايد بأنها رجعية، وعاجزة عن التعرف والتعامل مع تعقيدات العالم الحديث وتعدديته المتأصلة.
واقع القوميات في سورية
لعبت حركات التحرّر العالمية للأقليات، وتأثيرها في النزاع الدائم، وبالإضافة إلى انهيار سور برلين، وتفكّك الاتحاد السوفييتي، ورغبة الدول العظمى في خلق الاستقرار والأمان، إضافة إلى الدراسات الأنثروبولوجية والثقافية، دوراً مهماً في رفض المبادئ الكلية التي تعتمد عليها الدول المركبة في مقارباتها مع القوميات والأقليات ومنع وصولهم إلى دوائر رسم السياسات والقرار، خاصة أن التبريرات التي قدمتها المنظمّات الدولية لتبني حقوق الأقليات تتسق مع هذه الدراسات نفسها. وما تغير هو التأكيد أن تكيف التنوع العرقي شرط مسبق للمحافظة على نظام دولي شرعي. ويبدو واضحاً أن جميع أهداف وقيم المجتمع الدولي تعتمد على الاعتراف بحقوق الأقليات.
لم تكن سورية مؤلفة أبداً من قومية أو ديانة واحدة منذ نشأتها. ومنذ سيطرة حزب البعث على مقاليد الحكم، نجح في تفتيت المجتمع السوري، وعمق من العسف السياسي، مع سيولة كبيرة للمشكلات التي جاءت بها القرارات والمراسيم التي طُبقت بحق الكرد، مثل عدم الاعتراف الدستوري، والتجريد من الجنسية والحزام العربي وقانون الإصلاح الزراعي، ومنع الأسماء الكردية وتعريب أسماء القرى والبلدات، ومنع اللغة الكردية، ومنع وصول الكرد إلى البرلمان قدر المستطاع، والتمييز في الوظائف والمناصب السياسية والإدارية العليا.
ورغم كلّ ما جرى للأقليات القومية والدينية، لم تتلاشَ، ولم تقبل أن تصهر مع الأكثرية، ولم تفقد وعيها بذاتها وبنشاطها السياسي، ولم تتخلّ عن موروثها الثقافي والهوية الوطنية السورية الجامعة، تحت الضغوط والمواجهات، وآن الأوان للاعتراف بأن النموذج القديم للدولة والنظام السوري لم يعد يتناسب مع الظروف التاريخية التي أفضت إلى نشوء سورية، والواقع السكّاني الجديد. وهناك ثلاث مشكلات محورية لقضية حقوق القوميات في سورية:
الأولى مشكلة التعددية القومية والثقافية والدينية، والصراع ما بين معايير وقواعد يمكن تطبيقها على الجميع من دون خصوصيات، مع منح حق الأولوية تفوق جماعة على أخرى، أو صياغة قواعد مختلفة لأنواع متعدّدة من القوميات والأقليات.
الثاني: مشكلة الظروف والديمقراطية في سورية التي يمكن تنفيذها في دولة ذات نهج ديمقراطي يؤمن بالتعددية بأشكالها، بعكس البلاد ذات الديمقراطيات الضعيفة التي من الطبيعي أن تتحول قضية حقوق القوميات ساحةَ صراع ونزاع، لتصبح سورية أمام خيارين، إما صياغة قواعد وقوانين ناظمة؛ يتحقق فيها مستوىً معيّن من الديمقراطية، تعيش فيه جميع المكونات بالقدر ذاته والمساواة وفقاً للمواد الدستورية، وإما كبح جماح الصراع العرقي عبر العنف، لتكون البلاد ذات مستويات ضعيفة أو متفاوتة في الديمقراطية.
ثالثاً، عجزت جميع الحكومات (تاريخياً)، وبتوجيه من النظام السوري البائد، عن توفير العدالة والأمن، وعدم الاعتراف بالأقليات القومية والعرقية على أنهم ممثلون شرعيون وشركاء متساوون في الحكم في المجتمع السوري، سيقود حتماً إلى الهلاك.
المشكلة العميقة بخصوص حقوق القوميات، هي في الأصوات والتوجهات التي تنظر إلى علاقة الدولة السورية الحالية مع القوميات، من ناحية “ابتكار” الأخطار الناجمة عن منحهم حقوقهم، وهي نظرة تشاؤمية وإقصائية معاً. والأكثر غرابةً عدم ربط أبرز أوجه الاستقرار والسلام بحلّ قضية القوميات. الواضح أن الوضع القائم في سورية غير قابل للاستقرار والاستمرار بشكله الحالي، فالمثالب ظهرت بالفعل، وتحتاج إلى تفكير طويل وبعمق، في الأهداف والمكاسب التي سيجنيها السوريون من خطاب وممارسات التعددية السياسية الثقافية، القومية والإثنية. فالإقرار بوجود قوميات وأعراق، وتضمين مواد دستورية لحقوقها، سيقود إلى التعايش القومي والإثني والثقافي، ويعني جمعاً بين المثل العليا طويلة الأمد والتوصيات البراغماتية التي تحمي البلاد.
الادعاء أن قضايا حقوق الأقليات بدعة ودعم غربي وخروج عن التقاليد والسيادة الوطنية، هو مناقض لعقود طويلة لتأسيس الدول، ومن بينها سورية، التي كانت تمتلك كامل الوسائل والطرائق لمعالجة التنوع القومي والعرقي. في المقابل بقيت القوميات والأقليات، سواء في سورية أو في غيرها من الدول، تحت تأثيرات العنف والتهميش ضدّها. ولعلّ ما قاله وودرو ويلسون عام 1919: “لا يمكن للمرء أن يغامر بقول شيء يدعو إلى اضطراب السلام في العالم أكثر من الحديث عن المعاملة التي تتلقاها الأقليات تحت ظروف معينة” هو دليل على دور الأقليات في تقويض أركان الحكم أو تثبيتها.
المطلوب من السوريين البحث عن أفضل الممارسات ضدّ التصدّعات والنزاعات الجديدة، والاستفادة من تكثيف الجهود والمعايير الدولية لحقوق الأقليات خلال السنوات الماضية، ففشل الدولة في حماية حقوق الأقليات يقود إلى سلسلة من الأزمات المتراكمة، فالدولة الطبيعية والحديثة هي التي تعترف بحقوق الأقليات وحقوق جميع المكوّنات، وإلا فستستمرّ محاولات الجماعات القومية في التحرّك سياسياً للمطالبة بحقوقها وتمثيلها في المحافل الدولية أو في السياسات المحلية، خاصة أن البيئة الدولية تتعاطف مع مطالب الأقليات، أكثر مما كانت تفعل منذ 30 أو 40عاماً مضت.
العربي الجديد
—————————-
الأحزاب الكردية تتراجع عن الفيدرالية: واقعية أم ضغوط خارجية؟/ مصطفى محمد
الإثنين 2025/04/28
تعكس مطالبة مؤتمر الحوار الوطني الكردي الذي عقد السبت في الحسكة بالدولة اللامركزية بدلاً من الفيدرالية، حالة من الواقعية التي باتت تتعامل بها الأحزاب الكردية مع الحالة السورية الجديدة بعد سقوط النظام السوري، وبروز تركيا كأحد أبرز الفاعلين في الملف السوري.
وكان من المتوقع من المؤتمر الذي جمع أحزاب الوحدة الوطنية الكردية والمجلس الوطني الكردي، وشخصيات كردية، أن يتبنى في وثيقته الختامية مطلب الفيدرالية التي دأبت هذه الأحزاب في غالبيتها على المطالبة بها، لكن حسابات عدة غلّبت مطلب اللامركزية.
وعند النظر في أبرز الفروقات بين النظام الفيدرالي واللامركزي، ومنها خضوع المناطق أو الولايات لرقابة ووصاية الحكومة المركزية في الحالة الأخيرة (اللامركزية)، بعكس النظام الفيدرالي الذي لا تخضع فيه المناطق لوصاية المركز، وعدم تحديد اختصاصات المناطق في النظام اللامركزي في الدستور الدائم، وإنما في القوانين العادية، يتبين أن الأحزاب الكردية قد تنازلت كثيراً.
حوار كردي
وتُفسر معلومات الحالة بالضغط الأميركي على الأحزاب الكردية، حيث تعتقد واشنطن أن حكومة دمشق لن توافق على مطلب الفيدرالية، خصوصاً أن أنقرة حليفة الدولة السورية الجديدة شددت في أكثر مرة على رفضها القاطع إقامة أي نظام فيدرالي في سوريا.
لكن عضو الهيئة الرئاسية والناطق الرسمي للمجلس الوطني الكردي فيصل يوسف، قال لـ”المدن”: “لم تُمارس علينا أي ضغوط، والوثيقة هي نتاج حوار كردي استمر شهوراً عدة”.
وأضاف أن الأحزاب الكردية تؤكد على خيار اللامركزية المناسبة للوحدة السياسية والإدارية للمناطق الكردية وفي إطار سوريا ديمقراطية، تحترم وتضمن حقوق الشعب الكردي وكل المكونات السياسية.
وتُعبّر وثيقة المؤتمر التي أقرت بإجماع الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والفعاليات المستقلة، عن تطلعات الشعب الكردي للخلاص من آثار المركزية والاستبداد، ورأت الوثيقة أن اعتبار المناطق الكردية وحدة إدارية وسياسية ضمن “سوريا لا مركزية” هي الخيار الأنسب، لأنه يحافظ على حقوقه القومية، بحسب القائمين على المؤتمر.
تخفيف وقع الفيدرالية
ويدرج الباحث المختص بالشأن الكردي بدر ملا رشيد، عدم ذكر الوثيقة للفيدرالية في إطار محاولة “إفساح المجال من الأحزاب الكردية أمام تسمية شكل الحكم الذي يمكن الاتفاق عليه مع دمشق”.
ويوضح لـ”المدن” أن الأحزاب الكردية تجنبت استخدام الفيدرالية لتخفيف وقعها على السوريين، فالمصطلح يُثير هواجس الانفصال، علماً أن الوثيقة اعتبرت أن المناطق الكردية “وحدة إدارية وسياسية”، وهذا في حد ذاته يشير إلى “لامركزية جغرافية”، وذلك يعني شكلاً من أشكال الفيدرالية.
وقال ملا رشيد إن توحيد المناطق سيؤدي إلى إعادة تنظيم المحافظات السورية، وأضاف: “مع ذلك لا يمكن تلمّس الشكل التطبيقي (حدود اللامركزية، توحيد المناطق الكردية) النهائي لبنود وثيقة الأحزاب الكردية، والأمر يبدو أنه تُرك للنقاش مع دمشق”.
التماهي مع مطالب الأقليات
وثمة من يرجع تجاوز الأحزاب الكردية مطلب الفيدرالية إلى السعي لإضفاء الشرعية على مطلبها الجديد (اللامركزية)، الذي يناسب أكثر الأقليات السورية، وخاصة السويداء التي ترفض أوساط منها الدولة المركزية، في ظل المعلومات عن تنسيق قائم بين حزب “الاتحاد الديمقراطي” الذي يقود الأحزاب الكردية، وتيارات في السويداء ذات الغالبية الدرزية.
الكاتب الكردي شيرزان علو يتفق مع هذه القراءة ويقول لـ”المدن”: “الواضح أن مطلب اللامركزية، جاء نتيجة توافق بين الأكراد والأقليات السورية”.
والأمر الأهم الذي يجب التوقف عنده وفق الكاتب هو أن النظام اللامركزي لا يُزعج تركيا، كما الفيدرالية، ويقول: “في العراق حصل الأكراد على الفيدرالية، لكن في سوريا الحال يختلف، بمعنى أن الحلول هنا مرتبطة بالدول الإقليمية في هذه المرحلة”.
بهذا المعنى، يعتقد علو، أن مطلب اللامركزية جاء بعد حوارات مكثفة أجراها “الاتحاد الديمقراطي” وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مع القيادة السورية، والدول الإقليمية والدولية بوساطة حكومة إقليم كردستان العراق.
المدن
—————————-
انسحاب واسع لقوات التحالف الدولي من قواعد دير الزور شمال شرق سورية/ محمد كركص
28 ابريل 2025
تواصل قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية تنفيذ عملية انسحاب واسعة من قواعدها في شمال شرق سورية، مع تسجيل خروج أكثر من 60 ناقلة محملة بالعتاد العسكري واللوجستي من قاعدة حقل العمر النفطي، أكبر قواعد التحالف شرقي محافظة دير الزور.
وأفادت مصادر عسكرية مطلعة لـ”العربي الجديد”، أن عمليات الانسحاب التي بدأت منذ منتصف إبريل/ نيسان الجاري، شملت حتى الآن سبع دفعات رئيسية من العتاد والمعدات، غالبيتها من حقل كونيكو للغاز وحقل العمر النفطي، بالإضافة إلى سحب دفعتين من قاعدة الشدادي بريف الحسكة الجنوبي، واحدة منها جواً. وشملت عمليات الانسحاب آليات عسكرية ثقيلة ومعدات لوجستية، مع الإبقاء على بعض العتاد والجنود في بعض المواقع.
في المقابل، لم يتم تسجيل أي انسحابات من قاعدة التنف بريف حمص الشرقي، الواقعة ضمن منطقة الـ55 كيلومتراً عند المثلث الحدودي بين الأردن والعراق وسورية، ولا من قاعدتي الرميلان (مطار خراب الجير)، وتل بيدر في ريف الحسكة. وتُعتبر قاعدة حقل العمر النفطي أكبر قواعد التحالف الدولي في سورية، تليها قاعدة الرميلان، ثم قاعدة كونيكو، فالتنف.
ويأتي هذا التحرك الميداني في سياق الخطة الأميركية المعلنة للانسحاب التدريجي من سورية، عقب سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024، لا سيما أن الإدارة الأميركية قد أوضحت في بيانات متتالية أن وجودها العسكري في سورية لم يكن دائماً، وأن هدفه الأساسي كان مكافحة تنظيم “داعش” ودعم الاستقرار الإقليمي، مؤكدةً التزامها بعملية انسحاب “منظم وتدريجي” لضمان عدم حدوث فراغ أمني قد تستفيد منه الجماعات المتطرفة أو الأطراف الإقليمية الأخرى.
ومن المتوقع أن تستمر عملية إعادة التموضع وسحب المعدات الثقيلة خلال الأشهر المقبلة، مع بقاء عدد محدود من القوات في مواقع استراتيجية حتى استكمال ترتيبات الانتقال الأمني مع “الشركاء المحليين” في شمال وشرق سورية، بحسب تصريحات صحافية لمسؤولين أميركيين.
—————————–
«اتفاق 10 آذار» يترنّح: الأكراد يتوحّدون… والشرع يكسر صمته
لم يتأخر رد العاصمة السورية على انعقاد «المؤتمر القومي الكردي» السوري الأول في مدينة القامشلي؛ إذ جاء الرفض الرسمي لمخرجات المؤتمر سريعاً، بإعلان التمسك بما سمّته دمشق «أحقية المطالب الكردية ضمن الإطار الوطني السوري الجامع»، وتأكيد وجود خلافات مع «قسد» حول تطبيق اتفاق العاشر من آذار، والموقّع بين الرئيس السوري الانتقالي، أحمد الشرع، والقائد العام لـ«قوات سوريا الديمقراطية» (قسد)، مظلوم عبدي. وأتى هذا عبر «رئاسة الجمهورية»، التي أصدرت بياناً أكّدت فيه أن «التحركات والتصريحات الصادرة عن قيادة قسد، والتي تدعو إلى الفيدرالية وتكرّس واقعاً منفصلاً على الأرض، تتعارض بشكل صريح مع مضمون الاتفاق (المشار إليه)»، و«تهدّد وحدة البلاد وسلامتها».
وأشارت إلى أن «الاتفاق يمثّل خطوة بناءة إذا ما نُفّذ بروح وطنية جامعة بعيداً عن المشاريع الخاصة أو الإقصائية»، معلنةً رفض «أي محاولات لفرض واقع تقسيمي أو إنشاء كيانات منفصلة تحت مسميات الفيدرالية أو الإدارة الذاتية من دون توافق وطني شامل»، ومشدّدة على أن «وحدة سوريا أرضاً وشعباً خط أحمر».
كما عبّرت «الرئاسة» عن بالغ القلق من «الممارسات التي تشير إلى توجّهات خطيرة نحو تغيير ديمغرافي في بعض المناطق»، محذّرة من «تعطيل عمل مؤسسات الدولة في المناطق التي تسيطر عليها قسد، وتقييد وصول المواطنين إلى خدماتها، واحتكار الموارد الوطنية وتسخيرها خارج إطار الدولة، بما يسهم في تعميق الانقسام وتهديد السيادة الوطنية».
وشدّد البيان على أنه «لا يمكن لقيادة قسد أن تستأثر بالقرار في شمال شرق سوريا، حيث تتعايش مكوّنات أصيلة من عرب وأكراد ومسيحيين وغيرهم»، مضيفاً أن «حقوق الأكراد، كما حقوق جميع مكوّنات الشعب السوري، مصونة ومحفوظة ضمن إطار الدولة السورية الواحدة».
ودعا البيان «شركاء الاتفاق، وعلى رأسهم قسد، إلى الالتزام الصادق بالاتفاق المُبرم وتغليب المصلحة الوطنية العليا على أي حسابات ضيقة أو أجندات خارجية». وكان «المؤتمر القومي الكردي» أعلن، في بيانه الختامي، التوافق على تشكيل وفد يمثّل أكراد سوريا في وقت قريب، بهدف تطبيق الرؤى السياسية ومناقشتها مع دمشق، مع المطالبة بحل عادل للقضية الكردية ضمن إطار سوريا موحّدة، وإقرار دستوري لحقوق الشعب الكردي السياسية والثقافية.
وبحسب «الورقة الكردية المشتركة»، والتي لم تُنشر رسمياً وتمكنت «الأخبار» من الحصول على نسخة منها، جاءت طموحات المؤتمر ضمن شقين: الأول، معنيّ بالشأن الوطني السوري، والثاني، مخصّص للمطالب الكردية من الإدارة السورية الجديدة.
وتضمّن الشق الوطني، تأكيد «التوافق على أن تكون سوريا دولة متعدّدة الأديان والثقافات والطوائف، يضمن دستورها حقوق جميع المكوّنات السورية، عبر نظام حكم برلماني بغرفتين، يقوم على التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة وفصل السلطات، مع اعتماد مجالس للمناطق في إطار النظام المركزي».
واعتبر معدّو الورقة أن «سوريا اللامركزية تضمن التوزيع العادل للسلطة والثروة بين المركز والأطراف»، مشدّدين على «ضرورة أن يعبّر اسم البلاد ونشيدها الوطني عن التعدّد القومي والثقافي للمجتمع السوري، وضمان المساواة الدستورية بين الرجل والمرأة، مع إعادة النظر في التقسيمات الإدارية الحالية بما يراعي الكثافة السكانية والمساحة الجغرافية».
كما شدّدوا على ضرورة «إلغاء نتائج التغيير الديمغرافي وإيقافه في المناطق الكردية وكلّ المناطق السورية، وتأمين عودة المهجّرين قسراً إلى ديارهم من أبناء عفرين ورأس العين وتل أبيض»، مطالبة بـ«تشكيل جمعية تأسيسية برعاية أممية لصياغة دستور جديد بمبادئ ديمقراطية، وتشكيل حكومة جامعة من كلّ أطياف المجتمع السوري».
أما في المجال القومي الكردي، فقد طالبت الورقة بـ«الاعتراف الدستوري باللغة الكردية كلغة رسمية – إلى جانب اللغة العربية -، وضمان تمثيل الأكراد في مؤسسات الدولة التشريعية والقضائية والتنفيذية والأمنية، وتقدير تضحيات قسد واعتبار القتلى من مقاتليها شهداء ومساندة عوائلهم وضمان حقوقهم». كما نصّت المطالب على «إنشاء مراكز وإدارات تهتم باللغة والتراث والتاريخ والثقافة الكردية، وفتح قنوات إعلامية ناطقة بالكردية، واعتماد عيد النوروز عيداً رسمياً في البلاد». وشدّدت على «إلغاء كلّ الإجراءات والقوانين الاستثنائية التي طُبّقت بحق الكرد، مثل مشروع الحزام العربي، وإعادة الجنسية السورية إلى المواطنين الكرد المجرّدين منها بموجب إحصاء عام 1962، وتطوير البنى التحتية للمناطق الكردية، وتخصيص نسبة من عائدات ثرواتها للتنمية والإعمار، بسبب تهميشها الممنهج وإهمالها المتعمّد في المراحل السابقة».
وفي السياق نفسه، قال فيصل يوسف، الناطق باسم «المجلس الوطني الكردي»، في تصريحات إعلامية، إن «العمل جارٍ على تنفيذ خطوات المرحلة التالية لما بعد مؤتمر وحدة الصف الكردي»، موضحاً أن «أولى هذه الخطوات تتمثّل في دراسة الملاحظات الإيجابية التي طُرحت خلال المؤتمر من قبل المشاركين، وضمّها إلى الرؤية المشتركة».
وأكّد يوسف أن العمل سيبدأ على «تشكيل وفد كردي مشترك للتحاور مع حكومة دمشق وكل الأطراف السورية الأخرى»، مشيراً إلى أن ثمّة «جدولاً زمنياً دقيقاً لم يتم تحديده بعد، لكنه سيكون قريباً نظراً إلى عدم وجود عراقيل أو خلافات تُعيق تشكيل الوفد»، موضحاً أن «ما تبقّى هو مجرّد عقد لقاءات لتحديد الشكل النهائي للوفد وعدد أعضائه».
وعن ردود الفعل حيال المؤتمر، أفاد يوسف بأن «الكونفرانس لم يتلقّ حتى الآن أي رسائل تهنئة من حكومة دمشق أو من أطراف سورية أخرى»، آملاً «أن يتم ذلك باعتبار أن الكونفرانس خطوة سورية بامتياز، ويشكّل لبنة أساسية نحو بناء سوريا جديدة ديمقراطية ولا مركزية».
ومن جهته، أكّد مصدر كردي أن «الرد الرسمي السوري كان متوقّعاً، في ظل توجه الإدارة الجديدة نحو مركزية مشدّدة، وهو ما ظهر من خلال تشكيل الحكومة والإعلان الدستوري»، لافتاً، في حديثه إلى «الأخبار»، إلى أن «المؤتمر القومي الكردي جاء بغطاء أميركي – غربي، وكان خطوة ضرورية لدفع الحوار مع دمشق إلى الأمام». ورجّح المصدر أن «الأكراد سيواصلون التمسك باللامركزية كحل وحيد ودائم لسوريا، يضمن وحدة البلاد واستقرارها».
الأخبار»
——————————
تعزيزات ضخمة للجيش السوري نحو مناطق سيطرة «قسد» في ريف حلب
دمشق: «الشرق الأوسط»
28 أبريل 2025 م
قال تلفزيون «سوريا»، الاثنين، إن الجيش السوري أرسل تعزيزات ضخمة نحو محاور القتال ضد «قوات سوريا الديمقراطية (قسد)» في سد تشرين بريف حلب الشرقي.
وقال تلفزيون «سوريا»، الاثنين، إن قوات الجيش دخلت إلى منطقة سد تشرين في منبج بمحافظة حلب وأقام نقاطا عسكرية؛ تمهيداً لتولي السيطرة على السد.
وشهدت المنطقة التي يقع بها سد تشرين على نهر الفرات اشتباكات عنيفة بين «قوات سوريا الديمقراطية (قسد)» وفصائل مسلحة موالية لتركيا منذ سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد في ديسمبر (كانون الأول).
وتوصلت الإدارة السورية الجديدة الشهر الماضي لاتفاق مع «قوات سوريا الديمقراطية»، وافقت بموجبه «قسد» التي يقودها الأكراد وتسيطر على مساحة كبيرة من الأراضي في شمال شرقي سوريا، على دمج كل المؤسسات المدنية والعسكرية التابعة لها ضمن مؤسسات الدولة السورية.
وكانت الرئاسة السورية قد قالت، الأحد، إن مواقف قيادة «قوات سوريا الديمقراطية» بشأن «الفيدرالية» تتعارض مع مضمون الاتفاق الموقَّع معها وتهدّد وحدة البلاد وسلامتها.
وأضافت الرئاسة، في بيان، أن الاتفاق مع «قسد» يمكن أن يكون خطوة بنَّاءة «إذا نُفّذ بروح وطنية، بعيداً عن المشاريع الخاصة»، مشددة على رفض أي محاولات للتقسيم أو إنشاء كيانات منفصلة تحت مسميات الفيدرالية أو الإدارة الذاتية.
بيان حول مستجدات الاتفاق مع قيادة “قسد”#رئاسة_الجمهورية_العربية_السورية pic.twitter.com/aUccaiCR2X
— رئاسة الجمهورية العربية السورية (@SyPresidency) April 27, 2025
وحذَّرت الرئاسة السورية من تعطيل عمل مؤسسات الدولة في مناطق سيطرة «قسد»، واحتكار الموارد، وقالت إنه «لا يمكن لقيادة (قسد) الاستئثار بالقرار في شمال شرقي سوريا؛ لأنه لا استقرار ولا مستقبل دون الشراكة الحقيقية».
كان مظلوم عبدي، قائد «قوات سوريا الديمقراطية (قسد)»، قد قال، في تصريح نقله التلفزيون السوري، السبت، إن «سوريا الجديدة تحتاج إلى دستور لا مركزي، يضم جميع المكونات»، مشدداً على أن واجب «قسد» حماية المكتسبات الموجودة في شمال شرقي سوريا. وتابع أن مؤتمر «وحدة الصف والموقف الكردي»، الذي عُقد في مدينة قامشلو بروجافا، لا يهدف إلى التقسيم، بل هو من أجل وحدة سوريا.
—————————
==================
الموقف الأميركي اتجاه سوريا، مسالة رفع العقوبات، الشروط التي تفرضها الولايات المتحدة الاميركية على الحكومة السورية تحديث 29 نيسان 2025
لمتابعة هذا الملف اتبع الرابط التالي
العقوبات الأميركية على سوريا الجديدة وسبل إلغائها
—————————-
رسائل دمشق إلى الخارج: ماذا عن الداخل؟/ عمر قدور
الثلاثاء 2025/04/29
لم تنل تصريحات كوري ميلز، عضو الكونغرس الأميركي، اهتماماً من السوريين. إذ نقل عن الرئاسة انفتاحها على تحسين العلاقات مع إسرائيل. التصريح نقله قبل أسبوع تلفزيون “العربي”، وهو جزء مما خرج به ميلز، الذي نقل أيضاً استعداد الرئاسة للانضمام إلى اتفاقيات أبراهام، وفق تفاهمات معينة، وذكر أنه سيسلّم الرئيس الأميركي رسالة من الرئيس الانتقالي أحمد الشرع. الأوساط الموالية للسلطة تجاهلت تماماً هذا الجانب، وهي نفسها قبل شهور ما كانت لتفوّت مثل هذه الأقوال أيام العهد البائد.
وقبل أربعة أيام قال أسعد الشيباني، وزير الخارجية، أمام مجلس الأمن: “أعلنّا مراراً التزامنا بأنّ سوريا لن تشكل تهديداً لأي دول في المنطقة والعالم، بما فيها إسرائيل”. الشيباني طالب المجلس بالضغط على إسرائيل كي تسحب قواتها التي تجاوزت خط اتفاقية الهدنة بين البلدين، وتجاهل تصريحات إسرائيلية عديدة تُعدّ تدخلاً سافراً في تفاصيل الشأن السوري. يُذكر أنه تم اعتقال اثنين من حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية في سوريا، قبيل سفر الشيباني إلى نيويورك، فيما عُدّ شروعاً في تنفيذ مطالب أميركية.
القائمة بأعمال البعثة الأميركية لم ترحّب بالشيباني، بخلاف ما فعل مندوبو الدول الأخرى. وكررت أن بلادها تواصل تحميل السلطات السورية المؤقتة المسؤولية عن نبذ وقمع الإرهاب، وتبني سياسة عدم اعتداء على البلدان المجاورة، واستبعاد المقاتلين الأجانب من تسلّم مناصب رسمية، ومنع إيران من استغلال الأراضي السورية، والتخلص من أسلحة الدمار الشامل. وأضافت المندوبة دوروثي شيا أن الشعب السوري يستحق قيادة شفافة ومسؤولة، ملتزمة بمستقبل أكثر سلاماً وازدهاراً بعد الدمار في ظل حكم الأسد.
وقد صار معلوماً أن واشنطن وضعت شروطاً عديدة من أجل تمديد رفع العقوبات الاقتصادية على سوريا لمدة سنتين، يُنظر بعدها فيما إذا كانت السلطة قد أحرزت تقدّماً فيما هو مطلوب منها. ويُنظر داخلياً على نطاق واسع إلى حراك الرئاسة ووزارة الخارجية بأنه منصبّ على موضوع رفع العقوبات الأميركية التي تعيق عزم الدول الراغبة في تقديم المساعدات، وعلى ذلك تلقى الرسائل الإيجابية تجاه إسرائيل قبولاً، ويعتلي ملف العقوبات قائمة الأولويات من دون منازع.
الفكرة السائدة حالياً هي السعي لإقناع وسطاء، ومن ثم الإدارة الأميركية، برفع العقوبات. الفكرة نفسها تتضمن حصول السلطة على شرعية دولية فيما لو رُفعت العقوبات عنها، وبذلك تكون الشرعية الخارجية سابقة على الشرعية الداخلية المؤجّلة لخمس سنوات بموجب الإعلان الدستوري، حيث لن تشهد المرحلة الانتقالية انتخابات تُمتحن بها شعبية السلطة، أو تفرض عليها نوعاً من الرقابة. على هذا الصعيد يبدو التوجّه الداخلي محدَّداً بمخرجات ما سُمي مؤتمر الحوار الوطني، ثم الإعلان الدستوري، وعلى الجميع الالتزام به، أو الالتحاق به كما هو مطلوب من الإدارة الذاتية الكردية والسويداء غير الخاضعة كلياً للمركز.
أيضاً فيما يخص منطقتي الجزيرة والسويداء، يبدو سهلاً الاستسلام لفكرة أن التفاوض مع الخارج وإرضاءه هما السبيل لإخضاعهما للمركز، أو أنه السبيل الأسهل. إلا أن ذلك ينطوي على عدم إبداء اهتمام حقيقي بمطالب المنطقتين، ومنها مطالب يمكن القول بصلاحيتها للنقاش السوري العام، لأنها تنصرف إلى طبيعة النظام السياسي في البلد. وكما هو معلوم فالثورة السورية اندلعت أصلاً للاعتراض على النظام السياسي، وطالبت بالحريات وبنظام ديموقراطي تشاركي.
بالطبع، لا يجوز إنكار تأثير العامل الخارجي فيما يخص الجزيرة والسويداء، بما في ذلك التصريحات التركية المتتالية الخاصة بمستقبل مناطق الإدارة الذاتية. المسألة هي في الطريق الذي تسلكه السلطة لمعالجة الملفين المركّبين، فالتركيز على الخارج منزلق خطير مجرَّب في سوريا، وقد كان رضا الخارج دائماً يُصرف في الداخل بعدم الاكتراث بمتطلبات السوريين. وقد ظهر هذا حقاً بانشغال المستويات العليا من السلطة بالتوجه إلى الخارج، بينما هناك على الأرض ما يُنذر بكوارث كبرى، سواء لجهة التهديد الماثل بتفجير الوضع مجدداً في الساحل، أو الحوادث المتفرقة (لكن المتكررة) والتي قد تؤدي إلى انفجار مماثل خاص بالدروز. والحال مع الأكراد لم يعد مبشّراً كما كان عقب توقيع التفاهم مع قسد، خصوصاً بعد بيان الرئاسة الغاضب من البيان الذي أعقب المؤتمر الكردي الجامع لكافة التنظيمات الفاعلة.
واحد من انتقادات السوريين الأساسية لحكم الأسد كان مصوّباً على سعيه إلى إرضاء الخارج على حساب الداخل، وقد قيل الكثير (مدحاً وذمّاً) في تغليب الأسد الأب التوازنات الخارجية على الداخل، ويمكن بسهولة العودة للتاريخ وملاحظة تزايد إهمال الداخل كلما توطدت العلاقة مع الخارج. وعندما انطلقت الثورة في عهد الابن، ورفض مطالبها الأولى التي اقتصرت على الحريات والمشاركة السياسية، كان واضحاً أن الشطر الذي يكمل الإعراض عن مطالب الداخل هو تدعيم الشراكات الخارجية التي كان لها الغلبة على حكمه نفسه.
النموذج المعهود، في سوريا وغيرها، أن يستغل الخارج ضعف السلطة في الداخل لفرض شروطه. في حالتنا الراهنة، يصح القول إن السلطة ليست في أفضل حالاتها وهي تواجه انتقادات خارجية تخص ملفّات داخلية، حتى إذا كانت الانتقادات على سبيل الضغط لترضخ في بنود لا تتصل بالهمّ السوري. على سبيل المثال، استُهلت جلسة مجلس الأمن المذكورة بإحاطة للمبعوث الدولي إلى سوريا، ورد من ضمنها أن “العديد من السوريين غير متأكدين من مكانهم في سوريا الجديدة الناشئة. هناك تركيز للسلطة. ولا تزال خطط إرساء سيادة القانون، وعقد اجتماعي جديد، وانتخابات حرة ونزيهة في نهاية المطاف، غير واضحة”.
في الجلسة ذاتها تناوب معظم مندوبي الدول الأعضاء على الإشارة إلى مجازر الساحل، وإلى ضرورة معاقبة الجناة. وطالبت المندوبة الأميركية بمحاسبة “جميع مرتكبي الفظائع، وخصوصاً من هم في موقع القيادة، لإثبات أن لا أحد فوق القانون في سوريا الجديدة”. وأكدت السفيرة على “أن تُظهر القيادة المؤقتة بوضوح أنها تجاوزت ماضيها، وتلتزم بقيادة شفّافة ومسؤولة”، وعلى أن سياسة بلادها ستكون على أساس الأفعال.
بموجب رطانة عهد الأسد، توصف المطالب الأخيرة للسفيرة بأنها تدخّل سافر في التفاصيل الداخلية السورية، ولا يُستبعد أن يتسرّب بعض من الرطانة إلى الآن. لكن التذرع بالسيادة يغفل أن قوى الخارج تستغل استحقاقاً يُفترض أنه وطني، وأن يُعالج من دون وضعه في قائمة شروط لقوة دولية، مع التذكير بأن هذه القوة قد تتراجع في مطلبها هذا إذا حصلت على ما تريد من مطالب أخرى لها الأولوية لديها.
في وضع كالوضع السوري، ليس مطلوباً من أية سلطة الدخول في مواجهات خارجية، عسكرية أو سياسية، لا تتناسب مع حالة الانهيار. لكن من الملحّ إدراك أن موقع القوة الحقيقي المستدام هو في الداخل، وأن قاعدة “صفر مشاكل” في الخارج غير ممكنة طالما بقيت غير متحققة في الداخل.
المدن
—————————————
اتفاقات أبراهام والعناصر الأجانب.. تلفزيون سوريا يكشف تفاصيل رد دمشق على واشنطن
2025.04.27
حصل تلفزيون سوريا على تفاصيل جديدة عن الرد الذي أرسلته الحكومة السورية إلى الولايات المتحدة الأميركية، بخصوص الشروط التي وضعتها لتقييد العقوبات المفروضة على البلاد.
وأفادت مصادر مطلعة لتلفزيون سوريا أن دمشق ردت على الشرط المتعلق بشكل العلاقة مع الاحتلال الإسرائيلي، والانضمام إلى ما يعرف بـ”اتفاقات أبراهام” التي أبرمتها الإمارات والبحرين مع إسرائيل برعاية أميركية قبل أعوام.
ووفقاً للمصادر، فإن الحكومة السورية رفضت في الرسالة الموجهة إلى الولايات المتحدة الانضمام إلى تلك الاتفاقات، مشيرة إلى أن هذه الاتفاقات كانت مع دول لا تحتل إسرائيل أراضيها، ولا يمكن لسوريا أن تكون جزءاً منها.
ورغم رفض الحكومة السورية الانضمام إلى تلك الاتفاقات، أكدت في الرسالة عزمها على المضي قدماً في بناء سوريا لا تسعى لأن تكون تهديداً لأي طرف.
وأشارت المصادر إلى أن المحور الشائك الآخر في الرسالة كان الموقف من المقاتلين الأجانب، إذ تطالب الولايات المتحدة بإبعادهم ومنحها الإذن بشن ضربات في سوريا. وردت الحكومة السورية بأن هذا الملف يحتاج إلى جلسات تشاورية واسعة مع واشنطن.
وقالت الحكومة السورية في ردها إنه يجب التمييز بين المقاتلين الأجانب عموماً وبين المقاتلين الذين يشكلون تهديداً لأمن الولايات المتحدة، بحسب المصادر.
سوريا توضح موقفها من أمن الجوار والمقاتلين الأجانب
أكد الرئيس السوري أحمد الشرع، في مقابلة مع صحيفة “نيويورك تايمز” قبل أيام، أن حكومته لن تسمح باستخدام البلاد لتهديد دول المنطقة، وترفض أن يتحول الوجود الأجنبي إلى تهديد لأي دولة عبر الأراضي السورية.
وطمأن الشرع الدول الأجنبية بأن بلاده لن تسمح باستخدام أراضيها لتهديد أي طرف، مؤكداً أن التزام سوريا بهذا المبدأ بدأ حتى قبل وصول حكومته إلى دمشق.
ورفض الشرع الخوض في تفاصيل الشروط الأميركية، مكتفياً بالإشارة إلى أن بعضها بحاجة إلى مناقشة أو تعديل قبل المضي في أي اتفاق محتمل.
وبخصوص المقاتلين الأجانب، لوّح الشرع بإمكانية منح الجنسية السورية للمقاتلين المقيمين في البلاد منذ سنوات، خاصة المتزوجين من سوريات، والذين شاركوا في القتال ضد النظام.
انفتاح سوري على السلام
أفاد عضو الكونغرس الأميركي كوري ميلز أنه لمس خلال لقائه مع الرئيس السوري أحمد الشرع في دمشق، يوم الجمعة الماضي، رغبة سورية في تحقيق الاستقرار والسلام في المنطقة.
وفي لقاء مع “التلفزيون العربي”، نوّه ميلز بدور الشرع في منع استخدام الأراضي السورية لتهريب الأسلحة إلى لبنان، خاصة من قبل الحشد الشعبي، وأشار إلى وجود انفتاح نحو تعزيز العلاقات مع إسرائيل، وربما حتى توقيع اتفاقات سلام موسعة، في إطار الرغبة في ضمان الاستقرار الإقليمي.
وأشار إلى أن الرئيس الشرع أظهر انفتاحاً على العمل مع الدول المجاورة وعلى تطبيع العلاقات بما يحقق السلام الشامل، مبيناً أنه لا يسعى إلى السلطة أو المال، بل إلى رفع العقوبات وقيادة سوريا نحو مستقبل مزدهر وسلمي.
وفيما يتعلق بموقف الشرع من اتفاقات أبراهام، قال ميلز إن الأخير أبدى استعداداً للتعاون مع إسرائيل، لا سيما في ضبط الحدود ومنع تهريب الأسلحة، وأكد رغبته في بناء علاقات دبلوماسية مع جميع الدول المجاورة، من منطلق تعزيز الاستقرار والحوار الإقليمي.
وبناءً على المباحثات التي أجراها في دمشق، أوضح ميلز أنه يعتقد أن مصير المقاتلين الأجانب في سوريا سيكون إما الدمج وفق القوانين أو الترحيل.
—————————–
==================
العدالة الانتقالية تحديث 29 نيسان 2025
لمتابعة هذا الملف اتبع الرابط التالي
—————————-
العدالة الانتقالية في سورية لا تقبل التأجيل/ أحمد مظهر سعدو
29 ابريل 2025
يقول ياسين الحافظ: “برميل بلا قعر لا يُراكم”، وهو ما نستقي منه الكثير لنقول إنه في حالات الثورات والحروب الكبرى، وإبّان تغيّرات مهمّة تحدُث في الواقعين الاجتماعي والسياسي، فإن من أولويات عمليات إعادة البناء، والمسير في طريق التغيير نحو الأفضل، البدء بحيثيات إصلاحات كبرى وضرورية، تُبنى على أساسها ملاذات الحالة الجديدة المنبثقة من التغيير الكبير الحاصل. ولعلّ من أولويات ذلك عملية الاشتغال حثيثاً وسريعاً من أجل إعلاء وتشييد أساسات صلبة ومتينة، تقوم عليها تلك السياقات العامّة للمجتمع والدولة.
ولا يقوم ذلك أبداً إلا وفق وعي الضرورة، وبناء صرح السلم الأهلي، إذ يؤكّد فقهاء القانون والعدل الإنساني أن أسّ السلم الأهلي المراد إفساح المجال له كي يسود، سيكون بالضرورة انبثاق محددات متينة وقانونية وعادلة، لما يمكن تسميته أممياً بمسألة “العدالة الانتقالية”. ويبدو أن تأخّر إصدار وتشكيل الهيئة العليا للعدالة الانتقالية في سورية، بعد الحدث الكبير في الساحة السورية المتمثّل بإسقاط نظام الاستبداد الأسدي، في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، هو الذي يعيق اليوم مسيرة السلم الأهلي في سورية، ويفتح الباب على مصراعيه لانفلاتات أمنية قد تساهم بشكل عكسي في تهديم أسوار المجتمع، وتفتح الباب لمزيد من انتهاكات حقوق الإنسان والمجتمع، إذ تتبدّى هذه الانتهاكات وتتمظهر بين الفينة والأخرى، في غير مكانٍ من المدن والأرياف السورية، سواء في الساحل أو الداخل السوريين، كما هو ملاحظ، بسبب تأخّر تشكيل هيئات العدالة الانتقالية، التي تحول (بشكل مباشر وغير مباشر) من دون تحقيق العدالة، للانتقال ميدانياً إلى ما يمكن تسميتها “العدالة الانتقامية”، التي كثرت تجلّياتها ومفاعيلها أخيراً، وهو ما يؤشّر إلى وجود فراغ كبير كانت قد أحدثته حالة التأخير في تشكيل بناءات قانونية لهيئة سورية للعدالة الانتقالية، وهو الأمر الذي لم يعد يقبل التأجيل مطلقاً، وليس هناك ما هو ضروري يسبقه من بناء هيئات أو مؤسّسات سورية اليوم.
الإسراع حالياً في إنتاج هيئة (أو هيئات) للعدالة الانتقالية بات ضرورةً مجتمعية، يتحدّث عنها معظم الشارع السوري، ويتطلّع إلى محاسبة الجاني والمجرم الذي ما زال طليقاً، قبل أن يتعثّر به أهل الضحايا، ويقيمون عليه الحدّ على طريقتهم، أي بطريقة الثأر الشعبية البدائية، التي لا ترتقي أبداً إلى مرتبة سيادة القانون، ولا تواكب حالة التغيّر الكبير الثوري الذي حصل، بل إنها تعيد إنتاج حالة التصادم والاستعداء والاصطدام والتعدّي مرّات أخرى، وهي سوف تتراكم من جديد إن لم توقف مباشرةً واقعة نزيف مزيدٍ من الضحايا، حتى لو كان معروفاً عنهم أنهم مجرمون، إذ إن ما يحدّدهم مجرمين صدور قرار قضائي بعد محاكمة عادلة يريدها الجميع.
لعلّ الاستمرار في عملية المماطلة في تشكيل هيئة العدالة الانتقالية في سورية، بعد كلّ ما جرى، بات غير مفهوم، وهو لن يبني وطناً حرّاً، كما أنه إن تأخّر أكثر، سوف يعوق كثيراً أيّ حالة لإنتاج دولة المواطنة وسيادة القانون، التي حلم بها السوريون منذ خُطف الوطن السوري من الأدوات الأمنية، والعسكرتاريا السورية، تحت حكم آل الأسد، الذين فسدوا وأفسدوا البلد ونهبوا خيراته، مع صبيحة 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 1970.
ويبدو أن الوقت لا يزال ملحّاً لإصدار تشكيلات قانونية للعدالة الانتقالية منتقاة من أهل العدل والحقّ والوعي والعقلانية السياسية، ليتم بذلك إنجاز الخطوة الأهم في طريق بناء الوطن السوري والدولة السورية المدنية، قبل أن يفوت الوقت، ويجري العبث بالسلم الأهلي ممّن له المصلحة كلّها في بعثرة (وتشتيت) الواقع السوري الجديد وتخريب السلم الأهلي. وإذا كانت هناك خطوات مهمّة قد جرت في سورية، على كثير من الأصعدة، نحو إقامة الدولة الوطنية السورية، فإن هناك الكثير الكثير من المتطلّبات والضرورات التي لا يزال مطلوباً تحقيقها، وما زالت سورية في مرحلة البناء التي تحتاج مزيداً من الوعي والإدراك، وتخطّي المعوقات، التي ما انفكّت تعتبر تحدّيات كبرى ومهمّة وصعبة المراس، ليس آخرها موضوع العدالة الانتقالية، كما ليس أوّلها تعدّيات إسرائيل على مجمل الجغرافية السورية، ثمّ العزف على الوتر الطائفي ومسألة الأقليات، التي تدّعي إسرائيل أنها حامية لها، فهناك تحديات وطنية سورية كثيرة، وهناك ما يتراكم من مسارات للعديد من المتطلبات الداخلية والخارجية، وصولاً إلى حالة الوقوف على ذؤابة الفعل الوطني الممكن، وتهيئة الظروف الواقعية والحقيقة لإقامة الدولة السورية الوطنية الديمقراطية، المندمجة في الواقع العربي المحيط، وألا تبقى في حالة تنافر معه بأيّ شكل من الأشكال.
باتت صيغة العدالة الانتقالية ضروريةً ومطلوبةً بحقّ، وبسرعة، وهي وحدها (فيما لو أنجزت) يمكن أن تضع القضايا كلّها في مساراتها الوطنية الصحية، وتنتج واقعياً محدّدات العدالة الانتقالية المطلوبة والمعروفة أممياً، ومنها ما هو أهم، أيّ عبر جبر الضرر، وتحقيق العدل وإعادة الحقوق إلى أصحابها الذين وقع عليهم الظلم والحيف، وسيكون ذلك بالقانون، وليس بأساليب البلطجة، أو التعدّيات بقوة السلاح وقوة امتلاك السلطة، وهي وحدها التي سوف تهدئ النفوس وتنتج حالات المسامحة المطلوبة، بعد وصول الحقّ إلى أصحابه، ولولا ذلك، وعلى غير هذين الهدي والمسار، لا يمكن أن نخرج (نحن السوريين) في هذه اللحظة الزمنية الصعبة من عنق الزجاجة، ولا يمكن أن تشيّد بناءات الوطن الديمقراطي المبتغى، الذي ضحّى السوريون في طريقهم إليه، بما ينوف على مليون شهيد، على مذبح الحرية، وأكثر من 900 ألف معتقل، وأزيد من مليون ونصف المليون معوّق حرب، سقطوا بيد الجلّاد المستبدّ.
العربي الجديد
————————-
مواجهة الأشباح… السلم الأهلي وبناء الثقة/ سمر يزبك
29 ابريل 2025
يُستخدم مصطلح “السلم الأهلي” في سورية كما لو أنه علامة على عودة الحياة إلى طبيعتها، لكنّه توصيفٌ مُضلِّل، لا لأنه غير دقيق فحسب، بل لأنه يتغافل عن سؤال أعمق: ما معنى “الحياة الطبيعية” بعد كلّ ما جرى قبل سقوط النظام وبعده؟ وهل الصمت المتبادل بين السوريين استقرار، أم خوف مؤجَّل؟
الرهان اليوم لا يتعلّق بمنع السلاح، بل بكيفية التعامل مع ما خلّفه من انقسامات في الوعي، فما حدث لم يكن بين غرباء، بل بين أبناء الوطن الواحد، وقد ارتكز على تصنيفاتٍ حادّة: خائن، عميل، شهيد، طائفي، وطني، شبّيح. هذه المفردات، وإن تراجعت من الخطاب الرسمي بعد سقوط النظام، ما تزال حاضرةً في الأحاديث، في النظرات العابرة، وفي صمت القرى الصغيرة وخوفها المتراكم. السلم لا يُفرض من أعلى. لا تصنعه اللجان، بل يُبنى من الأسفل: من تفكيك الخوف، ومساءلة السرديات التي شرعنت العنف، وترميم الثقة بين الأفراد والمجتمعات. وحتى اليوم، لم يشهد السوريون مراجعةً حقيقيةً لما حدث، ولا اعترافاً متبادلاً بالخطأ، ولا حتى بدايةً لمسار عدالة انتقالية، ولو رمزية. الدولة والمجتمع معاً يتعاملان مع الذاكرة كأنّها عبء يُستبدل به الصمت.
في مناطق كثيرة، يُختزل “التعايش” إلى مجاورة حذرة. يتفادى الناس الصدام لا لأنهم تصالحوا، بل لأنهم أُنهكوا من الخسارات. الخوف لم يغادر، بل غيّر وجهه: هناك من يخاف من السلطة الجديدة، من الجار، من الكلمة، من نفسه. والسلطة بدل أن تكون وسيطاً راعياً للثقة، تكتفي بدور الرقيب الصامت الذي يمنع الانفجار من دون أن يزيل أسبابه. في الأحياء المختلطة طائفياً، أو تلك التي شهدت تبدّلاً في السيطرة، يظهر توتّر صامت يشبه هدنةً غير معلنة. كأن الناس اتفقوا على قاعدة ضمنية: لا نتحدّث عن الماضي، لا ننبش، لا نُكثر من الأسئلة. لكن هذا “السلام” القائم على النسيان القسري سرعان ما ينهار عند أول احتكاك، لأن ما لم يُقل لا يموت، بل يُكنس تحت البساط. ورغم تكرار مصطلح “السلم الأهلي”، تغيب أدواته الحقيقية: لا برامج لإعادة دمج وتعويض الضحايا، ولا حتى البحث عنهم بالحدّ الأدنى؛ لا إعلام يعترف بتعدّد الروايات؛ لا حوارات تشاركية، ولا نقاش عام، ولا سردية وطنية مشتركة عمّا جرى. والأسوأ أن من يطرح هذه الأسئلة يُتّهم بإثارة الفتنة، وكأنّ المشكلة في مَن يُشير إلى الجرح، لا في الجرح ذاته.
السوريون اليوم عالقون في ما يشبه “الزمن المؤجَّل”: لا عودة ممكنة إلى ما كان، ولا أدوات لتجاوز ما حدث. حالة من التجميد الرمزي تُغذّي غياب الثقة، ليس فقط بين الفرد والدولة، بل بين السوريين أنفسهم.
ليست المصالحة نصاً قانونياً، بل عملية لإعادة صياغة العلاقة بين الذات والآخر، بين الفرد والمجموعة، وبين الجماعة وسرديتها عن نفسها. في هذا السياق، تصبح الذاكرة عبئاً شخصياً. لا أحد يريد أن يسمع من الآخر ما رآه أو عاشه. ومع الوقت، يُستبدل بالألم الصمت، ثمّ التأقلم القسري. وهكذا، يتحوّل السلم الأهلي غلافاً هشّاً، أشبه بواجهة بناء مرمّمة، تخفي خلفها شقوقاً داخلية تواصل التمدّد.
بناء الثقة لا يتم بالشعارات، بل من خلال الممارسة اليومية؛ في المدرسة، حين يُسمح بتعدّد الروايات؛ في الإعلام، حين يُتخلّى عن خطاب الغلبة؛ في القضاء، حين تُفتح أول نافذة للعدالة؛ وفي السياسة، حين يُعترف بالعمق الاجتماعي للنزاع. السلم ليس غياب الحرب، بل حضور عقد اجتماعي جديد، يعترف بما جرى، ويعيد تعريف معنى العيش المشترك. وهذا لا يتحقّق من دون سياسة عامّة تجاه الذاكرة، تُقرّ بأن الوطن لا يُبنى بالنسيان، بل بالجرأة على القول. لأنّ العنف، في النهاية، لا يبدأ بالسلاح، بل بالمعنى الذي لا يُقال، وبالتاريخ الذي لا يُسأل.
العربي الجديد
——————————
ماذا وراء إفراج دمشق عن مسؤولين بنظام الأسد؟/ باسل المحمد
28/4/2025
في الوقت الذي يطالب فيه السوريون بتحقيق العدالة الانتقالية ومحاسبة المتورطين بجرائم الحرب والانتهاكات بحق أبناء الشعب السوري، لا تزال الإدارة السورية الجديدة تتبع نهجا حذرا في إقرار آليات واضحة للعدالة الانتقالية.
وفي حين تتوالى إعلانات الأمن العام القبض على عدد من المسؤولين الأمنيين والعسكريين المتهمين بارتكاب جرائم في عهد نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، أطلقت خلال الأشهر الماضية سراح عددٍ منهم أو أبرمت تسويات معهم.
ويشير المنتقدون إلى أن هذه الإفراجات لم تُسبق بأي خطوات قضائية معلنة، ولم تتبعها تبريرات رسمية.
ويعد فادي صقر أحد قادة مليشيا الدفاع الوطني من أبرز الأسماء التي أفرج عنها النظام، إضافة إلى محمد حمشو الذي يعد الذراع الاقتصادية للرئيس المخلوع، واللواء طلال مخلوف القائد السابق في الحرس الجمهوري، الذي ظهر في أحد مراكز التسويات.
كما تفاجأ السوريون بظهور وزير الداخلية الأسبق محمد الشعار على شاشة إحدى القنوات التلفزيونية بعد أيام من تسليم نفسه للأمن العام، دون معرفة ما إذا كان قد أطلق سراحه.
وترى شريحة واسعة من السوريين أن إطلاق سراح هذه الشخصيات يمثل نكسة للعدالة، ويعيد إنتاج ثقافة الإفلات من العقاب التي اتهم بها النظام المخلوع.
ويتساءل آخرون هل هذه المصالحات ضرورة أمنية أم تسوية سياسية على حساب دماء الضحايا؟ وما الذي يدفع الحكومة الجديدة لتجاوز المحاسبة في مرحلة يفترض أنها تأسيس لدولة العدالة والقانون؟
عدالة انتقامية
رغم تأكيد الرئيس السوري أحمد الشرع خلال مؤتمر النصر أنه منذ إطلاق العمليات العسكرية، لم يصدر عفواً عمن ارتكب جرائم منظمة، وأن الحكومة مستمرة بملاحقة “الرؤوس الكبيرة المجرمة”، فإن غياب المحاكمات العادلة لرموز النظام، وعدم وجود مسار واضح لتطبيق “العدالة الانتقالية” لحد الآن رغم النص عليه في الإعلان الدستوري، أدى إلى تعاظم مشاعر النقمة بين السوريين الذين فقدوا أحباءهم وتعرضوا لانتهاكات جسيمة، مما يفتح الباب واسعا لعمليات الثأر الفردي.
ويحذر مراقبون من أن سياسات العفو إن لم تقترن بمحاسبة ومكاشفة قد تتحول إلى شرارة جديدة لصراعات داخل المجتمع، مما يسهم في تقويض جهود المصالحة الوطنية، خصوصاً في مناطق لا تزال تعاني من انقسامات عميقة نتيجة لسنوات من العنف والانتهاكات.
وفي هذا السياق، كشف معهد دراسة الحرب في واشنطن، عن تصاعد لافت في وتيرة العمليات التي تنفذها مجموعات معارضة سابقة ضد عناصر من نظام بشار الأسد، في ما وصفه المعهد بـ”العدالة الانتقامية”، وذلك رداً على فشل الحكومة الانتقالية السورية في محاكمة ومحاسبة المتورطين في جرائم بحق السوريين.
ووفق التقرير الصادر في 21 أبريل/نيسان الجاري، شكّل مقاتلون معارضون سابقون في مدينة حلب “قوة مهام خاصة” هدفها اغتيال عناصر من النظام السابق، وبدأت هذه القوة بتعقبهم في أنحاء من المحافظة.
ويذكر التقرير عدداً من عمليات الانتقام منها ما وقع في محافظة حمص، عندما أقدم مقاتل (معارض سابق) في 20 أبريل/ نيسان الجاري على قتل قناص من جيش النظام، قال إنه تسبب بمقتل أفراد من عائلته خلال سنوات الحرب، حيث ذكر المقاتل أنه قدّم سابقاً شكوى رسمية ضد القناص، لكن تجاهل السلطات لقضيته دفعه لـ”أخذ العدالة” بيده.
ويشير المعهد إلى أن هذه العمليات -مهما كانت دوافعها- تعكس غياب آليات العدالة الانتقالية، وتؤكد أن تجاهل ملفات المحاسبة يعيد إنتاج دائرة العنف.
وفي 11 يناير/كانون الثاني الماضي تداول ناشطون صوراً لإعدام ميداني بحق مختار حي دمر بدمشق مازن كنينة، المتهم بالتعاون مع سرية المداهمة 215 المسؤولة عن اعتقال وقتل العشرات، إلا أن وكالة الصحافة الفرنسية ذكرت أنها لم تتمكن من التحقق من صحة الصورة والمقطع بشكل منفصل.
أولويات داخلية
يبدو واضحا من خلال مراقبة تعامل الحكومة السورية مع ملف أتباع النظام المخلوع أنها تعمل على تحقيق توازن دقيق بين ضرورات العدالة من جهة، ومتطلبات الاستقرار الأمني والاجتماعي في المرحلة الانتقالية التي تمر بها سوريا من جهة أخرى.
وبناء على ذلك، يرى مراقبون أن إطلاق سراح بعض الشخصيات، لا يعكس تجاهلاً لجرائم المرحلة السابقة بقدر ما يعبر عن محاولة لاحتواء التوترات الداخلية.
وتعليقاً على ما سبق، يوضح الباحث في مركز الحوار السوري نورس العبد الله، أن النهج العام للسلطة حالياً يتوجه نحو تحقيق الاستقرار، وتقديم أولويات القضايا الحالية على معالجة انتهاكات النظام المخلوع.
وتتمثل دوافع الحكومة السورية لاتباع هذه السياسة -بحسب حديث العبد الله للجزيرة نت- في معالجة المناطق الملتهبة والشرائح الاجتماعية التي كانت حاضنة للنظام، مما يشجع مسلحي نظام الأسد، كتلاً وأفراداً، على ترك السلاح وتسليمه، ويساعد على حقن الدماء مقابل عدم الملاحقة.
ويستدرك العبد الله أن هذا النهج قد يكون مفهوماً ومقدراً من قبل السوريين بشرط أن يستثني المسؤولين عن الجرائم الكبيرة والانتهاكات الجسيمة، وأن يكون مؤقتاً لحين البدء بمسار العدالة الانتقالية.
من ناحيته، أفاد مصدر سياسي خاص في دمشق للجزيرة نت بأن غاية الحكومة من كل هذه الإجراءات هو تثبيت أركان الحكم في هذه المرحلة، وبحسب المصدر فإن الشرع شدد في لقاءته على أهمية إعطاء الأمان لرؤوس الأموال الكبيرة التي كانت مؤيدة للنظام في سبيل تشجيعها لمتابعة عملها مقابل دعم الدولة بنسبة معينة.
وأضاف المصدر أن العفو عن بعض الشخصيات الكبيرة جاء في سياق سعي الحكومة لاستقطاب الحاضنة الشعبية التي تنتمي إليها هذه الشخصيات، لترسيخ دعائم السلم الأهلي.
وكان الرئيس الشرع أوضح في تصريحات سابقة أن هناك خيطًا رفيعًا مهمًا جدًا بين العدالة الانتقالية والسلم الأهلي، مضيفاً “إن فرطنا في حقوق الناس، فهذا سيؤثر على السلم الأهلي، وإن تشددنا بالمطالبة في حقوق الناس، أيضًا سيؤثر على السلم الأهلي، وستحصل حالة من الفزع”.
رسائل خارجية
لا تقتصر حسابات العفو عن بعض رموز النظام المخلوع على التوازنات الداخلية فقط، إذ يرى مراقبون أنها تحمل رسائل خارجية أيضاً، تسعى من خلالها الحكومة إلى تقديم نفسها للعالم كدولة تتجنب سياسات الانتقام وتحترم مبادئ العدالة الانتقالية من جهة، وتعكس صورة سوريا الجديدة البعيدة عن أن تكون نسخة عن ممارسات النظام السابق من جهة أخرى.
وبعد سقوط النظام، أعلنت الإدارة السورية الجديدة عفواً عاما عن جميع العسكريين المجندين في صفوف قوات النظام، إلى جانب إنشاء “مراكز تسوية” في جميع المحافظات لتسليم الأسلحة وتسوية أوضاعهم، بشرط عدم تورطهم في مجازر أو جرائم حرب.
وفي هذا السياق، يرى عميد كلية الحقوق في جامعة حلب، إسماعيل الخلفان، أنه بالإضافة إلى سعي الحكومة لكسب كل أطياف الشعب السوري من خلال حالات العفو عن بعض رموز النظام، فإن هذه الإجراءات تحمل رسائل سياسية خارجية، تخاطب من خلالها المجتمع الدولي.
وتستخدم سياسة العفو هذه، بحسب حديث الخلفان للجزيرة نت، كأداة دبلوماسية لتقديم الحكومة الجديدة كسلطة مسؤولة ومتسامحة مع كل فئات وطوائف المجتمع السوري، مما يعزز جهودها في الحصول على الدعم وتوسيع الاعتراف الدولي بها.
وينفي الخلفان وجود أي ضغوط دولية في هذا المجال بشكل رسمي، لأن هؤلاء الأشخاص ارتكبوا جرائم ومسؤولون عن انتهاكات، “لكن ربما يكون هناك مطالبات بشكل غير مباشر من بعض الأطراف لتقصي الحقائق وتهدئة الوضع، والتريث بالمحاسبة ليس إلا”.
ومنذ سقوط النظام، تكررت مطالبات المنظمات الحقوقية الدولية لتحقيق العدالة، ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، إذ أكد رئيس لجنة التحقيق الأممية بشأن سوريا باولو بينيرو أن اللجنة مستعدة للتعاون مع الإدارة السورية الجديدة لملاحقة مرتكبي الجرائم في عهد نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد ومحاكمتهم أمام القضاء الدولي.
وأضاف، في مقابلة صحفية في 11 يناير/كانون الثاني، أن هناك آلافا من مرتكبي الجرائم في عهد الأسد يجب محاسبتهم.
من ناحيته، قال المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسون، في إحاطة له أمام مجلس الأمن، في 12 فبراير/ شباط الماضي، إنه أوضح للسلطات المؤقتة في دمشق أن بعثته مستعدة لتقديم المشورة والدعم في مختلف المجالات، وأشار المبعوث الأممي إلى أن من مسؤولية السلطات العمل على إطار شامل لإحقاق عدالة انتقالية في سوريا.
معوقات في طريق العدالة
رغم المطالبات الشعبية بمحاكمة رموز النظام المخلوع وأتباعه من المتورطين في الانتهاكات والجرائم، فإن خبراء قانونيين يشيرون إلى وجود عقبات تواجه سوريا الجديدة في طريق تحقيق العدالة خلال هذه المرحلة، وتتمثل هذه العقبات بغياب المؤسسات القضائية المستقلة، وافتقار المنظومة القانونية إلى بنية متماسكة وموثوقة.
وفي حديثه للجزيرة نت يلخص المحامي والباحث في القانون الدولي، محمد الحربلية، هذه التحديات بالنقاط التالية:
فساد المنظومة القضائية، إذ لا يخفى على السوريين أن المحاكم الوطنية كانت أدوات في يد أجهزة الأمن لشرعنة جرائمها بحق السوريين، ولذلك فإن هذه المنظومة لا يمكن أن تؤتمن على ملف العدالة ولا تحظى أصلا بثقة السوريين.
ويتمثل التحدي الثاني بإنشاء محكمة جنائية خاصة، لأن الجرائم التي ارتكبها رموز النظام تصنف جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية.
ويحتاج النظر في هذه الجرائم -يضيف الحربلية- إلى قانون إنشاء محكمة جنائية خاصة لمحاكمة كبار المسؤولين، وهو ما يتعذر حصوله في الوقت الراهن في ظل عدم وجود سلطة تشريعية لسن هذا القانون.
بدورها، أنشأت الشبكة السورية لحقوق الإنسان قاعدة بيانات شاملة تتضمن تفاصيل الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد ومسؤولوه طيلة 14 عاما، وتضمنت القوائم أسماء 16 ألفا و200 شخص ثبتت مسؤوليتهم عن الجرائم أو ارتباطهم بها.
وفي سياق متصل، يوضح عميد كلية الحقوق في جامعة حلب، المحامي الخلفان، أن الحكومة الحالية غير قادرة على إصدار قوانين؛ لأن رئيس الجمهورية بموجب الإعلان الدستوري لا يملك صلاحية تشريعية، كما لا يوجد حالياَ مجلس شعب من أجل سن التشريعات.
لكن الخلفان شدد في هذه الحالة على ضرورة أن تطمئن الحكومة الشعب بعزمها على المحاسبة والمحاكمة لكل المجرمين، خاصة وأن الإعلان الدستوري نص على العدالة الانتقالية وعلى آلياتها، إذ كلما تأخرت معالجة هذا الملف، تزعزعت الثقة بهذه الحكومة.
وكان وزير الدفاع، مرهف أبو قصرة أكد في لقاء مع تلفزيون “العربي”، على أن التسويات لا تلغي عملية المحاسبة القانونية اللاحقة، وهي لضبط الأوضاع وعدم السماح بالفوضى، وتثبيت الوضع الحالي ريثما يتم التعاطي مع هؤلاء الأشخاص عن طريق السلطات المختصة، مؤكدا أن “من عليه قضايا جنائية أو تعذيب يجب محاسبتهم عن طريق المؤسسات القضائية”.
المصدر : الجزيرة
—————————–
نشوة العدالة الغائبة.. سيكولوجيا أهالي ضحايا النظام في سوريا/ حمدان العكله
2025.04.28
طالما كانت العدالة تطلعاً إنسانياً نبيلاً، لا ينطفئ وهجه حتى في أحلك الظروف، فهي تعبير عن التوق الإنساني للكرامة والمعنى، وقد شغلت موقعاً مركزياً في الفكر الفلسفي، منذ أفلاطون الذي رأى فيها انسجاماً بين عناصر النفس، إلى كانط الذي اعتبرها تجسيداً للإرادة الأخلاقية الحرة، فالإنسان، بطبيعته، يتوق للعدل كما يتوق للحياة، لأن غيابه يربك المعنى ويقوض التماسك النفسي والمجتمعي، وفي السياق السوري، حيث ارتُكبت جرائم ممنهجة لعقود، تتحول العدالة الانتقالية من مطلب قانوني إلى ضرورة وجودية ونفسية لأهالي الضحايا، إنهم لا ي
طالما كانت العدالة تطلعاً إنسانياً نبيلاً، لا ينطفئ وهجه حتى في أحلك الظروف، فهي تعبير عن التوق الإنساني للكرامة والمعنى، وقد شغلت موقعاً مركزياً في الفكر الفلسفي، منذ أفلاطون الذي رأى فيها انسجاماً بين عناصر النفس، إلى كانط الذي اعتبرها تجسيداً للإرادة الأخلاقية الحرة، فالإنسان، بطبيعته، يتوق للعدل كما يتوق للحياة، لأن غيابه يربك المعنى ويقوض التماسك النفسي والمجتمعي، وفي السياق السوري، حيث ارتُكبت جرائم ممنهجة لعقود، تتحول العدالة الانتقالية من مطلب قانوني إلى ضرورة وجودية ونفسية لأهالي الضحايا، إنهم لا يسعون فقط إلى إدانة الجناة، بل إلى ترميم الكرامة المهدورة واستعادة ثقتهم بعالم يعترف بالألم الإنساني، وهنا، تصبح العدالة فعل مقاومة للعبث، وأداة لإعادة بناء الذات والمجتمع، من خلال المحاسبة والاعتراف العلني بالمعاناة.
في لحظة الإعلان عن اعتقال أحد رموز النظام السوري المتورطين في جرائم ضد الإنسانية، لا تنبثق مجرد ردة فعل وجدانية بسيطة لدى أهالي الضحايا، إنما تنفجر سلسلة مركبة من التفاعلات النفسية العميقة التي تعكس تعقيد التجربة الإنسانية في مواجهة الظلم المستمر، تتقاطع في تلك اللحظة مشاعر الفرح المباغت، بوصفه بارقة من الأمل، مع الحزن العميق الذي يرسّخ استذكار الفقد، والغضب الكامن الذي يعيد إحياء صدمة الإفلات من العقاب، وأخيراً الريبة التي تطرح تساؤلاً مؤلماً: هل هذه الخطوة فعلاً بداية لمسار عدالة حقيقي، أم مجرد إجراء شكلي لا يتجاوز كونه استجابة دعائية مؤقتة؟
إنَّ هذه المشاعر المتضاربة تنبع من قاع الوعي الجمعي المثقل بجراح تاريخية لم تندمل، وكما أشار عالم النفس كارل يونغ(Carl Jung): “الظل لا يختفي، بل يواجهك حين لا تتوقعه”، إن هذه المقولة تعبّر بدقة عن حالة أهالي الضحايا الذين، في تلك اللحظة، يواجهون ظلال القهر والخذلان المتراكم، إنها لحظة اصطدام نفسي بين الماضي والمستقبل، حيث يعود المقموع إلى السطح ليطالب بالاعتراف، كما تُضيء الطبيبة النفسية إليزابيث كوبلر روس (Elisabeth Ross) هذا المشهد من خلال نظريتها حول مراحل الحزن، حيث تشير إلى مرحلة “الأمل الخادع” التي تلي مشاعر الحزن العميق، وتُغري المصاب بأن شيئاً من الإنصاف قد يتحقق، في الحالة السورية، تتجسد هذه المرحلة بوضوح في تجربة أهالي الضحايا الذين يجدون أنفسهم عالقين بين رغبة مُلحة في تصديق إمكانية العدالة، وخوف دفين من أن تكون هذه النشوة مجرد سراب، هذه المفارقة النفسية تُحدث ارتباكاً داخلياً: بين التصديق والشك، بين الرغبة في النشوة وبين الخوف من تكرار الخذلان.
وهنا تكتسب مقولة الفيلسوف الفرنسي بول ريكور أهمية خاصة، حين يقول: “العدالة هي ذاكرة المستقبل”، فالعدالة، من هذا المنظور، ليست فقط تسوية قانونية للماضي، بل هي أيضاً الضامن الرمزي لمستقبلٍ لا يتأسس على النسيان أو الإنكار، لذلك، فإن اللحظة التي يُعتقل فيها أحد الجناة يمكن أن تفهم على أنها إجراء عقابي، وفعل رمزي يحمل في طياته محاولة لاستعادة المعنى في وجه عبثية الألم. إنَّ نشوة أهالي الضحايا في هذه اللحظة ليست إذاً تعبيراً عن انتقام، بل هي استعادة رمزية لمعنى الفقد، وتأكيد على أن الغياب لم يكن بلا جدوى، كما لو أن صوت الضحية يعود في تلك اللحظة ليهمس في ضمير العالم: “أنا لم أمت عبثاً”، بهذا المعنى، تتحول لحظة الاعتقال إلى تجربة وجودية تتجاوز بعدها الإجرائي، وتغدو محطة محورية في رحلة طويلة نحو إعادة الاعتراف بالكرامة البشرية المهدورة، واستعادة الأمل بعد طول إنكار.
إنَّ الاعتقال الفردي أو المحاسبة الرمزية، مهما بدت للوهلة الأولى مشجعة، إلا أنها لا تمثل نهاية الطريق نحو تحقيق العدالة، إنما هي مجرد خطوة تمهيدية لا تكتسب معناها الكامل إلا إذا اندرجت ضمن إطار عدالة انتقالية شاملة ومتكاملة، فالمساءلة الحقيقية لا تقتصر على محاكمة الأفراد، إذ إنها تتطلب بنية مؤسساتية تكرّس الاعتراف الرسمي بالضحايا، وتضمن استمرارية المساءلة، وتُحدث تحولاً عميقاً في البنية القانونية والسياسية، لترميم الشرخ المجتمعي وإعادة بناء الثقة في مفهوم الدولة والعدالة، وإن غياب هذا المسار الشمولي يُبقي الجراح النفسية مفتوحة، ويحول دون تحقيق التعافي الفردي والجماعي، فكما يقول الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين(Giorgio Agamben): “ما لم يُقال، يعود بطريقة أخرى”، وبالمثل، فإن الألم الذي لم يُعترف به علناً يتحول إلى عبء داخلي مزمن، يعيد إنتاج ذاته في صيغ اجتماعية ونفسية معقدة، في هذا السياق، تصبح لحظة “نشوة العدالة” — أي تلك الاستجابة العاطفية الأولى التي تعقب خبر المحاسبة — مجرد ومضة عابرة، لا تملك القوة الكافية لتغيير البنية النفسية العميقة التي تشكلت على مدار سنوات القمع والخذلان.
وقد أكدت الدراسات النفسية المعاصرة، لا سيما في حقل علم النفس الصدمي(Trauma Psychology)، أن غياب العدالة المستقرة والمُعترف بها مؤسسياً يؤدي إلى ما يُعرف بـالصدمة المستمرة أو الصدمة المعقدة (Complex Trauma)، وهي حالة يعيش فيها الأفراد في حالة دائمة من الترقب واللايقين الوجودي، مما يؤثر على توازنهم النفسي، وسلوكهم الاجتماعي، وحتى رؤيتهم لذاتهم والعالم من حولهم، فالعدالة المؤجلة لا تشفي الجرح، بل تُعيد إنتاجه في أشكال أكثر خفاءً، لأنها تُخفيه خلف أقنعة جديدة من الإنكار أو الإنهاك أو الانفصال العاطفي.
ختاماً، إن نشوة أهالي الضحايا ليست سوى لحظة مركبة من الانفجار العاطفي الذي ينطوي على عمق تاريخي وشخصي شديد التعقيد، هي لحظة قد تحمل في طياتها بوادر شفاء، لكنها لن تكون كافية من دون خطوات مؤسسية عادلة، صادقة، ودائمة، كما قال أرسطو: “العدالة هي الفضيلة الكاملة، لأنها تمارس لا من أجل الذات، بل من أجل الآخر”، وبهذا المعنى، فإن تحقيق العدالة في سوريا هي من أجل الضحايا، ومن أجل إنسانية الجميع، وهي وضرورة نفسية وأخلاقية لا غنى عنها من أجل ضمان سلام داخلي حقيقي، وإعادة نسج علاقة صحية بين المواطن والدولة، وبين الفرد وتاريخه الشخصي والجمعي.
تلفزيون سوريا
—————————–
سوريا المرعوبة من العنف الطائفي تحلم بالعدالة الانتقالية/ عبد الحليم سليمان
50 قتيلاً في حمص وحدها خلال شهر واستمرار عمليات الانتقام بأرياف اللاذقية وطرطوس وحماة
الثلاثاء 29 أبريل 2025
منذ بداية مارس الماضي دخلت سوريا نفق الانتقام الطائفي، خصوصاً بعد الأحداث التي شهدها الساحل السوري، فيما تجري أعمال عنف في مناطق أخرى بصورة انتقائية، وسط غياب تشكيل هيئة خاصة بالعدالة الانتقالية في البلاد، مما يزيد من مخاوف شرائح سورية مختلفة من تداعيات تلك الجرائم على الصعيدين الداخلي والخارجي.
حينما بدأت إدارة العمليات العسكرية التي قادتها “هيئة تحرير الشام” بزعامة الرئيس السوري الحالي أحمد الشرع بشن العملية العسكرية تجاه ريف حلب والسيطرة على المدينة ثم حماة وحمص وانهيار النظام في العاصمة وبقية المناطق التي كان يسيطر عليها قبل قرابة ستة أشهر، كان التسامح وعدم الانتقام الفوري سمة عامة لتحرك لتلك الفصائل السورية المنضوية ضمن تلك الغرفة العسكرية المعارضة.
الرئيس السوري عند وصوله إلى سدة الحكم وبقصد بث الطمأنينة بين السوريين رفع شعار تحقيق العدالة الانتقالية من خلال كلمته في مؤتمر “الحوار الوطني”، معلناً نيته تشكيل هيئة لتحقيق العدالة الانتقالية في البلاد، لكن عقب ذلك بأيام وبالتحديد في السادس من مارس (آذار) الماضي شهد الساحل السوري عمليات قتل واسعة طاولت المدنيين في ما عرف بـ”أحداث الساحل” التي غلب عليها طابع القتل الطائفي للسوريين العلويين من قبل الفصائل المسلحة إثر تعرض عناصر قوى الأمن العام الحكومية للاعتداء من قبل مسلحي “فلول النظام السابق”.
تقدر التقارير الحقوقية ومراكز الرصد والتوثيق عدد القتلى جراء الأحداث التي وقعت في بدايات مارس الماضي بنحو 1700 شخص بينهم شيوخ ونساء وأطفال، بل إن عائلات كاملة قضت نحبها جراء تلك الهجمات، خصوصاً في أرياف الساحل السوري، في حين أن الآلاف من العلويين فروا إلى لبنان، وآخرون التجأوا إلى القاعدة الروسية في حميميم، وفريق ثالث ترك منازله وتوارى في الأحراش والغابات المجاورة لقُراه.
الانتقام الانتقائي يتسع
كذلك توالت عمليات القتل في الأيام التالية، إذ سجل المرصد السوري مقتل نحو 50 شخصاً خلال شهر أبريل (نيسان) الجاري فقط في مدينة حمص ومناطقها، وذلك على خلفية الانتماء الطائفي، وجاء في تقرير صادر عنه السبت الماضي، أنه “مع غياب العدالة الانتقالية تحولت الهوية الطائفية أداة للصراع والتحريض مما يسهم في خلق بيئة خصبة للعداوات المستمرة، ويعرقل جهود بناء سلام مستدام قائم على العدل والمواطنة المتساوية”. وأوضح أن المرصد السوري وثق منذ مطلع الشهر الجاري مقتل 49 مواطناً، هم 42 رجلاً و6 سيدات وطفل في محافظة حمص نتيجة استمرار العمليات الانتقامية على أساس طائفي في حق أبناء الطائفة العلوية، وفي ظل التجييش الطائفي الذي يؤدي إلى تأجيج الانقسامات وفتح الباب أمام عمليات انتقامية مدمرة تعصف بالحياة المدنية.
وعلى رغم تشكيل لجنة تحقيق مستقلة بقرار من الرئاسة السورية في التاسع من مارس الماضي للتحقيق في أحداث الساحل، فإن نتائج هذه التحقيقات لم تعلن بعد، لا سيما أن الرئاسة مددت مهمة عمل اللجنة لثلاثة أشهر تالية على أمل أن تنهي أعمالها خلال هذه الفترة.
وتطالب الأطراف الدولية دمشق بالتسريع في إعلان نتائج التحقيقات والحد من أعمال العنف التي تحدث على أساس طائفي، وخصوصاً في الساحل السوري، وبرزت تلك المواقف الدولية بصورة جلية في جلسة مجلس الأمن الخاصة بالملف السوري في الـ25 من الشهر الجاري، والتي حضرها وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، وقدم فيها المبعوث الأممي الخاص غير بيدرسون إحاطة عن مجمل الأوضاع، وركز فيها على أحداث العنف التي حدث في الساحل، وقال إنه التقى أفراداً من الطائفة العلوية أثناء وجوده في دمشق خلال الفترة الماضية، وسمع منهم روايات مروعة عن العنف الذي حدث.
من جهتها قالت القائمة بأعمال المندوب الدائم للولايات المتحدة في مجلس الأمن دوروثي شيا إنهم يتوقعون جراء قرار السلطات الموقتة تمديد ولاية لجنة التحقيق المستقلة في شأن أعمال عنف الساحل، استغلال هذا الوقت في زيارة جميع المواقع التي ارتكبت فيها “الفظائع” ومقابلة أكبر عدد ممكن من الناجين وإعداد تقرير شامل يفضي إلى اتخاذ إجراءات من قبل السلطات الموقتة، كما يتوقعون أيضاً محاسبة جميع الجناة، وبخاصة الشخصيات البارزة أو الذين يشغلون مناصب قيادية، موضحة أن “هذا سيرسل رسالة واضحة إلى جميع السوريين مفادها ألا أحد فوق القانون في سوريا الجديدة”.
وأشار الممثل الدائم لروسيا لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا إلى أن المناطق الساحلية في سوريا لم تتعافَ بعد من الأحداث المأسوية الأخيرة، موضحاً أن نتائج عمل لجنة التحقيق وتقصي الحقائق “ستشكل أساس العلاقات المستقبلية بين دمشق والمجتمع العلوي، وكذلك الأقليات العرقية والدينية الأخرى”.
تأخر نحو المجهول
إلى جانب هذه المواقف الدولية تنتاب السوريين الخشية من استمرار دوامة العنف في حال استمرار عمليات الانتقام كالتي تحدث في مناطق مختلفة في البلاد، وقال مصدر سوري رفض الكشف عن هويته لدواعٍ أمنية، إن حالات انتقاء انتقامية تحصل في مناطق عدة في سوريا، بما فيها أحياء في العاصمة دمشق من عناصر غير معروفة، وغالباً تحدث في ساعات الليل، وغالبية هؤلاء من المتورطين في أحداث عنف مع النظام السابق، في حين ترفض الجهات الحكومية التعليق على مثل هذه الأحداث.
لكن الأكثر إثارة لمخاوف السوريين هو استمرار عمليات الانتقام في المناطق التي يقطنها العلويون، لا سيما في أرياف اللاذقية وطرطوس وحماة وحمص، بخاصة أن هذه الأعمال تجري بصورة متكتمة ومن دون الكشف عن ملابساتها لوسائل الإعلام، وفي حادثة في العاصمة دمشق قتل أربعة أشخاص بمسدسات كاتمة للصوت، وكشف نشطاًء المرصد السوري لحقوق الإنسان تفاصيل الحادثة المريبة، حيث دخل مسلحون مجهولون يستقلون سيارة من نوع “سنتافيه” إلى حي “عش الورور” في دمشق، واجتازوا حواجز الأمن العام عند المدخلين الرئيسين للحي، واغتالوا أربعة مواطنين من الطائفة العلوية، وهم أعضاء مجلس صلح لحل النزاعات الصغيرة في الأحياء، من دون استدعاء الأمن العام، بحسب المرصد.
ووفق إحصاءات المرصد، فقد بلغ عدد ضحايا السلوكيات الانتقامية والتصفية منذ مطلع عام 2025 في محافظات سورية متفرقة 558 شخاصاً لدواعٍ طائفية في الغالب.
هذه الأعمال تشكل عقبة كبيرة أمام سوريا الجديدة في مجالات عدة، لا سيما الاجتماعية والسياسية، فما جرى في الساحل السوري يرقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، حيث تسلمت النيابة العامة الفرنسية في بداية أبريل الجاري دعوى قضائية ضد رئيس الجمهورية العربية السورية أحمد الشرع وعدد من وزرائه بتهمة “الإبادة الجماعية والتطهير العرقي” وارتكاب جرائم ضد الإنسانية بسبب تلك الأحداث، وهي مقدمة من قبل المحامي بيدرو أندروجار نيابة عن “التجمع الفرنسي – العلوي”، وفي حال قبول الدعوى من قبل القضاء الفرنسي وتمكُّن المحققين من إثبات الأدلة فإن من شأن ذلك فتح الباب أمام الولاية القضائية العالمية للمحاكم الفرنسية.
يقول الكاتب الصحافي السوري سلام حسن لـ”اندبندنت عربية” إن تأخر العمل على العدالة الانتقالية ربما يفاقم من سوء الأوضاع، ومع غياب القانون وغياب وجود سلطة مركزية للدولة على كافة المساحة السورية، إضافة إلى وجود السلاح المنفلت وغير المنضبط والفصائلية، سيتأخر اللجوء إلى المحاكم، معتقداً أن السير نحو العدالة الانتقالية سيترافق عكسياً مع نسبة الجرائم أو الانتهاكات أو الأفعال الانتقامية والثأرية، “فكلما اتجهنا نحو القانون والدولة والعدالة الانتقالية ستقل هذه الأفعال في المدى المنظور لأن العنف لا يولد إلا العنف والأحقاد”.
———————————–
الجالية السورية في واشنطن: موافقة أميركية مبدئية على دراسة تعليق العقوبات على سوريا
28 أبريل 2025
كشف عضو الجالية السورية في الولايات المتحدة، محمد غانم، أن رئيس لجنة العلاقات الخارجية وعضو لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأميركي، جيم ريش، وافق على دراسة تعليق العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا، وذلك في إطار دعم جهود التعافي الاقتصادي خلال المرحلة الانتقالية التي تشهدها البلاد.
وأوضح غانم في منشور عبر حسابه الرسمي على “إكس” أن هذا الاجتماع هو الثاني من نوعه مع المشرع الجمهوري خلال نيسان/أبريل الجاري، مضيفًا أنه نُظم بمشاركة “مجموعة شخصيات من خلفيات عدة مسلمة ومسيحية، نساءً ورجالًا”. كما تخلل الاجتماع مشاركة عضو لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب كوري ميلز، الذي تحدث عن “انطباعاته الإيجابية ومشاهداته واجتماعاته مع الرئاسة والحكومة في سورية وما دار بينهما من نقاشات”، خلال زيارته التي أجراها مؤخرًا إلى دمشق.
وأضاف غانم أن الجالية السورية في واشنطن شددت “على ضرورة رفع العقوبات بشكل كامل” عن سوريا، مؤكدًا أن هذه الخطوة ستسهم في “إعادة الاستقرار لبلد شهد تدميرًا ممنهجًا”، حيثُ جرى التنويه خلال الاجتماع إلى الأوضاع الاقتصادية والإنسانية المأساوية في سوريا.
وشدّد المشاركون على أهمية تبني واشنطن سياسة داعمة لإعادة بناء سوريا، بالإضافة إلى تسهيل عودة اللاجئين بتأمين السكن وفرص العمل والتعليم، مؤكدين على ضرورة “الحفاظ على مكاسب طرد إيران وحزب الله وتقليص النفوذ الروسي”، فيما أكد المشرع الجمهوري على أهمية ربط تخفيف العقوبات بالتزام الإدارة السورية الجديدة بتعهداتها الدولية.
وبحسب منشور غانم، فإن ريس وافق خلال الاجتماع على “دراسة تعليق كافة العقوبات على سوريا”، وذلك بهدف “إعطاء البلد الفرصة التي تحتاجها حاليًا”، لافتًا إلى أن هذا “هو التغيير الثاني” الذي تحققه الجالية السورية في التأثير على موقف المشرع الجمهوري خلال شهر واحد.
وبالإضافة إلى ملف العقوبات الأميركية، بحث المجتمعون أيضًا “استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين وإعادة افتتاح السفارات والقنصليات”، حيثُ أكد ريش أنه سيتم مناقشة جميع هذه القضايا خلال اجتماعه مع وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو.
وكان ميلز قد قال في مقابلة مع “التلفزيون العربي” إنه ناقش مع الرئيس السوري، أحمد الشرع، مجموعة من المسائل الأمنية لفهم طبيعة الانتقال السياسي في سوريا نحو الحوكمة والديمقراطية الحرة في مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد.
كما كشف أنهما تطرّقا إلى علاقة سوريا مع إسرائيل، موضّحًا أن الرئيس السوري عبّر عن انفتاحه على تحسين العلاقات مع إسرائيل، والانخراط في حوار معها، وربما الانضمام إلى “اتفاقيات أبراهام”.
وبحسب ميلز، فإن الشرع أبدى استعداده لاتخاذ خطوات تحول دون نقل الأسلحة عبر الأراضي السورية لمهاجمة إسرائيل، مؤكدًا سعيه إلى بناء علاقات جيدة مع جميع الدول المجاورة. وفي السياق ذاته، أشار إلى أن الشرع أعرب عن مخاوفه من محاولات إيران زعزعة استقرار سوريا.
ولفت ميلز إلى أنه تطرق خلال المحادثات مع الشرع إلى العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا في عهد النظام السابق، مؤكدًا أن رفع العقوبات مسألة تعود إلى إدارة ترامب، وترتبط بجملة من المعايير يجب على الإدارة السورية ضمانها.
وشملت هذه المعايير، وفقًا لميلز، ضمان ألا تصبح سوريا أداة بيد النظام الإيراني، وأن تكون واشنطن قادرة على تنفيذ العمليات في الإقليم، بالإضافة إلى وقف أشكال الاضطهاد القائم على النوع الاجتماعي، والمعتقد الديني. وأضاف مشددًا على أن الوصول إلى “شرق أوسط مستقرّ، يستلزم وجود دول مثل سوريا على طاولة المفاوضات”.
———————————
مستقبل سوريا: هل يحكم “الشرع” الفراغ بعد إسقاط “الأسد”؟/ أحمد منصور
سوريا ما بعد “الأسد” و”الشرع”: تقاطع المصالح الدولية وتحديات السلطة الفصائلية في المرحلة الانتقالية
2025-04-28
يمثل سقوط نظام الأسد وتنصيب أحمد الشرع على رأس السلطة الانتقالية منعطفاً حاسماً، إلا أن طبيعة هذه السلطة المنبثقة عن تحالفات فصائلية هي بذاتها متباينة من حيث إختلاف التكوين والمصالح، تثير تساؤلات جوهرية حول شرعيتها ومدى استقرارها وقدرتها على إدارة المرحلة الانتقالية المعقدة، تستطيع أنْ تحكم الفراغ بعد إسقاط الأسد.
إذا بدلاً من سلطة مركزية قوية تعيد هيكلة مؤسسات الدولة، وتنقل ولاءها من مراكز النفوذ في الدولة إلى الدستور والحكومة، مع مراعاة ضرورة تطوير أدائها لخدمة واقع إداري جديد يضمن استقرار سوريا، نجد أن سوريا تم وضعها أمام وبين سلطة حديثة العهد، مدعومة بتحالفات فصائلية، لكل منها أجندتها ومصالحها الخاصة.
هذا الواقع الجديد يفرض تحديات مضاعفة. فالسلطة الجديدة تفتقر إلى التجربة الإدارية والسياسية اللازمة لحكم البلاد، وبالتالي قد تكون عرضة للانقسام والتناحر الداخلي بين الفصائل المكونة لها. كما أن شرعيتها قد تكون موضع شك من قبل قطاعات واسعة من المجتمع السوري، التي لم تشارك في عملية إختيارها و تنصيبها أو ترى فيها ممثلاً حقيقياً لتطلعاتها.
في هذا السياق، يزداد تعقيد تفاعل الجهات الدولية والإقليمية. فبدلاً من التعامل مع سلطة مركزية منتخبة واضحة المعالم، أصبح يتعين عليهم التعامل مع ائتلاف هش من الفصائل، لكل منها دعم محلي وإقليمي ودولي مختلف. وقد يؤدي هذا إلى نشوب صراعات بالوكالة وتصعيد التوترات الإقليمية.
ووفق تباين المصالح الدولية لا بدَّ من تسليط الأضواء على دور تلك الدول ومنها:
الولايات المتحدة، التي تصر على الإبقاء على العقوبات، قد تنظر إلى هذه السلطة الفصائلية بعين الريبة، خشية من عدم قدرتها على فرض الاستقرار أو تحقيق تغيير حقيقي، أو من وقوعها تحت نفوذ أطراف لا تتوافق مع مصالحها.
روسيا، من جهتها، قد ترى في هذا الواقع فرصة لتعزيز نفوذها من خلال دعم فصائل معينة أو لعب دور الوسيط بينها.
الصين، كعادتها تركز على ضمان مصالحها الاقتصادية، وقد تتعامل بحذر مع سلطة غير مستقرة.
الاتحاد الأوروبي، يقدم مساعدات إنسانية، قد يجد صعوبة في توجيه هذه المساعدات بشكل فعال في ظل وجود سلطة فصائلية غير مركزية.
دول الخليج متناقضة المصالح، التي قد تكون دعمت بعض هذه الفصائل في السابق، قد ترى في هذه السلطة الجديدة فرصة لتحقيق أهدافها الإقليمية وفي منأى عن مصالح جيرانها، لكنها قد تخشى أيضاً من عدم استقرارها.
تركيا، التي لها نفوذ مباشر على فصائل معينة على الأرض السورية، ستلعب دوراً حاسماً في تشكيل مستقبل هذه السلطة. فدعمها أو معارضتها لفصائل معينة يمكن أن يحدد مسار المرحلة الانتقالية بأكملها.
نقاط التوافق بين هذه الأطراف ستكون أكثر صعوبة في التحقق في ظل وجود سلطة ذات خلفية فصائلية . فلكل طرف أجندته الخاصة فيما يتعلق بالفصائل التي تدعمها أو تعارضها.
مواقف دولية وإقليمية
رفض الولايات المتحدة رفع العقوبات سيضاعف من التحديات التي تواجه هذه السلطة الفصائلية، حيث ستجد صعوبة أكبر في الحصول على الموارد اللازمة لإدارة البلاد وتلبية احتياجات الشعب.
وبالنسبة إلى المساعدات الأوروبية والإماراتية قد تكون حاسمة في هذه المرحلة، لكنها قد تكون مشروطة بمدى قدرة السلطة الجديدة على تحقيق الاستقرار وإظهار قدرتها على الحكم.
في الختام
يبقى مستقبل سوريا في ظل هذه السلطة الفصائلية يبدو أكثر غموضاً. حيث هناك خطر حقيقي من تفكك الدولة أو استمرار حالة عدم الاستقرار مع إمكانية نشوء الصراع بين الفصائل. ومدى قدرة هذه السلطة على تجاوز نقاطها الخلافية و خلافاتها وبناء تقاطع المصالح مع عموم المجتمع السوري، وكسب ثقة الشعب السوري والمجتمع الدولي، تلك المسائل سوف تكون حاسمة في تحديد مسار البلاد نحو الاستقرار أو الفوضى.
ضمن هذا التصور، أعتقد أنه يتوجب على السياسيين ورجال الاقتصاد والأعمال والنخب الفكرية والثقافية دراسة ديناميكيات وأبعاد وحيثيات هذه السلطة الفصائلية بعناية، من حيثية وطنية حيادية بعيداً عن الانحياز والمواربة، وتأثيرها على المصلحة السورية، وهل تتجه نحو الاستقرار أم لا. ويتخلل ذلك وضع استراتيجيات مرنة للتعامل مع هذا الواقع المعقد، مع التركيز على تركيا والحوار الشامل الذي يضمن تمثيل جميع أطياف الشعب السوري. وهذا أهم ما تحتاجه سوريا اليوم:
——————————–
تحولات الملف السوري من أوباما لترامب/ رياض معسعس
تحديث 29 نيسان 2025
انطلاق الثورة السورية في آذار 2011 كان لها أكبر الأثر في التحولات الكبرى التي شهدتها سوريا على مستويات متعددة.
النظام البائد الذي كان مطمئنا برسوخ حكمه لها، كونه أنشأ 14 جهازا استخباراتيا يعدون أنفاس كل مواطن سوري عدا، وأرهب الناس بمجازر ومعتقلات لم تشهد حتى العصور الوسطى لها مثيلا، وإطلاق شعاره بثقة وثبات: «الأسد إلى الأبد»، لكن الأبد الأسدي كان وهما، فبعد نصف قرن ونيف من حكم سوريا بالحديد والنار، سقطت ورقة التوت عن عورته وهوى واندثر. فما عاشته سوريا خلال هذه الفترة ستدخل كفترة سوداء قاتمة السواد في تاريخ سوريا، لكن الفترة منذ بداية الثورة ولغاية يوم النصر في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024 تعتبر أكثر قتامة، وإجراما، وإيلاما، وتشريدا، وتجويعا. وخلال هذه الفترة التي تعاقب عليها ثلاثة رؤساء للولايات المتحدة اتخذ كل واحد منهم مسارا يختلف عن الآخر ولو أن الثلاثة لم يغيروا في الواقع السوري بشيء يذكر.
في 31آب/ أغسطس فاجأ نظام الأسد العالم أجمع باستخدامه الأسلحة الكيماوية في الغوطة الشرقية في مجزرة مروعة راح ضحيتها أكثر من 1500 شخص جلهم من الأطفال، وقد أثارت موجة سخط عالمية، وتهديدا من الرئيس الأمريكي باراك أوباما بأن استخدام الأسلحة الكيميائية خط أحمر وكانت تستدعي تدخلا عسكريا. ورغم محاولة النظام إنكارها وإلصاق التهمة بالمعارضة المسلحة (صرحت مستشارة المخلوع ـ التي كانت أولى الهاربين بعد سقوطه ـ بأن المعارضة خطفت 500 طفل من جبال العلويين وساقتهم إلى الغوطة ورمتهم بالسلاح الكيماوي) إلا أن الدلائل لم تكن تخطئها عين بصيرة للتأكيد على مسؤولية النظام الأسدي. لكن تهديدات أوباما كانت كلام ليل سرعان ما محاه النهار. وذريعته في ذلك هو أن سياسته لا ترغب توريط أمريكا في الشرق الأوسط بعد فضيحة حرب العراق التي تسبب فيها سلفه جورج بوش الابن. لكن في واقع الأمر كان اهتمامه منصبا على توقيع اتفاق نووي مع إيران ولا يريد أن يغضبها بضربة عسكرية على حليفها الأسدي الذي طلب من إيران جلب كل الميليشيات الطائفية لحماية نظامه، بمن فيها فيلق القدس من الحرس الثوري، وحزب الله اللبناني اللذان كانا يعلنان أن مقاومتهما هي لتحرير القدس، وتبين أنهما تاها الطريق فوجدا أنها تمر من دمشق قبل القدس. (وهذا الخطأ القاتل الذي ارتكبه حزب الله في المشاركة في مقتلة الشعب السوري، وأودى به في نهاية الأمر إلى ما نراه اليوم). وقد نجح أوباما في توقيع الاتفاق مع إيران في العام 2015، وأخفق استراتيجيا في ردع النظام السوري ومعاقبته، وإفساح المجال أمام روسيا لتكون الفاعل الأهم في المعضلة السورية، من ناحية أخرى تردد أوباما في اختيار الطرف الصحيح على الأرض لدعم الثورة السورية، ففي البداية قامت الإدارة الأمريكية بدعم الجيش السوري الحر بخطة لتدريب وتجهيز 15 ألفا من عناصره، لكنه ألغي أيضا في العام 2015 لصالح دعم قوات سوريا الديمقراطية «قسد» بحجة مواجهة «داعش» التي انتشرت سريعا واحتلت مساحات واسعة في العراق والشام. وهذا ما أدى إلى ضربة كبيرة لوحدة الأراضي السورية بعد أن قامت قسد ببسط سيطرتها على ربع مساحة سوريا تقريبا شرق الفرات الغنية بالنفط والغاز والمياه، وتسببت بمواجهات مسلحة مع قوات المعارضة السورية المدعومة من تركيا التي لا ترغب في قيام دولة كردية على حدودها، ولا تزال القوات الأمريكية إلى اليوم متمركزة في سوريا في 17 قاعدة عسكرية، ويخطط الرئيس الحالي دونالد ترامب بسحبها بعد الاتفاق المعلن بين قسد والحكومة السورية في دمشق.
لم يكن ملفّ سوريا من اهتمامات دونالد ترامب في نسخته الأولى في البيت الأبيض، وبدا أنّ أولوياته في السياسة الخارجية لا تأخذ بعين الاعتبار أهميّة التحوّلات السورية وتداعياتها على التوازنات الدولية. بل عبّر عن ضيق من المسألة السورية برمّتها، وتبرّم من وجود قوات أمريكية هناك، وكان على وشك سحبها في العام 2018. ولم يكن بأفضل من أوباما بالتزام أمريكا بخطوطها الحمراء فيما يخص استخدام الأسلحة الكيميائية في مقتلة الشعب السوري، ففي صباح يوم الثلاثاء في 4 نيسان/أبريل، قام النظام الأسدي بارتكاب ثاني أكبر مجزرة بالسلاح الكيماوي (غاز السارين) في مدينة خان شيخون بقصف بطائرات سوخوي 22 بأربعة صواريخ محملة بالغاز القاتل فسقط ما لا يقل عن 91 شخصا، وإصابة أكثر من 520 آخرين جلهم من الأطفال والنساء فاجأهم الغاز السام وهم نيام. وأكدت لجنة منظمة حظر الأسلحة الكيميائية والأمم المتحدة مسؤولية النظام عنها. عندما تلقى ترامب النبأ لم يجد في جعبته سوى تشبيه الأسد بـ«الحيوان»، وفي جعبة أمريكا سوى رد فعل – لحفظ ماء الوجه ـ بقصف مطار الشعيرات الذي انطلقت منه الطائرات المغيرة والذي لم تتضرر منه سوى بعض الطيور المتواجدة حول أحد المدارج. فترامب لم يكن يرغب بفتح جبهة جديدة في سوريا من ناحية، وإغضاب صديقه فلاديمير بوتين حليف الأسد الأول الذي مد إليه يد العون في مقتلة السوريين. ولم يمكن لترامب التهرب من الجرائم الأسدية الفاقعة التي فجرها «قيصر» (وهو الاسم المستعار للمصور فريد المذهان الذي سرب أكثر من 50 ألف صورة لجثث ضحايا قتلوا تحت التعذيب) هذه الصور دفعت مجلس الشيوخ ومجلس النواب الأمريكي للموافقة على قانون «قيصر» في 17 كانون الأول/ديسمبر 2019 الذي بموجبه تطبق أمريكا عقوبات على النظام السوري وحلفائه الاقتصاديين والعسكريين، واضطر ترامب للتوقيع عليه، والذي لا يزال ساريا حتى اليوم. لكن بالمقابل قدم الهدية الثمينة لدولة الاحتلال باعتراف أمريكا لسيادتها على الجولان السوري وكأن الجولان ملك لأمريكا تماما كما يدعو اليوم لاحتلال غزة وتحويلها إلى ريفيرا كأي مشروع عقاري.
ما بين النسخة الترامبية الأولى، والنسخة الترامبية الثانية مرت مرحلة جو بايدن كمرحلة باهتة فيما يخص الملف السوري بل أبدى بايدن بعض التسهيلات للنظام الأسدي، وبغض الطرف عن بعض الانتهاكات التي ارتكبتها بعض الدول العربية التي كانت تسعى للتطبيع مع نظام الأسد وتعويمه، وإعادته إلى حضن الجامعة العربية، متغاضيا عقوبات «قيصر»، وعقوبات (كبتاغون1 وكبتاغون2 وهي عقوبات ضد النظام السوري الذي كان أكبر مصدر لصنع وتصدير مخدرات الكبتاغون) مع عودة ترامب إلى البيت البيضاوي وجد أن سلفه بايدن قد ترك له أربعة ملفات ساخنة: (سقوط نظام الأسد، وفرار «الحيوان» إلى موسكو، وحرب أوكرانيا، وحرب غزة، ومواجهة الصين). ترامب يحافظ على عدم اكتراثه بالملف السوري إذ صرح على الفور:» لا ينبغي للولايات المتحدة أن تكون لها أيّ علاقة بما يحدث، هذه ليست معركتنا، لندع الأمور تجري، دون أن نتدخّل».
وفي واقع الأمر فإن سقوط النظام المخلوع سهل عليه المواجهة مع إيران بعد خسارة مواقعها في سوريا، وهزيمة حزب الله، وفي تغير لافت بدأ بسحب نصف القوات الأمريكية وتفكيك بعض القواعد العسكرية، ودفع قوات سوريا الديمقراطية لإبرام اتفاق مع إدارة دمشق الجديدة، والاتفاق مع صديقه رجب طيب أردوغان، الذي دعم الإدارة الجديدة في سعيها لإسقاط الأسد، بأن يدع له الشأن السوري، واليوم الإدارة السورية الجديدة بانتظار قرار ترامب برفع العقوبات المفروضة على النظام المخلوع التي ليس للإدارة الجديدة فيها ناقة أو جمل لكنه لايزال يماطل، ولا يرى في الاعتداءات التي تقوم بها دولة الاحتلال على سوريا أية غضاضة بل يلتزم الصمت كما يلتزمه في مقتلة الشعب الفلسطيني في غزة.
كاتب سوري
———————-
ما المطلوب من النظام السوري الجديد؟/ محمد عايش
تحديث 29 نيسان 2025
النظام الجديد في سوريا يُقدم التنازلات المجانية يومياً منذ توليه السلطة، وكلما انتقد أحدٌ هذه التنازلات، فإن الرد الوحيد لا يتجاوز عبارة «لن ندخل في حرب من أجل أحد»، في إشارة بطبيعة الحال إلى إسرائيل التي تشنُ اعتداءات يومية على سوريا ولبنان وأماكن أخرى من العالم العربي، إلى جانب الضفة الغربية وغزة.
وواقع الحال أنه لا أحد يريد من سوريا الجديدة أن تدخل في حرب، لا مع إسرائيل ولا مع غيرها، ولكنَّ الغاضبين في المقابل ينتقدون التنازلات المجانية اليومية، التي يُقدمها النظام الجديد، من دون أي مقابل، والتي وصلت إلى إبداء الموافقة على التطبيع مع إسرائيل، على الرغم من أن هذه الأخيرة تحتل مساحات واسعة من الأراضي السورية، وتشن ضربات يومية ضد مواقع في العمق السوري، بما في ذلك العاصمة دمشق، من دون أن يصدر أي تعليق من النظام الجديد.
ثمة مساحة واسعة بين التنازل الكامل (الانبطاح) والحرب الشاملة، وثمة مساحة واسعة للحركة بعيداً عن الحرب، بل إن العديد من دول المنطقة التي تقيم علاقات مباشرة مع إسرائيل، قدمت المساندة والدعم للفلسطينيين في هذه الحرب، مما لم يقدمه نظام أحمد الشرع في سوريا، وهو ما يدفع الكثيرين لتوجيه سهام النقد. خلال أسبوع واحد تلا سقوط نظام بشار الأسد، احتلت إسرائيل من الأراضي السورية ما تزيد مساحته عن قطاع غزة كاملاً، كما توغلت في مناطق استراتيجية وسيطرت عليها بشكل كامل، بما فيها قمة جبل الشيخ، واجتازت إسرائيل خطوط الهدنة المتفق عليها منذ عام 1974، كما قامت إسرائيل بتدمير القوة الجوية السورية بشكل كامل، ونحو 80% من القدرات العسكرية الإجمالية للدولة السورية، وهذه اعتداءات غير مسبوقة ضد السوريين، ولم يصدر أي تعليق بهذا الصدد عن النظام السوري؛ بل إن ما تسرب هو، أن دمشق أصبحت مستعدة لإبرام اتفاق سلام مع تل أبيب، حسبما أعلن عضو في الكونغرس الأمريكي مؤخراً.
ليس مطلوباً من النظام السوري الجديد، أن يخوض حرباً مع أحد، ولا أن يبني علاقات متوترة مع الدول الغربية، ولا أن يظل حبيس العقوبات الأجنبية، ولا أن يكون في مواجهة مع الدول العربية؛ لكن المطلوب منه أن يُعلن رفضه واستنكاره للتوسع الإسرائيلي الاستعماري، وأن يتبنى موقفاً حازماً وواضحاً بأن أي اتفاق سلام مع إسرائيل لا يُمكن إنجازه، إلا بالكف عن الاعتداءات التي تتعرض لها الأراضي السورية، ويتعرض لها المواطنون السوريون داخل بلدهم، وأن يكون أي تطبيع مع إسرائيل مشروطاً بالانسحاب من الأراضي السورية المحتلة، والتخلي عن سياسة الهيمنة الإسرائيلية في المنطقة. يُضاف إلى ذلك أنه من المعيب أن تقوم أجهزة الأمن السورية باعتقال شخصيات فلسطينية من قيادات الصف الأول للاجئين، الذين يعيشون في ضيافة الشعب السوري بأمان وإكرام منذ ستة أو سبعة عقود، وأغلب هؤلاء من المولودين داخل سوريا، والذين عاشوا مع الشعب السوري في مراحل حياته كافة، بحلوها ومُرها، حتى أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي للبلاد.
ثمة تحول في سوريا يتفهمه الجميع، وثمة التفات لإعادة بناء الدولة السورية وإعادة صياغة علاقاتها الخارجية، ومحاولة للخروج من الوضع الذي أوجده النظام السابق، وهذا كله طبيعي، لكن بناء دولة قوية في سوريا لا يُمكن أن يحدث من دون التوصل إلى صيغة تردع العدوان الإسرائيلي وتوقف توسعه وهيمنته وتتصدى لاستغلاله هذه المرحلة الانتقالية. يجب على الجميع في سوريا أن يُفكر كيف ينقل البلاد من عصر إلى عصر، من دون أن يكون الثمن غالياً، ومن دون أن يتم تقديم البلاد قربانا للإسرائيليين، فسوريا هي بارقة الأمل في هذه المنطقة التي تعاني، ويجب لهذه البارقة أن لا تنطفئ.
كاتب فلسطيني
القدس العربي
————————————-
كيف تعمل أميركا، حين يتعلق الأمر بسياستها الخارجية؟ وإلى أين نسير بعد (الرد السوري) على مطالبها؟ هذا نموذجٌ مثالي للفهم.
فقد نقلت وكالة رويترز اليوم مضامين خطاب (الرد السوري) على (مطالب) #الولايات_المتحدة_الأميركية، وهو الخطاب الذي أشرنا إليه في يوم تسليم الرد منذ قرابة أسبوعين (انظر الصورة تحت). وقد قام الصديق بسام بربندي، اليوم، بتلخيص الخطاب بشكل واضح ومرتب، فيمكن الاطلاع عليه كما هو وارد أدناه.
ولكن، بغض النظر عن هذه التفاصيل، قد يهمُّ السوريين معرفة الإجابة على هذين السؤالين: هل يعتمد موقف الإدارة الأميركية حقاً على تفاصيل هذه الشروط؟ وهل تجهل تلك الإدارة الموقف النهائي للإدارة السورية بخصوصها؟
الجواب على السؤالين هو: لا، كبيرة!
كيف ولماذا؟ يتعلق تفسير هذه المفارقة بحقيقةٍ يعرفها كل من يعرف طبيعة العلاقات الدولية، خاصةً في مثل هذه القضايا الحساسة، وخاصةً أكثر، عندما يتعلق الأمر بـ #أميركا. فهؤلاء يعرفون أن تلك العلاقات تشبه (جبل الجليد). بمعنى أن ماهو ظاهر منهُ، فوق الماء، أصغر بكثير مما هو مخفي تحت الماء. هذا ليس (تفسير مؤامرات). وإنما هو واقع تعرف تفاصيله كلما اقتربت من الموضوع بالعلم والممارسة.
من هنا، ولمن يريد أن يفهم الصورة الحقيقية. كل (الشروط) الأميركية التي يجري الحديث عنها هي مسائل (جانبية) لشراء الوقت. ويمكن لسوريا أن تستجيب لها وتنفذها في وقتٍ قصير. ومسألة الردود في الرسالة تندرج في أن تسير سوريا هويناً، خطوة خطوة، مع آليات السياسة الأميركية في سياق علاقاتها الخارجية مع العالم. فما هي هذه الآليات؟
ألف باء السياسة الأميركية الخارجية أنها تتعامل مع القضايا الدولية على مستويين: الأول هو المُعلن، ويتمثل في (حرتقات) دبلوماسية خارجية وبيروقراطية داخلية تُستخدم كعصا وجزرة. والثاني هو المستور، ويتمثل في (الترتيبات) الاستراتيجية المطلوبة (يعني الجغرافيا السياسية التي تتضمن الاقتصاد). وقبل ذلك وبعده، يبقى القرار النهائي بخصوص تلك القضايا، بشكل عام، في يد الرئيس الأميركي، وشخصيته وطريقة أخذ القرار لديه (يعني 70-80%). وفي حالة الرئيس ترامب الفريدة في المنظومة الأميركية السياسية، فالقرار لديه بنسبة 110%.
وإذا تمت الترتيبات بالشكل المناسب، يصبح التعامل مع قضايا الدبلوماسية والبيروقراطية الأميركية سهلاً وسريعاً. أما إذا لم تتم، فتبقى (الأضواء) مُسلطةً على (حركشات) الدبلوماسية والبيروقراطية، حتى يفرجها الله!
ومايجري بخصوص (المطالب الأميركية) لجهة تسليمها لسوريا، ورد #سوريا عليها، وكل الكلام الإعلامي والدبلوماسي عنها يدخل في إطار المسار الأول. ولكي تحكم بنفسك: اقرأ الشروط، وفكِّر بهدوء، ماهو وضعها الحقيقي حالياً؟ وما أهمية القضايا التي تتحدث عنها لمستقبل سوريا؟ وأهم من هذا وذاك: إلى أي درجة لايستطيع شخص مثل الرئيس الشرع تنفيذ أيٍ منها؟؟
ومايجب أن يعرفه السوريون، بشكلٍ جيد، ويطمئنوا إليه، أن سوريا الجديدة تُدرك تلك المعادلة بوضوح. من هنا، أرسلت لأميركا، رسمياً، ردّها الإيجابي الأولي الذي يتعلق بـ (إمكانية) تنفيذ كل الشروط. لأنه، ليس من السياسة في شيء، أن تقوم بتنفيذها كلها فعلياً، فور أن يُطلبَ منك ذلك، فتفقد كل الأوراق المتعلقة بها. كل هذا على المستوى الأول.
أما على المستوى الثاني، فالترتيبات المتعلقة بالمنطقة، وكل ملفاتها، تجري على قدم وساق. ومن خلالها، وخلال اللاعبين فيها، يتم التواصل الجوهري والحقيقي، مع أميركا، ومع ترامب إما شخصياً، أو من خلال وزير خارجيته، ومندوبه ويتكوف. وليس مع المسؤولين الأميركيين الذين يسربون الأخبار لصحيفةٍ هنا وموقعٍ إخباريٍ هناك.
ومايهم #السوريين_الطيبين_النبلاء أن يعرفوه هو أن (الترتيبات) تسير في الاتجاه المطلوب، وبما يحقق أمنهم واستقرارهم، ثم ازدهارهم وعِزّهم، بإذن الله أولاً وأخيراً!
========================
النقاط الرئيسية من رد سوريا على مطالب الولايات المتحدة
1. إنشاء مكتب ارتباط:
– تعهدت سوريا بإنشاء مكتب ارتباط في وزارة الخارجية للمساعدة في العثور على الصحفي الأمريكي المفقود أوستن تايس.
– يهدف المكتب إلى تسهيل التواصل والتعاون في القضايا ذات الصلة.
2. الأسلحة الكيميائية:
– توضح سوريا جهودها لمواجهة الأسلحة الكيميائية، بما في ذلك تعزيز العلاقات مع هيئة مراقبة الأسلحة العالمية.
– التزام بالشفافية والتعاون في نزع السلاح.
3. المقاتلون الأجانب:
– تناقش الرسالة المقاتلين الأجانب ولكن تشير إلى أن حل هذه القضية يتطلب مشاورات أوسع.
– تم تعليق إصدار الرتب العسكرية للمقاتلين الأجانب، ولكن لم يتم تقديم تفاصيل إضافية حول الإجراءات المستقبلية.
4. تنسيق مكافحة الإرهاب:
– تعترف سوريا بالحاجة إلى تفاهمات متبادلة بشأن الضربات الأمريكية لمكافحة الإرهاب.
– تعهدت الحكومة الجديدة بعدم التسامح مع التهديدات للمصالح الأمريكية أو الغربية في سوريا.
5. وجود القوات الأمريكية:
– يؤكد الرئيس المؤقت لسوريا أحمد الشارع أن القوات الأمريكية موجودة في سوريا بدون موافقة الحكومة.
– يجب أن يتم الاتفاق على أي وجود مستقبلي مع الدولة السورية.
6. مكافحة التطرف:
– يستكشف المسؤولون السوريون طرقًا بديلة لمكافحة التطرف دون منح إذن صريح للضربات الأمريكية.
– تعكس هذه المقاربة الحساسية الناتجة عن التدخلات العسكرية الأجنبية السابقة في سوريا.
7. الرد على إسرائيل:
– تعهدت سوريا بعدم تهديد إسرائيل وتؤكد أن الجماعات المسلحة خارج السيطرة الحكومية لن تُسمح بها.
– تم تشكيل لجنة لمراقبة أنشطة الفصائل الفلسطينية داخل سوريا.
8. التواصل المستمر مع الولايات المتحدة:
– الاعتراف بالتواصل المستمر بين السلطات السورية لمكافحة الإرهاب وممثلي الولايات المتحدة في عمان.
– الميل لتوسيع التعاون في مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية.
9. المشاركة المستقبلية:
– تعبر سوريا عن أملها في أن تؤدي الإجراءات المتخذة إلى مزيد من المناقشات حول القضايا الرئيسية، بما في ذلك إعادة فتح السفارات ورفع العقوبات.
– تعكس الرسالة رغبة في الانخراط الدبلوماسي على الرغم من المطالب المعلقة.
10. الخطوات التالية:
– يؤكد مسؤول سوري ومصادر أمريكية أنه من المتوقع إجراء مناقشات حول رسالة سوريا خلال الاجتماعات المقبلة في نيويورك.
– قد يشكل نتيجة هذه المناقشات العلاقات والتعاون بين الولايات المتحدة وسوريا في المستقبل.
النص الكامل لتقرير “رويترز” عن رد سوريا على المطالب الأميركية الثمانية الى دمشق:
– ردت سوريا على ثمانية مطالب أمريكية في رسالة أبريل
– رسالة تتعهد بعدم تهديد إسرائيل، وتفصّل العمل على الأسلحة الكيميائية
– تقدم أقل في إبعاد المقاتلين الأجانب عن المناصب العليا
– في التعليقات، المقال عن قائمة العقوبات:
– بيروت، 26 أبريل (رويترز)
– ردت سوريا كتابيًا على قائمة شروط أمريكية لتخفيف جزئي محتمل للعقوبات، قائلة إنها نفذت معظمها، لكن بعضها الآخر يتطلب “تفاهمات متبادلة” مع واشنطن، وفقًا لنسخة من الرسالة اطلعت عليها رويترز.
سلمت الولايات المتحدة سوريا الشهر الماضي قائمة بثمانية شروط تريد من دمشق الوفاء بها، بما في ذلك تدمير أي مخزونات متبقية من الأسلحة الكيميائية، وضمان عدم منح أجانب مناصب قيادية في الحكم.
سوريا بحاجة ماسة إلى تخفيف العقوبات لإنعاش اقتصادها المنهار جراء 14 عامًا من الحرب، فرضت خلالها الولايات المتحدة وبريطانيا وأوروبا عقوبات صارمة في محاولة للضغط على الرئيس السابق بشار الأسد.
في يناير/كانون الثاني، أصدرت الولايات المتحدة إعفاءً لمدة ستة أشهر لبعض العقوبات لتشجيع المساعدات، لكن هذا كان له تأثير محدود.
في مقابل تلبية جميع المطالب الأمريكية، ستمدد واشنطن هذا التعليق لمدة عامين، وربما تُصدر إعفاءً آخر، حسبما أفادت مصادر لرويترز في مارس/آذار.
كانت رويترز أول من أفاد بأن المسؤولة الأمريكية البارزة ناتاشا فرانشيسكي سلمت قائمة الشروط لوزير الخارجية السوري أسعد الشيباني في اجتماع شخصي على هامش مؤتمر المانحين لسوريا في بروكسل في 18 مارس/آذار.
سعى الشيباني، في أول خطاب له أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يوم الجمعة، إلى إظهار أن سوريا تُعالج بالفعل المطالب، بما في ذلك الأسلحة الكيميائية والبحث عن الأمريكيين المفقودين في سوريا.
كانت تعليقاته العلنية متوافقة مع محتوى رسالة سوريا الخاصة إلى الولايات المتحدة، والتي اطلعت رويترز على نسخة غير مؤرخة منها. ولم يُنشر محتوى الرسالة سابقًا.
قال مسؤولان غربيان ومسؤول سوري مُطلع على الرسالة إنها تتوافق مع النسخة التي اطلعت عليها رويترز.
في الوثيقة المكونة من أربع صفحات، تتعهد سوريا بإنشاء مكتب اتصال في وزارة الخارجية للعثور على الصحفي الأمريكي المفقود أوستن تايس، وتفصّل عملها لمعالجة مخزونات الأسلحة الكيميائية، بما في ذلك توثيق العلاقات مع هيئة مراقبة الأسلحة العالمية.
لكنها لم تُقدّم الكثير من التفاصيل بشأن مطالب رئيسية أخرى، بما في ذلك إبعاد المقاتلين الأجانب ومنح الولايات المتحدة الإذن بشن ضربات لمكافحة الإرهاب، وفقًا للرسالة.
وأكد متحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية أن واشنطن تلقت ردًا من السلطات السورية على طلب أمريكي باتخاذ “تدابير محددة ومفصلة لبناء الثقة”. وقال المتحدث: “نقوم الآن بتقييم الرد وليس لدينا ما نُشاركه في الوقت الحالي”، مُضيفًا أن الولايات المتحدة “لا تعترف بأي كيان كحكومة سورية، وأن أي تطبيع مُستقبلي للعلاقات سيُحدد بناءً على إجراءات السلطات المؤقتة. ولم تُرد وزارة الخارجية السورية فورًا على طلب للتعليق.
—– المقاتلون الأجانب——
ذكرت الرسالة أن مسؤولين سوريين ناقشوا مسألة المقاتلين الأجانب مع المبعوث الأمريكي السابق دانيال روبنشتاين، لكن القضية “تتطلب جلسة تشاورية أوسع”. وتقول الرسالة: “ما يمكن تأكيده حتى الآن هو تعليق إصدار الرتب العسكرية عقب الإعلان السابق بشأن ترقية ستة أفراد”، في إشارة واضحة إلى تعيين مقاتلين أجانب في ديسمبر/كانون الأول، من بينهم أويغور وأردني وتركي، في مناصب في القوات المسلحة السورية.
ولم توضح الرسالة ما إذا كانت الرتب المعينة قد أُزيلت من المقاتلين الأجانب، ولم تُحدد الخطوات المستقبلية التي سيتم اتخاذها. وقال مصدر مُطلع على نهج الحكومة السورية تجاه هذه القضية إن دمشق ستؤجل معالجتها قدر الإمكان نظرًا لرأيها بضرورة معاملة المتمردين غير السوريين الذين ساعدوا في الإطاحة بالأسد معاملة حسنة.
وحول طلب أمريكي للتنسيق في مسائل مكافحة الإرهاب والقدرة على تنفيذ ضربات على أهداف إرهابية، قالت الرسالة إن “الأمر يتطلب تفاهمات متبادلة”.
تعهدت الحكومة السورية الجديدة بعدم التسامح مع أي تهديدات للمصالح الأمريكية أو الغربية في سوريا، وتعهدت باتخاذ “الإجراءات القانونية المناسبة”، دون الخوض في تفاصيل.
وكان الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع قد صرّح في مقابلة سابقة هذا العام بأن القوات الأمريكية المنتشرة في سوريا موجودة هناك دون موافقة الحكومة، مضيفًا أن أي وجود من هذا القبيل يجب أن يتم بالاتفاق مع الدولة.
وقال مسؤول سوري مُطلع على الرسالة إن المسؤولين السوريين يبحثون سبلًا أخرى لإضعاف المتطرفين دون منح الولايات المتحدة إذنًا صريحًا بتنفيذ ضربات، معتبرين ذلك خطوة مثيرة للجدل بعد سنوات من قصف القوات الجوية الأجنبية لسوريا خلال حربها.
يتعهد بعدم تهديد إسرائيل صرح دبلوماسي كبير وشخص آخر مُطلع على الرسالة لرويترز بأنهما يعتبرانها تُعالج خمسة مطالب بالكامل، لكن المطالب المتبقية تُركت “معلقة”. وقالوا إن الرسالة أُرسلت في 14 أبريل/نيسان – قبل 10 أيام فقط من وصول الشيباني إلى نيويورك لإلقاء كلمة أمام مجلس الأمن.
ولم يتضح ما إذا كانت الولايات المتحدة قد أرسلت ردًا على رسالة سوريا.
صرح مسؤول سوري ومصدر أمريكي مُطلع على الرسالة أن الشيباني سيناقش محتواها مع مسؤولين أمريكيين خلال زيارته إلى نيويورك.
وأعربت سوريا في رسالتها عن أملها في أن تُفضي الإجراءات المُتخذة، والتي وصفتها بـ”الضمانات”، إلى اجتماع لمناقشة كل نقطة بالتفصيل، بما في ذلك إعادة فتح السفارات ورفع العقوبات.
وفيما يتعلق بالمسلحين الفلسطينيين في سوريا، ذكرت الرسالة أن الشرع شكّل لجنة “لمراقبة أنشطة الفصائل الفلسطينية”، وأنه لن يُسمح للفصائل المسلحة الخارجة عن سيطرة الدولة بالعمل.
وقد أُرسلت الرسالة قبل أيام قليلة من اعتقال سوريا لمسؤولين فلسطينيين من حركة الجهاد الإسلامي. وأضافت الرسالة: “في حين أن المناقشات حول هذا الموضوع قابلة للاستمرار، فإن الموقف الشامل هو أننا لن نسمح لسوريا بأن تُصبح مصدر تهديد لأي طرف، بما في ذلك إسرائيل”.
وأقرت الرسالة أيضًا بـ”التواصل المستمر” بين سلطات مكافحة الإرهاب السورية وممثلي الولايات المتحدة في عمان بشأن مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وقالت إن سوريا تميل إلى توسيع هذا التعاون.
لم تُنشر أي تقارير سابقة عن المحادثات المباشرة بين سوريا والولايات المتحدة في عمّان
——————-
تقرير: تيمور أزهري ومايا جبيلي؛ تقرير إضافي: ميشيل نيكولز من نيويورك وحميرة باموق من واشنطن؛ تحرير: دانيال واليس)
——————————–
ملامح باردة لسياسة ترامب السورية/ سام هيلر
تحديث 29 نيسان 2025
من أخطر التحديات التي تواجه سوريا خلال انتقالها السياسي، وفي هذا الزمن الحساس، موقف الولايات المتحدة من سوريا. ولقد أفادت لقاءات قمت بها في واشنطن مؤخرًا بأن إدارة الرئيس دونالد ترامب أكثر برودًا من سابقتها تجاه سوريا ما بعد الأسد، بل أنها متشككة جدًا في أمر القيادة السورية الجديدة، مما يصعّب على دمشق كسب الود الأمريكي الرسمي ورضا واشنطن بدعم الدول الأخرى لسوريا.
وتواجه سوريا مخاطر عديدة في هذه المرحلة الدقيقة، منها التوترات بين مكونات الشعب السوري والدعوات للانتقام والثأر، والتقسيم الفعلي للأراضي السورية بين مناطق سيطرة لأطراف مسلحة، والاعتداءات الإسرائيلية المستمرة من الجو وعلى الأرض في الجنوب السوري. ومع ذلك، فإن الخطر الأعظم في رأيي الشخصي يظل الوضع المنهار للاقتصاد السوري والذي ورثته قيادة سوريا الجديدة من الرئيس المخلوع بشار الأسد. فلا بد للحكومة السورية الجديدة، من أجل إنجاح انتقال سوريا السياسي، أن تحقق أيضًا درجة من الاستقرار الاقتصادي تمهيدًا للتعافي والازدهار مستقبلًا. وتُعتبر السياسة الأمريكية من بالغ الأهمية في هذا الصدد، نظرًا للتأثير الواسع للعقوبات الأمريكية ولضرورة رفعها لإفساح المجال أمام شركاء أمريكا الإقليميين لدعم سوريا اقتصاديًا.
ولقد قمت خلال النصف الأول من شهر نيسان بزيارة إلى واشنطن، حيث التقيت بمسؤولين أمريكيين من جهات حكومية مختلفة وبمصادر في الكونجرس للبحث في السياسة الأمريكية تجاه سوريا، مما تركني، في ختام زيارتي، متشائمًا بشأن موقف إدارة ترامب من سوريا وإمكانية إزالة العقوبات في المستقبل القريب.
وسمعت خلال هذه اللقاءات ما يتطابق مع بعض التقارير الإعلامية الأخيرة التي تفيد بأن الآراء حول سوريا داخل إدارة ترامب منقسمة بين شخصيات تؤيد الانخراط المشروط مع الإدارة السورية الجديدة وبين شخصيات أخرى (منها سيباستيان غوركا، مسؤول مكافحة الإرهاب في مجلس الأمن القومي) ترى أن القيادة السورية الجديدة “جهاديين” وعناصر “قاعدة” فعليًا، فكان يبدو لي أن هذا الفريق الأخير هو السائد حاليًا داخل الحكومة. كما سمعت أنه للموقف الإسرائيلي، المعادي للقيادة السورية الجديدة والداعي لإبقاء سوريا متفككة وضعيفة، تأثير كبير على تفكير إدارة ترامب حول سوريا.
ومع ذلك، وهذا قد يكون أهم من أي تباين في الآراء داخل الإدارة، سمعت أن الإدارة، بشكل عام، ليست مهتمة بسوريا، وأنها غير مكترثة لتداعيات تعثر الانتقال السياسي الحالي في سوريا، والذي لن تؤثر تبعاته على الولايات المتحدة بقدر ما يؤثر على أوروبا والدول الإقليمية. فلم تكن تصدر عن الإدارة، وأنا كنت في واشنطن، أي سياسة واضحة بشأن سوريا ولا توجيهات تنفيذية لأجهزة الدولة الأمريكية بهذا الخصوص.
من سوء حظ سوريا أنها دخلت في انتقالها من حقبة الأسد تزامنًا مع انتقال أمريكا من بايدن إلى ترامب، وذلك لسببين: أولهما الانقطاع الذي سيحصل تلقائيًا في أي انتقال من إدارة أمريكية إلى أخرى، مع ضرورة تشكيل فريق جديد وصياغة سياسة جديدة، وثانيهما، الموقف المتغاير والأكثر سلبية تجاه سوريا لدى إدارة ترامب.
فبدأت الإدارة بقطع التواصل الدبلوماسي مع القيادة السورية، بعد أن كانت إدارة بايدن ترسل عدة وفود إلى دمشق، ترأست واحدًا منها مساعدة وزير الخارجية باربرا ليف. فكان اجتماع نائبة مساعد الوزير ناتاشا فرانشيسكي مع وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني على هامش مؤتمر بروكسل في شهر آذار، والذي نقلت خلاله فرانشيسكي ورقة مطالب أمريكية للطرف السوري، أول لقاء رسمي بين واشنطن ودمشق منذ وصول ترامب للرئاسة، وذلك بعد شهرين تقريبًا من الانقطاع. ومن الملفت أيضًا صياغة إدارة ترامب لبياناتها وتصريحاتها بشأن سوريا، حيث أصرّت على وصف القيادة السورية بمصطلحات أمثال “سلطات سوريا المؤقتة” وذلك لعدم الإيحاء بالاعتراف السياسي بهذه الحكومة السورية.
تبدو فرص رفع العقوبات الأمريكية قليلة. وقد عرضت إدارة ترامب مقابل مطالبها من القيادة السورية إجراءات من شأنها أن تخفف من وطأة العقوبات على الاقتصاد السوري، ولكن بشكل محدود. فلا حديث عن خطوات أمثال رفع لـ”قانون قيصر”؛ وحتى التمديد للرخصة التي أعلنت عنها إدارة بايدن في شهر كانون الثاني غير مضمون، ومشروط بالإيفاء بالمطالب التي قدمتها واشنطن.
أما الكونجرس الأمريكي، فقالت لي مصادر إن الأقلية الديمقراطية في كل من مجلس النواب ومجلس الشيوخ في الأغلب تدعم الانخراط مع الحكومة السورية والتخفيف للعقوبات، بينما كانت الأغلبية الجمهورية أقلّ حماسة عن أي إجراءات قد تفيد “إرهابيين” في سوريا. فقد أصبح النائب الجمهوري جو ويلسن الراعي لقانون “مناهضة التطبيع مع الأسد” سابقًا ينشط الآن لرفع العقوبات عن سوريا، إلا أن مصادر قالت لي إن ويلسون لا يمثّل بهذا الموقف إلا عددًا محدودًا من نواب الحزب الجمهوري، والذي يميل معظم نوابه أكثر إلى الرواية الإسرائيلية حول سوريا وقيادتها الجديدة. ولقد زرت واشنطن قبل سفر النائبين الجمهوريين كوري ميلز ومارلين ستاتسمان إلى دمشق، وسنرى إذا كان لزيارتهما تأثيرًا على موقف زملائهم الجمهوريين في واشنطن.
وبالخلاصة، أرى أن سوريا وقيادتها الجديدة أصبحت في موقف حرج. فمن الصعب تصور طريق لتحقيق الاستقرار والبدء بالتعافي من دون رفع للعقوبات الأمريكية، ولو جزئيًا، ولكن إدارة ترامب قد وضعت شروط صعبة جدًا حتى لأبسط الإجراءات للتخفيف من أثر العقوبات. ورغم محاولات الحكومة السورية لأن تستجيب لبعض المطالب الأمريكية، توجد مطالب تمسّ فعلًا بالسيادة السورية، مثل إعلان دمشق عن دعمها الصريح للضربات العسكرية الأمريكية ضد أهداف “إرهابية” على الأراضي السورية.
وكانت بعض الأوساط السورية- الأمريكية ترجّح دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ظنًا منها بأنه سوف يكون أكثر تأييدًا لقضيتهم، وذلك نظرًا لسجله في ولايته الأولى. إلا أن إدارة ترامب في نسختها الثانية ليست صديقة لسوريا وشعبها. ولقد استنتجت من لقاءاتي في واشنطن أن السوريين يواجهون واقعًا أمريكيًا صعبًا، وأن فرص تحقيق اختراق ما محدودة.
عنب بلدي
———————-
كيف تتعامل الحكومة السورية مع الشروط الأميركية لرفع العقوبات؟/ أيهم الشيخ
28 أبريل 2025
قدمت الإدارة الأميركية لحكومة الرئيس السوري، أحمد الشرع، قائمة مطالب تمثل الأساس لأي انفتاح سياسي ودبلوماسي، وتُعد شرطًا مبدئيًا للنظر في رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا. تركّز هذه المطالب على خمسة محاور تهدف إلى ضمان الاستقرار الداخلي وتحقيق انتقال سياسي مستدام يمنع عودة الإرهاب أو ترسيخ النفوذ الإيراني.
الشروط الأميركية الخمسة:
1. رفض الإرهاب ومحاربته بوضوح:
تطالب واشنطن بإعلان رسمي من الحكومة السورية المؤقتة ترفض فيه الإرهاب بكل أشكاله، مع التزام عملي بمنع تغلغل الجماعات المتطرفة واستبعاد العناصر الأجنبية المتشددة من المناصب الرسمية.
2. منع النفوذ الإيراني:
يشترط الجانب الأميركي اتخاذ خطوات ملموسة لمنع استخدام الأراضي السورية كمنصة للنفوذ الإيراني أو لتحركات الميليشيات المدعومة من طهران.
3. إزالة الأسلحة الكيميائية:
دعت واشنطن الحكومة إلى التخلص من بقايا الترسانة الكيميائية التي استخدمها النظام السابق، وضمان عدم استخدامها مستقبلًا تحت أي ظرف.
4. مكافحة الإرهاب بالتعاون الدولي:
تطلب الولايات المتحدة تنسيقًا كاملًا في مكافحة الإرهاب، مع منع تسلّم متشددين أجانب لأي مناصب أمنية أو سياسية، حتى لو كانوا خصومًا لداعش أو للنظام السابق.
5. تعيين منسق لقضية أوستن تايس:
طالبت واشنطن بتعيين جهة رسمية تتعاون في ملف الصحفي الأميركي المختفي منذ عام 2012، والذي يُعتقد أنه لا يزال على قيد الحياة.
في هذا السياق، أكد الرئيس السوري، أحمد الشرع، أن حكومته مستعدة للحوار مع المجتمع الدولي، مشددًا في الوقت ذاته على ضرورة احترام السيادة السورية. وأوضح أن بعض القضايا، مثل منح الجنسية للمقاتلين الأجانب، تستدعي نقاشًا داخليًا معمقًا، وأن الحكومة تعمل على مراجعة شاملة للسياسات الأمنية والعسكرية بما يخدم مصلحة الشعب السوري ويؤسس لعلاقات متوازنة خارجيًا.
من جانبه، يرى المحلل السياسي، مازن موسى، أن المطالب الأميركية واقعية ويمكن قبولها من قبل الحكومة السورية، مشيرًا إلى أن التوجهات الجديدة تسعى لتغيير الصورة النمطية التي خلّفها النظام السابق، وإعادة سوريا إلى دورها الإقليمي. وأوضح أن الطمأنة التي قدمتها دمشق الجديدة لجيرانها، خصوصًا فيما يتعلق بكبح النفوذ الإيراني، لعبت دورًا في تهدئة الأوضاع الإقليمية، مما ساهم في دفع بعض الدول للمطالبة برفع العقوبات.
وأضاف موسى أن الزيارات الإقليمية الأخيرة للرئيس الشرع، خصوصًا إلى السعودية والإمارات، تؤشر إلى تطور في العلاقات الإقليمية. وأكد أن الحكومة السورية تراهن على وساطة دول مثل تركيا والسعودية لإقناع واشنطن برفع العقوبات، في إطار مشروع وطني لإعادة الاستقرار وبناء مستقبل جديد.
وكان كبير مسؤولي شؤون الشرق الأدنى في الخارجية الأميركية قد صرح بأن واشنطن تعترف بحق سوريا في بناء جيش وبنية أمنية، وأنها تتابع كيف يتم ذلك، مؤكدًا أن المقاتلين الأجانب أحد أكبر التحديات أمام قيادة سوريا. وقال: “لا نريد أن نرى أي دور للمقاتلين الأجانب في الحكومة السورية”، مشيرًا إلى أنهم يريدون من قيادة سوريا طرد المقاتلين الذين مُنِحوا مناصب في الجيش.
وأضاف: “ننتظر نتائج التحقيق الذي تجريه سلطات سوريا في أحداث الساحل”، مضيفًا: “نريد أن نرى المتسببين في أحداث الساحل يُحاسبون”. وأشار إلى أنهم يرحبون بتعاون سلطات سوريا مع مفتشي حظر الأسلحة الكيميائية، لافتًا إلى أنهم يريدون استمرار التعاون حتى التدمير الكامل لمخزون سوريا الكيميائي. ونوه إلى أن واشنطن ليست في عجلة من أمرها لرفع العقوبات عن سوريا، مشيرًا إلى أنهم لم يصلوا بعد إلى نقطة إعادة فتح السفارة في دمشق.
وفي تحليله لطريقة التعاطي مع المطالب الدولية، يقول الكاتب والصحفي مضر الشرع، لـ”الترا سوريا”، إن الحكومة السورية تتعامل مع الملفات الشائكة بعقلانية، وترى في تقاطع المصالح مع الولايات المتحدة فرصة لبناء تواصل سياسي، خصوصًا في ملفات الإرهاب، والنفوذ الإيراني، وتهريب السلاح. وأشار إلى أن دمشق لا تسعى لفرض شروط مضادة، بل تعتمد الواقعية كمنهج تفاوضي، وتسعى لتوظيف الملفات التفاوضية، مثل ملف اللاجئين، ضمن إطار متزن وكجزء من رؤية استراتيجية أوسع.
ورفض مضر الشرع الاعتماد على تغير الإدارة الأميركية في انتخابات 2028 كعامل حاسم، معتبرًا أن انتظار نتائج الانتخابات ليس خيارًا واقعيًا للشعب السوري، مع إمكانية الاستفادة من علاقات ترامب الإقليمية لتحريك الموقف الدولي. كما أشار إلى أن روسيا تُمثل ورقة تفاوضية مهمة أمام أوروبا، خصوصًا مع استمرار وجودها العسكري في الساحل السوري.
من جهته، لا يتوقع الكاتب والباحث عبد الله الخير أن يكون هناك انفراجات قريبة في طبيعة العلاقة بين الولايات المتحدة والإدارة الجديدة، خصوصًا أن ” هيئة تحرير الشام” لا تزال على لائحة الإرهاب، وحديث الشرع عن منح الجنسية للأجانب يعمق الخلافات كثيرًا في المفاوضات بين الطرفين.
وأضاف، في حديث لـ”الترا سوريا”، أن وجود المقاتلين الأجانب ومنحهم جنسية يعني أن السوريين أصبحوا يشكلون خطرًا على أي بلد يذهبون إليه، خصوصًا أن المجتمع يصنف المقاتلين الأجانب على أنهم إرهابيون، لذلك يجب أن تكون هناك خطوات واضحة من الحكومة السورية.
المشهد السوري يشهد تحولًا تدريجيًا نحو انفتاح سياسي محتمل. ومع تزايد المؤشرات الإيجابية من أطراف دولية، يبقى على الحكومة السورية المؤقتة أن توازن بين احترام السيادة، وتنفيذ الإصلاحات المطلوبة دوليًا، واستثمار الدعم الإقليمي لبناء أرضية مشتركة تُفضي إلى إنهاء العقوبات والانطلاق في عملية إعادة إعمار شاملة.
الترا سوريا
—————————-
يهود سوريا جزء من المعادلة… حكومة الشرع “تلاعب” أمريكا أو “تغازلها”؟/ جعفر مشهدية
الثلاثاء 29 أبريل 2025
جاءت الأيام الأخيرة مليئةً بالأخبار والتصريحات حول سوريا وموقف الإدارة الأمريكية من إدارتها الجديدة، خاصّةً في ما يتعلّق بالعلاقة بين سوريا والولايات المتحدة الأمريكية من جهة، وسوريا وإسرائيل من جهة أخرى، وذلك على لسان شخصيات بارزة معنية بهذه الملفات.
وتضمّنت كلمة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، في جلسة مجلس الأمن، الجمعة 25 نيسان/ أبريل الجاري، عبارات عدة لافتة عن علاقة دمشق بالمنطقة، خاصّةً تل أبيب، حيث قال: “أعلننا مراراً عن التزامنا بأن سوريا لن تشكّل تهديداً لأي من دول المنطقة والعالم، بما فيها إسرائيل”. وفي موضع آخر، أقدم على ذكر يهود سوريا في تصريحٍ لافت، بقوله: “عاد بعض اليهود السوريين إلى الوطن لأول مرة، وتفقّدوا معابدهم”.
وفي سياق لعبة تبادل الرسائل بين دمشق وواشنطن، في ما يخصّ “شروط” رفع العقوبات عن سوريا والاعتراف بالإدارة الجديدة، فإنّ سوريا ردّت عبر رسالة مكتوبة على طلب أمريكي سابق باتخاذ تدابير لبناء الثقة يتضمّن قائمة شروط لرفع جزئي محتمل للعقوبات، قائلةً إنها طبّقت معظمها، لكن البعض الآخر يتطلّب “تفاهمات متبادلة”، وذلك بحسب وكالة “رويترز”.
وفي الرسالة المكوّنة من أربع صفحات وفق مصادر الوكالة العالمية، تتعهّد دمشق بإنشاء مكتب اتصال في وزارة الخارجية مهمّته البحث عن الصحافي الأمريكي المفقود أوستن تايس، وتورد بالتفصيل إجراءاتها للتعامل مع مخزونات الأسلحة الكيميائيّة، ومنها تعزيز روابط الاتصال مع منظّمة حظر الأسلحة الكيميائيّة، لكن الرسالة لم تذكر الكثير من التفاصيل عن مطالب رئيسة أخرى، مثل إبعاد المقاتلين الأجانب الذين جاء الحديث عنهم في سياق أنّ الحكومة الجديدة علّقت إصدار الرتب العسكريّة للمقاتلين الأجانب مع طلب جلسة تشاوريّة أوسع حول هذه القضية مع الولايات المتحدة، كما لم يتم ذكر تفاصيل عن منح الإذن لواشنطن لشنّ ضربات لمكافحة الإرهاب في سوريا.
وأشارت الوكالة، إلى أنّ الرسالة تضمّنت أيضاً أنّ الحكومة الجديدة لن تتسامح مع أي تهديدات للمصالح الأمريكيّة أو الغربيّة في سوريا، فضلاً عن تشكيل لجنة لمراقبة أنشطة الفصائل الفلسطينيّة، مع عدم السماح بوجود فصائل مسلّحة خارج سيطرة الدولة، كما لن يُسمح بأن تصبح سوريا مصدر تهديد لأي طرف، بما في ذلك إسرائيل.
بدوره، أكد متحدّث باسم وزارة الخارجيّة الأمريكيّة، أنّ واشنطن تلقّت ردّاً من دمشق على طلب أمريكي باتخاذ تدابير محدّدة ومفصّلة لبناء الثقة، وأشار إلى أنه يجري حالياً تقييم الردّ السوري، وليس لديهم ما يعلنونه في الوقت الحالي، مردفاً أن الولايات المتحدة “لا تعترف بأي كيان بوصفه الحكومة السورية، وأي تطبيع للعلاقات في المستقبل سيحدَّد بناءً على الإجراءات التي تتخذها السلطات المؤقّتة”.
ما سبق، خلق حالة انقسام لدى المعنيين بالتطورات في سوريا، فأيّد فريق منهم تصريحات الشيباني وأسلوب تعامل الإدارة الجديدة مع واشنطن، بينما عدّ فريق آخر هذه التصريحات وتلك المواقف تنازلات وإن أقرّ بها كجزء من لعبة الدهاء السياسي والدبلوماسي، مع وجود تيار ثالث يرى فيها أخطاء قد تؤثّر على مستقبل البلاد.
“الهدف إحراج إسرائيل”
من وجهة نظر الكاتب والمحلل السياسي نور الدين البابا، فإنّ “النظام السابق عمل طوال عشرات السنوات على تدمير كل مقوِّمات قوّة سوريا في مواجهة أعدائها، ومكّن إسرائيل من أراضيها برّاً وجوّاً، وتالياً ورثت الحكومة الجديدة بلداً مدمّراً، منزوع الإمكانات الدفاعية والأمنية. وفي الوقت ذاته، وتحت ستار ‘المقاومة والممانعة’، تمكّنت المليشيات الإيرانية من سوريا، وعاثت فيها إفساداً وتقتيلاً، فسلّمت منها إسرائيل، ولم يسلم منها الشعب السوري”.
وينبّه البابا، في حديثه إلى رصيف22، إلى أنّ “الحكومة الجديدة قرّرت منذ اليوم الأول أن الأولويّة هي لمصلحة سوريا الوطنيّة، ولإعادة بناء اقتصادها، وبنيتها التحتيّة، ورفع العقوبات عنها، وهذا لا يتم في ظلّ استمرار حالة العداء مع المحيط، الموروثة من النظام الساقط، والتي كانت أقرب إلى البروباغندا منها إلى العداء القائم على أسباب وطنية حقيقية”.
وحول تصريحات الوزير الشيباني، يلفت البابا إلى أن الأمر “لا يخلو من إحراج دبلوماسي كبير لإسرائيل في ما يتعلّق بعدوانها ضد سوريا، خاصّةً أن كثيراً من المشكلات الداخليّة السوريّة تحرّكها إسرائيل بشكل أو بآخر. وبالنسبة إلى كلام الوزير عن اليهود السوريين، فتاريخياً الوجود اليهودي في سوريا يرجع إلى ما قبل قيام إسرائيل بزمان طويل، وكثر منهم بعد قيام إسرائيل بقوا في سوريا، وتعرّضوا لانتهاكات وتضييق من قبل نظام البعث دون وجه حق، ما دفع كثيرين منهم إلى الهجرة خارج سوريا، والأصل أنهم مواطنون سوريون انتُهِكت حقوقهم على أيدي نظام البعث البائد، ولن تسقط حقوقهم لمجرد أنهم يهود”.
“التعامل بواقعية”
من جهتها، توضح المتخصّصة في العلوم السياسيّة سميرة عرابي، لرصيف22، أنّ الموضوع “من دون شكّ، متعلّق بتسليم الإدارة السورية بموازين القوى على الأرض حالياً، وسط صعوبة فرض أي توازنات عسكريّة تجبر الإسرائيليين على الخروج من الأراضي التي احتلّوها في الجنوب السوري. ومن الواضح أنّ الإدارة الجديدة تعلم صعوبة أي عمل عسكري ضد إسرائيل بسبب فارق القوة الشاسع، والتخبطات الأمنيّة والداخليّة المتفاقمة، لذلك لجأت إلى أكثر الأشياء إغراء للأمريكيين، وهو بث التطمينات لصالح إسرائيل، سواء بالتصريح المباشر بعدم السماح بتشكيل أي تهديد ضد إسرائيل، أو بالإشارة إلى موضوع اليهود السوريين وحرّية عودتهم إلى بلدهم، وذلك لعجز الإدارة عن تلبية بعض الطلبات الأخرى المفروضة من واشنطن، خصوصاً موضوع إبعاد المقاتلين الأجانب، الأمر الذي يمنح الإدارة السوريّة فرصةً لتخفيف العقوبات، ويمنحها أوراق قوة مع بداية بروز الصدام مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والسويداء”.
“محاولة لكسب الودّ”
“بعد الذي جرى من انتهاكات إسرائيلية في الساحل السوري، وما صاحبها من غضب دولي عكّر صفو العلاقة مع الإدارة السوريّة الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، لم تبقَ لدمشق أي وسيلة لإبعاد خطر العقوبات عنها وعدم الاعتراف بإدارتها الجديدة، سوى اللعب بورقة إسرائيل لكسب ودّ واشنطن، فتارةً يُلمّح الشرع إلى أنّ أي فوضى في سوريا ستضُرّ العالم أجمع وليس دول الجوار فحسب، وتارةً أخرى يخرج تصريح عن عضو الكونغرس الأمريكي مارلين ستوتزمان، الذي زار دمشق مؤخراً، يؤكد فيه أنّ سوريا الجديدة منفتحة على الحوار والتطبيع مع إسرائيل”، يقول الباحث السياسي باسل خطاب، لرصيف22.
كما يشدّد خطاب على أنّ “كلام الوزير الشيباني أمام مجلس الأمن الذي اتكأ خلاله على عدم تهديد إسرائيل والتلويح بعودة اليهود السوريين إلى بلدهم كجزء من صورة الأمان والوئام التي تروّج لها الإدارة الجديدة، يؤكد لعب الإدارة الجديدة على ورقة إسرائيل في التعامل مع أمريكا، لعلمها بأنّ أمان تل أبيب، بوصلة العمل الأمريكي وغايته في الملف السوري”، متوقعاً أن “إرسال مؤشّرات تتعلّق بالانفتاح على العلاقة مع تل أبيب يجعل أمريكا أكثر ليونةً في باقي الطلبات بما فيها موضوع المقاتلين الأجانب الذين ترى دمشق أنها عاجزة عن حلّ ملفّهم كما تشترط واشنطن، ولذلك ترغب في كسب الوقت والفرصة للتفاوض أكثر على هذا الشرط، بالإضافة إلى موضوع العقوبات”.
“كلام صادم”
إلى ذلك، يرى الناشط السياسي قيس البشير، في حديثه إلى رصيف22، أنّ كلام الشيباني أمام مجلس الأمن، ويخصّ حديثه عن عودة يهود سوريا إلى دمشق، “محاولة مبالغ فيها لتلطيف الأجواء مع واشنطن”، إذ لم يسبق أن ذكر مسؤول سوري على مدار عقود هذه النقطة التي لا يمكن فهمها إلا كمحاولة “تمسيح جوخ” لواشنطن وتل أبيب.
ويردف البشير: “نفهم عدم قدرة الدولة السورية الجديدة على مجابهة إسرائيل عسكرياً، فما جرى في سوريا في 14 عاماً مضت كفيل بتدمير أي قدرة عسكريّة. يضاف إلى ذلك انشغال الشارع السوري بهمومه الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، ولكن هذا ليس حجةً لإظهار هذا الإقدام المبالغ فيه لـ’التطبيع’ مع إسرائيل”، مضيفاً: “ما خرج على لسان الوزير الشيباني أو أي مسؤول سوري آخر لا يمكنني قراءته إلا على أنه كلام صادم ويقلّل من حظوظ البلاد في تحصيل اتفاق سلام مُشرِّف في حال الذهاب في هذا الاتجاه مستقبلاً”.
في النهاية، يجد المواطن السوري البسيط نفسه مجبراً على الانخراط في لعبة التصريحات وما وراءها، ليس حبّاً في الشأن السياسي، ولا لامتلاكه أي رفاهية تؤهّله للتعامل مع هذه الأخبار، ولكن لأنّ رغيف الخبز اليومي أصبح بحاجة إلى إحلال الوفاق الوطني وحلّ القضايا الإقليمية.
رصيف 22
——————————–
==================