أبحاثالأحداث التي جرت في الساحل السوريالإعلان الدستوري لسوريا 2025الاتفاق بين "قسد" وأحمد الشرعالتدخل الاسرائيلي السافر في سورياالعدالة الانتقاليةالعقوبات الأميركية على سورياتشكيل الحكومة السورية الجديدةسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

سورية الجديدة: خمسة أجزاء/ شهيرة سلوم

سورية الجديدة (1)| جوفيات حرب وأصابع إسرائيلية هامشية في السويداء/ شهيرة سلوم

23 ابريل 2025

عند مطلع دارة القنوات، مقرّ الرئيس الروحي لطائفة الموحّدين الدروز حكمت الهجري في جبل العرب، يتقدّم رتلٌ من الأهالي بأزياء مختلطة، بعضها عسكريٌّ. يغرسون في خواصرهم ساريات أعلام بألوان خمسة، ويخبطون الأرض مردّدين “هولا هالي السويدا والربع سلطان، يقحمون الموت دايماً ما يهابوا المنيّة”. يدخلون رهطًا تلو رهط ساحة الدارة قبل أن يشكّلوا دائرة. يتقدّم أحدهم إلى الوسط ويبدأ القفز والدبك بالعلم، يلحق به آخَرٌ فتعلوا الأهازيج أكثر وتختلط الأنفاس مع الكلمات وكأنّها جندٌ في معركة. يتسابق الرجلان في الخبط والدبك، فتدبّ الحماسة في الحشد. تلك “الجوفيّة”، كما يسمّيها الأهالي، التي تُسيَّر عادةً في أوقات الحرب، كانت آتية إلى حكمت الهجري داعمةً ومبايعةً، يستقبلها الشيخ عند باب مضافته، قبل أن يودّعها بعد وقت قصير استعدادًا لرتل لاحق.

أثناء مغادرة الوفد، يتقدّم نحونا رجلٌ بثياب عسكريّة معلنًا أنّهم فصيل شباب شهلا، جاؤوا لإعلان الدعم للشيخ ووضع أنفسهم تحت تصرّفه. على الرغم من الوفود الشعبية، فإنّ شيخ العقل حكمت الهجري الذي يعدّ أعلى مرجعية روحية للطائفة، كان رافضًا الحديث إلى الإعلام خصوصًا بعد التسريبات من داخل أحد مجالسه، التي بيّنت موقفًا حادًا من دمشق. مع هذا استقبلَنا، وأكّد على أنّ الاتصالات مع الإدارة السورية الجديدة لم تنقطع، عبر محافظ السويداء مصطفى بكّور، لكن “الحكومة متعنّتة”. اكتفى بهذا، قبل أن يضيف: “منتظرون الآن، ونحن نستعدّ لسيناريوهات عدّة”، وماذا تنتظر يا شيخنا “التطوّرات الدولية؟”، وأيّ سيناريوهات؟ لا يُجيب، لكنّ حجيج الوفود المترَأسة ببزّة عسكرية إليه، وصيحات الجوفيّات، وما علِمنا به خلال لقاءاتنا مع فصائل عسكرية تُوالي الهجري، قد يشي بواحد من هذه السيناريوهات: “القتال”، وهو ما لم يخفِهِ الشيخ لاحقاً. لا يتحكّم الهجري بالفصائل العسكرية الأساسية في الجبل (رجال الكرامة وأحرار الجبل)، لكن يأتمر بأمره تجمّع من فصائل عدّة، أغلبها شُكّل حديثاً بعد سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر/كانون الأول الماضي.

تسلّم حكمت الهجري، الذي تتوارث عائلته المنصب الديني الأرفع في المحافظة منذ القرن التاسع عشر، مشيخة العقل بعد وفاة شقيقه الشيخ أحمد في حادث سير غامض عام 2012. شاكس الأخير نظام الأسد، حين دعا إلى انشقاق الدروز عن الجيش، وعارض تشكيل مليشيا من الطائفة للقتال مع النظام. كما رفض إصدار بيان ضدّ انشقاق أوّل ضابط درزي عن جيش الأسد خلدون زين الدين، الذي شكّل كتيبة سلطان باشا الأطرش، وقُتل في معارك ظهر الجبل في المحافظة (يناير/كانون الثاني 2012) ضدّ قوات النظام. حاول الأسد استرضاء الشيخ أحمد، فلم يفلح. يتناقل أبناء المحافظة بأنّه في تلك المضافة التي استضافنا فيها الشيخ الهجري في القنوات، وعلى بُعد أمتار قليلة من مكان جلوسنا، نام بشار الأسد عميقًا. حينها جاء إلى مضافة الشيخ أحمد، طالبًا أن يرتاح فيها لدقائق، فأُخليت له، وغفا حتى الصباح. كان ذلك في مارس/آذار 2011، بعد اندلاع الثورة السورية. المرّة الثانية التي جاء بها إلى السويداء، كانت بعد خمسة أيام من وفاة الشيخ أحمد بحادث سير غامض يقول البعض إنه كان اغتيالًا.

تسلّم الهجري المشيخة داعمًا للأسد منذ البداية، ولم يتحوّل عنه إلّا في عام 2021، حين أهانه رئيس فرع الأمن العسكري في درعا لؤي العلي. ويعدّ مفتاحًا أساسيًّا في المحافظة، بما يمثله من سلطة دينية وزمنية عليا. توجّهت إليه القيادة الجديدة بعد خلع نظام بشار الأسد، وفتحت معه قنوات اتصال، لكنّ موقفه المعلن كان الأكثر تشددًا تجاه دمشق مقارنة بشيخَي العقل الآخرين؛ حمود الحناوي ويوسف جربوع، وهو ما ترك تأثيرًا واضحًا على شعبيته، ودفعه إلى نوعٍ من الاعتكاف.

أذرع عسكرية انفصالية

مرتديًا بزّة عسكرية، داخل مضافة بيت جبليّ في بلدة شنيرة القريبة من الحدود مع الأردن، يجلس قائد المجلس العسكري في السويداء طارق الشوفي، مقدّمًا فصيله المسلّح المنشَأ حديثًا ذراعًا عسكريةً للهجري. يستهلّ الحديث معنا من انشقاقه عن جيش النظام في عام 2015 حين كان يخدم في محافظة إدلب، وهي رواية يشكّك فيها ناشطون التقيناهم في وقت سابق، متحدّثين عن فرار من الجيش وليس انشقاق. ينتقد الشوفي نظام الأسد، لكن لا يُخفي معارضته لفصائل الثورة، بقوله إنّ الأسد وبعد إطلاقه المساجين المتطرّفين في صيدنايا (2012) “حوّل الثورة إلى إرهاب”.

لا تُعرف انطلاقة واضحة للمجلس، بعد سقوط النظام أو قبله، ويظهر حديث الشوفي عن التأسيس مرتبكًا، يقول إنّ تشكيله بدأ مع بدء حراك السويداء (2023)، ثم يعتبره امتدادًا للمجلس العسكري للجنوب (2016)، والمجلس العسكري الذي كان يقوده العقيد المنشق ربيع حمزة، قبل أن يُشير إلى أنّ الإعلان عن مجلسه حصل “لحظة سقوط النظام، وبعض الفصائل انضمت إلينا بينهم (نشام الجبل)، وبعضها الآخر عارضنا”، وفي مقدّمة المعارضين له، أكبر فصيلين مسلّحين في الجبل: رجال الكرامة وأحرار العرب.

يعود ليضيف “كنّا نعمل في السرّ مع الجيش الحرّ منذ الانشقاق، في درعا والقنيطرة ودير الزور والمنطقة الشرقية”. ماذا عن عناصره وتسليحه؟ جميعهم من الجنود المنشقّين، لم يذكر عددهم. أمّا التسليح فيقول إنّه جاء “بأموالنا وبجهد شخصي، وعند سقوط النظام استولت مجموعاتنا على الأسلحة المتوسطة والخفيفة”، وهنا مربط الفرس لسلاح الفصائل التي تشكّلت متكاثرةً بعد سقوط النظام في الجبل.

واضحةٌ معارضة هذا التشكيل المسلّح للقيادة السورية الجديدة إذ يسمّيها “بسلطة الأمر الواقع”، ويرى أنّ وصول أحمد الشرع إلى السلطة “كان على طريقة الانقلاب العسكري؛ لم يمدّوا أيديهم للضباط المنشقين. حاولوا الاعتماد على الفصائل الموالية لهم”.

في وقت سابق، أثار الشوفي الجدل بردّه على عرض رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، قائلًا “نشكر كلّ من يدعم ويساعد في الدفاع عن الطائفة الدرزية”. يكرّر موقفه هذا أمامنا بقوله “إذا كانت إسرائيل تريد تقديم الحماية، فلا أستطيع منعها. لم أطلب منها أن تحمي الدروز، ولا أستطيع أن أرفض إذا جاءت لحمايتهم. هذا الموقف عند الحكومة”.

وعن طروحات الانفصال، يضيف “لا نريد الانفصال عن سورية، نريد علاقة جيدة مع العاصمة”، معتبرًا أنّ النظام الأمثل لسورية هو الفيدرالي “وهو مطبق فعليًا بدون إعلان”، في إشارة إلى التقسيم الواقعي الذي كان جاريًا خلال فترة الأسد. ينفي التنسيق مع أي جهة خارجية أو الارتباط بقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، ويعلّل ربطهم بها “لتشابه الطروحات”. لا تبدو للرجل أيّ حنكة سياسية؛ ففي انتقاده منفعلاً للإدارة الجديدة، يقول إنّها متطرّفة لأنّها “أقامت علاقات مع أفغانستان”، ومع “تركيا، النظام الإسلامي”، لكن يا رجل “أفغانستان دولة مساحتها أكبر من سورية بأربع مرّات ونظام تركيا ليس إسلاميًا، ماذا تقصد؟” فيتراجع قليلًا، ويقول: “نحن نعمل وفق توجيهات الشيخ حكمت الهجري، وما يقبله نقبله، نحن نملك القرار العسكري، أما القرار السياسي، فبيده”، مع العلم بأنّ الأخير نفى سابقًا دعمه للمجلس.

في المضافة التي التقينا فيها الشوفي صورة لجمال عبد الناصر وكمال جنبلاط وابنه وليد. نسأله عن سبب تعليقها، يردّ أنّها “صورة قديمة تمثل توجّه والدي، ولا تمثلني. الأفكار التي طُرحت لم تعد مناسبة حاليًا”.

يُحكى في المحافظة أنّ عناصر المجلس متورّطون في حادثة رفع العلم الإسرائيلي الشهيرة، وهذا ما ينفيه الشوفي، معتبرًا أنّها “حالة فردية”. وكان شباب من السويداء قد أنزلوا العلم السوري المرفوع وسط دوار العنقود عند مدخل السويداء الشمالي، ورفعوا مكانه العلم الإسرائيلي. لم تمضِ دقائق، حتى هرع آخرون وأنزلوا العلم الإسرائيلي، رافعين مكانه علم طائفة الموحّدين الدروز بألوانه الخمسة؛ الأخضر، والأحمر، والأصفر، والأزرق، والأبيض. حادثة تلقى استهجان كلّ من التقيناهم هنا.

من التيارات التي تتبنّى طروحات انفصالية، وإقامة الإقليم الجنوبي (في درعا والقنيطرة والسويداء) أسوة بالإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية (قسد)، وإقامة السّلام مع إسرائيل؛ حزب اللواء السوري. لم نرصد وجودًا لأنصار هذا الحزب خلال وجودنا في المحافظة، لكن حدثتنا عنه ناشطات شاركن في حراك ساحة الكرامة في أغسطس/آب 2023، قلن إنّه تأسّس بتسهيل من ضابط المخابرات السوري علي مملوك، ومؤسسه ينشط من هولندا ويُدعى مالك أبو الخير. لا يحظى الحزب بشعبية في المحافظة، لكنه يوزّع أموالًا على الناس، ولديه جناح عسكريّ يضمّ بضع مئات المسلحين، ويُعلن ولاءه للشيخ الهجري (بيان أصدره في مارس الماضي). ولا يستبعد البعض تورّط أنصاره أيضًا في حادثة رفع العلم الإسرائيلي.

في مقام عين الزمان، وسط مدينة السويداء مقرّ شيخ العقل يوسف جربوع، تبرز نواحٍ أخرى من أعمال ناشئة لمشيخة العقل الثالثة في المحافظة. تتوزّع في ساحاته لافتات تشير إلى مكاتب صحّية، وإغاثية، وخيرية، وتعليمية، إضافة إلى “مكتب حلّ النزاعات”، وهو نوع من المحكمة المحليّة أُسّست في ظلّ غياب الدولة لحلّ النزاعات الأهلية.

بدا الشيخ جربوع، الذي عُرف بمعارضته لحراك السويداء وانحيازه لنظام الأسد، مرحّباً بتشكيلة الحكومة الجديدة، مثنيًا خصوصًا على الطريقة الحضارية في إعلان الحكومة والبرنامج الذي قدّمه كلّ وزير أمام الإعلام. وعن التواصل مع دمشق، يشير إلى أنّه يحصل بالحدّ المقبول عبر المحافظ (مصطفى بكور)؛ أمّا عن التجاوب، فهو أيضًا بالنسبة له “بالحدّ المقبول”. يتطرّق إلى العلاقة التي تربطه بوزير الزراعة الجديد، ابن السويداء، أمجد بدر، وينفي أن يكون قد رشّحه، لكنّه يؤكّد على أنّه معارض قديم فصل من عمله سابقًا بسبب مواقفه المعارضة، ومن مؤسّسي ساحة الكرامة (حراك السويداء 2023). بالنسبة لمستقبل سورية ورؤيته لنظام الحكم المحبّذ له، يرى أنّ الصورة حاليًا ضبابية خصوصًا بعد أحداث الساحل والتصرّفات الطائفية؛ فهذا مبعث قلق لدى الطائفة، قبل أن يشير إلى مآخذه على الإعلان الدستوري، قائلًا إنّه لا اعتراض على أن يكون دين الدولة الإسلام أو رئيس الدولة مسلمًا، لكنّ اعتراضه على أن يكون “الفقه الإسلامي مصدرًا أساسيًا للتشريع”، فهذا تعبير فضفاض. يُظهر جربوع خلال حديثه امتعاضًا واضحًا من دمشق “ما نراه اليوم ضبابي يدعو للتخوّف، ننتظر ونراقب”.

بالنسبة لطروحات التقسيم، يؤكّد أنّ ما طُرح من مشاريع التقسيم إبّان الاستعمار الفرنسي “رُفض من أهلنا وعلى رأسهم قائد الثورة سلطان الأطرش؛ نحن جزءٌ من الجغرافيا السورية ومن المكوّن السوري، ولا زلنا متمسكين بهذا الخيار، لأنّه ضمانة للطائفة”. إذًا؛ موقف الشيخ جربوع المُعلَن ضدّ التقسيم؛ ضدّ الدويلات.

عن الملفّ الأمني، يرى أنّ التخلّي الأمني من الدولة بدأ منذ النظام الأسدي، “وخلال فترة الحرب (بعد الثورة)، شُكّلت فصائل مسلّحة، منها تابعة للجهات الأمنية الحكومية (يقصد نظام الأسد)، ومنها أهلية، ما خلق مرجعيات عدّة للفصائل المسلّحة تسبّبت بفوضى أمنية”. منذ سقوط النظام حتى الآن، لا تزال الدولة غائبة، يقول. ويشير جربوع إلى مشروع مطروح لحلّ مشكلة الأمن يتمثل بإنشاء تشكيلات من الأمن العام والجيش، عناصرهم حصرًا من أبناء السويداء ولحماية أمن المحافظة فحسب، أمّا “الإشراف فيكون لحكومة دمشق”، وهذا قد يساعد في مكافحة الفوضى ويعيد هيبة الدولة. لكن ألا يخالف إنشاء ضابطة عدلية مشكّلة “من أبناء محافظة السويداء حصرًا”، مفهوم الدولة المركزية الشاملة ويحلّ التقسيم المناطقي أمنياً؟ يردّ “صحيح لكن لكلّ وقت ظروفه”. هل هناك مشكلة ثقة بين أبناء سورية؟ يرى أنّ ما جرى في منطقة الساحل تحديدًا أضعف الثقة في الحكومة الحالية في إمكانية حفظ الأمن، ويعزّز هذا عامل وجود غير السوريين أو ما يسمّى بالمهاجرين في الجيش السوري “فلا ثقة بهؤلاء الأشخاص في محافظة السويداء خصوصًا، تاريخهم إرهابي”، ليعود إلى ما جرى في الساحل واصفًا إيّاه بأنّه “إبادة دينية وعرقية واضحة”.

ولمعالجة مسألة انعدام الثقة وبهدف عدم إفشال مساعي الدولة، سيحمي السويداءَ أبناؤها، أمّا في مرحلة لاحقة بعد استقرار دولة مدنية “قد يجوز الذهاب إلى غير ذلك”. بالنسبة للتفاهمات مع دمشق، الردّ واضحٌ: “لا نيّة لنا بتسليم السلاح، ولا نقبل دخول الغريب إلى المحافظة”، ويعني بالغريب أبناء غير المحافظة.

يستعيد الشيخ جربوع عَرَضًا الهجوم الذي شنّه تنظيم “داعش” من الناحية الشرقية عام 2018، وهُرِعَ لمواجهته خمسون ألفاً من أبناء المحافظة؛ وهو هجومٌ يستذكره أغلب مَن التقيناهم، للإشارة إلى همّة أبنائهم في ردّ الاعتداءات، دون إغفال أيادي نظام الأسد في تدبيره وفتح الطريق أمامه، عبر نقل عناصر داعش من المخيّمات إلى مشارف المنطقة الشمالية الشرقية. ويقول إنّه كان مقاتلًا في ساحة المعركة حينها إلى جانب الشيخ الحناوي.

يعود جربوع إلى الغمز واللّمز من دمشق، ويرى أنّ الأحوال تحوّلت من سيّئ إلى أسوأ بعد سقوط النظام من الناحية الأمنية والاقتصادية، مع خسارة العديد من الأهالي لوظائفهم بعد فصلهم من العمل ومنهم عناصرُ الجيش المسرّحون. ويتقدّم ملفّا فصل الموظفين؛ أو تعليق عملهم، بحسب ما يؤكّد لنا مسؤول في إدارة الإعلام بموقع آخر من جولتنا، وتسريحُ عناصر النظام السابق، أسباب المشكلة الأمنية في مختلف محافظات سورية، وليس في السويداء فحسب؛ لتتعاظم هذه المشكلة في الساحل السوري؛ الخزّان البشري لمؤسّسات نظام الأسد العسكرية والخدمية.

نتطرّق في الحديث مع الشيخ إلى مسألة التدخل الإسرائيلي، فيشير إلى أنّ زيارة وفد من حضر ضمّ 150 رجل دين وشخصية درزية سورية، إلى مقام النبي شعيب في قرية حطين، دينيةُ الطابع، وكانت قائمة قبل عام 1967، لكن بعد حرب 1973 توقفت، وانقطعت الصلات بين حضر والجولان، إذ تنقسم أحيانًا العائلة الواحدة بين مناطق سوريّة وثانية محتلّة. ويؤكّد أنّ صاحب المبادرة هو شيخ عقل دروز فلسطين موفق الطريف (المعروف بعلاقته الوطيدة مع الحكومة الإسرائيلية) لإعادة التواصل بين المنطقتَين. أمّا بالنسبة لعرض إسرائيل تقديم الحماية للدروز، فاعتبر أنّ هدفه سياسيٌّ “لإبعاد محافظة السويداء عن تاريخنا العربي والوطني، نحن لم نطلب الحماية من إسرائيل ولا نعلم أن أحدًا منا طلب ذلك”. وعن التواصل مع شيخ العقل في فلسطين، “فهذا طبيعي موجود وقائم قديمًا”، قد يكون بأوقات متباعدة لكنّه قائم “تواصل أهل بأهل، ولا يجري بحث أيّ موضوع سياسي خلال التواصل”. ويشير إلى أنّ أبناء المحافظة موزّعون أساسًا بين أربع دول (يقصد لبنان وسورية وفلسطين والأردن)، لكلٍّ خصوصيتها، “ولا تدخّل لأيّ منها في شأن غيرها”.

ليست المرّة الأولى التي تتدخل إسرائيل في شأن الموحّدين الدروز في سورية، فحين شنّ الرئيس السوري أديب الشيشكلي حملة على أهل الجبل عام 1954، واعتقل ابن سلطان الأطرش وقمع التظاهرات بالرصاص الحيّ، وجدت الفرصة سانحة لتقديم نفسها حاميةً لأهل جبل حوران، مهدّدة بالتدخل. وفي سنوات الثورة السورية، أعلنت عن مواقف مماثلة على فترات متباعدة، وصلت إلى حدّ المطالبة بإنشاء منطقة عازلة لأتباع الطائفة السوريين في الجولان المحتلّ، بعد هجوم على أبنائها في جبل السماق في إدلب (شنّته جبهة النصرة عام 2015). وكان شيخ عقل الطائفة في فلسطين موفق طريف، قد جمع مساعدات لشراء السلاح لأبناء السويداء بعد هجمات ضدّهم بين عامي 2013 و2015، كما يواظب على لقاء المسؤولين الإسرائيليين، طالبًا حماية أتباع الطائفة السوريين.

                                          ********

“يا بني وطني: ليس لكم على اختلاف المذاهب والفئات إلّا عدوٌّ واحد هو الاستعمار”

سلطان باشا الأطرش، من بلاغ الثورة عام 1925

——————————————

سورية الجديدة (2)| تاريخ سلطان الأطرش يخنق أصوات الانفصال في جبل العرب/ شهيرة سلوم

24 ابريل 2025

“ليس هنالك درزي وسنّي وعلوي وشيعي ومسيحي، ليس هنالك إلا أبناء أمة واحدة وتقاليد واحدة ومصالح واحدة ليس هنالك إلا عرب سوريون”

سلطان باشا الأطرش

صعبٌ أن تدخل جبل حوران، الاسم الجغرافي والتاريخي لجبل العرب، دون استعادة تاريخه البعيد والقريب، فسلطان باشا الأطرش يطلّ عليك من البوابة، وحكايات رفاقه في الثورة السورية الكبرى ضدّ الفرنسيين عام 1925، وثوّار الجبل ضدّ العثمانيين خلال القرون الماضية، سترافقك في كلّ حارة ومنزل ومضافة تُدعى إليها. وهذا التعلّق الذي يبديه الأهالي بتاريخهم ورموزهم الوطنية، قد يكون المفتاح لإجهاض طروحات التقسيم وقطع الأيادي الإسرائيلية. وفي لقاءاتنا مع قيادات دينية وعسكرية وناشطين في المحافظة، سنلاحظ أنّ التيار الذي تتجه بوصلته نحو دمشق يمثل الغالبية، وينطلق في موقفه هذا من تاريخ أهله الوطني والعروبي.

الحناوي: التقسيم ليس في ثقافتنا

دبيب الجوفيات أمام دارة القنوات، مقرّ الشيخ حكمت الهجري، والإنشاءات الخدميّة في مقام عين الزمان، مقرّ يوسف جربوع، يتلاشيان أمام مضافة سهوة البلاطة عند شيخ العقل حمود الحناوي. هنا، المقرّ أبسط وأكثر روحانية، حتى حديث الشيخ معنا كان أقرب إلى درس توجيهي منه إلى موقف سياسي واضح حادّ. لا يعارض الحكومة الجديدة، لكن أيضًا لا يكيل لها دعمًا واضحًا. مع هذا، يشير إلى ضرورة إعطاء فرصة للقيادة الجديدة “الحكم ملح الأرض ويحتاج لإعطاء فرصة؛ إذا أحسن، فنحن داعمون، وإذا لم يحسن، نتواصل في النصح والإرشاد والإصلاح”، مع ثناء على الخطوات الأولى التي قامت بها الحكومة “تبشّر بالخير”، ويؤكّد أنّ الشعب السوري وسطيّ غير متعصّب ولا طائفيّ. وعند الحديث عمّا يشاع عن طروحات التقسيم، ينتفض رافضًا “التقسيم لم يدخل في ثقافتنا، وننظر إلى الشعب السوري من ناحية الوحدة الوطنية”.

تستعيد طروحات التقسيم مشاريع الانتداب الفرنسي، الذي قسّم سورية إلى عدّة دويلات، فأنشأ دولة جبل الدروز، ودولة جبل العلويين (بين عامي 1921 و1936)، وهما دويلتان رفضهما قادة الثورة السورية الكبرى، وفي المقدّمة سلطان باشا الأطرش وصالح العليّ، مطالبين بسورية موحّدة مستقلّة.

نستعيد مع الحنّاوي لحظات سقوط نظام بشار الأسد. يكشف لنا أنّه قبل السقوط بثلاثة أيّام، اتصل به قائدا المعسكرين الشرقي والجنوبي، وقالا له “نحن بحمايتكم”، عندها أدرك أنّ أمرًا ما سيقع، فهذا لا يكون إلا نذير شيءٍ عظيمٍ. نهض في الليل، وكتب بيانًا صغيرًا وجّه فيه نداءً إلى الأهالي بالحفاظ على الأملاك العامة والهدوء، وعند الرابعة فجرًا في اليوم التالي، بدأت الاتصالات وعلموا بسقوط الطاغية. “كنّا نتوقّع ذلك، لكن لم نتوقّع أن يجري بهذه السرعة”؛ وهل فرحت يا شيخ؟ “شعوري لحظتها أنّ دوام الحال من المحال، ولو دامت لغيرك لما آلت إليك؟”. لم يؤيّد الحنّاوي الثورة السورية، لكنّه أيضاً لم يكن منحازاً للنظام كما كان شيخَا العقل الآخران جربوع والهجري في فترات عديدة. كان أقرب إلى الحياد الدفاعي، وهو الموقف الغالب في المحافظة خلال فترة الثورة.

انفعل شيخ العقل مرّة عند الحديث عن التقسيم، وثانيةً عند الحديث عن التدخل الإسرائيلي في الشأن الدرزي عبر الإعلان عن حماية الدروز، مؤكدًا “نحن وطنيّون ملتزمون بالقضايا العربية والإسلامية والإنسانية، لا نقبل التعامل مع أي جهة معتدية”. وعن زيارة الوفد الدرزي إلى الجولان، أكّد “نحن لم نعلم بها مسبقًا، ولم نسأل عنها”، نافيًا “أي مشاركة من أهالي المحافظة بها”، مشيرًا إلى أنّ “الذين ذهبوا هم أبناء الجولان السوري المحرومون من أراضيهم. ذهبوا لرؤية أهلهم، وهل هذه جريمة؟”.

شيخ العقل حمود الحناوي 17 إبريل 2025 (عامر السيد علي)

يستطرد للحديث عن تاريخ الدروز وثوراتهم خلال حقبات مختلفة ضدّ السلطنة العثمانية وصولًا إلى الثورة العربية الكبرى ضدّ الفرنسيين، ورفضهم الدولة الدرزية المستقلّة، وإصرارهم على سورية موحّدة، فـ”كيف نُوضع بقفص الاتهام؟”.

قبل أن نُنهي حديثنا معه، يدخل أحد الشيوخ المرافقين له حاملًا لوحة كبيرة عليها رسمٌ لشيخ على صهوة فرس أبيض يهاجم فوهة مدفع، يقول لنا “هذا جدّي أبو علي قسّام الحناوي، أحد قادة الثورة ضدّ العثمانيين في القرن التاسع عشر”. نسأله: هل تعلم ماذا قال ضابط فرنسيّ عن قتال أهل جبل العرب ضدّ الاستعمار؟ كان اسمه بينيت دوتي، شارك مع القوات الفرنسية في معركة المسيفرة (1925)، التي فتحت الطريق أمام القوات الفرنسية لاحتلال السويداء، كتب عن الثوار “لقد رأيت أولئك الجبليين المتعصبين يتقدمون نحونا وفي أجسادهم عدد من الإصابات من رصاصاتنا، يتقدمون ليموتوا فوق أسلاكها الشائكة… تقدم أولئك الشيوخ قصيرو القامة الغريبة المظهر بلحى مشعشعة طويلة كأنهم أرواح سحرية من عالم غير عالمنا، ظلوا يتقدّمون نحو أسلاكها الشائكة، ومن ثم وبحركة واحدة راحوا يقفزون من فوقها. وفجأة سقطوا جميعًا دفعة واحدة. كانوا يحملون في أجسادهم عددًا من الإصابات برصاصنا منذ اللحظة التي انطلقوا فيها”.

تدبّ الحماسة في سيماء شيخنا الذي يبلغ من العمر 72 عامًا، فيردّ السؤال بالسؤال، والحكاية بالحكاية، وهل تعلمين ماذا فعل جدّي الأكبر في معركة قراصة (1887)؟ لقد قفز نحو المدفع ونزع عمامته، وسدّ بها الفوهة. لم يقف مشايخ العقل الثلاثة إلى جانب الثورة السورية، يقول الحناوي عن ذلك بأنهم لم يريدوا الدخول بالاقتتال الأهلي، “فوقفنا على الحياد وتوسّطنا لوأد الفتنة حقنًا للدم السوري”.

قائد رجال الكرامة مع دمشق لكنه لن يسلّم السلاح

تختفي الحواجز الأمنية الحكومية في السويداء، على خلاف بقية المحافظات (باستثناء شمال شرق البلاد، حيث تسيطر قوات سوريا الديمقراطية). فالأمن لا يزال بيد الفصائل المحلّية، والتي صدّت، بدعم من المرجعيات الدينية، وأوّلهم حكمت الهجري، دخول أيّ قوّات حكومية إلى المحافظة. يصعب تخمين العدد الدقيق لهذه الفصائل، وحين طرحنا السؤال على قادة فصائل بارزة ومرجعيات دينية في الجبل، اكتفوا بالقول إنّها تكاثرت كالفطر بعد سقوط نظام الأسد، بحيث صار كلّ بضعة أنفار يشكّلون تنظيمًا مسلّحًا، خصوصًا بعد الاستيلاء على أسلحة القطع العسكرية للنظام.

وكانت كبرى الفصائل المسلّحة قد شكّلت في يناير/ كانون الثاني الماضي مجلس شورى عسكرياً، هدفه التنسيق مع دمشق لحلّ مشكلة دمج الفصائل في وزارتي الدفاع والأمن، لكن لا يظهر أيّ تقدّم في هذا الملفّ حتى اللحظة.

 قبل سقوط النظام، كانت المجموعات المسلّحة محصورة بثلاثة تشكيلات أساسية، أكبرها حركة رجال الكرامة، بقياد يحيى الحجّار (الشيخ أبو حسن)، وأحرار جبل العرب بقيادة الشيخ سليمان عبد الباقي، الذي يعدّ الأقرب إلى القيادة الجديدة في دمشق حاليًا ومبعوثها إلى الفصائل. انصبّ اهتمام هذين الفصيلين خلال السنوات الماضية على حماية الجبل. إضافة إليهما، كانت هناك تشكيلات متفرّقة أسّس بعضها ودعمها النظام السابق وإيران، وتورّطت بالخطف وتجارة المخدرات والسلاح، خصوصًا في ظلّ قرب المحافظة من الأردن، حيث تنشط في المناطق الحدودية الجردية عمليات تهريب الكبتاغون والسلاح نحو المملكة. وإلى هناك سنتجّه لنلتقي قائد حركة رجال الكرامة الشيخ يحيى الحجار (أبو حسن).

تصطف على جانبي الطريق نحو قرية شنيرة القريبة من الحدود جداول الزيتون وحقول العنب، الذي تصنع منه المحافظة نبيذها المعتّق، وتخصّص له مهرجانًا سنويًا. وبين مدينة السويداء وشنيرة، سنمرّ ببلدة الكفر، حيث يطلّ علينا تل قليب، وهو جبل مرتفع كان يشعل فوقه أهل الجبل النار إذا أحسّوا بخطر محدق بهم، ليراها إخوانهم في جبل الشيخ فيفزعون لهم. في مضافة بيت جبليّ عتيق، وسط صمت القرى الذي يقطعه مواء القطط وثغاء الغنم، نلتقي ابن الجبل أبو حسن، واللقاء الذي حجزنا له نصف ساعة وبعضَ القليل، سيمتدّ لساعة ونصف الساعة.

تعدّ حركة رجال الكرامة أكبر فصيل عسكريّ في المحافظة وتقدّر عناصره بالآلاف “بينها مجموعات سرّية تظهر بالمظهر المدني”، بحسب زعيمه، وأكثرهم تنظيمًا، ومن ضمن الأقرب إلى التحرّك الثوري في سورية، منذ تأسيسه من قبل الشيخ الثائر أبو فهد البلعوس، الذي اغتاله النظام السوري في تفجير عام 2015.

بدأ رجال الكرامة نشاطهم في عام 2012، لكنّه لم يكن منظمًا. أسّس الشيخ أبو فهد البلعوس الحركة، ثورةً ضدّ حكم دكتاتوريّ جثم على صدور السوريين لأكثر من 54 عامًا، خصوصًا في ظلّ سطوة وفيق ناصر، قائد الأمن العسكري في درعا، الذي “أبدع في زرع الفتنة والفساد بيننا وبين أهلنا في درعا”، على حدّ وصف الشيخ يحيى.

حين بدأت الحركة نشاطها، كان عناصرها ثلّة يعدّون على أصابع اليد الواحدة “لأنّ الخوف الذي زرعه النظام منع أبناء المنطقة من رفع الصوت”. بين عامي 2013 و2014، تقصّدت الحركة اعتماد نظام البيارق في تشكيلاتها العسكرية، وهو تقليد حربي قديم في جبل العرب، عُرف خصوصًا خلال الثورة السورية الكبرى ضدّ الانتداب الفرنسي.

في مرحلة متقدّمة، أطلق أبو فهد دعوته بتحريم الدمّ السوري على السوري، وأعلن رفض التجنيد. كيف نفّذ ذلك؟ في البداية، منعت الحركة دخول البيوت والقبض على مجنّدين، ثمّ أُعلن عن حُرمة دخول البيوت “من العنات إلى الثورة”، أيّ من أوّل ضيعة في الجبل إلى آخرها. وكان هناك أكثر من 40 ألف متخلّف عن الجيش. وشمل قرار أبو فهد محافظة درعا، كما يقول قائد حركة الكرامة. وعلى أثر هذا التصعيد، خطط النظام لاغتيال أبو فهد على طريق الجبل، ونجح بذلك. كان الشيخ أبو حسن حينها في المستشفى الذي تعرّض لتفجير ثانٍ عبر سيارة مفخّخة.

تولّى الحجار قيادة الحركة بعد أبو مسعود البلعوس، وأعاد تنظيم صفوفها بعد مرحلة من الانقسامات. ظلّت الحركة على معارضتها لنظام الأسد. واكتشفت في التقارير الاستخبارية التي انفضحت بعد سقوط النظام أنّه يدلّل على عناصرها بـ”العميل الإرهابي”.

يستحضر زعيمها هجوم “داعش” 2018، ويستدلّ به للإشارة إلى استبسال أبناء الجبل في ردّ العدوان عبر “جيش الفزعة” الذي شُكّل حينها عفويًا من خمسين ألف مقاتل. يكشف أنّ حركته رصدت قبل ذلك الهجوم تحرّكًا لنقل عناصر داعش بحافلات تابعة لنظام الأسد من مخيم اليرموك إلى المشرّف، ما يدلّ على أنّه هجومٌ مدبّر. ويضيف دليلا ثانيا يتمثّل في تهديد مستشارة الأسد لونا الشبل، ابنة السويداء، لأهالي منطقتها بأنّهم إذا لم يرسلوا أبناءهم إلى الجيش، فإنّ داعش قد يهاجمهم، ما يشير إلى تعامل واضح بين النظام وداعش. يضيف أن “داعش صديق النظام. لم تُسجّل معركة قوّية مع النظام، ما يدلّ على ترابط بينهما قولًا واحدًا. داعش كان العصا التي يضرب بها النظام”. لكن هذا لا يعني أنّ حركة رجال الكرامة لم تتعامل مع نظام الأسد “فتحنا خطوطًا معه لإطلاق أبنائنا الموقوفين”.

ماذا عن تسليم السلاح وحلّ الحركة؟ يجيب إنّ الرئيس السوري أحمد الشرع وجّه دعوة إلى رجال الكرامة وغيرهم من الفصائل، لحلّ الفصائل. لكن “السلاح وُجد للدفاع، فإذا تأمّن عندها نسلّم الثقيل منها”. يضيف “سلاحاتنا متل قمحاتنا، لن نسلّمها. نحن جاهزون لتسليم السلاح الثقيل الذي غنمناه من النظام، لكن سلاحنا الذي جلبناه نحن والناس التي فزعت لنا به، لن نسلّمه”. كما أنّ المرشحين من أبناء السويداء للأمن العام سيكون دورهم في المحافظة حصرًا وليس في بقية المحافظات، وهو موقف يتقاطع مع غالبية القيادات الدينية والعسكرية. ويرى أنّ ما جرى في الساحل والفوضى الأمنية لا تشجّع على تسليم السلاح، ومعالجة المشكلة قد تتطلّب سنوات.

يدعو أبو حسن إدارة الشرع إلى أن “تحبّب الناس فيها، نحن في مرحلة خوف. لا توجد ثقة”. ويزيد من الطين بلّة: “التاريخ غير المشجع للهيئة. الناس لم يتقبلوها بعد، لا يزالون ينادون العناصر الأمنية (المندمجين في وزارتي الأمن والدفاع) بالهيئة”، وفي هذا إشارة من الشيخ لاحظناها خلال وجودنا في سورية على فترات متباعدة. يقول إن “مجزرة الساحل ضيّعت كلّ الشغل السابق للحكومة. حالة واحدة لم يقدروا على السيطرة عليها؛ هذا أفقد الثقة”، ودعا إلى محاسبة المعتدين في مجازر الساحل ومعالجة الانتهاكات لحلّ مشكلة انعدام الثقة.

إلى نتنياهو قولاً واحداً: لا نريد حمايتك

يؤكّد الحجار أنّ توجّه حركته هو “دمشق قولًا واحدًا؛ وتاريخنا عروبي. التقسيم مرفوض”. ماذا عن التدخّل الإسرائيلي في الشأن الدرزي؟ “نحن لا ننكر تواصلنا مع أهلنا في فلسطين، في صلة قرابة وعلاقة مصاهرة. لكن علاقتنا مع السلطة الإسرائيلية صفر”. ولا يُخفي تخوّفه “من التدخل الإسرائيلي، في ظل طروحات (رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين) نتنياهو”. ويعرب عن تصوّره بأنّ الأخير “أصبح قوّة في المنطقة، والحكومة السورية الجديدة اليوم ليست جاهزة لفتح حرب جديدة مع إسرائيل، كما أننا لا نتمنى وقوع حرب بين إسرائيل وتركيا أو بين إسرائيل وإيران، لأن أي حرب جديدة ستكون ساحتها السويداء، ويبدو أن إسرائيل مستفيدة من حالة الفوضى، وتريد استمرار هذه الحالة”. أمّا نتنياهو “سيئ الصيت”، فلا يدّعي حماية الدروز محبّة بهم، “ولكنّه يريد اللعب بورقة الأقليات، ونحن نقول له لا نريد حمايتك قولًا واحدًا”.

رغم كلّ شيء، الفوضى الأمنية وغياب الثقة، فإنّ الشيخ متفائل: “الحكومة تحتاج وقتًا، وليس معها عصا سحرية لحلّ كلّ مشاكلنا”. قال لنا إنه اتصل بوزير الزراعة الجديد (أمجد بدر، ابن السويداء) فور تعيينه، وطلب منه أن يعمل لأجل كلّ سورية، وليس من أجل السويداء فقط. وتمنّى أن تتوفّر له الفرصة بعد استعادة الأمن للعودة إلى حياته الأولى فلاحًا في أرضه، وراعيًا لقطيع من الغنم يملكه في القرية.

تحدّث الشيخ عن اللحظات الأولى بعد سقوط النظام، قال إنّه بعد اتضاح أمر السقوط، توجّهت عناصره إلى قطع عسكرية للنظام كانت مرابطة في السويداء وطلب من الضباط تسليم السلاح والانسحاب، مَن سلّم سلِم، ومن رفض وقاوم تعرّض لهجوم وسقط قتلى من الجانبين.

يكشف لنا الشيخ يحيى عن حادثة كان شاهدًا عليها عند سقوط النظام السوري وتوجّه فصائل الجنوب نحو دمشق. ينقل الرواية عن ابن عمّه، وهو مقاتل شاب في صفوف حركته. يقول إنّه ورفاقه وأثناء اقتحامهم المقرّات الأمنية والاستخبارية، توجّهوا إلى فرع فلسطين، وهناك عثروا على مستودع مليء بالسلاح، لكن ما كادوا يضعون أيديهم على الغنيمة حتى باغتتهم فرقة من اللواء الثامن الذي يقوده أحمد العودة. وطلب عناصر الفرقة من رجال الحركة أن يخرجوا فورًا بأسلحتهم الفردية الخفيفة، قبل أن يلاحظوا أنّ الكثير من الأسلحة والأوراق المهمة استولى عليها اللواء الثامن (التابع للفيلق الخامس). خلال الأيّام الماضية، جرى حلّ اللواء الثامن في درعا، في خطوة مهمة على طريق دمج الفصائل وتسليم أسلحتهم في محافظات الجنوب، فهل تُحلّ عقدة السويداء؟

في طلعة طريق فرعي في مدينة السويداء، بيتٌ يسكن كتفًا من الجبل، تُعرض في إحدى غرف أرضيّته أشغالٌ يدويّة بسيطة، يُعرف بها عادة أهالي الجبال، كالمخرّزات، والمزخرفات، والمطرّزات، والمحيّكات، والصابون البلديّ، وغيرها من اليديويات التي تصقلها أيادٍ ناعمة. يعجّ المعرض البسيط بأهالي المنطقة؛ طلابًا ومعلّمين وناشطين وصغار فلاحين. كثيرٌ من الحضور شارك في حراك السويداء، خصوصًا النساء اللواتي تصدّرن المشهد في ساحة الكرامة على مدى عام ونصف العام.

في داخل القاعة وساحتها الخارجية، يشكّل الحضور تلقائيًا مجموعات صغيرة. يتبادلون أطراف الحديث حول أحوال البلد، يحتدّ النقاش، وتتباين وجهات النظر قبل أن تعود وتلتقي. حسن الأطرش، مدرّس مادة الإحياء في إحدى مدارس الجبل، يرى أنّ حلّ مشكلة البلد يكون عبر الحياة السياسية الديمقراطية، ومفتاحها إنشاء الأحزاب. نظام الحزب الواحد خرّب الحياة السياسية. يتقدّم قليلًا نحو فتاة عشرينية مشيرًا بيده وموجّهًا حديثه إلينا، فتلتفت الفتاة وتقف له. يقول إنّها أكثر تلاميذه نباهةً، “استمعوا إليها”. تخرّجت الفتاة حديثًا من كلّية الهندسة، وتقيم حاليًا في دمشق، وتنشط في الحزب الشيوعي السوري المؤسّس حديثًا، وتقول إنّها ورفاقها بدأوا العمل على تنظيم أنشطتهم للمشاركة في الحياة السياسية بفعالية.

على بُعد أمتار قليلة من المنزل المستضيف للمعرض، متحفٌ لمروان قاسم أبو خير، وهو أحد وجهاء المدينة، فيه مقتنيات قديمة جمعها في فترات متلاحقة، تعبّر عن عادات وتقاليد وبعضٍ من تاريخ أهل الجبل، بينهما أدوات زراعية قديمة: حمّالة توضع على ظهر الجمل تسمّى “الشاغر”، ومطاحن ومحمصة (محماسي)، وأباريق قهوة عربية يسمّيها أهل القرى “مصبّات” وقناديل يسمّونها “لوكس”؛ تسميات يتشارك بها أبناء المنطقة من قرى الجبل والسهل خصوصًا. يدلّنا على صندوق أسلحة خشبيّ قديم، حوّله إلى خزانة للكتب “استبدلنا الرصاص بالكتب”، يقول منقّلًا نظرنا بإشارات من يديه بين أدواته القديمة. يحتفظ في متحفه الصغير أيضًا بأنبوب قديم يسمّى محلّيًا “بوري”، كان جزءًا من تمديدات اشتغلتها ابنة الجبل أسمهان الأطرش لنقل المياه من النبع إلى ضيعتها عيرة عام 1943. وقبل تمديدات الـ”بوري”، كان “المنشل”، وهي جرّة حديدية بيضاوية الشكل، كانت سيّدات الجبل يتخصّرنها لنقل المياه من النبع.

في كأس نحاسيّ، ملاعق ذهبية. يحملها أبو خير ويشير إلى أنّ الجنرال ديغول كان قد استخدمها عام 1941 لتناول العشاء في مضافة جدّه قاسم أبو الخير، عضو قيادة الثورة السورية الكبرى الـ13 (إلى جانب إبراهيم هنانو وصالح العلي وسلطان باشا الأطرش وغيرهم). يومها جاء ديغول إلى صلخد، ثم إلى عرمان القريبة، حيث منزل أبو خير، آتيًا إليه لاستسماحه بعدما هدم الفرنسيين داره، وحاملًا إليه تعويضًا. رفضه أبو الخير وردّ عليه “أنا لا أقبض ثمن جهادي”. عرض عندها ديغول أن يحمل ابنه الصغير جاد الله، لتعليمه في فرنسا. فردّ أبو الخير “لا أريد منك شيئًا، أريد فقط أن تترك بلادي وتذهب إلى بلادك”. ينادي مضيفنا أبو الخير زوجته لتحضر له مسدّسًا. المسدس لأبيه، وهو واحد من 13 مسدسًا أهداها مفتي القدس أمين الحسيني إلى رفاق الثورة السورية الكبرى.

عند مغادرتنا محافظة السويداء بعد جولة طويلة، سنتلقّى على هواتفنا خبرًا عاجلًا يفيد: “إسرائيل تلغي قرار السماح بدخول العمال السوريين الدروز للعمل في الجولان المحتل”.

العربي الجديد

—————————————-

سورية الجديدة (3)| المواجهة المؤجّلة مع إسرائيل/ شهيرة سلوم

25 ابريل 2025

بعد ساعات من سقوط نظام بشار الأسد، في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024، أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو سقوط اتفاقية فصل القوّات الموقّعة إثر حرب 1973، وأمر جنوده بالتقدّم واحتلال المنطقة العازلة، لفرض واقع جديد على طول ثمانين كيلومترًا من المنطقة الحدودية الفاصلة والممتدة من جبل الشيخ شمالًا إلى ريف درعا جنوبًا، منهيًا بذلك خمسة عقود من السلام الصامت بين إسرائيل وسورية.

بدأت إسرائيل “ترتيبها الجديد”، مدفوعةً بجنون التفوّق الذي حققته على عدّة جبهات؛ فطالما أنّها قادرة على النجاة من حرب إبادة وتغيير المعادلات في المنطقة، لمَ لا تتقدّم نحو قضم المزيد من الأراضي؟ ليس صعبًا تخمين نيّات إسرائيل، فقد صار بيّنًا أنّها تتطلّع إلى التوسّع وضمّ الأراضي المحتلّة، وفرض هيمنة أُحادية، ماذا يترك كلّ هذا لسورية الجديدة شعبًا وقيادة؟ خياران؛ المواجهة أو المواجهة. وبما أنّ السلطة الجديدة غير قادرة حاليًّا على هذا، ولا راغبة أيضًا، قد تصير المواجهة عبر المقاومة الشعبية خيارًا.

خلال فترتين متباعدتين؛ الأولى في الأسبوع الرابع من سقوط النظام، والثانية في الشهر الرابع منه، جُلنا في مناطق حدودية. بدأنا من القنيطرة وانتهينا في ريف درعا الغربي، لرصد تحرّكات إسرائيل، ومحاولاتها في خلق وقائع جديدة.

بدأ الاجتياح من المنطقة العازلة، فاحتُلّت في غضون ساعات، قبل أن تتوغّل قوّات الاحتلال باتجاه القنيطرة، متقدّمةً خمسة إلى عشرة كيلومترات عن خطّ وقف إطلاق النار خلال الأسابيع الأولى. واحتلّت ثلاث قرى محاذية للخطّ على الأقلّ عبر نصب حواجز عسكرية فيها ومنع السكّان من الدخول والخروج، بحسب ما قال لنا الأهالي يومها، وكانت دبابابتها حين وصلنا إلى المنطقة في الأسبوع الرابع من سقوط النظام، تتمترس عند مشارف مدينة السلام (البعث سابقًا) التي تبعد أقلّ من 2 كيلومتر عن خط وقف إطلاق النار. رافقت التوغّلات عمليات تجريف أراض، وحفر خنادق، وبناء سواتر ترابية، ونصب حواجز عسكرية، ونقاط رصد ومراقبة، خصوصًا في التلال والمواقع المرتفعة. انسحبت قوّات الاحتلال بعد شهرين من مدينة البعث بعد أن عاثت خرابًا في مبنى المحافظة والمحكمة، حيث تمركزت قوّاتها، فيما واصلت توغّلاتها في البلدات المحاذية للشريط العازل، معزّزةً الحواجز العسكرية.

احتلّت إسرائيل القنيطرة بعد حرب 1967، قبل أن تستعيدها سورية مدمّرة ومهجّرة وحدها بدون الجولان بعد حرب 1973، لكنّها بقيت منطقة منزوعة السلاح، بموجب اتفاقية فصل القوّات (1974). وتنصّ الاتفاقية على أن تكون القوّات الإسرائيلية غربي خط وقف إطلاق النار (أ)، والقوّات السورية شرقي الخط (ب). وتقع منطقة القنيطرة، غربي الخط (أ-1)، ولا توجد قوّات عسكرية بين الخطين (أ) والخط (أ-1)، فيما تكون الأرض شرقي الخط (أ) تحت الإدارة السورية، أمّا منطقة الفصل، فمحدّدة بين الخطين (أ) و(ب).

وتبلغ المساحة الفاصلة بين الخطين، والتي احتلتها إسرائيل مع سقوط النظام، 235 كيلومترًا، بطول 80 كيلومترًا، وعرض يبدأ من 200 متر جنوبًا ويتّسع حتى 10 كيلومترات وسطًا وشمالًا. وإضافة إلى منطقة الفصل التي تتمركز فيها قوات الأمم المتحدة “أندوف”، يقرّ الاتفاق منطقتين متساويتين لتحديد الأسلحة والقوات. وقد لاحظنا خلال توجّهنا من ريف دمشق إلى القنيطرة، اختفاء آثار النقاط والآليات العسكرية للجيش السوري، كلّما اقتربنا أكثر من الشريط الحدودي. وبحسب ما علمنا من جنود سوريين كانوا يتجمهرون أمام مركز لتسوية أوضاعهم وتسليم سلاحهم في القنيطرة بعد سقوط النظام، أنّهم كانوا يتوزّعون في نقاط محدودة داخل تجمّعات مدنية، ويحملون أسلحة فارغة من الرصاص.

سورية وحرب النفوذ بين إسرائيل وتركيا

خلال سنوات الثورة، حاولت إسرائيل التدخل، ولو بشكل محدود وبأساليب ناعمة في مناطق الشريط الحدودي، بغرض خلق بيئة صديقة خصوصًا بعد سيطرة فصائل المعارضة (وبينها الجيش الحرّ وجبهة النصرة) على القنيطرة وريف درعا الغربي المحاذيَين، وهو ما أدّى لاحقًا إلى تعليق عمل القوّات الدولية في المنطقة الفاصلة “أندوف”. وأطلقت إسرائيل في محافظة القنيطرة عملية أسمتها “الجار الطيب” في محاكاة لسياسة “الجدار الطيب” في لبنان، خلال الحرب الأهلية، حين تقرّبت من فصائل مسيحية وأرسلت إليها السلاح، قبل أن تنشئ لاحقًا مليشيا لحد في الجنوب (أكتوبر1976).

غير أنّ عمليتها في القنيطرة لم تتطوّر إلى إنشاء مليشيات، فقد بدأت بتطبيب جرحى مدنيين ومسلّحين، وتقديم مساعدات إغاثية، ثم وصلت إلى دفع رواتب مرتفعة لمسلّحي فصيل من بضع مئات يسمّى “فرسان الجولان”، الذي انحلّ بعد سيطرة نظام الأسد على المحافظات الجنوبية كاملة بدعم روسي وإيراني عام 2018. وتعهّدت روسيا حينها، بإبعاد مليشيات إيران وحزب الله عن الحدود.

لم تقع مواجهات مباشرة بعد في ريف القنيطرة بين القوّات المتوغّلة والأهالي، على خلاف مناطق ريف درعا الغربي، حيث وقعت اشتباكات بين مواطنين سوريين مسلّحين وقوّات الاحتلال؛ في حدث غير مألوف سوريًّا. وإلى تلك المنطقة، وتحديدًا مدينة نوى في درعا، سنتّجه بعد أيّام من سقوط تسعة شهداء في قصف إسرائيلي، وصفه الأهالي بأنّه “اشتباك مباشر دفاعًا عن أرضنا”.

نواة مقاومة

على بعد أمتار من سدّ الجبيلية في بلدة نوى بريف درعا الغربي، تمركزت قوّة إسرائيلية في بناء فارغ من طابق واحد وسط منطقة زراعية، قبل أن تُجبر على الانسحاب بحماية رتل من المروحيات والدبابات، بعد اكتشافها من أهالي نوى. ما عثرنا عليه في البناء من مخلّفات طعام معلّب وسكاكر ولوحة زهر وشطرنج، يدلّ على أنّ القوّة مكثت في المكان لفترة. على أحد جوانب لوحة الزهر والشطرنج، حروفٌ عبرية ירין דלל Y.D، وترجمته “يارين دلال”، يبدو أنّه اسم صاحب اللوحة.

من سطح البناء، يطلّ علينا الجولان المحتلّ؛ أراضٍ زراعية خصبة تتوزّع فيها عَنفات هوائية، يعلوها تلّ الفرس، وفي قمّته تظهر بالعين المجرّدة منشآت للرصد والرقابة، وتتصل به سلسلة تلال منخفضة. تتقدّم التلال على طول خط وقف إطلاق النار تجمّعات سكّانية لقرى الشجرة، وعين ذكر، وسحم الجولان، وكويا. بعيدًا عن سفوح تلال الجولان وقممه نمدّ النظر شمالًا، فيتراءى لنا جبل الشيخ (جبل حوران) بقممه الأربعة ملفوحًا بالبياض، والذي احتلته إسرائيل كاملًا بُعيد سقوط الأسد. يتجاوز ارتفاع أعلى قمم الجبل 2800 متر، ويكشف مثلثًا حدوديًّا يمتد إلى جنوب شرقيّ لبنان، ما يعدّ نقطة استراتيجية لإسرائيل، جعلت منه أهمّ مركز للرصد والتجسّس، حين احتلّته بعد حرب 67، فيما بقي جزؤه الشرقي تحت السيادة السورية (مساحة 80 كلم من ألف كيلومتر هي إجمالي مساحة الجبل).

المنطقة المحيطة بالبناء زراعية بالكامل، وتظهر فيها مراعٍ للماشية، يقول أهالٍ من المدينة التقيناهم لاحقًا بأنّها مقصدٌ للمتنزّهين. نتقدّم داخل المنطقة الزراعية كيلومترات قليلة نحو المكان الذي سقط فيه تسعة شهداء باستهداف مباشر من المروحيات الإسرائيلية. في المكان أثرُ مجزرة؛ أحذية وحاجات شخصية ممزّقة، ورصاصات فارغة تشي بوقوع مواجهة. يشرح مسؤول أمنيّ ما جرى: رصد مزارعون توغّل قوّة إسرائيلية في أراضيهم؛ فسارعوا للتصدّي واتّصلوا بالأهل والجيران مستغيثين. لبّى شبيبة من القرية نداء الفزعة حاملين أسلحة خفيفة؛ بعضٌ هرع راكضًا، وآخر ركب درّاجات نارية. رصدتهم قوّات الاحتلال، واستهدفت مجموعة منهم بصاروخ من مروحية.

ويشير إلى أنّ رتلًا من القوّات الإسرائيلية معزّزٌ بآليات ومروحيات عسكرية تقدّم من جبيلية على بُعد أربعة كيلومترات، لتخليص “القوّة المحاصرة” من الأهالي، قبل أن يستهدف الشباب. وشاركت في التوغّل أكثر من 40 آلية عسكرية وثلاث مروحيات. الرواية التي عرضها علينا الأمني تتقاطع مع حديث والد أحد الشباب الضحايا، يقول إنّه فقد ثلاثة من أبنائه، اثنين في قتال نظام الأسد، والثالث في صدّ الاعتداء الإسرائيلي، ويضيف أنّ ابنه (21 عامًا) تلقى اتصالًا من أبناء جيرانه يطلبون النجدة بعد حصارهم من قوّة إسرائيلية، فحمل سلاحه مع شباب من المدينة وسارعوا إلى المكان، لكن قوّة إسرائيلية رصدتهم.

العناصر الأمنية التي رافقتنا إلى المنطقة، كانت من حمل جثامين الشباب بعد الانسحاب الإسرائيلي. على مشارف مركز أمني يطلّ على سوق شعبيّ في نوى، يخبرنا المخوّل بالتحدّث للصحافيين بأنّ الأهالي أطلقوا على الضحايا لقب “شهداء السنوار”، وبأنّ ما جرى كان هبّة دفاعية تلقائية ردًّا على التوغّل والاستفزاز، ومنع الأهالي من الوصول إلى زرعهم، وسرقة أغنامهم (سرقت قوّات الاحتلال 70 رأس غنم) “الجميع هنا مسلّح، الشيخ، والشاب، والصغير؛ وحين تُحتلّ أرضهم، سيهبّون بالغريزة دفاعًا. هناك دروس قديمة وجديدة تعلّمناها، نرى ماذا يفعلون في غزّة (في إشارة إلى حرب الإبادة). لن نترك أرضنا لهم”.

يرصد الأهالي أكثر من 50 توغّلًا إسرائيليًّا في منطقة درعا وحدها منذ ديسمبر/كانون الأوّل 2024، أعمقها وصل إلى سبعة كيلومترات. يترافق ذلك مع عمليات مماثلة لما يجري شمالًا من تفتيش للمنازل وتجريف أراض وشقّ طرق وحفر خنادق، وتشييد نقاط محدّدة ثمّ الانسحاب وإعادة التموضع. ومما يسرّب إسرائيليًّا، يبدو أنّّ هناك مخططًا لتوسيع منطقة السيطرة إلى عمق 15 كيلومترًا، وخلق منطقة نفوذ استخباري حتى 60 كيلومترًا، يعني إلى أبواب دمشق.

في وسط مدينة نوى التي يقترب عدد سكّانها من مئة ألف على مساحة 22 كيلومترًا مربعًا، تُنصب بيوت العزاء عند ذوي الشهداء، إلى جانب بيت عزاء مركزي، تأتيه وفود من القرى المجاورة القريبة والبعيدة، تسارع الخُطى على وقع هتافات التكبير و”لبيك يا شهيد”. قد يتجاوز عديد الوفد الواحد ألف شخص، بحسب ما رصدنا أثناء وجودنا أمام خيمة العزاء بعد أسبوع من الحادثة. يؤدّي الوفد الذي يتصدّره وجهاؤه، واجب العزاء، قبل أن تُلقى كلمات على مكبّر نُصب وسط الساحة، ترثي الشهداء، وتشدّد على المقاومة. ظلّت الوفود تتسابق إلى نوى لأكثر من أسبوع، جاءت من حلب وحماة ودمشق وريفها واللاذقية وإدلب وطرطوس ودير الزور، وغيرها من المحافظات، يتقدّمها وجهاؤها.

المشهد في نوى، لم يختلف عن قرية كويّا، التي تبعد 30 كيلومترًا في أقصى الجنوب الغربي، فالثانية قد سبقت الأولى إلى الاشتباك مع القوّات الإسرائيلية بأسلحة خفيفة، عند تصدّي شبابها لعمليّات توغّل. واستُشهد وقتها سبعة وأصيب آخرون.

بين الليلة والبارحة

تتقاطع تحرّكات إسرائيل في سورية والمنطقة عمومًا اليوم، مع الفترة التي سبقت حرب 67؛ وقتها، صعّدت اعتداءاتها إلى أن استولت على أراضٍ عربية، لا تزال تحتلها، واليوم تصعّد لتثبيت احتلالها وقضم المزيد من الأراضي. فبعد حرب 48 وتوقيع اتفاق الهدنة (1949)، ثُبّتت حدود مؤقتة لإسرائيل مع سورية وأُنشئت منطقة منزوعة السلاح بمحاذاة سهل الحولة، وبحيرة طبريا، وفي القنيطرة. غير أنّها عملت على خلق وقائع تفتح الطريق أمامها نحو السيطرة على مواقع استراتيجية؛ فراحت تهاجم بين الفينة والأخرى القوّات السورية المتمركزة عند بحيرة طبريا، وترسل جنودًا إسرائيليين متنكّرين فلاحين إلى المناطق السورية لاحتلال مناطق. ومع حلول 1960، كانت قد أمّنت سيطرتها التامة على بحيرة طبريا وبدأت تنفيذ مشروع الناقل القُطري، لجرّ مياه البحيرة إلى صحراء النقب والسيطرة على روافد نهر الأردن. ثم راحت تمهّد لحرب موسّعة، وصعّدت تحرّشاتها، وهدّدت بغزو دمشق واحتلالها، فاستفزت مصر. نشبت الحرب (1967)، واحتلت إسرائيل، القدس والضفة وسيناء وشرم الشيخ، ومعظم الجولان (1200 كلم مربع من إجمالي 1860)، والقنيطرة، ثمّ استولت على جبل الشيخ. وفي المحصلة، خسرت سورية المناطق المنزوعة السلاح التي أُنشئت في عام 1948.

بعد نكسة 67، خططت سورية سرًّا مع مصر للحرب، وباغتتا إسرائيل في السادس من أكتوبر. خلال ثمان وأربعين ساعة، كانت القوّات المصرية قد عبرت قناة السويس، وسيطرت على خط بارليف. على الجبهة السورية، استعادت القوّات القنيطرة وهضبة الجولان كاملةً وجبل الشيخ، وتقدّمت نحو سهل الحولا ومشارف بحيرة طبريا. قبل أن تتوقف مصر عن القتال للتفاوض. بدأت إسرائيل عندها هجومًا معاكسًا، فاحتلت الجولان والقنيطرة وراحت تهدّد دمشق. توقفت الحرب في 16 أكتوبر (القرار 338). وانسحبت إسرائيل من مواقع احتلتها، لتستعيد سورية فقط 100 كيلومتر مربّع ضمنها القنيطرة، بموجب اتفاق فصل القوّات الذي أخرجه هنري كسينجر، صديق إسرائيل، الذي لم تعرف له مثيلًا. يقول باتريك سيل عن الاتفاق “نجح كسينجر في جعل سورية شرطي حدود (عبر منع هجمات الفدائيين)”. دخلت سورية بعدها مرحلة لا سلم ولا حرب، لأكثر من نصف قرن، ظلّت تتأرجح خلالها بين جولات معلنة وأخرى سرّية من مفاوضات السلام.

——————————–

سورية الجديدة (4)| الطائفة المخطوفة في الساحل ماضياً وحاضراً/ شهيرة سلوم

26 ابريل 2025

يتقدّم بخطى بطيئة في وضح النهار على رصيف بحريّ خاوٍ. يخبط رجلًا في الأرض، ويُرخي الثانية، فتهرّ معوجّة. يحني ظهره، وكأنّه يجرّ حملًا ثقيلًا. خطوط وجهه ثمانينيّة. يلتحف بمعطف ووشاح لا يدلّان على شظفٍ أو مشقّة. يمدّ يده “لللاه… أعطونا مالًا لله”. حروفه تخرج متعثّرة، والرعشة تهزّ أطرافه، لكنّ عينيه متصلّبتان، لا ترفّان، البؤبؤ يتّسع ملامسًا الحدقة، والبياض ثلجيّ وضّاح. يهدج العجوز وحيدًا على رصيف مدينة جبلة في الساحل السوري، غير مبالٍ لعنصر الأمن الواقف معنا ولا للصيّاد عند الشاطئ ولا للبحر، كمن خسر كلّ شيء.

من أين أنت يا عمّ؟ من الزهيريات. وأين تقيم؟ مكان قريب. حرقوا منزلي هناك، واستأجرت منزلًا هنا. وعائلتك؟ يأخذ نفسًا عميقًا، ثمّ يحبسه، وتغرورق عينانه “عندي خمسة؛ ثلاث بنات وشابان”. هل أصابهم أذىً؟ يهزّ رأسه بخفّة يمينًا ويسارًا مومِئًا “لا”، ويمضي. نتبعه. قتلوا جيراني، رأيتهم. يريد قتلنا لأنّنا علويون. الزهيريات بلدة معظم أبنائها من الطائفة العلوية، تقع عند أطراف مدينة جبلة. شهدت اشتباكات لعدّة أيّام بين فلول النظام والقوّات الأمنية؛ أُحرقت فيها منازل، وسقط قتلى.

تعكس حالة الشيخ؛ الصدمة، الخوف، والانقسام الطائفي الحاد، ما تعيشه الطائفة العلوية (تشكّل ما نسبته 10% إلى 13% من سكّان سورية) في الساحل السوري منذ هجمات ومذابح الثامن من مارس/آذار الماضي. يتفق كثيرٌ من أبنائها الذين التقيناهم في الساحل على وصف حال طائفتهم بالمخطوفة؛ ماضيًا وحاضرًا. فقد حوّلها نظام حافظ الأسد ماضيًا إلى ذراع أمنية لحماية نظامه. وصار الجيش طريقًا للتنفّع وسلّمًا للترقّي لأبنائها، سادًّا أيّ سبيل أمامهم للعيش خارجه، إلى أن صاروا يشكّلون الغالبية في كل من الجيش والأجهزة الأمنية، خصوصاً بعد الثورة، ويقبضون على المناصب العليا. وحين وقعت الحرب، استغلّ ابنه بشار، الطائفة خزانًا بشريًا للنجاة من السقوط. وبعد سقوطه وفراره، اتخذها رجاله الفارّين من العدالة دروعًا بشرية، وأعطوا ذريعةً لثلّة من المتطرّفين المدفوعين بغريزة الثأر لأن تشنّ مذابح طائفية. في رواياتهم، يفرّق من التقيناهم بين شرطيّ سيّئ لا وجه له، رأوا ملامحه حين وقعت المذابح، وشرطيّ طيّب بائن الوجه.

أن تتطرّق إلى موضوع طائفي في بلادنا مسألة شديدة التعقيد؛ لؤمٌ أن تسأل الناس عن هويتهم الطائفية “علويٌّ أنت، أم سنّي؟” وحين تستحي، تسأل عن منطقتهم، وتشغّل رأسك في التخمين لحياكة القصة الكاملة، والأشدّ خبثًا أن تبحث في العلامات الفارقة؛ اللهجة، اللباس. لكنّ لا مفرّ من هذا لتدوير الزوايا. أوّلًا وأخيرًا، ستتكشف ملامح الجريمة كاملة، لكن يبقى أنّ الانقسام الأهلي الموجود حاليًا صعبٌ أن يُسقط إلا بعدالة شاملة، ومحاكمة مجرمي الأمس واليوم.   

في المكان الذي التقينا فيه العجوز قبالة البحر؛ في ضاحية مدينة جبلة، شاهدنا الانقسام الطائفي الحادّ بأمّ العين في الساحل السوري. انقسامٌ عموديّ، والخطّ الفاصل، مبنى أزرق عند الرصيف البحري، يمثل بالنسبة لأبناء المنطقة علامة فارقة تشقّ البرّ والبحر والشاطئ طائفيًا؛ بين الشمال العلويّ والجنوب السنيّ. يظهر رصيف الشمال خاليًا تمامًا، والبنايات المصفوفة من ناحيته مهجورة حديثًا، يدلّ على ذلك خواؤها وبعضُ الغسيل المنسيّ على شرفاتها، لكن عنصر الأمن يصرّ على غير ذلك. أما الجنوب، فيسير على رصيفه المشاة ولو بتؤدة واستحياء.

*******

الفتى والكفن

العقرب يقترب من السادسة مساءً، ولم تتبق إلّا ساعة واحدة حتى يحين حظر التجوّل الذاتي في الساحل. نتّجه مسرعين إلى مقهى الزوزو في جبلة؛ المعروف بتاريخه ملتقىً ثقافيًا، لملاقاة أحد أبناء المدينة.

بعد مجازر الساحل (بدأت في السادس من مارس/آذار الماضي)، أمسك المحامي علي نصّور يد ابنه الوحيد (تسعة أعوام)، الذي أنجبه بعد عشر سنوات من الزواج، وحمل الكفن، وسار بهما باتجاه جامع أبو بكر الصديق في وسط المدينة. فعل ذلك بمبادرة فردية لإطفاء نيران “الخميس الأسود”، كما يصفه. اختار الجامع لرمزيته، فمنه صدحت أوّل صيحات الثورة في جبلة، حمل رسالة “محبة وتعزية وتبرؤ”؛ طلب عدم تحميل الطائفة وزر الجرائم، وأراد أن يقدّم التعازي للأمن العام، وتبرّؤ الأهالي من الجريمة، فقيل له (التقى مسؤولًا أمنيًا في المنطقة لم يسمّه) إنّ الوقت غير مناسب.

يقول إنّ الانقسام حادٌ في الساحل، ويشير إلى أنّه تعرّض لهجوم من أبناء طائفته بعد مبادرته، واتُهم بخيانة الطائفة، التي صارت منغلقة على ذاتها بعد المجازر “خوفٌ، وضياعٌ، وتشتت”. يزيد من حدّة المشكلة ارتفاع وتيرة الخطاب الطائفي والتحريض: “الآن يسألون على الحواجز العسكرية، أنت شو؟” في إشارة إلى السؤال عن الطائفة.

في الأسابيع الأولى لسقوط النظام، واستلام فصائل الثورة ذات التوجّهات الإسلامية السلطة، خافت الأقليات من إمكانية تعرّضها لهجمات وحملات انتقام رغم طمأنة القيادة الجديدة، خصوصًا أنّ نظام الأسد بنى عقيدة حربه ضدّ شعبه على الفزّاعة الإسلامية المتطرّفة. “بعد مرور أشهر، ظنّينا أنّ العاصفة مرّت بسلام”، إلى أن وقعت الواقعة، يقول المحامي، عادت الطائفة إلى المربّع صفر، حتى الأصوات التي تدعو لمصالحة أهلية تُخمد من المتشدّدين، أو تُهدّد بالمقاطعة، كما حصل معه.

رغم مشهد الانقسام، يؤكّد أنّه خلال المجازر التي وقعت في جبلة “كان أهالي السنّة في حيّ جبيبات المختلط يحمون العلويّين من المسلّحين” الملثمين. ويرى المحامي أنّ المشكلة بدأت عند فصل الموظفين وحلّ الجيش؛ “معظم أبناء الطائفة يعملون في مؤسسات حكومية أو الجيش؛ هذه سياسة ممنهجة اعتمدها النظام السابق عقودًا، وحين يفصل كلّ هؤلاء سيتحوّلون إلى مجرمين”. ثمّ يقول إنّ فلول النظام “يأخذون الطائفة برمّتها درعًا بشرية”.

يشير إلى تجاوزات وانتهاكات لاحقة للمجازر من قبل عناصر الأمن، لكن الناس تخشى أن تتقدّم بشكوى “هناك خوف من الذهاب إلى المخفر، لا وجود لثقافة الشكوى ضدّ الأمني في بلادنا”. يصف ما جرى بأنّه انقلاب فاشل، متحدّثًا عن أكثر من 36 ساعة من إطلاق نار متواصل بعد الكمين ضدّ حاجز الأمن، وبشتّى أنواع الأسلحة؛ رصاصٌ، ومدفعية، وقصفٌ جوّي.

على بعد عشرات الأمتار من تقاطع مروريّ وسط جبيبات؛ يقول الأهالي إنّ الجثث كانت مرمية قريبًا منه، والاشتباكات والقنص، وإعدام المدنيين، استمرّت أيّاماً، نتحدّث إلى ضابط في النظام السابق أجرى تسوية (س. ديوب)، مقيمٌ في المنطقة. يقول إنّ “المسلّحين الملثمين”، وهيئات بعضهم أجنبية (فرّقهم من الشعر الطويل، واللهجة، مع العلم أنّ إعفاء اللحى والشعر ملاحَظة عند كثير من العناصر الأمنيين الذين التقيناهم في المحافظات، خصوصًا الناشئين منهم)؛ كانوا يتقصّدون دخول المنازل التي يسكنها علويون أثناء الأحداث. تؤكّد زوجته الواقفة إلى جانبه حديثه، مشيرة بيدها إلى البناية التي يسكنانها.

يشير الضابط إلى أنّ فوجاً من القوّات الأمنية كان يبحث عن مطلوبين وأسلحة في وقت سابق، ويفتش المنازل من دون التعرّض للأهالي. لكن لاحقًا، دخل مسلّحون ملثّمون إلى منزل جيرانه، واعتدوا عليهم وسرقوا هواتفَ وأموالًا. غضب الرجل ظاهرٌ، يتحدّث عن أنّ التطوّع في الجيش كان الخيار الوحيد لأبناء المنطقة، وسبيلًا للعيش، وبأنّ “الرؤوس الكبيرة فرّت” من البلد، ويكرّر موقفًا اجتمع عليه كلّ من التقيناهم: “طرد الموظفين وقطع أرزاقهم يحوّلانهم إلى مجرمين”. يشتدّ غضبه: “فلول النظام صار الشمّاعة” للتضييق على أبناء المنطقة. ويخلص إلى أنّ “البلد بلدنا، لا نريد أن نضيّعه”.

*******

على طول الشاطئ في جبلة، تتسابق قصور مسؤولي النظام السابق إلى الفخامة والأبّهة، وكأنّهم يحاولون إثبات شيء ما. يصحّح لنا زميلنا المراسل في جبلة: “هذه فلل؛ أمّا القصور، فلم تروها بعد”. جميع قادة النظام السابق العسكريين والاستخباريين أبناء جبلة يملكون قصورًا فخمة ليست إلّا بيوتًا صيفية لهم؛ رئيس فرع الأمن السياسي في درعا عاطف نجيب (سفاح درعا) وقائد قوّات النمر سهيل الحسن وقائد قوات “الغيث” التابعة للفرقة الرابعة غياث دلا ورئيس المخابرات الجوية إبراهيم الحويجة، وغيرهم.

اعتُقل قادة كبار من النظام السابق خلال الأشهر الماضية، شأن عاطف نجيب وإبراهيم الحويجة وحيان ميا وسفاح صيدنايا محمد كنجو، فيما يظلّ آخرون طلقاء، وإليهم يُنسب تدبير الهجمات ونصب الكمائن ضدّ القوّات الأمنية والتي لحقت بها مذابح الساحل، أبرزهم دلا، والضابط في الحرس الجمهوري مقداد فتيحة. وكان دلا قد أعلن، قبل ساعات من الهجمات الأولى على النقاط الأمنية في الساحل، عن “المجلس العسكري لتحرير سورية”، فيما قال فتيحة إنّ هجومهم بدعم روسي، وإنّهم سينالون الاعتراف إذا صمد هجومهم أربعاً وعشرين ساعة. وراء القصور/الفلل في الشوارع الخلفية، تتوارى منازل الفقراء، فلا يُرى منها غير السماء، فأزلام نظام الأسد قد استولوا على إطلالة البحر أيضًا.

*******

تمدّ يدها إلى شجرة الإسكدنيا، تلتقط حبّتين وتعطينيهما، الثمرة ناضجة، والطعم حلوٌ زكيٌّ. يتوارى بيتها خلف قصر كان يملكه قياديّ فارّ في نظام الأسد، ويحرسه اليوم عناصر الأمن. تتوزّع في ساحة القصر الشاسعة سيّارت فارهة مصفّحة لا تزال في موقعها منذ سقوط النظام، بحسب ما يقول الحارس. أكثر من هذا لا نستطيع أن نرصد بسبب الإجراءات الأمنية.

تنادينا سيّدة في الجهة المقابلة لبيت الإسكدنيا، وتدعونا لاحتساء القهوة وتناول قطع من الحلوى المحشيّة بالتمر في باحة الدار التي تظلّلها أشجار اللوز. في المنزل سيّدة وزوجها وطفلة تتلصّص من النافذة على الغرباء في حيّهم. شهد الحيّ اشتباكات، لا يعرف ربّ المنزل ولا سيّدته شيئًا عنها وعن أطرافها، غير أنّهما وأفراد العائلة اختبأوا يومين كاملين، مقفلين باب الدار، وأصوات النيران لا تتوقّف. وحين طُرق الباب من مجهولين مرّة، لم يفتحوه. أثناء القعدة، تدخل الابنة آتية من عملها في مديرية الثروة البحرية، لا تبدو مرتاحة للغرباء في منزلهم، لكن بعد الجلوس تُطلق العنان لغضب مكبوت. تتحدّث عن الفساد المتعشعش في المديرية، والسرقات، والمحسوبيات، وتهميش الإدارة لها لأنّها “حاربت الفساد” قبل سقوط النظام، ثمّ تُثني على “جماعة إدلب” الذين يمسكون المديرية، وطريقة إدارتهم. و”جماعة إدلب” هو التعبير المصطلح شعبيًا للإشارة إلى المسؤولين الذين يتولّون مناصب رفيعة في الإدارات والمؤسّسات العامة، وليس بالضرورة أن يكونوا من محافظة إدلب. الابنة أرملة ضابط سوري، قُتل في معارك رأس العين، تدّعي أنّه تُرك لينزف عمدًا إلى أن مات. تقول إنّه سُجن شهرين لرفضه أمرًا عسكريًا باستخدام السلاح ضدّ المدنيين، وهذا ما أثار حنق رؤسائه عليه، فتخلّصوا منه. تنتقل إلى حديث الساعة، تقول إنّهم (لا تسمّيهم) يتّخذون أبناء الطائفة دروعًا بشرية، مشيرة إلى هجمات من داخل بيوت المدنيين: “لقد خسروا كلّ شيء، ويريدوننا أن نخسر معهم”.

*******

قصّة قصيرة

اسمي مهنّد؛ علويٌّ من بلدة مصياف. كنت في دمشق، حيث أعمل نادلًا في النهار وسائق سيّارة أجرة مساءً، يوم وقعت المجازر في بلدتي. قُتل ثلاثة من أقاربي، أحدهم عامل بلاط، والثاني دهّان، والثالث طفلٌ في السابعة. دخل مسلّحون ملثمون إلى المنازل، اقتادوا الرجال للذبح، وتركوا النساء.

كنت قبل عملي هذا جنديًا في جيش النظام. لم نكن نملك الخيار إلّا أن نكون في الجيش، لا نملك أرضًا ولا مصنعًا. جميع أفراد عائلتي وأبناء بلدتي مثلي. نعم، شاركت في القتال مع جيش النظام، وكنت على الجبهات وفي الصفوف الأمامية، أنفّذ الأوامر. وأشتبك مع مقاتلين؛ كانت حربًا. الهرب أو الرفض لم يكن خيارًا. أغلب الضباط الكبار ومعهم قادة النظام فرّوا، وتركونا وحدنا. كنّا وقودًا لحرب النظام. أخذوني إلى الجبهة عبر التجنيد الإجباري قبل أكثر من تسعة أعوام، كان راتبي 27 ألف ليرة (دولارين ونصف دولار). بعد خمس سنوات، صار خمسين ألفًا، وبعد تسعة صار مئة وعشرين ألفًا (12 دولارًا). سرّحوني قبل أن أستحق التعويض بشهرين. كلّنا هكذا، نحن المجنّدون الإجباريون. كنّا نسرّح قبل موعد التقاعد المستحقّ، بعد أن يفرغوا منّا. أخبرنا النظام أنّ علينا القتال، لأنّ المتطرّفين يريدون رمينا نحن العلويين في البحر.

لم نذكر بعد أنّ عيني مهنّد تشبهان عينيّ العجوز عند البحر.

العربي الجديد

——————————

سورية الجديدة (5)| الطريق إلى قرى الجبل في الساحل مسدودٌ/ شهيرة سلوم

27 ابريل 2025

باتجاه مدينة اللاذقية، تختفي آثار النظام القديم، الذي خطف بلدًا وطائفة لأكثر من نصف قرن. يسقط “باسل” من اسم المطار الدولي، وترتفع “اللاذقية” مكانه. تسمو أعلام سورية الحرّة الجديدة في شارع المدينة الرئيسي، ويراقص الهواء في أجوائها عبد الباسط الساروت، رافعًا يده إلى السماء “سوريا للكلّ”.

القاضي والجلّاد

إلى القرداحة، مسقط رأس آل الأسد، حيث دارت معارك دامية في القرى المحيطة، ووقعت مجازر طائفية بحق المدنيين الشهر الماضي وأُعدمت عائلات بكامل أفرادها، نتّجه، لكن ما إن نصل إلى النقطة الأمنية التي تحرس بابها “القرداحة ترحّب بكم”، حتى نُمنع من الدخول، إلّا بتصريح خطّي موقّع من المحافظ. وبينما نحن منتظرون الموافقات الأمنية، يترجّل من سيّارة صغيرة تقرقر وترتعش عند التوقّف قبل أن تُطلق ريحها الأغبر، رجلان مربوعان، يهرعان صوب حافلة توقفت عند النقطة ويؤشّران إلى رجل داخلها. بعدها، يُنزل عناصر النقطة الرجل من الحافلة، ويتسابقون عليه ضربًا، صفعًا وركلًا. يعود مسؤول الحاجز إلينا لاهثًا متعرّقًا، مبرّرًا وقد شهدنا على الحادثة، بأنّ الرجل سرق منزل الاثنَين الآخرين، اللذين اشتكياه للحاجز، ولماذا لا يشكواه للشرطة ويُسجّل محضر ويُفتح تحقيق؟ المخفر مغلق في القرداحة. وكيف تأكّدت من السرقة؟ ماذا لو كان هذان يكيدان له؟ يتطلّب الأمر اثنين من الشهود، بحسب الشريعة الإسلامية، وهما شاهدان؛ وما علاقة الشريعة يا أخي؟ عنصر الأمن إذًا، صار الآن مشرّعًا وقاضيًا وجلّادًا. يتقدّم صاحبا السيّارة المتهرهرة نحونا والبؤس يعشعش فيهما من الرأس حتى الأخمصَين، يقولان إنّهما شكيا “آكل العلقة” مرّات عدّة للنقطة، وما أن شاهدا غريمهما حتى سارعا لإبلاغ الحاجز. نضطر آسفين للسؤال عن الطائفة للمرّة العشرين في جولتنا، فيجيبان أنّهما من قرية علوية قريبة.

يذكّر هذا المشهد المضحك المبكي بتصرّفات الأمن عند حواجز النظام المخلوع، كما يعكس حالة الفوضى الأمنية التي تختلف حدّتها من محافظة إلى أخرى، لكنّها تؤكّد بما لا يقبل الشكّ بأنّ الملف الأمني أولوية الأولويات، ولن تقوم قائمة أيّ دولة ما لم تُحلّ المعضلة الأمنية.

أحد الحواجز الأمنية في اللاذقية، 6 إبريل 2025 (عامر السيد علي)

في اللاذقية، إبريل 2025 (عامر السيد علي)

“جاء الشيخ”، يقول أحدهم. يتقدّم نحونا مسؤول أمنيّ؛ رجلٌ في أواخر العشرينات أو أوائل الثلاثينات، منسّق الكلام والهندام كما أغلب مسؤولي النقاط والأفرع العسكرية والأمنية، الذين صادفناهم في محافظات سورية. لا بدّ من تأكيد ملاحظة هنا على هامش جولاتنا في مختلف المحافظات، بأنّ مَن يمسك الأمن العام حاليًا (باستثناء السويداء، وشمال وشرق حيث قوات سوريا الديمقراطية “قسد”) هم من فصائل إدلب، يتوزّعون خصوصًا في الساحل ودمشق. واضحٌ لديهم، حسُّ الانضباط العالي. عن هذا، يقول لنا مسؤول أمنيّ رافقنا في جولة سابقة إلى إحدى المحافظات، لن نذكرها حفاظًا على هويته، بأنّه كان في الفصيل الذي أسّسه وكبّره وحوّله الرئيس أحمد الشرع منذ البدايات، ويشير إلى أنّ سرّ الانضباط هو نوع العقوبة؛ فمن يخطئ من المحسوبين على فصيله، ينال العقوبة مضاعفة. أفسح انتهاء الحرب أمام الشاب العودة إلى محافظته والدراسة في كليّة الحقوق.

نعود إلى المسؤول حسِن الكلام عند باب القرداحة، فقد أكّد لنا حاسمًا بأنّنا لا نستطيع الدخول إلى المدينة والقرى المحيطة بها، إلّا بموافقة من المحافظ وبمرافقة أمنية لحمايتنا. يشير إلى وقوع هجمات على النقاط الأمنية في القرى داخل الجبل عميقًا، إذ يتحصّن فارّون ومطلوبون، آخرها كان قبل ساعتين من وصولنا. يرفض أن يحدّد عدد المطلوبين الملاحقين، وأبرزهم، لأنّه غير مخوّل بالحديث عن ذلك. ويتفق أمنيون تحدّثنا معهم في أوقات وأماكن مختلفة، على أنّ التضاريس الجبلية ووعورة الطرق يصعّبان مطاردة الفارّين. ويذهب البعض إلى وصف الفلول بالخلايا النائمة، ويشبّهونها بما جرى في درعا؛ إذ ظلّ ثوّار داخل المحافظة ولم يغادروها أيّام عمليات المصالحة مع نظام الأسد، بموجب اتفاق أستانة. وعندما آن الأوان، تحرّكت ضدّه.

                                           ******

مخيّم اللجوء

داخل قاعدة حميميم العسكرية الروسية، وفي حديقتها الخلفية الواسعة المتصلة بالشارع والمسوّرة بسياج حديدي، حيث تنتشر خيامٌ بيضاء، يقيم نازحون من قرى الجبل، فرّوا من مذابح 6 و7 و8 مارس الماضي. يسهل التعرّف على الشارع المواجه للقاعدة، من خلال اللافتات الروسية على رؤوس الدكاكين الصغيرة المتفرّقة، التي يبتاع منها الجنود الروس حاجياتهم اليومية. الدخول إلى مخيّم النازحين أو القاعدة غير ممكن، بلا موافقة أمنية سورية وروسية معًا. كما أنّ المقيمين داخلًا يرفضون الحديث، أو الخروج من المنطقة، والعودة إلى منازلهم، بحسب ما يقول مواطن سوريّ لديه دكّانة قريبًا من سياج الحديقة، استضافنا فيها، وحدّثنا عن الخوف وقطع الأرزاق وأحوال الأهالي البائسة، وعاد إلى الاشتباكات والمذابح وفرار الناس إلى داخل القاعدة. وكانت المنطقة نقطة معارك ساخنة بين القوّات الأمنية وفلول النظام. يُظهر مُضيفنا غضبًا شديدًا ممّا حصل “الهجمات كانت بتهمة الدين. انتهى الموضوع، نقطة”، ويكرّر ما قاله أغلب أبناء الساحل بأنّهم كانوا “خزّان التوظيف في الجيش خلال النظام السابق، الذي لم يهتم لأحوالنا البائسة”، ويخلص متهكّمًا “لم نرَ بشار الأسد في القرداحة إلّا ثلاث مرّات، الأولى حين مات والده (حافظ)، والثانية حين مات أخوه (باسل)، والثالثة حين ماتت أمّه (أنيسة مخلوف)”.

                                             *******

صرخة الفزعة التي سبقت المذبحة

في منطقة الرميلة (جبلة) التي تقع فيها الكليّة الحربية، آثارُ اشتباكات كانت من الأعنف بين القوّات الحكومية وفلول النظام، سقط خلالها عدد غير معلوم من القتلى. زجاج النوافذ مهشّم، وآثار الرصاص في الحيطان التي خُطّت عليها كتابات “دولة إدلب” و”أحرار إدلب – لواء حمزة” و”إننا أهل إدلب” و”أحرار منبج”.

تحرس المكان قوّات أمنية، يتقدّم عنصر منهم لمنعنا من استطلاع المحلّ القريب من الطريق الرئيسي وتدوين الكتابات المتناثرة على حيطانه الداخلية والخارجية، لكن مارًّا بسيارة تتبع الأمن العام يخفض زجاج النافذة مستطلعًا، قبل أن يطلب منه أن يدعنا وشأننا، فنفهم بأنّه المسؤول. يتقدّم نحونا عنصر الأمن، ولطافته قد ازدادت الآن بعد موافقة مسؤوله. نسأله من أي منطقة أنت؟ يجيب من إدلب. ونفتح حديثًا يطول معه. الرجل كان من المحاصرين في ناحية الدالية في جبلة، يقول إنّه كان موجودًا في رتل عسكريّ يضمّ تسع سيارات عسكرية محمّلة بـ 100 عنصر أمني في ناحية الدالية، متجهًا لإلقاء القبض على مطلوبين قبل أن يتعرّض لكمين من عناصر الفلول. حوصروا ليومين وقُتل عشرون من رفاقه بينهم قائد الكتيبة (لواء النخبة)، قبل أن يجري تخليصهم. يقول إنّ قائد الكتيبة (أبو هاجر)، ظلّ ينزف من السادسة مساءً حتى 11 ليلًا، ثمّ مات. حين تعرّضوا للكمين، اتصلوا بعائلاتهم ورفاقهم، وطلبوا النجدة.

يقول مسؤول في وزارة الإعلام التقيناه لاحقًا في دمشق، إن القوّات الأمنيّة الحكومية فقدت السيطرة على الجبل ليومين كاملين، بعد الهجمات المتزامنة التي شنّها فلول النظام في جبلة ثمّ الدالية وحميمم والقرداحة وبانياس وطرطوس، وإنّهم سيطروا على مراكز أمنية وحيوية، ويضيف “كان لدى القوّات الأمنية أكثر من 300 أسير”، في إشارة إلى القوّات التي حوصرت خلال الهجمات، ويتطّرق أيضًا إلى اتصالات من المحاصَرين بأهاليهم وأقاربهم في المحافظات الأخرى، وإطلاق صرخة “الفزعة”.

                                            *******

الشيخ والسجينان

يجلس رجلٌ خمسينيّ عند الرصيف البحري لمحافظة طرطوس يحدّث شابًا إلى جانبه، وعيناه على جزيرة أرواد التي جعل منها الانتداب الفرنسي يومًا معتقلًا لقادة الحركة الوطنية ومعارضيهم في سورية ولبنان. “ما قولك؟ هل لدينا الوقت للذهاب إلى الجزيرة؟ ماذا لو انتظرنا حتى الليل، ولم يسمحوا لنا أيضًا برؤيتهما”. جاء الرجل لرؤية ابنه الموقوف في السجن المركزي من “الهيئة” (يقول هذا حرفيًا ويقصد الأمن العام)، أمّا الشاب، فجاء لرؤية شقيقه المسجون رفقته. الموقوفان عنصران في وزارة الدفاع، جرى توقيفهما بسبب شكوى ضدّهما من مواطنين في طرطوس. لم يعرف الرجل وصديقه ما طبيعة هذه المشكلة، كلّ ما عرفاه أنّهما ذهبا للسجن، وأنّ “الشيخ” (المسؤول الأمني في السجن) رفض السماح لهما برؤية الموقوفين حتى إشعار آخر، وأنّ سبب التوقيف “مشكلة مع الأهالي”. بعد أخذ وردّ، يقرّران العودة إلى دمشق قبل مغيب الشمس، على أن يعودا غدًا في محاولة أخرى. عقب أحداث الساحل، أكّدت القيادة السورية أنّها ستلاحق المتورّطين في الجرائم “حتى لو كانوا من أقرب الناس” إليها، ثمّ شكّلت لجنة تقصي حقائق لم تنهِ عملها بعد. غير ذلك، لم تُسجّل بعد أكثر من ستة أسابيع، إلّا توقيفات محدودة تكاد لا تُذكر.

صورة في اللاذقية لمعتقل قُتل في سجن صيدنايا، 6 إبريل 2025 (عامر السيد علي)

في جبلة، إبريل 2025 (عامر السيد علي)

                                          *******

أسئلة مفتوحة

خلال جولتنا المقيّدة لأسباب أمنية في الساحل السوري، التي شملت مراكز المدن وليس القرى الجبلية، أخبرنا أهالٍ في جبلة، والضاحية وجبيبات، وحميميم، واللاذقية، أنهّم لم يلتقوا لجنة تقصي الحقائق التي شُكّلت بعد مذابح الساحل السوري، كما أَخبرونا عن حصول انتهاكات (حالة خطف وقتل من ملثمين في اللاذقية، لم نستطع التحقق من صحتها)، وتعرّض القوى الأمنية لكمائن وإطلاق نار (رصدنا ثلاثة حوادث، بحسب روايات أمنيين التقيناهم بمواقع متفرّقة من جولتنا)، ويُشاع أخبار عن حالات خطف نساء بدوافع طائفية، لم نستطع التحقق منها، فبقيت في إطار نقل عن ناقل. وكان واضحًا غياب الضابطة العدلية في مناطق الساحل، وعدم وجود آلية واضحة للإبلاغ عن الانتهاكات، إضافة إلى الشرخ الأهلي، الذي يحتاج لخطط وبرامج حكومية شاملة، كما تغيب أخبار التوقيفات؛ فوراء من ارتكب الجرائم بحق المدنيين في النهاية، فاعلٌ.

الشيخ حكمت الهجري رفقة عدد من أتباعه في السويداء، 17 إبريل 2025 (عامر السيد علي)

تقارير عربية

سورية الجديدة (1)| جوفيات حرب وأصابع إسرائيلية هامشية في السويداء

توجّهنا إلى لجنة تقصّي الحقائق، التي كانت أثناء مغادرتنا الساحل في طرطوس، وتستعدّ للتوجّه إلى دمشق لتسليم تقريرها وطلب تمديد عملها (مُدِّد ثلاثة أشهر)؛ بهذه الأسئلة وغيرها، فأكّد المتحدّث باسمها ياسر فرحان، بأنّهم اتخذوا قرارًا بعدم التصريح الإعلامي حاليًا لأغراض التحقيق وخصوصيته، مرحّبًا بتوضيح كلّ النقاط حين يسمح عملهم بهذا.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى