سورية في زمن الاستبداد… تهشيم الثقافة لتمييع الهوية/ محمد أمين

29 ابريل 2025
الكتابة عن الثقافة في سورية بعد 60 سنة من الاستبداد مهمة شاقة. سقط نظام الأسد أخيراً بعد نحو 14 عاماً من إصرار السوريين على التغيير؛ إصرار كان وما يزال حديث العالم ومبعث دهشته. وبسقوطه تكشّفت أبعاد المأساة التي وضع النظام البائد سترا وغطاء عليها طوال عقود كيلا يكتشف العالم حجم الكارثة التي ضربت الثقافة.
مسارح مهترئة. ودور سينما متهالكة، تختبئ العتمة في جنباتها. لا شعر، ولا أدب، إلا الغث منه أو أدنى من ذلك. مكتبات أوصدت أبوابها فلا زائرين لها. بؤس وفقر، وخوف سكن الأرواح والأجساد، جعل الثقافة والأدب والفكر في آخر أولويات السوريين في العقدين الأخيرين، وربما هي خارجها تماما. لقد كانت سورية جمهورية خوف، لا قيمة ولا وقت فيها للثقافة. هكذا ترك النظام الحياة الثقافية في سورية في الثامن من ديسمبر من العام الفائت، كما ترك سورية التي كانت ذات يوم ليس ببعيد من أهم مراكز التنوير في العالم العربي، منهكة القوى، متعبة على المستويات كافة، ضائعة تبحث عن هويتها التي عبث بها الطارئون زمنا ليس قصيرا لتغيير ملامح وجهها العربي الناصع.
الثقافة هي أنصح تجلٍ لهوية أي أمة. عمل النظام البائد طيلة أكثر من نصف قرن على تهشيم الثقافة السورية؛ مسرحها وسينماها وكتابها وفكرها، وتعميم ثقافة “باب الحارة”، المتناهية في السطحية والضحالة، لتمييع كل شيء في البلاد، وخلق ثقافة دخيلة تافهة. ترك النظام البائد مؤسسات ثقافية تخطّفها الفساد زمنا فغدت مصدر ارتزاق للكثير من أشباه المثقّفين وأنصاف الموهوبين الذين تصدّروا المشهد الذي كان باعثا للبؤس من كل اتجاه فيه. تقدم هؤلاء المشهد فتدارى الشعراء والكتّاب، والمبدعون في مستويات الثقافة والفن، إما سخطا أو يأسا أو نتيجة الترهيب، فغادر جلّهم وطنا كان يقوده نظام دموي إلى أتون الكارثة وهو ما حدث فعلا.
كان لدينا مؤسسة للسينما تأسست عام 1963 لم تستطع صنع فارق كبير في بلاد عرفت السينما مبكّرا، فأول صالة عرض في دمشق كانت في عام 1908، وأول فيلم (تحت سماء دمشق) كان في عام 1933، واليوم سورية بلا سينما حقيقية. منذ أكثر من ثلاثين عاما وميزانية هذه المؤسسة تصرف على تجارب سينمائية لطالما وُصفت بـ “الفاشلة”، فلا جمهور لها، استنزفت الإمكانيات شبه المحدودة للمؤسسة التي كانت حكرا على مخرجين غير موهوبين قدّمهم قربهم من السلطة، وتزلّفهم لها، ما خلا عدّة أفلام تُعد على أصابع اليد الواحدة استطاعت الحصول على جوائز في مهرجانات ثانوية في عالم الفن السابع الفسيح. كان فسيحاً في أغلب الدول، وضيّقاً للغاية في سورية يشبه حياة السوريين الضيّقة في كل مفاصلها حتى في الأحلام والأمنيات. سورية التي زاخرة بصالات العرض السينمائي في كل أرجائها خلال عقدي الستينيات والسبعينات من القرن الفائت، تراجع فيها الاهتمام بالفن السابع فأغلقت هذه الصالات أبوابها وخاصة في المدن البعيدة التي احتل الفقر والبؤس الحيّز الأكبر من حياة الناس، فلم يبق سوى عدة صالات في المدن الكبرى أمثال دمشق، وحلب، وحمص، تعرض أفلاما أجنبية رخيصة يتفرج عليها المراهقون والمتسكعون في الشوارع الذين يجدون في صالات العرض ملاذاً مؤقّتاً لاستراحة عابرة بسعر رخيص. عرفت سورية ثقافة مهرجانات السينما مبكرا، فشهدت أول مهرجان في منتصف الخمسينات من القرن الفائت إلى أن بات مهرجان دمشق السينمائي تقليداً منذ عام 1979، بيد انه لم يدفع أبدا باتجاه انطلاق صناعة سينما حقيقية في البلاد. كان المهرجان فسحة لعشاق السينما في سورية -وهم كثر- لرؤية العشرات من الأفلام العربية والعالمية المتميزة كل عامين ومن ثم كل عام عندما أصبح المهرجان تقليداً سنوياً. ولعل إحياء هذا المهرجان الذي توقف مع انطلاق الثورة السورية في عام 2011 من المهام الملحّة أمام وزير الثقافة، محمد صالح، في الحكومة السورية الجديدة، وقد أكد عند تنصيبه التزامه بـ “البناء على ثقافة تستحقها سوريا”. ولكن الحمل الثقيل على ظهر سورية ربما يجعل هذا الأمر في آخر سلّم الاهتمام لدى السلطة الجديدة التي بدأت للتو تلمّس مواطن الخلل في الثقافة التي تنتظر اليوم على رصيف اهتمام السوريين الباحثين عن أقرب مخرج للنجاة من نفق العوز والفقر الذي أدخلهم فيه النظام البائد عنوة وجبْراً.
في سنوات حربه على السوريين والتي امتدت من عام 2011 إلى نهاية عام 2024، دفع النظام البائد أصحاب مكتبات لطالما كانت حاضرة في المشهد الثقافي السوري إلى إغلاق أبوابها، فالكتاب بات سلعة كاسدة في بلاد لم يعد للشعر والأدب والفن الحقيقي مكان فيها. وقد شُغلت الأوساط الثقافية العربية في عام 2021 بنبأ إغلاق مكتبة نوبل في قلب العاصمة دمشق. كانت هذه المكتبة من الخيوط الناعمة الأخيرة التي تربط السوريين بالثقافة والكتاب. وقبلها أغلقت مكتباتٌ كنّ من معالم البلاد الثقافية أبوابها قبل الحرب بقليل وبعدها، ليس في دمشق فحسب، بل في كل المدن السورية. كان إغلاق “نوبل” بمثابة نعي للثقافة في بلاد نزار قباني وعبد السلام العجيلي وبدوي الجبل وعمر أبو ريشة وسواهم من المبدعين الذين نسجوا ثوب ثقافة سورية القشيب، وفكرها الأخّاذ في تنوعه، على مدى عقود. دفع الخوف والقمع المبدعين والشعراء والكتاب الشباب لمغادرة بلادهم إلى أربع جهات الأرض. لم يكن هناك مشروع ثقافي واضح هدفه التنوير والنهوض بالفكر في سورية منذ استيلاء العسكر على السلطة في 1963. وما كان في ستينيات وسبعينات القرن الفائت ما هو إلا المحطة الأخيرة لاندفاعة بدأت بُعيد الاستقلال في 1946. كان لدى النظام البائد وخاصة في حقبة الأسديْن، مشروع تخريب للثقافة كان هدفه المعلن تعميم ثقافة عبادة الفرد الحاكم.
كانت هناك تجربة مسرحية مهمّة في سورية سيما في الثمانينات لم تعمّر طويلا بسبب الإهمال الحكومي وعدم الاكتراث بدعم أي تجربة أبداع في البلاد التي كانت للتو قد غرزت في وحل الخوف والطائفية والدم. ربما لم تمر سورية بعقد عصيب كعقد الثمانينات من القرن الفائت. كان العنوان الأبرز للخوف السوري. بطشت يد الاستبداد بكل شيء في ذلك الحين، ولم تستثني الثقافة. تجمّد كل شيء في سورية زمنا طويلا وقعت خلاله البلاد تحت وطأة سلطة أمنية كانت مارست التوحش بكل أشكاله مع المثقفين حتى امتلأت المعتقلات بهم من يسارهم إلى يمينهم، ولم ترحم الوسط. في 1988 أُوقف واحد من أهم المهرجانات المسرحية في العالم العربي الذي ظل يُعقد دورياً كل عامين منذ 1969. وفي العام الذي شهد إيقاف هذا المهرجان، توفي المخرج المسرحي فوّاز الساجر (1948- 1988)، صاحب التجربة الأكثر ثراء في المسرح السوري في عقدي السبعينيات والثمانينات من القرن الفائت، حيث قدّم أعمالاً مسرحيةً عديدة ما تزال حاضرة في ذاكرة المسرحيين السوريين. لم يستطع الساجر تحمّل “الضيق” التي باتت كان في كل شيء في حياة السوريين، فداهمته أزمة قلبية وضعت نهاية لحياة واحدٍ من أهم قامات المسرح السوري منذ ظهوره مطلع القرن العشرين على يد أبي خليل القباني. وُجدت قصاصة ورقية في جيبه بعد وفاته، تلخّص وتكثّف حال سورية في ظل الاستبداد: “عصرنا هذا هو عصر الضيق، أكلنا ضيق، شرابنا ضيق، زيُّناً ضيق، مسكننا ضيق، مرتبنا ضيق. تفكيرنا ضيق، قبرنا ضيق، مطمعنا ضيق، أفقنا ضيق، عدلنا ضيق، عالمنا ضيق، مصيرنا ضيق، موتنا ضيق، قبرنا ضيق. الضيق، الضيق! افتحوا الأبواب والنوافذ.. سيقتلنا الضيق! افتحوا الأرض والسماء.. سيقتلنا الضيق! افتحوا الكون.. سيقتلنا الضيق”.
مع مطلع ألفية جديدة ورث بشار الأسد السلطة عن أبيه، فزاد القمع أكثر واتسعت أعين الرقباء في كل مكان. كانت سورية مع مطلع الألفية الجديدة تتحضّر للمرحلة الأكثر ظلامية في تاريخها. تفشّى الفساد في كل مفاصل الحياة السورية، فالثقافة هي خط الدفاع الأهم عن الأخلاق والمثل العليا وقد انهارت بفعل ضربات تلقّاها على مدى 30 عاما هي فترة حكم الأسد الأب المسؤول عن نشر الخراب، وثقافته في سورية. جاء وريثه ليكمل ما بدأه من تسطيح وتمييع كل شيء، فنال الثقافة النصيب الأكبر، ما فتح الباب واسعا أمام عبث العابثين بالهوية السورية من بوابة الثقافة التي خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين بلا حول ولا قوة ولا حضور. فقد عمم النظام الثقافة السطحية وأعطى جل اهتمامه لدراما التلفزيون التي لا تصنع ثقافة، بل تعمّق الجهل. كان لها دور بارز في تمييع ما بقي منها في الوجدان، ما خلا عدة تجارب تلفزيونية تاريخية لم يكن للنظام يد فيها، وقف خلفها مخرج مبدع كان يغرد خارج السرب اسمه حاتم علي الذي رحل أواخر عام 2020. دعم النظام البائد الدراما التلفزيونية الرخيصة لصنع ثقافة تناسبه، وتساعده على البقاء جاثما على صدور السوريين.
لم تستطع الهيئة العامة السورية للكتاب التي أُحدثت في عام 2006 لتُعنى بـ “نشر الكتب المؤلفة والمحققة والمترجمة في مختلف مجالات المعرفة والثقافة والعلوم، وكذلك الإسهام في تطوير الحركة الفكرية والثقافية ونشاطات القراءة وصناعة الكتاب”، إحداث خرق في جدار جهل عمل النظام على تشييده طيلة عقود. امتلأت مستودعات هذه المؤسسة بالكتب الرخيصة سعرا وقيمة فلا قرّاء للرديء من الكتب.
بل تحولت هذه المؤسسة إلى مصدر ارتزاق لأنصاف المثقفين المرتبطين بالنظام وأجهزته الأمنية وخاصة أولئك الذين أعضاء في “اتحاد الكتّاب العرب” الذي قال عنه ذات يوم أحد الأدباء المعروفين أنه “مجرد بناء جميل”، لا أكثر. حاول النظام في عام 2004 بث الروح فيه من جديد، إلا أن الواقع السيئ الذي كان يرزح أغلب السوريين تحت وطأته جعل الفرجة على المسرح الجاد ترفا.
بات البحث عن وظيفة أو أي فرصة عمل أمام الخريجين الجدد من جامعات متهالكة، مقدما عن البحث عن آخر الإصدارات الأدبية والفكرية في المكتبات ومعارض الكتاب. أكثر من 90% من السوريين الذين لم يغادروا بلادهم في سنوات الحرب المديدة هم تحت خط الفقر، ومن ثم لا وقت للكتاب وكل الوقت لرغيف الخبز، لذا تبدو مهمة وزارة الثقافة في العهد الجديد غاية في الصعوبة في ظل تركة ثقيلة خلّفها النظام البائد الذي كان سلّط سيف المنع والتضييق على العناوين البارزة في عالم الكتاب. كما ضيّق الخناق على دور النشر، على قلتها، ما أدّى إلى تراجع دورها إلى حد بعيد.
المؤسسات التي تركها النظام البائد كلها بحاجة إلى إعادة تقييم ومراجعة لدورها من المؤسّسة العامة السينما إلى الهيئة العامة للكتاب إلى المكتبات الكبيرة والمتوسطة المملوكة للدولة، إلى المراكز الثقافية في المدن والبلدات السورية والتي من المفترض تحوّلها إلى منتديات حوار ونقاش حول الراهن والمستقبل وتجاوز الماضي الأسود الذي عاشته فيه البلاد 54 سنة. السوريون اليوم بمسيس الحاجة للثقافة عكس ما يتخيل كثيرون، فالوعي السوري يتشكل من جديد في ظل استقطاب طائفي وعرقي ومناطقي وسياسي مقيت بات يهدد وحدة البلاد الثقافية قبل الجغرافية. عندما تستعيد الثقافة توازنها في البلاد المنكوبة، تنهض الأمة من كبوتها، ولو بعد حين.
العربي الجديد