منوعات

شرق الفرات: أغانٍ وحكايات وموسيقى.. ليس نفطاً وقمحاً فحسب/ محمود عبد اللطيف

29 ابريل 2025

يجهل سوريون كثيرون شكل الحياة الحقيقية في شرق بلادهم، وزادت الصور النمطية التي رسختها الدراما والدعاية السياسية التي مارستها الأطراف كافة خلال سنوات الحرب، من جهل سكان بقية المحافظات بشكل الحياة ضمن منطقة الجزيرة السورية وحوض الفرات، إلّا أنّ الحقيقة الراسخة طوال قرون خَلَت أن هذه المنطقة التي تتداخل جغرافياً وثقافياً مع البادية السورية والغرب العراقي والجنوب الشرقي من تركيا، أوجدت لنفسها هويةً قد تكون من أقدم الهويات الحيّة عبر التاريخ، على الرغم من تعدّد الجهات السياسية والعسكرية التي سيطرت عليها منذ الحضارات الأولى.

السؤال الأوّل الذي قد يخطر على بال أي شخص عند التفكير بمنقطة باتت تعرف إعلامياً باسم “شرق الفرات”، منذ العام 2017، ومن خلال حديث الحكومة التركية تحديداً خلال المعارك التي شهدتها مناطق جرابلس، ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، هو مَن يسكن تلك المنطقة؟ وتشير الإجابة إلى تنوّع عرقي وديني وطائفي مثير للاهتمام، فالمنطقة على مستوى المكوّنات العرقية يسكُنُها “العرب – السريان – الآشوريين – الكلدان – الكرد – شيشان (يعرفون محلياً باسم جيجان) – أرمن – شراكس”، وعلى المستوى الديني يقسم سكانها إلى مسلمين ومسيحيين وإيزيديّين، وضمن مدينة القامشلي ما تزال هناك أملاك ليهود المدينة، التي تقع في جزئها الشمالي على الشريط الحدودي مع تركيا، وهناك تعداد ضخم من اللّغات واللهجات المحكيّة في المنطقة، ويقول الصحافي فايز جدوع لـ”سورية الجديدة” إنّ تنوّع اللكنات المحكيّة للغة العربية قد يصل إلى حدّ التبدّل من حي إلى آخر في مدينة الحسكة، ومن عشيرة إلى أخرى، فعشائر مثل “شمّر والشرابيين والخواتنة”، لكل منهم لهجة مختلفة تماماً عن بقية العشائر العربية، كما أنّ السريان والمسيحيين يتحدثون بلكنة تعرف باسم “الميردلية”، وهي منسوبة إلى مدينة ماردين التركية، التي كانت سوريةً حتى بدايات القرن العشرين، كما أنّ لهجة سكان مدينة دير الزور قد تُسمع في محافظة الحسكة؛ إذ إنّ أقدم العوائل العربية التي سكنت مدينة الحسكة على وجه الخصوص، تتحدّر أساساً من مدينة دير الزور، كما أنّ ثمة تمايزاً كبيراً بين اللهجة العربية للعشائر التي تعرف باسم “الشوايا”، عن اللكنة التي يتحدث بها أبناء مدينة دير الزور أنفسهم، وخلال التجوال في مدينة الحسكة أو بين القرى يمكن أن تتبدل اللغة المستخدمة كلياً، فإنْ توجهت إلى الغرب من المدينة ستجد مجموعة من القرى التي تعرف باسم “خط الخابور”، أو “قرى الخابور”، التي يتصادف أن سكان غالبيتها هم من “الآشوريين”، الذين يمتلكون لغة خاصة تعدّ من أقدم اللغات الحية، إضافة إلى اللغة الكردية التي ستجدها في عدد كبير من المدن والقرى الواقعة ضمن منطقة الجزيرة السورية.

ويفيد الموسيقيّ حبيب جارو بأنه حين يخرج من بيته ويريد أن يلقي السّلام على من يصادفهم من معارفه، قد يستخدم خمس طرق مختلفة لنطق كلمة “مرحبا”، على مستوى اللهجة واللغة، ويقول لـ”سورية الجديدة” إنّ التنوع الكبير للموسيقى في مناطق الجزيرة السورية وحوض الفرات ناتج أساساً عن تنوع الثقافات والقوميات التي تعيش في هذه المنطقة، وهي تُحيي الكثير من الأساطير والحكايا التي ما يزال سكان المنطقة يُحيونها، فعلى سبيل المثال فإنّ الإبادة الأرمنية التي عاشتها هذه الأقلية في بدايات القرن العشرين ما تزال حاضرة في الأغاني والتراتيل الكَنَسيّة الخاصة بالأرمن، وقد انتقلت بعضُ الألحان إلى لغة أخرى من خلال استخدام اللّحن المنسوب إلى التراث الكرديّ، على سبيل المثال، مع كلامٍ عربيّ منطوق بلهجة العشائر، أو منطوق بلهجة الميردلية، ويحتوي التراث والموروث الكردي على أغانٍ ملحمية ما زالت تجسّد الأساطير القديمة، كما أنّ الموسيقى العربية يمكن وصفها بـ”الطقوس الحية”، التي انتقلت من العزف على وتر الربابة الوحيد إلى آلات أخرى، والتداخل الموسيقيّ بين مكونات المنطقة يصل حدّ التطابق في أنواع الآلات الأساسية كما في “البزق والجنبش (آلة تشبه البزق ويعزف عليها بطريقة مشابهة للعزف على العود).

لا ينفصلُ الرقص عن الموروث الموسيقيّ لمنطقة الجزيرة السورية، التي يضم تراثها عديداً من الدبكات والرقصات، وإن كانت إحداها منسوبة إلى مكوّن ما، فذلك لا يعني أنّها حكرٌ عليه، فالأعراس، بوصفها مكاناً لاستخدام هذا النوع من الموروث، قد تشهد دبكات كردية مثل “الشيخاني والباكية والهورزي”، ولكل منها إيقاع له سرعة معينة، وستجد فيها دبكات أخرى مثل “العربية بتعدّد مسمياتها وأنواعها”، و”الجوبي – الجولاقي”، وصولاً إلى دبكات سريانية وآشورية مثل “خاصديه”.

و”المولية” هي العلامة الفارقة لغناء حوض الفرات، وهي نوع يكتب كلامه على البحر البسيط، ويغنّى على مقامات موسيقية عدّة منها الصّبا والنهاوند والبيات، وغالباً ما يكون المقطع الواحد مؤلفاً من أربعة أشطر، الثلاثة الأولى منها تتطابق في القافية، والأخير ينتهي بياءٍ وهاء مشدّدة، وقد تكون الأشطر الثلاثة الأولى قائمة على “الجناس”، في الكلمة الأخيرة، فتتطابق في البناء اللفظي وتختلف في المعنى، والطريف أن هناك تنافساً كبيراً بين سكان محافظتَي دير الزور والرقة حول نسب “المولية”، فالبعض يقول إنّ “المولية ديريّة”، والآخرون ينسبونها إلى الرقّة، إلّا أن الاتفاق جرى على تسميتها بـ”المولية الفراتية”، مع التمييز بين الإيقاع السريع في دير الزور والبطيء في الرقة.

أساطير حيّة وأدب ثري

تعد منطقة الجزيرة والفرات من المناطق التي ما تزال فيها أسطورة “عشتار” حاضرةً وحيةً، من خلال غناء الأطفال حين هطول المطر “أم الغيث غيثينا”، وهم يطوفون على منازل القرية حاملين بعضاً من الأواني ليجمعوا ما تمنحه لهم النسوة من قمح، و”أم الغيث” هي عشتار وفقاً للكثير من المرويّات الشعبية، والنسوة تستجيب لغناء الأطفال لأنهم سيردّدون “والـ تنطينا (تعطينا) بـ الطبشي (الصحن)، إنْ شاء الله وليدها يمشي، والـ تنطينا بالطاسة (وعاء) إم حجول الركاصة (الرقاصة)”، وباعتبار الأسطورة نوعاً من الأدب الحي للشعوب، فإنّ الحديث عن التنوع الكبير للأدب في الجزيرة السورية يأتي من أنها ذات مشارب ثقافية متنوعة.

ويقول الكاتب والمخرج المسرحي إسماعيل خلف: ربما أمكننا الاستفادة من التنوع الثقافي في سورية، ووضعه في خدمة الثقافة الأم (الثقافة العربية)، والثقافاتِ الأخرى؛ السريانية والكردية والآشورية؛ وربما الشركسية، وإذا ما عدنا إلى البدايات وجدنا أن سورية كانت جزءاً صميماً من طريق الحرير، الذي يربط الشرق بالغرب، وجسرَ الانتقال من الجمع والالتقاط والصيد إلى الزراعة فالتجارة. ويتجمع الناس حول مراكز الصناعة أو الطاقة أو التكنولوجيا اليوم، ولو عدنا عشرة آلاف أو اثني عشر ألف عام، أي إلى زمن اكتشاف الزراعة، لفهمنا كيف سيجتمع الناس حول هذا المرفق الحيويّ لخدمته والاستفادة من عائداته، وهو ما يفسّر التنوع الإثنيَّ الكبير في سورية.

يوضح خلف أن سورية دخلت الإسلام فتعرّبت بالعرب العاربة والمستعربة من الأقوام التي دخلت الإسلام، بهذا المعنى فالعربية هي الثقافة الأم اليوم، وإلى جوارها ثمّة ثقافات أخرى، فالكرد يشكّلون القومية الثانية في البلاد، والسريان هم أيضاً يملكون ثقافتهم الخاصة، وهذا حال الأشقاء الآشوريين والأرمن والشركس والشيشان. إذن؛ نحن نحتاج إلى تشجيع الثقافات الأخرى تأليفاً وترجمة، ثم الاشتغال على ترجمة من الثقافة الأم وإليها، هكذا ستغتني الثقافة الأم، وتغتني تلك الثقافات بلا حدود، ونحن نحتاج إلى مناخ ورؤية ديمقراطيتَين تأخذان هذا التنوع بالحسبان، إذ لهذه الثقافات جميعاً خصوصياتها، فولكلوراً وثقافةً، في التعبير عن شخصيات هذه المكوّنات، ما سيعطي الثقافة الأمَّ ثراءً غير مسبوق، ولنا في الفسيفساء بوصفها جزءاً من تراث المنطقة، خيرُ مثال.

ليست قماشاً فقط

تحمل الملابس في الجزيرة السورية معاني ودلالات أكثر بكثير من كونها أقمشة لستر الجسد، ففي داخلها تلتقي الثقافات والسنين، وتعبر عن البيئة المحلية التي تصنع الملابس من موادها، مثل القطن والحرير والصوف، ويقول الباحث ديب السرحان، مؤلف كتاب “الهوية الثقافية للجزيرة السورية”: ” يعود تاريخ اللباس التراثي في الجزيرة السورية إلى مئات الأعوام، وهو الزيّ الأساسي لأهالي البادية والريف في مناطق شمالي شرقي سوريا، بحيث يمثّل الهوية الثقافية التي تتناقلها القبائل والعشائر والعائلات من جيل إلى آخر، لترسيخ القيم الإنسانية والاجتماعية التي تعبّر عن حضارة المنطقة وتاريخه”.

يضع رجال العشائر على رؤوسهم قطعة قماشية تحمل رموز الصيادين في النهر من أمواج ومربعات شبكة الصيد، وتسمى شماخ حين يعلوها العقال، ويَشْمر حين تلف حول الرأس، وكوفية حين توضع على الرأس دون عقال. ونكَاب حين يغطي جزء منها نصف الوجه، وسُلك إذا وضعت على الكتفين.  وتطوى من منتصفها وتثبت على الرأس بواسطة العقال، الذي يُصنع من شعر الماعز. تختلف سماكتها وألوانها بين البيضاء التي تقي من حرارة الصيف، والملونة التي تضاف إليها خيوط منسوجة لزيادة سماكتها بهدف الوقاية من البرد.

على الجسد، يرتدي الرجال سروالاً واسعاً فوق ثوب فضفاض بكمين طويلين، وفوقه رداء ملون مفتوح من الأمام يسمى “الزبون”، وعادة ما يضاف حزام عريض فوق اللباس، قد يكون مبطناً ليُستخدم جيباً. السترة الصغيرة المصنوعة من الجوخ أو الساتان تسمى “الدامر”، والسترة المصنوعة من القماش الثقيل المطرز تسمى “الدراعة”. يرتدي الرجال أحياناً عباءة فوق الملابس، تكون خفيفة في الصيف، ومبطنة بجلد الغنم في الشتاء وتسمى “الفروة”.

أما النساء، فاللباس التقليدي يتألف من عباءة طويلة داكنة اللون بالنسبة للسيدات وزاهية بالنسبة للفتيات، وتزيّن غالباً بأقراط ذهبية أو فضية أو يطرز بعضها، مع وشاح يعصب الرأس. هذه الأزياء ليست مجرد ملابس، بل هي تعبير عن الهوية الثقافية والتاريخية للمجتمعات التي تعيش في هذه المنطقة، مما يعكس تاريخاً طويلاً من التعايش والتفاعل بين مختلف المكونات

في تراث الجزيرة السورية، تلعب الملابس التقليدية دوراً مهماً في المناسبات الخاصة مثل الأعراس والاحتفالات الدينية والاجتماعية. هذه الملابس ليست مجرد أزياء، بل تحمل رموزاً ودلالات ثقافية تعبر عن هوية وتراث المنطقة.

النساء يرتدين في المناسبات “الصاية”، وهي ثوب مفتوح من الأمام مصنوع من الحرير أو القطن، ومزين بتطريزات وزخارف بسيطة. في المناسبات الخاصة، تُضاف إلى الصاية قطع من المجوهرات التقليدية مثل الأقراط والقلائد الذهبية أو الفضية، مما يزيد من جمال وأناقة الزي.

لم تكن منطقة الجزيرة والفرات منطقةً لسكان أقلّ تحضراً من بقية سكان سورية كما يوسم الشوايا، ولم يكن الكرد يوماً انفصاليين أو منطويين على أنفسهم، كما تشير السرديات السياسية التي روّجتها عنهم القوى التي لم تقبل منحهم حقوقهم الثقافية، ولعله ليس من المصادفة بمكان أن تكون المنطقة الأثرى في سورية بالتنوع والتعدد الثقافي هي الخزّان الاستراتيجي للثروات السورية، وبالتالي فإن الحديث عن “شرق الفرات”، وفقاً للمسمّيات المستحدثة خلال سنوات الحرب السورية، يعني “قمحاً وقطناً ونفطاً.. والكثير الكثير من الموسيقى والغناء والحكايا”.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى