عن ضرورة الدولة السورية الجامعة/ عمار ديوب

29 ابريل 2025
لم يستطع السوريون بناء الدولة الجامعة. كانت حلماً منذ شُكلت الدولة السورية في عشرينيات القرن العشرين. كانت أنظمة الحكم، التي مرّت على سورية استئثارية وطبقية. لم تكن دولة جميع السوريين. وبغضّ النظر عن طبقاتهم وقومياتهم. الكلام السابق، يُكثف فترات تشكّل الدولة، وليس فقط ما بعد وصول الجنرال حافظ الأسد إلى الحكم عام 1970، ولا فترة بشّار المتوحش كذلك.
كانت الفترة الليبرالية محقّقة مصالح الطبقات الثرية، المالكة للأرض، أو الصناعية والتجارية، وضمن فترة الاحتلال الفرنسي، بينما كانت أغلبية الشعب مهمّشة وحقوقها منتقصة، وعكس ذلك تحققت المصالح الاقتصادية والاجتماعية لتلك الأغلبية في فترة الستينيات، وتهمشت مصلحة الليبراليين، وتَحكّم العسكر بالسياسة والأمن.
دولة حافظ الأسد وابنه
ظهر جديدٌ مع السبعينيات، حيث تحالفت فئاتٌ من الليبراليين مع الفئة التي استأثرت بالسلطة مع وصول حافظ الأسد، وتشاركا بالسلطة وبالثروة واحتكرا الدولة، وتضرّرت فئاتٌ واسعة من الأغلبية ومن الليبراليين الذين غادروا البلاد، وبعضهم، كما ذكرنا عقد صلحاً مع الأسد، لهم الاقتصاد وله الدولة. وفي الأثناء، تحالفت أحزابٌ سياسية مع حافظ الأسد، وأخرى عادته فاعتقلت الأغلبية الساحقة من كوادرها. ومع تغيّر الزمن، لم تعد تكتفي الفئة الحاكمة بالسياسة ومدّت نفوذها إلى الاقتصاد. تجلى هذا بشكل كامل مع وصول بشّار الأسد، وتكليف ابن خاله رامي مخلوف بالسيطرة الكبيرة على شؤون الاقتصاد، وكان رامي واجهة لبشار ولأخيه، ودخلت لاحقاً أسماء الأسد آخر المسيطرين على الاقتصاد و”السلطة”. أدّى هذا الاحتكار الذي تجاهل مصالح الأكثرية السورية من المفقرين إلى الثورة في 2011. كان سقوط نظام بشّار نتاج ذلك التجاهل، ونتاج اعتماد سياساتٍ ليبرالية جديدة، استفاد منها المحاسيب المقرّبون من دائرة السلطة السابقة. أصبح الوضع أكثر تعقيداً بعد 2018، فحتى الجيش لم يعد يرى مصلحة له في الدفاع عن الدولة، وبالتأكيد عن السلطة، حيث كانت أوضاع الجيش تنهار منذ ذلك العام، ولم يروا مصلحة لهم في مواجهة قوة صغيرة كهيئة تحرير الشام بعد عدة أشهرٍ، فسقطت السلطة وانهار الجيش. المشكلة الكبرى أن الدولة ذاتها بدت معطّلة مع سقوط السلطة، ولم تسعَ السلطة الجديدة إلى استنهاضها، لتحقيق الدولة الجامعة.
المشاريع المهمّشة منذ مائة عام هي التي طالبت بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتحرّر الوطني ولجميع السوريين، وهناك من طالب بالمشروع القومي، ولكن الأخير تغيرت الكثير من إمكانات استعادته. غُيبت الديمقراطية، وتراجعت حقوق الأغلبية المفقرة، وغابت العدالة الاجتماعية حتى تهمّشت مع بداية التسعينيات، واحتَلت الدولة الصهيونية قسماً من الجولان منذ 1967، وبعد سقوط نظام بشّار الأسد، تخلت عن اتفاق فض الاشتباك مع الدولة السورية لعام 1974 واحتَلت مناطق واسعة، وتحاول فرض سياساتها على سلطة دمشق، وعبر الاحتلال، وتتلاعب عبر أطروحاتٍ سياسية، تحاول استقطاب فئاتٍ سورية كثيرة، ولا سيما الأقليات الدرزية والكردية والعلويين، وفي الآونة الأخيرة تحاول بشكل خاص استقطاب الدروز.
ما العمل الآن، وكيف يتكاتف السوريون، وكيف تستقطبهم الدولة الجامعة؟ تمر سورية بمرحلة انتقالية، ما بعد رحيل الأسد، وبالتالي، يقع على السلطة الجديدة والسوريين عامة، مسؤولية تشكيل الدولة المأمولة، فهي من تسيطر على الدولة ومراكز القوة. وتظلّ خطوات الإدارة الجديدة قاصرة ما لم تتشكّل هيئة للعدالة الانتقالية، وقد جاءت مجازر وأحداث الساحل بين 6 و10 الشهر الماضي (مارس/ آذار)، لتؤكد ضرورة هذا التشكّل، ولمعالجة آثار المجازر القديمة والجديدة. الدولة معنية بإعلان التزامها للانتقال إلى النظام الديمقراطي، وإفساح المجال السياسي لممارسة كل الحريات السياسية والشخصية، بما يؤدي إلى تفعيل كل أشكال العمل السياسي والنقابي والاتحادات الطلابية والتجمعات المدنية والثقافية وسواها، وهذا ما سيساعد الشعب على استعادة دوره في المشاركة السياسة الكاملة.
تُشكل مسألة العدالة الاجتماعية مدخلاً صلباً لإشراك الأغلبية المفقرة في النهوض بالدولة. والمقصود بالعدالة هنا تأمين الاحتياجات الأساسية للمواطنين، ونيلهم الحق بالعمل والتعليم والطبابة والسكن والأجور المتوافقة مع الأسعار، وكذلك بأجرٍ متوافقٍ مع الحاجيات الأساسية في حال العطالة عن العمل، أو دعم الفلاحين في سنوات الجفاف، وكذلك دعم الشرائح الأضعف اقتصادياً في المجتمع ريثما تستطيع تأمين العمل. إن جملة السياسات المنتهجة حتى اللحظة هي ضد العدالة الاجتماعية، وبغرض الاستئثار بالحكم، وبالتالي، تسير الإدارة، كما سابقتها نحو دولة الإدارة/ السلطة.
المسألة الوطنية
شكّل تقدم قوات الدولة الصهيونية في الأراضي السورية أكبر امتحان للسلطة الجديدة، ولكن أيضاً للشعب وقد رحل نظام الأسد. هذا التقدم، واحتلال الجولان، سابقاً، يشكلان ضرورة للإجماع الوطني لمواجهة هذا الامتحان واستعادة الأرض. لدينا مشكلة كبيرة هنا أن السلطة الجديدة لم تُشرك الشعب في النهوض بالدولة، واحتكرت السلطات، وهذا دفع كثيرين من الشعب السوري، وبغض النظر عن أقليّاته والأكثرية إلى الانكفاء، وللشعور بأن هذه الدولة لا تمثله. زاد الأمر سوءاً مع اندلاع أحداث الساحل ومجازره في الاسبوع الأول من الشهر الماضي (مارس/ آذار). والسؤال: كيف ستواجه السلطة في دمشق قوات الاحتلال؟ لقد دمّرت القوات الأخيرة البنية التحتية كاملة والعتاد العسكري بعد “8 ديسمبر”، وحلّت السلطة الجديدة الجيش، وهذا شكل قوّة إضافية لقوات الاحتلال لتتقدم من دون أي خشية من المواجهة. لم تتوقف الدولة الصهيونية عن التدخّل، وتطرح سياسات لاستقطاب الأقليات القومية والدينية، وبالتالي، كيف ستواجه السلطة هذا التحدّي وسياساتها تؤسس الجيش بشكلٍ غير احترافي ولا دولتي، يقوم على تأسيسه شخصيات مدنية، تعسكرت في أثناء الثورة، ولا دراية لديها بكيفية تشكيل الجيوش أو خوض المعارك مع الدول.
تضمن الدولة الجامعة مصالح كل أفراد الشعب، وهذا يقتضي أمرين: الأوّل: ألّا تقوم الدولة على عصبية طائفية، والآن، هناك عصبية إسلامية، وتحديداً سلفية، تشكّل منطلقاً لسياسات السلطة الجديدة. ويتضمّن هذا إبعاداً لبقية الجماعات الدينية أو الحداثية بعامة، وقد أثارت المجازر بحق العلويين تخوّفات كبيرة، وانعدام ثقة تجاه السلطة، وهذا يسري على مختلف الأقليات، الدينية خاصة. وثانياً، ألّا تُستبعد الجماعات القومية، وغير حقّ المواطنة العامة، وللجميع، أن تضمن لها حقوقها الثقافية والسياسية، فهي جماعاتٌ متمايزة، وشرط استمالتها، وشعورها بالمواطنة، أن تنال حقوقها المذكورة، ومن دون أي تهميش. معيار العلاقة السليمة مع الجماعات الدينية أو القومية، هو بمقدار شعورها بأن الدولة وسلطتها ومؤسّساتها بل ودستورها غير نابذ أو طاردٍ لها، ومحتواة في المؤسّسات السابقة؛ وقد افتقد الإعلان الدستوري المؤقت ذلك كله، وعزّز الشعور بعدم المواطنة المتساوية.
الدولة الجامعة حلمٌ قديم، وتحققها يتطلب الثقة بالشعب، لا سيما أن السوريين عامة أبدوا، بزوال النظام القديم، رغبة في الانتقال إلى الدولة المذكورة. أبدوها، وهم يعلمون تاريخ هيئة تحرير الشام، ولكن المشكلة أن الأخيرة لم تتنبه إلى أن التاريخ قد تغيّر، وأن بناء الدولة يتطلب الانتقال الكامل من المرجعية السلفية إلى المرجعية الوطنية، ومن الخطأ التلكؤ بين بين، فتارّة تتقدّم الأولى وتارّة تتقدّم الثانية، وكوعودٍ فقط.
كانت خطوات السلطة في الأشهر السابقة إقصائية، للجماعات السابقة الذكر، ولكن أيضاً للأكثرية. تتّجه السلطة نحو الأقلية السياسية، نحو العزلة عن المجتمع. ضعف السلطة، وعزلتها، سيدفعانها نحو طلب الشرعية من الخارج، والأخير ليس جمعية خيرية، بل سيمارس كل أشكال الابتزاز والمشروطية والتركيع؛ بشّار الأسد خضع لكل هذه الممارسات وفي النهاية رحل.
رغبة أغلبية السوريين في تشكيل الدولة الجامعة هي ما يجب أن تنطلق السلطة الجديدة منه، هي ما يجب أن تستثمر فيه وبقوة. لم تجر الاستعانة بالخبرات السورية، وفي كل الميادين، وباستمرار سياساتٍ كهذه، وباعتبار سورية في أسوأ أحوالها، اقتصادياً، واجتماعياً، وسياسياً، وثقافياً وتعليمياً، ستفشل السلطة بالضرورة، وبالتأكيد ستتجه نحو محاولة الهيمنة الكاملة على الدولة. ستعزّز هذه الممارسات من عدم الثقة. وبالتالي، ستجد السلطة نفسها أمام انقساماتٍ أهلية مسيّسة، ورفض مجتمعي واسع.
سيظلُّ السوريون يسعون إلى تشكيل الدولة الجامعة، الديمقراطية، الممثلة لمصالح كل الطبقات والجماعات القومية، وإن ظلت دولة طبقية رأسمالية.
الدولة الجامعة هي الدولة الحديثة، والتي تساوي بين المواطنين، بغضّ النظر عن القومية والجنس والدين والمنطقة والعشيرة والمذاهب والأديان. تتيح هذه الدولة لكل طبقاتها أن تساهم ببنائها، ويمكن لكل أشكال الثراء الثقافي والقومي والديني والمذهبي وسواه أن تتعايش وتغتني من بعضها الآخر، وتشكل هويتها الجامعة والمتغيّرة باستمرار؛ فهل سيتحقّق هذا الحلم المشتهى؟
العربي الجديد