مراجعات الكتب

فاروق الشرع: رغب رفيق الحريري في إعادة تأثيث منزلي وكنت في مطعم ساعة اغتياله (1)

28 ابريل 2025

كان رفيق الحريري لطيفاً كما عرفتُه خلال اللقاءات وبعض المآدب

احتفظت مع الحريري بعلاقة ودية ليوم اغتياله بانفجار سمع صداه بدمشق

كانت استقالة عمر كرامي من رئاسة الحكومة اللبنانية مفاجئة لنا

أبلغت عنان أن الأنسب هو التحقيق مع ضباط سوريين بمقر الأمم المتحدة

سألت بشار أثناء لقائي به في القصر إذا كان حادث موت كنعان انتحاراً

يصدر كتاب “مذكّرات فاروق الشرع … الجزء الثاني 2000 – 2015” عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. ويغطي فترةً من رئاسة بشّار الأسد (2005 – 2015) استمرّ فيها فاروق الشرع في منصبه وزيراً للخارجية، ثمّ في منصب نائب رئيس الجمهورية، قبل أن يضطرّ إلى الاعتكاف بمنزله في 2013، وإصدار بشّار الأسد تعليمات بعدم التواصل مع الشرع. وبينما اعتُبر الجزء الأول من الكتاب شهادةً تاريخيةً مهمةً على مسار من الأحداث التي شهدتها سورية في تفاعلاتها الإقليمية والدولية، خصوصاً في ما يتعلّق بالمفاوضات السورية – الإسرائيلية، في عهد الرئيس السوري حافظ الأسد، يقدّم الشرع في هذا الكتاب شهادته على أحداث لا تقلّ أهميةً في عهد بشّار الأسد، منها اغتيال رفيق الحريري واتهامات مسؤولين سوريين بالتورّط في اغتياله، ما أسهم في دفع الخروج السوري من لبنان، والأحداث التي عصفت بسورية مع اندلاع الثورة السورية في العام 2011. وتنشر “العربي الجديد” فصولاً من الكتاب. وهنا حلقة أولى.

التعرف إلى الحريري

ليس الاغتيال حديث العهد، فقد شهد العالم سقوط قادة سياسيين كبار مضرجين بدمائهم لإسكات صوتهم أو إنهاء دورهم الشعبي. وكان من أبرزهم على سبيل المثال: المهاتما غاندي عام 1948، والكونت برنادوت عام 1948، وجون كيندي عام 1963، ومارتن لوثر كينغ عام 1968. كان من الطبيعي أن يحتل اغتيال هذه الشخصيات التاريخية بعد الحرب العالمية الثانية عناوين الصحف والمجلات، وأن تُروى عن أقوالهم ومآثرهم قصص لا تنتهي. والسؤال الذي سيتبادر إلى أذهان كثيرين في لبنان، وربما خارجه أيضاً، هل كان اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري عام 2005، رجل الأعمال والسياسي الملياردير، ثمناً لقضية قدم حياته من أجلها؟

اغتيال الحريري، الذي عرفه لبنان عن قرب منذ ثمانينيات القرن الماضي بعد أن صار له شأن وحظوة خاصة لدى العاهل السعودي فهد بن عبد العزيز، قد استقطب اهتمام كل اللبنانيين، وحظي بتغطية إعلامية عربية ودولية غير مسبوقةٍ ترافقت مع ثورة الاتصالات والمعلومات. كان اغتيالُه مدوياً بالمعنى التام للكلمة، وفي كل أبعاد ما تعنيه.

لقد وصل صدى اغتيال الحريري إلى كل البيوت في القرى والبلدات والمدن القريبة والبعيدة عن بيروت، فشكّل منذ انتشار الخبر المأساوي تعاطفاً شعبياً لا سابقة له في تاريخ لبنان، كأنه نجم متألق هوى إلى الأرض.

غير أن تسرُّع بعض الأطراف اللبنانية بتوجيه أصابع الاتهام إلى سورية، وجثمانُ الحريري ما زال في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، قد شقّ المركب اللبناني من الداخل، وعصفَ بالعلاقات السورية – اللبنانية، وأدخل الشكوك إلى العلاقات السورية – العربية وبصورة أكثر تحديداً مع دول الخليج العربية. حدث كل ذلك قبل أن يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود. أما السوريون فقد أصابتهم الحيرة: المستفيدون من الحريري في بعض المؤسسات الرسمية لا يمكن أن يقتلوا دجاجة تبيض ذهباً، والمحبون للحريري لوجه الله أغضبهم ظهور شعارات تهزأ من اللهجة السورية في بعض المسيرات، وتضع السوريين في لبنان في فوهة الاتهام، لا تفرّق بين من يرتشي من الحريري ومن لا يبيع ولا يشتري.

كان رفيق الحريري لطيفاً كما عرفتُه خلال اللقاءات وبعض المآدب التي كان أغلبها في منزل عبد الحليم خدام نائب الرئيس السوري، وأحياناً في مزرعة حكمت الشهابي رئيس الأركان العامة. لا يفرّق الحريري كثيراً بين السياسة ودهاليزها المعقدة إلا من زاوية تأثيرها في الاقتصاد والبورصة ومستقبل السوليدير ومستقبل علاقته الشخصية بسورية والسعودية، وخصوصاً الملك فهد بن عبد العزيز، وفرنسا لا سيّما رئيسها جاك شيراك. كان متحرّراً في أفكاره وثرياً يصعب تقدير ما في حوزته من مال ولم يكن شديد التواضع. فقد روى مرة بحضوري أن زوجته في صباها حاولت السفر وحدها من جدة إلى بيروت، فمُنعت في المطار لعدم وجود زوجها معها، فقالت لموظفي الجوازات: هل هناك امرأة في العالم يكون زوجها رفيق الحريري وتحاول الهرب منه؟

كانت كل الشخصيات اللبنانية السياسية المحبّة له أو الحاسدة التي التقيتها تتحدّث عن براعة الحريري في اصطياد اللحظات المناسبة لتعزيز ثروته وتوسيع أعماله داخل لبنان وخارجه، والاحتفاظ، في الوقت ذاته، بمنصبه رئيسَ وزراء لبنان. لقد أصبح المال السياسي في عهده عنصراً بارزاً في الصعود السياسي منذ بداية الحرب الأهلية، بعد أن كانت شجرة العائلة الأساس في هذا الصعود.

زارني الحريري أول مرّة صيف عام 1986 في شقتي المستأجرة من الدولة. كان أول تعليقٍ له بعد أن تفقد الصالون والأثاث البسيط على الطريقة الغربية: “هذا لا يليق بوزير خارجية سورية”، وكأنه يلمّح إلى أنه سيساهم في تغيير السكن أو إعادة تأثيث المنزل. وقد سمعتُ لاحقاً أنه كان يقدّم ذلك لعدد من المسؤولين السوريين الكبار لتغيير أثاث بيوتهم، وحتى بناء منازل لهم. لم يقتنع كثيراً بمدى ارتياحي لهذا المكان، وبالطبع تجاهلت تلميحاته بتقديم المساعدة، وانتهى حينها موضوع الاقتصاد الذاتي بيني وبينه، لكنه لم ينته، كما يبدو، مع بعض المسؤولين السوريين الآخرين الذين أسمع عن صلاتهم المادية معه سنوات؛ فقد كان يرسل أولادهم إلى الجامعات بدعم من مؤسّسة الحريري الخيرية. أما علاقتي الشخصية معه فظلت ودّية، لأنه كان رئيس وزراء أو رئيس وزراء سابق وأنا وزير خارجية لبلد شقيق جارٍ للبنان الذي يقيم أو يعمل فيه كثير من السوريين: عمالاً ورجال أعمال وسياسيين متقاعدين مدنيين وعسكريين.

ذكر رفيق الحريري أمامي في إحدى المرّات أن السعودية مدينة له بمبلغ كبير قيمته عقود بمئات الملايين من الريالات السعودية لمشاريع ناجحة نفذها، ولم يستوفِ منها كامل أتعابه، وأن الملك فهد وعده بأن يسدد له مستحقاته دون نقصان بعد إقرار الميزانية، لكنه استدرك قائلاً: إن أول مليون حصل عليه في السعودية، في مطلع شبابه عندما كان عصامياً، قد أدّى إلى غيابه عن الوعي لعدة دقائق. وأضاف عندما لاحظ استغرابي: صدقني إن جدران بيتي في جدة بقيت تهتز عدّة دقائق، أما اليوم فملايين الدولارات لا تهز شعرة في رأسي.

ما زلت أذكر أيضاً زيارته لي في مستشفى الجامعة الأميركية في تشرين الأول/ أكتوبر 1999 بعد خضوعي لعملية أجراها الجراح منير عبيد بإشراف الدكتور سمير علم. ارتأى الحريري حينها أن أمضي فترة النقاهة في باريس، وأن طائرته الخاصة ستكون بتصرّفي في مطار خلدة. شكرتُه على هذه اللفتة الكريمة التي يصعُب نسيانها، وقلت إنني أرتاح أكثر بأن أقضي فترة النقاهة في بيتي بدمشق وبالقرب من أولادي وعائلتي، واحتفظت معه بعلاقة ودّية بعيداً عن دوي الطائرات الخاصة، إلى أن وافته المنية يوم اغتياله بانفجار مروع زلزل بيروت، وسُمع صداه في دمشق.

ساعة الاغتيال

كنت أقيم ظهر يوم 14 شباط/ فبراير 2005، مأدبة غداء في مطعم النبلاء بدمشق تكريماً لميكيل موراتينوس بمناسبة انتهاء مهمته مبعوثاً أوروبياً خاصاً لعملية السلام في الشرق الأوسط. جاءتني قصاصة ورق كتب عليها أن انفجاراً ضخماً وقع في بيروت، فالتفجيرات بين الحين والآخر غير مفاجئة في لبنان رغم أن الحرب الأهلية انتهت، لكن عندما جاءتني قصاصة ورق ثانية من مدير مكتبي الصحفي ذكر لي أن الانفجار مروع وأنه ربما استهدف موكب رفيق الحريري الذي نُقل إلى مستشفى الجامعة الأميركية بحالة شديدة الخطورة. تغير نوع الحديث بيننا وتغيرت معه نكهة الطعام.

كان موراتينوس حينها واقفاً يلقي خطاب الوداع، متأثراً لمغادرته المنطقة، ويشكر سورية على ما لقيه من اهتمام المسؤولين السوريين فيها خلال زياراته العديدة لها. كنا منشغلي الذهن بالأخبار التي لا تدعو إلى الاطمئنان والتي تأتي تباعاً من بيروت حول مجريات الأمور. بينما كان موراتينوس يتوقع مني الرد الطبيعي على كلمته كما جرت العادة في مثل هذه المناسبات الوداعية، ارتفع الضجيج في المطعم عندما بث خبر وفاة الحريري. اتصلت بالرئيس بشّار من هاتف محمول، ونحن نهم بمغادرة المطعم لأستفسر منه إن كان سيرسل أحداً إلى بيروت أو يرسل برقية تعزية. تساءل: هل ستكون برقية بروتوكولية أم سياسية؟ فأكّدت أن تكون سياسية لأن المستهدف من هذا الاغتيال هو سورية في لبنان، وارتأيتُ أن تتضمّن البرقية إضافة، باقتراح من وليد المعلم الذي كان يجلس إلى جانبي، حول ضرورة تضامن اللبنانيين مع بعضهم في هذه اللحظات العصيبة.

دموع خدّام السخية

لدى خروجنا من المطعم سألني بعض الصحافيين عن التفجير المأساوي، فأكّدت إدانتي له واعتبرتُه عملاً إجرامياً لا مبرّر له. لكن في أول نشرة أخبار سمعتها من راديو السيارة، كانت الاتهامات تتوجّه نحو سورية، فاعتبرت أنه كلام إذاعات وثرثرات. لكن البيان الذي خرج بعد ساعات من دارة الحريري نفسها كان ثأرياً برائحة سياسية. وهذا موقفٌ لا يستعصي على فهم من يعرف الظروف التي مرّت بها العلاقات بين البلدين.

في أولى نشرات الفضائيات المسائية اللبنانية لم أعثر على تصريحي من بين التصريحات الأخرى، مع أن بعض الوكالات الإخبارية كانت قد وزّعته مباشرة، ومنها وكالة الأنباء الكويتية تحت عنوان “الشرع يستنكر ما حصل للحريري ويعتبر اغتياله عملاً إجرامياً شنيعاً”. استغربتُ كيف يمكن سحب تصريح بالصوت والصورة لوزير خارجية بلد معني بهذا الحدث في لبنان الذي يطغى الوجود السوري فيه على أي شيء آخر.

بعد لحظات، شاهدتُ على شاشة التلفزيون نائب الرئيس خدّام بين المعزّين بدارة الحريري والدموع تنهمر من عينيه. هاتفتُ الرئيس بشّار مرّة ثانية، معتقداً أنه أرسل خدام للتعزية باسمه بدلاً من إرسال البرقية، فقال إنه لا علم له بسفره. فاقترحت عليه أن يطلب منه بوصفه نائباً للرئيس أن يعزّي باسم الرئيس أيضاً حتى لو كان الراحل رفيق الحريري رئيس وزراء سابق؛ ففي لبنان يحتفظ المسؤول بلقبه حتى بعد تركه المنصب أو وفاته.

الاغتيال في مجلس الأمن

في اليوم التالي للانفجار، أي في 15 شباط/ فبراير 2005، أصدر مجلس الأمن بياناً رئاسياً دان فيه جريمة اغتيال رفيق الحريري، واعتبرها جريمة إرهابية، وكلف الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان تسمية بيتر فيتزجيرالد، المحقق الإيرلندي، ليرأس بعثة من الأمم المتحدة لتقصي حقيقة ما جرى وملابساته ودوافعه. عاد فيتزجيرالد إلى نيويورك وقدم تقريره إلى مجلس الأمن في 24 آذار/ مارس 2005، بعد أن أجرى لقاءاتٍ عديدة في بيروت طوال أسبوع كامل تفحص خلاله موقع الانفجار والتقى بعض المسؤولين.

ذكر فيتزجيرالد في تقريره الخطي، الذي رفعه إلى كوفي عنان، أن الأمور معقدة في لبنان وأنه يرى ضرورة التعامل معها بحرفية وخبرة عالية، وأن هذه الجريمة تتطلب تحقيقات أعمق وأشمل. لكنه ذكر أنه لمس خلال مهمته في بيروت وجود استقطاب حاد في لبنان؛ ففي حين رأى بعض اللبنانيين أن مسؤولية الأمن في لبنان تقع على عاتق سورية، رأى آخرون أن جريمة الاغتيال تستهدف الوجود السوري.

لكن معظم وسائل الإعلام العربية لم تستوقفها إلا عبارة تحميل سورية المسؤولية، ولم تتحدث عن الاستقطاب الحاد في لبنان والاصطفافات المتسارعة فيه التي جاءت في تقرير فيتزجيرالد، وإنما استرسلت في تعليقاتها عن اتهام سورية باغتيال الحريري، إلى حد أصبح هذا الاتهام منذ ذلك الوقت كاللازمة في النوتات الموسيقية، تتكرر في الصحف والتصريحات على القنوات الفضائية، لا سيما الخليجية، قبل أن يجري أي تحقيق رسمي حول الانفجار وضحاياه ومن يقف وراءه.

لقد تأثّر مجلس الأمن – الذي تجاهل وجود دولة وقضاء في لبنان – بالضجّة غير المسبوقة في وسائل الإعلام وتداعياتها اللبنانية بخاصة؛ فطلب من كوفي عنان بعد اطّلاعه على تقرير فيتزجيرالد تشكيل لجنة تحقيق دولية تتولى الموضوع في الكشف عن مرتكبي هذه الجريمة الإرهابية، ومعرفة المسؤولين عن التخطيط لها، وأسماء الأشخاص الذين وُجّهت إليهم الأوامر بتنفيذها، وجرى تكليف القاضي الألماني ديتليف ميليس برئاسة هذه اللجنة.

تكليف مجلس الأمن ديتليف ميليس

حظي ديتليف ميليس، بعد أن تولى مهمته في لبنان، بنجومية عالية. وكان هذا “الميليس” من جهة أخرى مُغرماً بالتلفزيونات اللبنانية ومراسليها الذين يتقنون عدة لغات أجنبية، فأصبح يعقد الكثير من المؤتمرات الصحفية. لا نستطيع في الوقت ذاته أن نتجاهل أن ميليس بوصفه قاضياً ألمانياً ورئيساً للجنة التحقيق، يجب ألا يظهر على وسائل الإعلام إلا بعد وصوله إلى نتيجة محققة وموصوفة.

لقد عرض ميليس أكثر من مرّة على سبيل المثال صورة لسيارة “الميتسوبيشي” التي تم شراؤها من اليابان واستُخدمت في التفجير، واعتبر كشفها أهم إنجازاته، مع أن الأمن السوري قد ساعده في عملية الكشف. كما لا ننسى هوسه بتلبية دعوات اللبنانيين الكثيرة إلى المطاعم المكتظّة بالناس، والذي كان يبدو عليه السرور بارتيادها وتحية روادها وتمضية السهرات الطويلة معهم فيها، وترك الإشراف على كتابة التقارير لفريق عمله المتعدد الجنسيات.

غير أن هناك جانباً آخر من حياة هذا المحقق، ليس طريفاً إلى هذا الحد، وذلك عندما كلفه الأميركيون بالتحقيق في تفجير الملهى الشهير ببرلين الغربية عام 1986، وخرج باتهام ليبيا بهذا العمل الإرهابي في عهد الرئيس الأميركي رونالد ريغان. لم يتردّد ريغان حينها بقصف منزل معمّر القذافي بطرابلس، مستنداً إلى برقية غامضة لا يمكن أن تشكل دليلاً دامغاً لإدانة القذافي، سواء أكان المرء من المعجبين بالقذافي أم لا.

لفت انتباهي في هذا السياق أن مجلس الأمن لم يجتمع ويتصرّف بهذه السرعة تجاه أي مجزرة حدثت في العالم منذ تأسيس الأمم المتحدة قبل ستين عاماً. ولو تمكن المرء من الرجوع إلى تفحص هذه الأحداث في سجلات المجلس على نحو عشوائي أو مدروس، لما وجد في بياناته منذ نشأته اهتماماً يذكر باغتيال الشخصيات، مهما كان شأنها وعدد ضحاياها.

قامت الدنيا ولم تقعد في لبنان طوال أيام وأسابيع وأشهر، ورفعت الأعلام والرايات المختلفة في الساحات وعند مفترقات الطرق وعلى شرفات بعض البنايات؛ ما ساهم في انقسام اللبنانيين بين موالاة ومعارضة، بين حشود بمئات الألوف لفرقاء “8 آذار”، وأخرى مماثلة لفرقاء “14 آذار”، كأن شبح الحرب الأهلية يظهر من جديد بعد أن انتهت باتفاق الطائف منذ أكثر من خمس عشرة سنة.

القرار 1595

اجتمع مجلس الأمن مرة أخرى وبسرعة لافتة للنظر في تقرير ميليس، وأصدر بعد أيام قليلة في 7 نيسان/ أبريل 2005 القرار 1595، الذي يشبه بأرقامه القرار 1559 الشهير. وبالتداعي المقصود أو العفوي تم الربط بين القرارين في الديباجة. وتجدد الاتهام الموجّه إلى سورية بالتمديد للرئيس لحود وربطه باغتيال الحريري. وتجدد اتهام سورية والرئيس السوري شخصياً بتهديد حياة رفيق الحريري في حال لم يقبل التصويت لصالح التمديد للرئيس لحود، وذلك في لقاء معه غير معلن في 26 آب/ أغسطس 2004، وقول الحريري نقلاً عن الأسد بأنه “سيكسر رأسه ورأس لبنان عليه” إن لم يوافق على التمديد للحود!.

ربما أدّى تيري رود لارسن، مبعوث الأمم المتحدة في لبنان، دوراً خاصاً من وراء الستار في إصدار القرار 1595. لم يوجّه الاتهام مباشرة إلى سورية ولا حتى بالاسم، مثلما جرى مع القرار 1559، الذي تحدث عن انسحاب الجيوش الأجنبية من لبنان دون تسمية سورية أو حزب الله بالاسم. لكن تفسيرات القرارين تُركت للأمانة العامة للأمم المتحدة.

كان لارسن الذي زار دمشق مراراً واجتمع بالرئيس بشار في دمشق وحلب، والتقى بي أيضاً في وزارة الخارجية، واحداً من الشخصيات الأوروبية النادرة التي تجيد العمل على “المسرح السياسي” من دون أن يظهر دورها الحقيقي في الواقع الملموس. كان يتمتع بموهبة خاصة فيها الكثير من الدهاء والذكاء والمراوغة التي يصعب معها الإمساك به متلبّساً بأي كلام لا يريده.

طلب ميليس الذي كان على معرفة بلارسن في تقريره إعادة صياغة الدولة في لبنان، ولم يدرك المحقق الدولي بأن هذه الصياغة قد استغرقت سنوات طويلة وصولاً إلى اتفاق الطائف. وعندما أدرك الصعوبات أمامه، طلب ميليس من السلطات اللبنانية توقيف كبار المسؤولين الأمنيين في لبنان خطوةً أولى، لوجود صلات لهم بسورية والذين أُطلق عليهم في وسائل الإعلام تسمية “الضباط الأربعة”، وهم: مدير الأمن العام اللواء جميل السيد، ومدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء علي الحاج، وقائد لواء الحرس الجمهوري العميد مصطفى حمدان، ومدير الاستخبارات العسكرية العميد ريمون عازار. كما طلب في إثرها من الحكومة السورية جلب عدد من الضباط السوريين إلى مقرّه في “مونتي فيردي” ببيروت، من بينهم اللواء غازي كنعان الرئيس السابق لفرع الأمن والاستطلاع في القوات العربية السورية بلبنان، وخلفه العميد رستم غزالي لاستجوابهم والتحقيق معهم.

شهود الزور وميليس

تولت المعارضة اللبنانية في أعقاب هذه الخطوات الانقلابية إدارة شؤون لبنان بدعم من مجلس الأمن، لا سيما في أعقاب استقالة حكومة عمر كرامي المتسرعة؛ إذ لم تتحمل كرامته الاستفزازات التي سمعها من بعض أعضاء مجلس النواب اللبناني. كانت استقالة كرامي مفاجئة لنا في سورية، حيث مواقف آل كرامي غير المتملقة للوجود السوري لا تخطئها العين.

بلغ التوتر في علاقاتنا مع السلطات اللبنانية الجديدة ذروته في أعقاب استقالة عمر كرامي، حيث أصبح وضع قواتنا المحدودة العدة والعتاد في لبنان (حوالى 14 الفاً) محرجاً لنا، فهي لا تستطيع أن تدافع عن نفسها إذا تعرّضت للاعتداء من أي طرف لبناني. لقد أصبح هاجسنا الأكبر حينها أن يُقدم أحدهم على إحراق دبابة سورية مركونة في أحد “الزواريب” اللبنانية، ثم يجري الادّعاء أن “ثورة” قد اندلعت في لبنان.

كانت سورية أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن تعزز قواتها إلى أقصى حد ممكن وتنزل إلى بيروت العاصمة وبذلك قد تصبح طرفاً في حرب أهلية جديدة منفلتة من عقالها، وإما أن يعاد انتشار القوات السورية بعيداً عن بيروت باتجاه ظهر البيدر.

الانسحاب السوري من لبنان

كنت بطبيعة الحال من الذين يفضلون الخيار الثاني انسجاماً مع موقفي المتحفظ على بقاء قواتنا طويلاً في لبنان أكثر من اللازم، وضرورة احترام بنود اتفاق الطائف، حتى لو لم يجر تطبيقه كاملاً من اللبنانيين مثل إلغاء الطائفية السياسية؛ لأن هذا شأنهم. أبلغت الرئيس بهذا الموقف وتمنيت أن يكون تاريخ الانسحاب قبل موعد الانتخابات النيابية اللبنانية المزمع إجراؤها في أيار/ مايو 2005. كنت قد حدثت الرئيس أكثر من مرة أن قوة سورية في لبنان لا تستند إلى وجودها العسكري فيه، بقدر ما تستند إلى العلاقة الاستراتيجية الجيوسياسية والاقتصادية والتاريخية بين البلدين.

اتفقنا على أن ينتهي الانسحاب في 26 نيسان/ أبريل 2005 قبل أن يحين موعد إجراء الانتخابات النيابية، حتى لا يقال إن الانتخابات ستجري بوجود عسكري سوري.

تزامن تكليف مجلس الأمن لميليس برئاسة لجنة التحقيق، مع الإصرار على تنفيذ قراري مجلس الأمن 1595 و1559 من جهة، ومساءلة المسؤولين الأمنيين السوريين بالمثول إلى مونتي فيردي في بيروت من جهة ثانية. كلفت الدكتور رياض الداوودي وأحمد عرنوس الاتصال بالأمانة العامة للأمم المتحدة وبلجنة التحقيق الدولية في مونتي فيردي لمقابلة ميليس لإقناعه بأن سفر الضباط السوريين إلى بيروت غير ممكن بسبب التدهور الخطير الذي طرأ على العلاقات السورية – اللبنانية منذ اغتيال الحريري واحتمال تعرض حياتهم للخطر.

اعتبر ميليس أن المطلوب من السلطات السورية بموجب التفويض الممنوح له من مجلس الأمن أن يكون تعاون سورية مع لجنة التحقيق تعاوناً كاملاً غير مشروط، وأورد ذلك في تقريره وفي تصريحاته ومؤتمراته الصحفية. كما صرح أن بابه مفتوح لمن يريد أن يدلي بشهادته أمامه، وأمام اللجنة (وفُهم من كلامه أنه سيستقبل من يريد اتهام سورية برحابة صدر). فاستقبل خلال عدة شهود من تبين فيما بعد أنهم شهود زور من أمثال هسام هسام ومحمد زهير الصديق وغيرهما. كما استقبل أسماءً سياسية معروفة لبنانية وسورية، من بينهم نائب الرئيس عبد الحليم خدام، ووليد جنبلاط رئيس الحزب التقدمي، ونائب وزير الخارجية السوري وليد المعلم، الذي تطوع شخصياً للإدلاء بشهادته أمام لجنة التحقيق الدولية.

الأول هسام هسام اعتقلته السلطات اللبنانية لإجباره على الإدلاء بشهادة يتهم فيها عدداً من أسماء المسؤولين السوريين بارتكاب جريمة الاغتيال. وتبين فيما بعد أنه أدلى بهذه الشهادة تحت التعذيب والضغط. أما الثاني محمد زهير الصديق فقد تلاعب بميليس ومساعديه وببعض الصحافيين اللبنانيين وأعطاهم عدة شهادات مزورة، وأجرى فيما بعد مع الفضائيات اللبنانية مقابلات عديدة أدلى فيها بمعلومات متناقضة مثيرة للشك، ولا تصلح دليلاً على صحة الاتهام.

قرار تحت الفصل السابع

علمت عبر وسائل الإعلام بتحديد اجتماع لمجلس الأمن في 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2005 في الساعة العاشرة صباحاً على مستوى وزراء الخارجية، مخصص للبحث في تقرير ميليس الخاص باغتيال الحريري. ومع أنني لم أكن مدعواً بصورة رسمية لأن عضوية سورية في مجلس الأمن انتهت عام 2003، فإنني أستطيع الحضور مراقباً إذا رغبت في ذلك. سافرت على عجل إلى نيويورك؛ لأن اجتماعات مجلس الأمن على هذا المستوى نادرة ولم تحصل إلا مرة واحدة قبيل غزو العراق، ويهمني شخصياً أن أستمع مباشرة إلى ما سوف يقال عن تفاصيل اغتيال رفيق الحريري ومن يقف وراءه.

اجتمعت على الفور بعد وصولي نيويورك مع كل من وزيري خارجية روسيا والصين سيرغي لافروف ولي تشاوتشين اللذين تربطنا صداقة قديمة ببلديهما، إذ أخبراني بأن مشروع قرار مجلس الأمن قد تمت الموافقة عليه مساء أمس – ربما وأنا في الطائرة من دمشق إلى نيويورك – وأن هذا القرار أُدخلت عليه بعض التعديلات بجهودهما وإلا كان أكثر قسوة وأشد إدانة لسورية، وشرحا لي بأن صدوره تحت الفصل السابع كان سببه أن التعاون السوري لم يعتبر كاملاً مع لجنة التحقيق الدولية. لم أشهد لقاءً رسمياً جافاً بهذا الشكل في حياتي، لا مع الأصدقاء ولا مع الخصوم.

دخلتُ إلى القاعة الشهيرة لمجلس الأمن لمشاهدة التصويت فقط على القرار والاستماع إلى شروحات الوزراء بعد التصويت. طلب رئيس مجلس الأمن مني الجلوس في المقعد المخصّص لي بوصفي عضواً مراقباً بين الوزراء الخمسة عشر الأعضاء في المجلس. ولفت الانتباه إلى أنه يحق لي الكلام ولا يحق التصويت، وأنا أعرف ذلك عن ظهر قلب، ثم أعطى الكلمات إلى الوزراء الأعضاء الدائمين ثم الأعضاء غير دائمي العضوية.

كان التصويت على القرار 1636 بالإجماع، ثم بدأ الوزراء بشرح أسباب التصويت ومواقف دولهم من جريمة اغتيال الحريري. كان هناك تقارب في الشكل وحدّة في المضمون في كلمات الوزراء. بعضها كان خفيض النبرة مثل لافروف وتشاوتشين، والوزير البرازيلي سيلسو أموريم، الذين لم يتعرضوا في مداخلاتهم للنيل من سورية. ولكن الكلمات التي كانت أكثرها شدة وأعلاها نبرة ضد سورية صدرت عن كونداليزا رايس، وزيرة خارجية الولايات المتحدة وجاك سترو وزير خارجية بريطانيا.

كنت لحسن الحظ آخر المتحدثين، وهذا في الواقع لا علاقة له بالحظ، وإنما بما ورد في النظام الداخلي لمجلس الأمن، فأنا في هذه الحالة أستطيع الرد على ما استمعت إليه بثقة ومعرفة نقاط الضعف والقوة فيما قاله الوزراء للتو. جاء ردي شاملاً لكل المتحدثين.

جرت المماحكات والكلمات الخشنة التي استخدمها جاك سترو، الذي كان يجلس بجانب كونداليزا رايس ويتهامس معها كأنه يسجل ما تطلب منه أن يقوله رداً على خطابي. ولذلك أرى أيضاً أن رده الفظ كان دليل ضعف حجته، وعندما التقيته بعد عدة أشهر في ندوة دولية عُقدت في المنامة، اقترب مني واعتذر وذكر أن بعض أصدقائه قالوا له إنه كان عليك ألا تنفعل في ردك على الوزير السوري.

شكّل نص القرار رقم 1636، الصادر عن مجلس الأمن في 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2005 تحت الفصل السابع، سابقة في القانون الدولي وسجّل مفهوماً جديداً في تعريف الأمن والسلم الدوليين. لقد أساء هذا القرار لمصداقية مجلس الأمن أكثر مما أساء لسورية. ونسيه الناس مع مرور الزمن مع أنه صدر تحت الفصل السابع وأجاز استخدام القوة ضد سورية. لقد كان، في اعتقادي، قراراً انفعالياً وثأرياً لا يستطيع مجلس أن يفتخر بإصداره.

ومع أنني لا أجد ضرورة في نشر كل ما جرى أمامي في مجلس الأمن من مناقشات ومداخلات، حيث يستطيع القارئ المهتم الرجوع إليها في سجلات الأمم المتحدة، فإنني أجد لزاماً أن ألخص مضمون كلمتي وزيري خارجية الولايات المتحدة وبريطانيا، لألقي مزيداً من الضوء على نصّ القرار وحيثياته وموقفي بلديهما منه، والذي صدر بإشرافهما وتبنّيهما.

ملخص كلمة كونداليزا رايس

باتخاذ القرار 1636 (2005) هذا الصباح، فإننا، نحن في الأمم المتحدة نعلن تأييدنا لقيام اللجنة بالبحث عن الحقيقة، وهي اللجنة التي يقودها السيد ديتليف ميليس باقتدار. ونؤكد أيضاً على مطالبنا العادلة الموجهة إلى الحكومة السورية ونوضح بجلاء أن عدم الامتثال لتلك المطالب سيؤدي إلى عواقب وخيمة من جانب المجتمع الدولي.

فعلى مدى السنوات الثلاثين الماضية، تغلغل احتلال سورية للبنان في كل جوانب المجتمع اللبناني. غير أن التدخل السوري أصبح بداية من السنة الماضية شديد الفساد ولا يمكن احتماله، الأمر الذي أدى إلى حشد قوى المعارضة ضده، داخل لبنان وفي صفوف المجتمع الدولي على حد سواء. وفي أواخر آب/ أغسطس الماضي، فرضت الحكومة السورية تمديد ولاية الرئيس اللبناني إميل لحود. وردّاً على ذلك، تصرف المجتمع الدولي، بالرغم من أن بعض أعضاء مجلس الأمن لم يريدوا أن يخص عملنا سورية بالاسم. لذلك، ففي القرار 1559 (2004)، دعا المجلس إلى انسحاب كل القوات الأجنبية من لبنان، ودعا جميع الدول إلى احترام سيادة لبنان.

وعندما لم تف الحكومة السورية بأي من تلك المطالب، استقال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري احتجاجاً. وبعد أقل من أربعة أشهر، اغتيل رئيس الوزراء الحريري في تفجير إرهابي أودى بحياة 22 شخصاً آخرين. وقف مليون مواطن لبناني وقفة رجل واحد في وسط بيروت مطالبين علانية بإظهار الحقيقة وتحقيق العدالة والتحرر من السيطرة السورية.

وقد تلقينا الآن التقرير المؤقت للجنة (662/2005). وقيل لنا إن هناك التقاء في الأدلة يوضح التورط اللبناني والسوري معاً في هذا العمل الإرهابي. وقيل لنا إنه من الصعب أن نتخيّل مؤامرة الاغتيال المعقدة هذه أن تنفّذ بدون معرفة كبار المسؤولين السوريين. وباعتماد قرار اليوم بالإجماع، تتخذ الأمم المتحدة خطوة نحو محاسبة سورية على أي امتناع آخر عن التعاون في تحقيقات اللجنة، والنظر في اتخاذ إجراءات إضافية إذا اقتضت الضرورة. إن القرار الذي اتخذناه اليوم في إطار الفصل السابع من الميثاق هو الطريقة الوحيدة لإجبار الحكومة السورية على قبول المطالب المشروعة للأمم المتحدة، وعلى التعاون الكامل مع لجنة ميليس للتحقيق.

ملخص كلمة جاك سترو

إنني ممتن لجميع زملائي هنا على تصويتهم بالإجماع في مجلس الأمن لصالح القرار 1636 (2005)، وبهذه الصياغة القوية للقرار، أعتقد أننا نرسل رسالة قوية جدًا إلى حكومة سورية وإلى عناصر في لبنان بشأن ضرورة تعاونهما الكامل مع التحقيق الذي يجريه المدعي العام ميليس.

لقد شهد لبنان الكثير من العنف ومن إراقة الدماء عبر تاريخه. ومع ذلك، فإن اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في 14 شباط/ فبراير كان صدمة شديدة لشعب لبنان وللمجتمع الدولي بأسره لحسم الخلافات السياسية باللجوء إلى ممارسات القرون الوسطى المتمثلة في الاغتيال السياسي.

والأدلة المجتمعة في تقرير ميليس (662/2005) خطيرة ومثيرة للقلق. ولكن بعد الدراسة المتأنية للتقرير، من الصعب ألا نؤيد الاستنتاجات التي خلص إليها، من أن هناك أدلة تشير إلى تورط لبناني وسوري رسمي، على السواء، في هذا العمل الإرهابي، ولكن لكي تتمكن اللجنة من الانتهاء من مهمتها، فهي في حاجة إلى التعاون الكامل وغير المشروط من جانب سورية، بموجب الفصل السابع من الميثاق.

كما نحذّر أيضًا، على الوجه الصحيح، حكومة سورية بأن صبرنا له حدود. وإن عدم تعاونها الكامل الآن سيجبرنا على النظر في اتخاذ تدابير إضافية لضمان أن يتمكن مجلس الأمن، وعن طريق اللجنة، من الاضطلاع بدوره في تقديم المساعدة للحكومة اللبنانية في تصميمها على تحقيق العدالة. وإذا أدرنا ظهورنا لهذه الجريمة، بسبب ما يبدو من صعوبة حلها سياسيًا، فإن ذلك لن يؤدي إلى فقدان الشعب اللبناني الثقة بهذه الهيئة فحسب، بل إنه سيقوض أيضًا مصداقية المجلس وسلطته وسيضر بجهودنا لإنقاذ سيادة القانون الدولي.

 ردّ فاروق الشرع

اعتراضي الأساسي الموجه إلى تقرير لجنة التحقيق الدولية هو أنه انطلق من افتراض أن سورية متهمة بارتكاب هذه الجريمة بدلًا من أن ينطلق من افتراض البراءة حتى تثبت الإدانة. والغريب أن مجلسكم قد أيد اللجنة فيما ذهبت إليه دون تدقيق أو تمحيص. لو أن تواجد قوات عسكرية وأجهزة أمنية في بلد ما يعني أن أي حادث إجرامي أو إرهابي يقع في هذا البلد، ما كان يمكن أن يقع بدون علم أو موافقة هذه القوات وهذه الأجهزة، لكان يجب اتهام القوات والأجهزة الأمنية في الولايات المتحدة الأميركية في التفجيرات الإرهابية التي ارتكبت بتاريخ 11 أيلول/ سبتمبر 2001، واتهام الأجهزة الأمنية الإسبانية بتفجير القطارات في مدريد بتاريخ 11 آذار/ مارس 2004، واتهام الأجهزة الأمنية البريطانية بتفجيرات مترو الأنفاق في لندن بتاريخ 7 تموز/ يوليو 2005.

ثم إن الإنسان لا يملك إلا أن يبدي استغرابه إزاء اتخاذ المجلس لهذا القرار تحت الفصل السابع من الميثاق، في حين أنه لم يتعامل بنفس الطريقة في حالات أخطر وأكبر. ففي حالة مجزرة قانا، على سبيل المثال، التي ذهب ضحيتها أكثر من مئة مدني في نيسان/ أبريل من عام 1996، لم يقرر مجلس الأمن آنذاك حتى تشكيل لجنة تحقيق دولية، لأن إسرائيل كانت الطرف المتهم صوتًا وصورة.

وفي العراق اكتفى المجلس بمجرد إصدار بيان رئاسي في حادث الانفجار المروّع الذي أودى بحياة ممثل الأمم المتحدة في العراق سيرغيو دي ميللو وأكثر من عشرين من رفاقه في آب/ أغسطس 2003. أما عندما اعتدت إسرائيل في نيسان/ أبريل 2002 على مخيم جنين في الضفة الغربية المحتلة، ودمرته بصورة معلنة وقتلت أكثر من 400 فلسطيني منهم عشرات الأطفال والنساء، رفضت حتى استقبال اللجنة التي شكلها مجلس الأمن برئاسة الرئيس الفنلندي مارتي اهتيساري وأغلق الموضوع. مع كل ذلك، فإن سورية، انطلاقًا من حرصها على كشف الحقيقة، كان قرارها وما زال، التعاون التام مع اللجنة الدولية حتى إقامة الدليل القاطع على من ارتكب هذه الجريمة البشعة المدانة.

أخيرًا، اسمحوا لي أن أعبر بتعليق بسيط ومختصر، حول ما قاله السيد جاك سترو. وكان محقًا عندما تكلم عن أن اغتيال الراحل رفيق الحريري شبيهًا بما كان يجري في العصور الوسطى. وأنا أضيف إلى ما قاله السيد سترو أن التحقيق في هذه الجريمة قد تم أيضًا بما يشبه ما كان يتم في العصور الوسطى، لأن المتهم أدين قبل التحقيق معه.

طلب جاك سترو – الذي كان يتهامس مع كونداليزا رايس طوال الجلسة ويدون على الأرجح ما كانت تريد أن يقوله بالنيابة عنها – الكلام للمرة الثانية لأنه ربما شعر بفشله في إقناع الآخرين.

مداخلة جاك سترو الثانية

ما كنت سأرد سيدي الرئيس حتى سمعت وزير خارجية سورية السيد فاروق الشرع يعبر عما لا أستطيع أن أصفه إلا بأنه مقارنة بالغة الفظاظة بين الحالة التي تجد حكومة سورية نفسها فيها الآن ومواقف حكومة الولايات المتحدة الأميركية في 11 أيلول/ سبتمبر، وحكومة إسبانيا في 11 آذار/ مارس 2004، وحكومة المملكة المتحدة في 7 تموز/ يوليو من هذا العام. وأظن أنه لو وجد من بين الزملاء حول هذه الطاولة من كانت لديه أي شكوك في الحاجة إلى إصدار القرار 1636 (2005) بموجب أحكام الفصل السابع، فإن القاضي ميليس يوضح، وقد اقتبست منه، أن افتراض البراءة ما زال قائمًا.

ولكن التحقيق الذي يجريه الآن ليس تحقيقًا في العصور الوسطى، كما يشير السيد الشرع، بل هو معروف في كل التحقيقات السليمة: أي أولًا، تحديد الأدلة الأولية لتبين ما إذا كانت هناك حاجة إلى مزيد من التحقيقات. ولو كانت الحكومة السورية قد قدمت تعاوناً تامّاً في المضمون، لكان تقرير السيد ميليس مختلفًا، وأنا على يقين قاطع بأنه لما كان من المطلوب عقد اجتماع على مستوى وزاري، ولا حتى اتخاذ قرار على الأرجح. وإن كان الوزير الشرع يوحي بأن ما حدث في 11 أيلول/ سبتمبر 2001 و3 آذار/ مارس 2004 و7 تموز/ يوليو 2004، تم بموافقة حكومات الولايات وإسبانيا والمملكة المتحدة، فأعتقد أنه يجب أن يقول ذلك صراحة.

ردّ فاروق الشرع

أعتذر عن أخذ الكلمة للمرة الثانية. والحقيقة أنني لا أريد أن أدخل في أية مماحكات، ولكن أريد أن أوضح بعض النقاط التي أثارها السيد جاك سترو. النقطة الأولى، في ما يتعلق بما قاله ميليس، فالسيد سترو يتفق معي على أن ما قاله ميليس فرضيات وليست وقائع، إذ عندما انتهى استجواب الشخصيات السورية في دمشق جرى سؤاله من أحد الصحافيين ما إذا كان سيعود أم لا؟ وقال قد أعود وقد لا أعود. وهذ يعني تشكيكه باستخلاصاته.

النقطة الثانية، لقد أدنّا هجمات 11 سبتمبر 2001 مرات عديدة، لأننا ببساطة نحن العرب ندفع ثمن هذه الهجمات الإرهابية، فنحن جزء من ضحاياها. كما أدانت سورية تفجير القطارات في إسبانيا عبر بيان رسمي، وأدنا أيضًا بالتصريحات الرسمية وعبر الاتصال الهاتفي تفجيرات مترو الأنفاق في لندن. النقطة الثالثة والأخيرة، إننا نريد أن نصل إلى الحقيقة من اغتيال الراحل رفيق الحريري بأدلة قاطعة، وليس لأهداف أخرى تنطلق من أجندات خفية.

رئيس مجلس الأمن: لا يوجد متكلمون آخرون في قائمتي. والتفت يمينًا ويسارًا، وكانت رايس تنظر إلى سترو وتتهامس معه ولم يطلب أي منهما الكلام مرة أخرى.

بعد هذه الجلسة، صادفت جاك سترو في إحدى دورات المياه في مجلس الأمن، فقال لي على انفراد معتذراً “I will behave next time” أي أنني سأتصرف بطريقة أفضل في المرّة القادمة.

الخروج من المأزق

كانت هذه من الأيام العصيبة لوزير خارجية سورية، يرفض الابتزاز والمس بكرامة بلده، بمواجهة دول كبرى، رغم أنه على المستوى الشخصي من بين غير المتحمّسين لبقاء القوات السورية في لبنان بعد اندحار إسرائيل من جنوب لبنان في عام 2000. لقد كان اتفاق الطائف يسمح في إحدى فقراته بوضوح لا لبس فيه، بتمركز القوات السورية بعد الانسحاب من لبنان، في ظهر البيدر وعين دارة والبقاع من الأراضي اللبنانية، بصورة قانونية وبموافقة الحكومة اللبنانية وجامعة الدول العربية. ومن هذه المواقع اللبنانية المرتفعة تستطيع قواتنا أن ترى بيروت بالعين المجردة وتراقب الجبهة اللبنانية – السورية – الإسرائيلية وبأبسط وسائل الرصد.

كان في مقدمة المطلوب التحقيق معهم في سورية رئيس الجمهورية بشار الأسد وآخرون من عائلته. وكتب ميليس لي خطيًا بمعرفة الأمين العام للأمم المتحدة في حزيران/ يونيو 2005 قائمة بهذه الأسماء وما هو المطلوب منها. أطلعت رئيس الجمهورية على الرسالة في مكتبه في قصر الروضة، حيث لا يجوز الحديث على الهاتف بأمور بالغة الحساسية. قرأ الرسالة ولم يعطني جوابًا كأنما هي موجهة إلي شخصيًا ولا تعني آل الأسد. اعتبر ميليس حينها أن عدم الرد على الرسالة التي وجهت إلى وزير الخارجية بسرعة تضليلًا للتحقيق. وأثار نشر هذا الاتهام لي في تقريره دون وجه حق حملة إعلامية ضدي شخصيًا بتهمة تضليل التحقيق؛ حملة استمرت أسابيع كأن عملية الاغتيال جرت بمعرفتي.

في آخر تقرير لميليس، الذي قدمه إلى مجلس الأمن في 6 كانون الأول/ ديسمبر 2005 قبيل أن يتنحى عن رئاسة لجنة التحقيق الدولية بأيام معدودة، ظهرت عيوب قانونية لا تخطئها العين في تقريره لا سيما بالنسبة إلى مصداقية الشهود. لقد تمسكنا في سورية بمسلمتين قانونيتين: الأولى، ألا يكون التحقيق سياسيًا وإنما مهني وقانوني بامتياز؛ إذ لا يعقل أن يصدر عن مجلس الأمن قرار يعتبر فيه الحكومة اللبنانية مرجعًا يُعتد به، ولا يُعتّد في الوقت ذاته بسلطتها القضائية؛ فيشكل مجلس الأمن لجنة قضائية دولية. والثانية، ألا يمثل أي مسؤول سوري مدني أو عسكري إلى مونتي فيردي في لبنان؛ لأن العلاقة مع لبنان تمر بمرحلة غير طبيعية.

شرحت لكوفي عنان أمين عام الأمم المتحدة ومساعده تيري رود لارسن على الهاتف آنذاك أهمية الاستجابة لهاتين النقطتين، وضرورة استبعاد أي أسماء بصورة مسبقة اتهمت عن طريق شهود زور، أما إذا كانت هناك أسماء ليست من اختراع شهود الزور فتجري اللقاءات معهم داخل سورية، وليس في مونتي فيردي في بيروت. قال لي عنان دعني أفكر لأن الموضوع ليس كله بيدي.

بعد يومين اتصل عنان معي هاتفيّاً، وقال إنه لم يستطع إقناع مجلس الأمن بإجراء التحقيق داخل سورية، فلجنة التحقيق واضحة في ما قالته في تقريرها وفي الجلسات المغلقة في مجلس الأمن. وقال إن المطلوب أن تجري التحقيقات خارج سورية بعد أن أخذنا مخاوفكم في الاعتبار، أما بالنسبة إلى بقية الضباط الذين تم استجوابهم داخل سورية فعليهم بموجب الفصل السابع أن يمتثلوا للتحقيق الدولي خارج سورية؛ لأن مجلس الأمن وبالتحديد المندوب الأميركي الدائم في مجلس الأمن جون بولتون، قد اقترح عليه البحث عن بلد آخر تضمن فيه حرية التعبير من دون قيد أو شرط.

استغرقت المكالمة الهاتفية، أو بالأحرى المكالمتان الهاتفيتان الأخيرتان مع كوفي عنان، أكثر من نصف ساعة ولم أستطع أن أقنعه بأننا سهلنا التحقيقات داخل سورية ونحن على استعداد لمتابعتها. اقترحت عليه مكانًا لإجراء التحقيقات اللازمة، وقلت إن الجولان أرض سورية تحت احتلال غير قانوني، وهناك منطقة فصل القوات في الجولان يرفع عليها فقط علم الأمم المتحدة، ولا يرفع عليها “العلم الإسرائيلي” ولا العلم السوري، وتستطيع لجنة التحقيق الدولية أن تجتمع مع الضباط السوريين المعنيين في مقر الأمم المتحدة، وسيشعر المحققون بحرية كاملة هناك. قال سأعاود الاتصال معك، فالقرار صادر عن مجلس الأمن والتفويض معطى من المجلس للجنة التحقيق.

من الواضح لي أن كوفي عنان كان مقتنعاً باقتراحي، فقد تحدثنا خلال الاتصال الهاتفي عن كيفية وصول الضبّاط السوريين ولجنة التحقيق إلى مقر الأمم المتحدة في منطقة فصل القوات في الجولان بواسطة مروحية تابعة للأمم المتحدة وعليها شارة وعلم الأمم المتحدة، حيث يمكنها أن تنطلق بالنسبة إلى اللجنة الموجودة في بيروت عبر قوات اليونوفيل في جنوب لبنان، ومنها إلى قوات الأوندوف في الجولان المتجاورتين، دون أن تنتظر موافقة من أية دولة. يكفي وجود إشعار الأمم المتحدة للدول الثلاث (سورية ولبنان وإسرائيل) بخط سير الطائرة التي تحمل شارة الأمم المتحدة بالطبع، وهي أمور يكفلها القانون الدولي والدول المعنية بموافقات عبور الأجواء. عبر عنان عن دهشته لهذا الشرح الدقيق فقلت له إنني كنت أعمل في السبعينيات بمؤسسة الطيران السورية.

عاد عنان واتصل بي بعد أقل من ساعة، وقال لم أحصل على الموافقة المقترحة من المجلس، وأرجو ألا تسألني عن الأسباب. كانت المكالمة الثانية مختصرة جدًا لأنه لم يرغب في أن يفسر سبب رفض الاقتراح. قدّرت أن جون بولتون كان وراء هذا الرفض.

كنت أرى بالتشاور مع اللجنة القانونية، التي تضم عددًا من الخبراء القانونيين في دمشق، لا سيما بعد صدور القرار 1636 تحت الفصل السابع، أن هناك معضلتين اثنتين أمام سورية لكشف الخطة المعقدة قبل أن تصل إلى مبتغاها وتحقق أهدافها من خلال الأدوات العديدة المتاحة في الخارج والداخل. وكان ثمة أهمية للجانب الإعلامي في هذا المجال، بشقيه السياسي والقانوني، في عصر ثورة الاتصالات.

تتعلق المعضلة الأولى بالحفرة الكبيرة التي أحدثها الانفجار الذي أدى إلى اغتيال الحريري، والتي لم تثر – كما هو مفترض – الاهتمام الكافي من حيث عمقها واتساع دائرتها وشدة تدميرها، وهل كان الانفجار قد جرى فوق الأرض أو تحتها بكمية 1000 كيلوغرام من مادة TNT الشديدة الانفجار أو بأكثر منها؟

أما المعضلة الثانية فكانت البحث عن مكان محايد يمكن أن يجري التحقيق فيه بسرية تامة ولا يكون للسلطات السورية تأثير فيه، وذلك غير الذي اقترحته ثمّ رفض، كما أبلغني أمين عام الأمم المتحدة، لا سيما أن لجنة التحقيق تهدد سورية بالفصل السابع؛ أي باستخدام القوة في حال عدم التعاون الكامل معها، وهنا تكمن أهمية المحاولة، بصرف النظر عن نجاحها أو فشلها.

كان الهدف من البحث في حل هاتين المعضلتين، ليس إخراج “الزير من البير”، فهذا ليس زمن المعجزات، خاصة إذا علمنا بأن الدول الثلاث التي نقدم على تحديها تتحكم إلى حد بعيد عبر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وقبله في عصبة الأمم بسياسات المنطقة منذ مئة عام تقريبًا، وهي أميركا وبريطانيا وفرنسا. وقد أدى الدور الرئيس في اللجنة القانونية الدكتور سامي الخيمي، سفيرنا في لندن، بالإشراف على الخبراء الأجانب.

كان هذا هو الواقع ولا يزال، رغم امتلاك سورية وأصدقائها وحلفائها داخل لبنان في أفضل الأحوال “الثلث المعطّل” وليس الثلث القادر على المواجهة والمبادرة وتقرير مصير المنطقة. كان الهدف الممكن الذي نسعى إلى تحقيقه هو إدخال الشك لا أكثر في رواية الاتهام، التي جرى تسويقها للعالم لدرجة أن أصدقاءنا الروس والصينيين وبعض الأشقاء العرب صدقوها. وهذا هو الخطر الحقيقي من وراء الاتهام، دون أن نتجاهل أيضًا أن الرأي العام السوري كان متأثرًا إلى حد كبير باغتيال الحريري؛ فبراءة النظام من دم الحريري هدف لا بد من تحقيقه، ويقع ذلك على كاهل وزارة الخارجية السورية ووزيرها قبل أي مسؤول آخر.

حدث التشكيك بالرواية المتعلقة بالحفرة – على الأقل لدى الروس – عندما أجرينا سرًا، بطلب مني، تجارب حقيقية مصورة في بادية الشام لعدة أيام لمختلف الانفجارات من فوق الأرض وتحتها ومن مختلف السيارات والشاحنات وبألف كيلو غرام من مادة تي إن تي (TNT) الشديدة الانفجار وأكثر. لم نحصل على حفرة بهذا العمق الكبير ولا بهذا الاتساع الذي حصل في انفجار بيروت في ذلك اليوم المروع. أطلعنا موسكو على هذه الصور التي وضعناها في ألبوم خاص تولاه مدير المخابرات العامة اللواء علي مملوك، الذي كُلف بالسفر إلى موسكو سرّاً بإصرار مني وموافقة الرئيس الأسد.

نجح اللواء مملوك في إدخال الشك في نفوس المسؤولين الأمنيين الروس والمستشارين العسكريين لديهم، حول حجم حفرة الانفجار المذهل، كما أبلغني بعد عودته من موسكو. أخرج الروس بعض الصور الملتقطة من الأقمار الاصطناعية لديهم يوم الانفجار، فرصدوا نشاطًا جويًا، وطائرتين كانتا تحلقان فوق بيروت والشاطئ الشرقي للمتوسط ما بين الساعة العاشرة صباحًا والساعة الثانية بعد الظهر بتوقيت بيروت، في 14 شباط/ فبراير 2005، وزودونا ببيانات الأقمار الاصطناعية، ولكنهم لم يستطيعوا تأكيد سبب هذه الطلعات الجوية وفيما إذا كانت إحدى الطائرتين أميركية والأخرى إسرائيلية، لأن كلتيهما من صنع أميركي.

اقتُرح حل المعضلة الثانية عن طريق إجراء التحقيق في بلد محايد. أرسلت إلى كوفي عنان، عبر مبعوث موثوق من قبلي لإبلاغه سرّاً أن ما نراه مناسبًا لتلبية متطلبات قرار مجلس الأمن هو إجراء التحقيق في مقر الأمم المتحدة في فيينا عاصمة النمسا، الموجود على أرض محايدة. سيدخل الضباط السوريون المطلوبون للشهادة من الباب الخلفي، بحيث لا تعلم بهم أية وسيلة إعلامية؛ لأن سرية الموضوع شرطٌ لنزاهة التحقيق. هكذا تضمنت رسالتي إلى الأمين العام. ولتوفير الجو الملائم ليستطيع المحققون الدوليون توجيه الأسئلة بـ “حرّية مطلقة”، قبل كوفي عنان بهذه التعهدات، ولا شك لدي في أن مهنيته العالية أمر يستحق التقدير، لأن هذا الجانب من شخصيته هو الذي أكسبه احترام الآخرين رغم امتثاله أحيانًا لتوجيهات الأميركيين.

لإنجاز هذا الأمر، استدعيت سفيرنا في فيينا صفوان غانم، وهو دبلوماسي قدير ولديه خبرة طويلة، وشرحت له تفاصيل ما يتعيّن عليه القيام به في فيينا قبل وصول الضباط السوريين السبعة المطلوبين للشهادة وبعده. غادر الضباط المعنيون على طائرة خاصة سورية إلى تركيا. ثم غادروا بعدها إلى فيينا بحيث لا يستطيع أحد من الصحافيين معرفة أنهم جاؤوا من سورية. اصطحبهم السفير غانم لدى وصولهم مطار فيينا كأصدقاء وأقارب وأنزلهم في بيته، بعد أن انتقل هو وعائلته إلى فندق قريب من بيته بحسب الاتفاق لكي يكون على تواصل معهم. وأدخلهم من الباب الخلفي لمقر الأمم المتحدة في فيينا، فلم تعلم بهم أية وسيلة إعلامية.

عاد الضباط من فيينا إلى دمشق بعد إجراء التحقيقات المطلوبة بالطريقة نفسها التي غادروا فيها إلى فيينا عبر تركيا. كانت علاقات سورية مع تركيا ممتازة بعد زيارة الرئيس بشار إليها عام 2004، ومع النمسا التي تربطني صداقة مع المسؤولين فيها مثل وزير الخارجية والمستشار النمساوي.

استبقى أحد المحققين في مقر الأمم المتحدة بفيينا العميد رستم غزالي في غرفة المحققين لدقائق إضافية، وطلب منه – كما قال غزالي لسفيرنا صفوان غانم في الطريق إلى المطار – بأن يقول إن بشّار الأسد هو الذي أمر باغتيال الحريري مقابل تبرئته. لكن غزالي رفض هذا العرض جملةً وتفصيلًا على حد قوله.

بعد ذلك، وعلى خلاف ميليس، لم يوجّه المحقق الدولي سيرج براميريتز الذي خلفه، أي اتهام إلى الرئيس أو أخيه ماهر الأسد أو صهره آصف شوكت رئيس شعبة المخابرات العسكرية في تقرير المتابعة الذي أصدره بعد أن اجتمع مع الرئيس بشار في دمشق ليستكمل التحقيق في نيسان/ أبريل 2006 وبعد اجتماعه معي أيضًا. لكنه مهد في تقريره لضرورة تعاون أفضل.

انتهت المهمة بنجاح، بصرف النظر عما توصل إليه المحققون. والنجاح الذي أقصده لا يعني أن ملف اغتيال رفيق الحريري قد أُغلق، وإنما يعني أن تعاون الجمهورية العربية السورية مع لجنة التحقيق الدولية كان كاملًا، وغير مشروط ودون توقيع الحكومة السورية أي اتفاقية مع الأمانة العامة للأمم المتحدة شبيهة بالاتفاقية الخاصة مع لبنان التي تلغي دور القضاء اللبناني.

لم يكن إنجازاً سهلاً عدم تمكين وسائل الإعلام في عصر ثورة الاتصالات من نشر أي خبر عما حدث مع الضباط الكبار السوريين في النمسا مرورًا بتركيا، فضلًا عن سد ذرائع دول كبرى بإلغاء الاتهام المجلل الموجه إلى الرئيس وأفراد من عائلته باغتيال الحريري، والذي اعتبرته أساسيّاً لتبرئة سورية. لكن كانت تبعات ذلك الجهد اتهامًا باطلًا لي في تقرير ميليس بتضليلي للتحقيق.

إلا أن الرئيس بشّار لم يبادلني التقديرات والاستنتاجات نفسها عندما التقيته في مكتبه نهاية عام 2005، بعد أن عاد الضبّاط من فيينا، لأسباب ما زلت أجهلها. فما إن انتهينا من الحديث عن الحريري، وإذ بالرئيس يفاجئني بقوله: توجد علي ضغوط كبيرة، وهي ليست جديدة، بل من أيام الوالد، ولم أحاول حينها الاستماع إليها كما تعرف! وبدلاً من أن أسأله من أين أتت هذه الضغوط – لأنني سمعت عنها فعلاً مباشرة من والده حيث كانت السعودية هي الدولة المقصودة – أجبته بين الجدّ والمزاح الذي كنا نمارسه معًا مبتسمًا للتخفيف من الجو المتوتر: ربما ترغب في تغيير وزير الخارجية.. أجابني على الفور، ومن تقترح مكانك؟

لم أعتب لردّة فعله السريعة، فأنا لست متمسّكاً بالمنصب. وإذا كان بشار قد استبقاني حين أصبح رئيساً فذلك حتماً لشعوره بالحاجة إلى مساعدتي فترة. لكنني شعرتُ بأنه يرغب في استبعادي، كي لا يُعزى أي نجاح له إلى غيره. … أجبته بأن نائب وزير الخارجية وليد المعلم يمكن أن يكون مريحاً له شخصيّاً لسببين؛ إذ لديه علاقاته الوطيدة مع بندر بن سلطان منذ كان سفيراً للولايات المتحدة ومن ثمّ مع السعودية، كما أنه بنى علاقات مع أعضاء الوفد الأميركي المفاوض في أثناء محادثات السلام. ولقد كلف بمهمّات سابقة، آخرها تكليف الرئيس له بلقاء الحريري قبل اغتياله بأسابيع. أما الخيار الثاني فيمكن أن يكون فيصل المقداد ممثل سورية لدى الأمم المتحدة في نيويورك الذي هو مُخلص لكم وللبلد. والخيار الثالث هو الدكتور رياض الداوودي، فهو ضليع بالقانون الدولي وشارك في مفاوضات السلام وكلف بمهمات عديدة كان ناجحًا فيها.

قال لي الرئيس بعد أن تناقشنا حول الأسماء المقترحة بالتفاصيل: ما رأيك بأن تصبح نائباً للرئيس، فأنا أستطيع الاعتماد عليك. أجبتُه: أنت شاب ولا تحتاج إلى أحد. قال: لا، لا أبداً. فصلاحيات نائب الرئيس واسعة ومهمّة، وتستطيع أن تأخذ الصلاحيات التي تقترحها، ويمكن أن تعرضها عليّ، في لقائنا بعد رأس السنة الجديدة.

غادرتُ قصر الشعب وفكّرت مليّاً، فأنا في الواقع لستُ مولعاً بالسلطة، ومن ثمّ لم يتجاوز ما كتبته من صلاحيات الصفحة الواحدة. كانت المادّة الأولى في هذه الصفحة هي ما يكلفني به رئيس الجمهورية. وثانيًا، يجب أن يكون لهذا المنصب ملاك إداري يحدّد مهماته من سيعمل معي. وثالثًا، تصدر كل قرارات الإيفاد بمراسيم جمهورية من الرئيس. ورابعًا، أن تكون هناك ميزانية معلنة ضمن ميزانية الدولة تحظى بموافقة رئيس الجمهورية.

قرأ الرئيس “الورقة – الصفحة” بحضوري في مكتبه، مادّة وراء مادّة، وقال: تستطيع أن تطلب مني ما تريد من نفقات ومخصّصات ولن أبخل عليك بشيء، ومن ثمّ لا تحتاج إلى ميزانية خاصة. ولسنا في حاجة إلى ملاك أبداً، فيكفينا البيروقراطية التي نحن فيها؛ إذ ليس هناك ملاك حتى لرئاسة الجمهورية! ظلّ ممسكًا بورقة الصلاحيات المتواضعة، بعد أن حاول شطب كل ما ورد فيها باستثناء المادة الأولى، وهو القيام بما يكلفني به! لم أخرج مرتاحًا من اللقاء لأنه عمليّاً لم يوافق على شيء.

06 تشرين الأول / أكتوبر 1999 بشار الأسد (يمين) وغازي كنعان بعد زيارتهما وزير الخارجية السوري فاروق الشرع في مستشفى الجامعة الأمريكية في بيروت

بشار الأسد (يمين) وغازي كنعان بعد زيارتهما وزير الخارجية السوري فاروق الشرع في مستشفى الجامعة الأميركية ببيروت (6/10/1999 فرانس برس)

انتحار غازي كنعان

 في سياق جدير بالذكر، هو ما سمعته مباشرة من الرئيس بشّار، واللواء آصف شوكت، عن انتحار غازي كنعان في مكتبه بوزارة الداخلية.

تقدمت شخصيًا صفوف المعزين مع ناجي العطري رئيس مجلس الوزراء وقليل من المسؤولين السوريين أمام مستشفى المواساة بدمشق يوم الأربعاء 11 تشرين الأول/ أكتوبر 2005، على الرغم من أنه ليس بيني وبينه معرفة عميقة.

عرف اللبنانيون غازي كنعان بوصفه حاكمًا بالوكالة عليهم عقدين، وأصبح بعد ذلك في مطلع حكم الرئيس بشّار مديراً لشعبة الأمن السياسي في وزارة الداخلية، ثم عين وزيراً للداخلية في حكومة العطري. كان قد اتهم من بين عشرات بمقتل رفيق الحريري رغم صداقته العميقة معه. تحدّثت مع كنعان في ملابسات اغتيال الحريري، حيث كلفني الرئيس بالتحدّث مع الضباط السوريين المتهمين. أصر الوزير كنعان أن أتحدث معه في وزارة الخارجية، على الرغم من أنني عرضت عليه أن أزوره في مكتبه بوزارة الداخلية، لكنه رفض بتهذيب بالغ.

سألتُ الرئيس في أثناء لقائي به في القصر إن كان حادث موت كنعان انتحاراً. رفع الرئيس سماعة الهاتف فوراً، وتحدث إلى مدير مكتبه أبو سليم قائلاً: يجلس بحانبي أبو مضر. طلب الرئيس منه قراءة رسالة غازي كنعان التي أرسلها إليه قبيل وفاته. قرأ أبو سليم نصّ الرسالة، بعد أن ضغط الرئيس على زر الهاتف لأستمع إلى الصوت مباشرة. كانت الرسالة يرجو كنعان الرئيس فيها بأن يرعى عائلته وأولاده من بعده، وتخلّلها الكثير من الشكر والتقدير للرئيس.

نعش غازي كنعان محمولاً على الأكتاف لنقله من مستشفى الشامي بدمشق لدفنه في قريته بحمرة بالقرب من اللاذقية (13/10/2005/فرانس برس)

نعش غازي كنعان محمولاً على الأكتاف قبالة مستشفى الشامي بدمشق استعداداً لنقله ليدفن في قريته بحمرا قرب اللاذقية (13/10/2005/فرانس برس)

أما رواية آصف شوكت فكانت تفصيلية وتصويرية. قال لي إنه كان على موعد مع غازي كنعان في الساعة التاسعة صباح انتحاره. لكن كنعان جاء إلى وزارة الداخلية حوالى الساعة الثامنة ثم غادر إلى بيته فوراً. ومن هناك اتصل يقول إنه قد يتأخر قليلًا عن الموعد. ربما أحضر كنعان معه المسدس الذي انتحر برصاصاته لأنه لم يعد يحمل مسدساً منذ أن أصبح وزيراً. كما ذكر آصف أن اللواء ماهر الأسد قد صرح بأنه قام بالتعزية بكنعان في ضيعته بحمرا التابعة إلى ناحية مركز القرداحة في منطقة القرداحة، وتابع قائلًا لي “علماً بأنه لم يكلف نفسه عناء السفر إليها”.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى