مروحي بلا قنابل فوق دوما: هل يَسعُنا الهرب من ذكريات القصف المريرة؟/ حسن الصباغ

29-04-2025
يمرّ أمام عيني مقطع فيديو صَوّره صديقي علي في مدينة دوما اليوم. يظهر مشهدٌ لم نكن نألفهُ كسوريين من قبل، وخصوصاً خلال السنوات الماضية: طائرة هليكوبتر حربية تُحلّق على علو منخفض، ولكن بدلاً من رمي البراميل المتفجرة، كانت تُلقي الورود. نعم، الورود. هذا المشهد الجديد يعكس تحوّلاً كبيراً، مناقضاً تماماً للواقع الذي عايشناه، حيث كان صوت المروحية يعني سابقاً مزيداً من الدمار والموت والمصابين، ويحمل ذكرياتٍ لا تزال آثارها مطبوعة على الحجر والبشر حتى هذه اللحظة.
ذكريات مريرة وحياة جديدة
في المشهد الأول من الفيديو، أثارَ صوتُ الطائرة في نفسي مشاعر غريبة. لأول مرة منذ سنوات، أسمع صوت مروحية في سماء دوما دون أن يتبعها دمار أو ضحايا، كما اعتادت المدن السورية. دون صوت المآذن المعتاد في الماضي يُعلن التحذير: «طيران مروحي في السماء، يُرجى أخذ الحيطة والحذر»، وحتى دون صفّارة إنذار الخطر. الآن، خلت سماء المدينة من هذه الأصوات. تعبرُ الطائرة فوق المدينة، والناس يقفون لينظروا إليها ويشيروا نحوها بارتياح، دون رعب كما في الماضي. هذا المشهد رمزٌ لحقبة جديدة في المدينة.
أُعيد مُشاهدة هذه الثواني القليلة من الفيديو، فأتذكر «شارع المقبرة القديمة»؛ الشارع الذي كان من الصعب المرور به طوال سنوات الثورة والحصار، بسبب استهدافه من قبل القنّاصين والمدافع الثقيلة المتمركزة على الجبال المطلة على المدينة. وهنا أتذكّر أيضاً العمّ أبو مصطفى، الذي قابلته في عام 2017، وكان يجلس ليبيع الورود في هذا الشارع أمام منزله، على كرسيّه المتحرّك، ويرتدي ساقاً اصطناعية بدل تلك التي فقدها جراء القصف على المدينة. لا أذكر نوع القصف تحديداً، لكنني أذكر أن مصدره كان الجيش السوري التابع لنظام الأسد البائد، بكل عتاده وأسلحته. وها أنا أرى المروحية التي ألقى الطيارون منها الورود بدلاً من البراميل المتفجرة، تُحلّق فوق منزله.
النقطة واحد وذكرى مجزرة السابع من نيسان 2018
وفي نظرة في الفيديو إلى مسافة أبعد، وصلتُ إلى ساحة الشهداء في دوما، حيث يقع «البرج الزراعي» أو مبنى «صالة الصدفة للأفراح» أو كما سُمّي في أيام الحصار بـ«النقطة واحد»، الاسم الذي عُرف به منذ عام 2016، وكان في الماضي هدفاً للطائرات المروحية. أما اليوم، فنرى تجمعاً لأهالي مدينة دوما، بالإضافة إلى بعض الناشطات والناشطين الذين نظّموا وقفة صامتة في هذا اليوم تحديداً، لإحياء ذكرى مجزرة الكيماوي في دوما، ولأول مرة في المكان الذي وقعت فيه. جاءوا ليؤكدوا على مطالب المحاسبة والعدالة للضحايا والناجين من مجازر الأسد الكيماوية، وليقولوا كلمتهم: «لا تخنقوا الحقيقة».
في السابع من نيسان (أبريل) 2018، استهدف الطيران المروحي «النقطة واحد» والمنطقة المحيطة بها باسطوانتين محمّلتين بغاز الكلور. أدُى الهجوم إلى مقتل أكثر من 40 مدنياً اختناقاً، إضافة إلى العديد من حالات الاختناق الأخرى. كما كان سائق الإسعاف، ماهر عريضة (أبو ماجد)، آخر شهيد من الكادر الطبي سقط في تلك اللحظات، عندما ذهبَ للبحث عن مصابين بعد أن رمت المروحية برميلاً متفجراً على مدخل الإسعاف، لكن قذيفة أخرى وصلت معه في التوقيت نفسه وقتلته عند بداية النفق، عند المدخل.
الذكريات القاسية والوقت الصعب
في 5 آذار (مارس) 2018، خلال الحملة العسكرية التي شنّتها القوات السورية بدعم من الروس والإيرانيين، كانت المروحيات ترمي أوراقاً كُتبت عليها رسائل تحذيرية تطالب السكان بتسليم سلاحهم، وتُعامِل الجميع كإرهابيين ومسلحين، بغض النظر عن العمر أو الجنس.
حملت الأوراق نموذجاً لتعهّد بالتخلّي عن السلاح، والتوقف عن مواجهة «الجيش العربي السوري»، والاستفادة ممّا يسمّى «قرار العفو رقم 15 لعام 2016»، مع صورة مرفقة لخريطة توضّح مخطط الخروج وتعليماته، ونقاط التفتيش والمخارج. كانت المروحيات تتولّى مهمة صباحية: رمي المناشير، والدعوة إلى رمي السلاح والخروج من المدينة والعودة إلى «حضن الوطن». ثم تعود بعد الظهر، ولكن محمّلة بالبراميل المتفجّرة، لتؤكد استمراريتها في هذا الشكل من الضغط والقمع، لإجبار الناس على الانصياع لأوامر نظام الأسد، والعودة إلى ما يسمّونه «حضن الوطن».
بعد أيام فقط، في 19 آذار 2018، عند الساعة 12:30 ليلاً، كنتُ مع أصدقائي في منزل صديقنا محمد. كنا في المطبخ نُحضِّر الطعام… لا أعرف إن كنت أسميها وجبة فطور أو غداء أو عشاء، لأنه في تلك الفترة لم يكن هناك نظام للحياة، ولا أوقات محددة. التوقيت الوحيد المعروف كان: ما قبل البرميل الذي رُمي في المنطقة الفلانية، وما بعد البرميل الذي رُمي في المنطقة الأخرى، فقتلَ ودَمَّر.
وبينما نحن في المطبخ، والطيران المروحي يرافقه الحربي والاستطلاع في السماء، كان صوت دوران شفرات المروحية يتداخل مع صوت غليان إبريق الشاي ورائحته الشهية، وصوت ترتيب الصحون. كل هذا في هدوء الليل، الذي يتخلله صفير وانفجارات القذائف والصواريخ المتساقطة على مناطق متفرقة من المدينة…
خلال هذا الوقت، بدأنا نتلقى رسائل تحذيرية من أصدقائنا: «يا شباب وينكم؟؟ يا شباااب، القصف إحداثياته على البناء يلي إنتوا فيه!». لم ننتبه للرسائل في تلك اللحظة، كنا منشغلين… وبعد دقيقتين، جاءنا اتصال. اتصالٌ يُخبرنا بما معناه: «رح تموتوا بعد دقائق، أو بأحسن الأحوال، ممكن تعيشوا وتطلعوا من تحت الأنقاض مصابين».
وهكذا، كان آخر ما سمعناه في تلك اللحظة هو صوت المروحية اللعينة، وصوت البرميل، وصفيره وهو يهوي من السماء إلى الأرض. دقيقة عشناها كانت صعبة، ولا تُنسى، ولا تُمحى آثارها. دقيقة امتلأت بالتناقض: بين طولها ونحن نفكر «شو ممكن نعمل؟»، وقصرها لأننا لم نلحق أن نفعل كل ما تمنّيناه.
قررت أن أرسل رسالة لعائلتي، أُسمعهم صوتي… يمكن أن تكون آخر مرة يسمعوني فيها، وقلت لهم: أنا بخير، لا تقلقوا عليّ.
لكن بعد تلك الدقائق الصعبة، كُتب لنا عمرٌ جديد. البرميل أخطأنا يومها، وسقط على بعد 100 متر تقريباً، في مكان فارغ، دون أن يُصيب أحداً، لكنه لم يَخلُ من الإصابات النفسية.
التعايش مع الذكريات
حتى اليوم، رغم مرور سنوات على تلك اللحظات، لا زلت أشعر برهبة من صوت المروحية، كأنها لعنة أبدية. هذا الصوت أصبح مرتبطاً في ذهني بالبراميل المتفجّرة، وبرائحة الدم والبارود الممتزجة مع غبار الأبنية المدمّرة.
في حياتي اليومية في فرنسا، لا يزال صوت المروحية يثير في داخلي مشاعر القلق، رغم أنني أسمعه بشكل شبه يومي. أُتيحت لي فرصة الوقوف بجانب المروحيات الحربية وهي تهبط خلال احتفالات «نصر الثورة الفرنسية» أو ما يُعرف بيوم الباستيل. هناك، كَسرتُ قليلاً من مشاعر الخوف التي عشَّشت في داخلي، لكنّي لا أعرف كيف سيكون تأثير هذا الصوت عليّ إذا عدتُ إلى سوريا.
هل سأظل أسمع هذا الصوت بالطريقة التي عرفته فيها في بلدنا سوريا؟ أم سيصبح جزءاً من الماضي؟ وأتذكّر فقط أن الأسد قد سقط، ولم تَعُد هناك براميل تُرمى من هذه المروحيات؟
في السادس من نيسان، علمتُ أن طائرات الهليكوبتر ستحلّق في سماء دوما مرة أخرى بعد سقوط الأسد، في تمام الساعة 4:45 من صباح السابع من نيسان 2025. ولكن هذه المرة، لن تحمل البراميل المتفجّرة، بل ستُلقي الورود على بعض أحياء المدينة، وعلى الوقفة الصامتة لإحياء ذكرى مجزرة الكيماوي التي وقعت قبل سبع سنوات.
عند سماعي لهذا الخبر، أول ما خطر في بالي هو أن أرسل رسائل لعائلتي أخبرهم فيها ألّا يتفاجؤوا وألّا يخافوا. ربما، عندما يرون بأعينهم هذا المشهد، سيتمكّنون من التخلص من الرهاب الذي ارتبط لديهم بصوت المروحية، هذا الصوت الذي أصبح جزءاً من الذاكرة الجمعية للقصف والدمار عند أهالي المناطق الثائرة في سوريا.
من المحزن أنه، في الوقت الذي تغيّرت فيه المروحية لتُلقي الورود بدلاً من الموت، ما زال جزء من الماضي يحكم حياتنا. نسمع صوت الطائرة أو نراها، فلا نتذكّر إلا شيئاً واحداً: المروحي في الحقبة الأسدية. كنت أتمنى أن أكون هناك، مع رفاقي في دوما، نعيش تلك اللحظات تحت المروحية التي باتت الآن ترمي وروداً بدلاً من البراميل. كم أتمنى أن تسقط وردة بين يدي كل من فقد شخصاً عزيزاً، وكل من دُمِّرَ منزله، في كلّ سوريا الحبيبة. لا لتوقظ في قلبه تلك الذكرى القاسية، بل لتحضن قلبه وذاكرته، وتُطبطب عليه، علّها تجبر، ولو القليل، من خاطر هذا الشعب بعد أربعة عشر عاماً.
لكن، في الوقت نفسه، بقاء هذه الذكريات المريرة حاضراً في عقولنا وقلوبنا، يُذكّرنا بما عانيناه، وبمن فقدنا، ويُحيي فينا ما تمسكنا به طوال تلك السنوات: إكمال الطريق نحو السلام، وتحقيق الحرية والعدالة، من خلال محاسبة المجرمين.
موقع الجمهورية