من مشاعر عائد إلى سورية/ عمر كوش

29 ابريل 2025
انتابتني مشاعر مختلطة، عند عودتي إلى سورية بعد 13 عاماً من الغياب القسري، يتقدّمها إحساسٌ بفرح غامر بعودتي إليها، وسعادة تعجز هذه السطور عن وصفها. شعرتُ بأنني استعدتُ وطني.
بنهاية حالة اليأس المديدة التي انتابتني، وانتابت سوريين كثيرين في السنوات القليلة الماضية، صرتُ، بعد سقوط نظام الأسد البائد، أشعر بأنه بات لي وطنٌ يحضنني، وأستطيع العيش فيه، أو العودة إليه وقتما أشاء، وأفتخر به أمام الناس، وبات يمكنني التجوّل بحرية في شوارع وأحياء مدنه وبلداته. لكن سرعان ما ينغّص هذه المشاعر حزنٌ على ما آلت إليه أوضاع البلد وناسه، يسري مع التنقل في أحياء مدينة دمشق وسواها من المدن السورية، وتلمّس ما آلت إليه أوضاع الوطن والناس، بعد 14 عاماً من دمارٍ نشره نظام الأسد في معظم أنحائه، وآثار الخراب التي خلفها نظام الطاغية في كل مكان، إضافة إلى التردّي الكارثي لأحوال معظم السوريين المعيشية، والتمزّق الذي طاول نسيجهم الاجتماعي.
إذاً عدتُ إلى بلدي، بعد ابتعاد قسري مديد. وما يميّز عودتي عن طريق مطار دمشق أنها تحمل معنى مختلفاً بالنسبة إليّ (وإلى آخرين من السوريين)، إذ عدتُ مُرحّباً بي، حيث لم يسبق أن سمعت موظفاً في الأمن العام يقول لي: أهلاً ببلدك سورية. كما لم يستغرق دخولي أرض الشام سوى دقائق بعد أن حطت الطائرة. والأهم أن قلبي لم تزدد سرعة خفقانه هذه المرّة، خوفاً من اعتقال ورمي في زنازين نظام الطاغية، ذلك الخوف الرهيب الذي كان ينتابني على الدوام قبل الخروج من سورية ودخولها، وخاصة عند تقديم جواز سفري لموظف الأمن العام، حيث كانت الدقائق تتحوّل إلى ساعات طويلة، ويحمرّ وجهي، وتعرق يداي، وغالباً ما يتصبّب عرقٌ باردٌ من جبيني في لحظات الانتظار التي تسبق إنهاء الموظف تدقيقه حول اسمي، ووضعه ختم الدخول أو الخروج.
كانت عودتي هذه مختلفة تماماً، إذ آخر مرة سبق ودخلت فيها مطار دمشق، كانت في 30 إبريل/ نيسان 2011، عائداً من أنقرة، بعد مشاركتي في مؤتمر “دروس من التجربة التركية”، نظّمه مركز القدس للدراسات السياسية في عمّان، بالتعاون مع مركز الأبحاث السياسية والاقتصادية الاجتماعية (سيتا) في أنقرة. لم أتمكّن من الذهاب إلى بيتي، على الرغم من أنني أخبرت زوجتي وطفليّ بأنني وصلت إلى مطار دمشق، بل اعتقلني ضابط أمن المطار، ومعه عناصر أمن من المطار مباشرة، من دون أن يوجهوا إليّ أي تهمة، وبالأحرى اختطفوني، ثم وضعوني مقيّد اليدين ومعصوب العينين في المقعد الخلفي لسيارة مع عنصري أمن، ورموا بي بعد أن سارت السيارة مسافة طويلة في أحد فروع الأمن. وبقيت مرميّاً في أحد ممرّات الفرع ثلاثة أيام من دون أن يُسمح لي بالحركة، ومن دون أن أعرف في أي منطقة أنا، أو في أي فرع أمني. ولم أعرف ذلك إلا في اليوم الرابع لاعتقالي، حين وضعوني في زنزانة صغيرة مع ستة معتقلين آخرين، أخبرني أحدهم أنني في فرع المخابرات الجوية في مطار المزّة العسكري الذي كان يترأسه المجرم جميل الحسن. أطلق سراحي بعد نحو شهرين من الاعتقال من دون أن توجّه إليّ أية تهمة محدّدة، ولم أسمع سوى مغمغة من ضابط التحقيق أن أحد مخبريهم كتب فيّ تقريراً.
على الرغم من خروجي من الاعتقال، فإنني لم أتحمّل تكلفة البقاء طويلاً في غياهب مقبرة نظام الأسد، فاضطررت إلى مغادرة دمشق، وتركت ورائي بيتي وناسي وعملي، وأصبحت ناجياً مثل سائر الناجين السوريين، الذين كلفتهم نجاتهم من المقبرة الأسدية 13 عاماً من الاغتراب والغياب القسري عن البلد.
بعد عودتي إلى دمشق، كنتُ في تجوالي اليومي فيها أشبه بمن استعاد ذاكرته، أنظر بشيءٍ من الدهشة والاستغراب إلى شوارعها وساحاتها وأحيائها، التي سبق لي وتجوّلت فيها أو مررتّ بها مئات المرّات قبل 13 عاماً. لا أتذكّر تفاصيلها للوهلة الأولى، لكن سرعان ما أستعيد صورها القديمة، لتبدأ المقارنة المرّة مع صورها الجديدة، وتنطلق الحسرات والتأوهات، ويسود الصمتُ الثقيل، فالشوارع والساحات والأبنية متّسخة ومهترئة، بل وكئيبة المظهر. ووجوه الناس في معظمها مثقلة ومتعبة، وما زالت تعاني من آثار عهود الاستبداد، لكنها فرحة بالتغيير الكبير الذي حصل، إذ بالرغم من التركة الثقيلة للنظام البائد ينتشر الأمل بأن القادم من الأيام سيكون الأفضل، وتسود حالة من العزيمة على إعادة بناء ما دمّره النظام البائد.
تحكي وجوه الناس في دمشق وسواها أشياء كثيرة عما عانوه وشهدوه في الأربع عشرة سنة السابقة. قال لي سائق تاكسي “معظم الناس الذين لم يغادروا البلد دفعوا ثمناً كبيراً، نيّال الذين تمكّنوا من الخلاص من جحيم الأسد”. ثم صمت قليلاً، وتابع “يكفي أننا لم نعد نرى صور الهارب، ولا صور أبيه وأخيه، التي كانت تضغط على أعصابنا كل يوم”.
لم تعد الحياة في مدن سورية وبلداتها كما كانت، فقد تغيّر ملمحها وإيقاعها، واختلفت تفاصيل يوميّاتها، وصارت تتدفق بوتيرة جديدة، حيث تتداخل أصوات صرافة العملة وباعة الألبسة والمواد الغذائية، في شوارعها المتشابكة وأزقتها العتيقة، مع أصوات محرّكات السيارات، وتمتزج فيها رائحة المازوت بدخان السجائر والأراكيل في المقاهي، حيث يدخن الجميع في جميع الأماكن بلا استثناء، بينما لا تتوقف نقاشات السياسيين في المقاهي والقاعات، ومن دون “لا إحم ولا دستور”، هذه الأمثولة الشعبية التي تعود إلى أوائل ثلاثينيات القرن الماضي عندما جرى في مصر تعطيل العمل بدستور 1923، وكانت الشرطة المصرية تعتقل من كانوا يناقشون الدستور في المقاهي.
فرحت كثيراً بعودة السياسة بقوة إلى المجتمع السوري، وبزوال الخوف من الخوض فيها، حيث باتت متداولة في الأحاديث والنقاشات العلنية، وعاد أغلب السوريين إلى امتلاك مكانهم في الفضاء العام، للدفاع عن الحرّيات العامة والخاصة، وتوجيه الانتقاد لكل مظاهر الخلل والنقص، فثمّة شيء في عيون الناس، وأحاديثهم، يوحي بأنهم عازمون على المشاركة في بناء مستقبلهم ومستقبل بلادهم، وكسر كل الحواجز التي تعترض طريقهم.
العربي الجديد