منوعات

هذا التراث السوري الأثري المنسي/ بشير البكر

29 ابريل 2025

تعرّض تراث الجزيرة السورية الأثري للنهب في الأعوام الأخيرة، وجرى الحديث عن عمليات نهب آثارٍ من منطقة حوض الفرات بالقرب من مدينة البوكمال، ارتكبتها مليشيات محسوبة على إيران. وحسب شهادات من أبناء المنطقة، عمليات السطو على الآثار قائمة منذ بداية اندلاع القتال في هذه المنطقة قبل سنوات، وجرى ذلك من أطراف متعددة، ومنها ما تم نقله إلى إيران، وذهب الباقي إلى أيدي مهرّبين يعملون في الأسواق الدولية. ورغم أن هذا النشاط محرّم على المستوى الدولي، فإن ما يجري اعتراضه من آثار مسروقة لا يشكل سوى الجزء اليسير من كمّيات كبيرة.

الجزيرة السورية منطقة خصبة وأرض مثالية لتجارة الآثار لعدة أسباب. الأول أن هذه المنطقة غنية أثريا نظراً إلى تعاقب الحضارات عليها منذ عهود ما قبل الميلاد، مثل الحثيين والآراميين والبابليين والآشوريين، فهي تعدّ جزءاً أساسياً من حضارة ما بين النهرين (ميزوبوتاميا). ولهذا السبب، عرفت نشاطات تنقيب واسعة منذ مطلع القرن العشرين، وتم وضع اليد على أجزاء كبيرة من آثارها، ويبقى المثال الصارخ ما قام به الدبلوماسي الألماني ماكس فون أوبنهايم الذي نقل القسم الأكبر من كنوز تل حلف إلى ألمانيا. وتل حلف منطقة تقع على ضفاف نهر الخابور في مدينة راس العين في محافظة الحسكة. وتذكر معلومات تاريخية أن الآراميين من “بيت بحياني” استولوا، في القرن العاشر ق.م، على تل حلف التي أعيد تأسيسُها تحت اسم غوزانا.

وكما هو معروف، قام أوبنهايم بعمليات تنقيب في عام 1899 استمرّت عامين، بينما كان يمسح المنطقة لبناء سكة حديد الحجاز التي كانت فكرة ألمانية بتمويل من دويتشه بنك، واكتشف هناك قصوراً تاريخية وقطعا فنية بحالة جيدة وتماثيل. ومثّل اكتشافه هذا حدثا هاما في تاريخ التنقيب عن الآثار.  وعاد في 1911 إلى تل حلف. وبدأت عملية التنقيب، بمساعدة حوالي 500 من السكان المحليين. وخلال ذلك عثروا على القصر الغربي، وعلى معالم أثرية عليها رسوماتٌ واضحةٌ لحيوانات وبشر، وتماثيل حجرية ساحرة. ثم عثروا على القصر الشمالي الشرقي، وعلى سور المدينة، وبوابات، ومدافن، وحجرة سمّيت القاعة الثقافية. وتمكّن أوبنهايم بطرق شتى من نقل أكثر من 500 قطعة معروضة حالياً في متحف برغامون في برلين، منها تماثيل حجرية، ولقى من القبور، وملابس شرقية قديمة. كلها جمعها أوبنهايم خلال جولاته إلى الشرق، ويعود القسم الأكبر منها إلى تل حلف، المكان نفسه التي توجد فيه مدينة أو دولة الآرامية “غوزانا” المذكورة في الإنجيل. وبعد انتهاء عمليات استخراج الآثار من تل حلف، بقي قسم منها في متحف حلب. أما ألقسم الأكبر فقد استولى عليه أوبنهايم وشحنه على 13 عربة قطار من حلب إلى ألمانيا.

وليس تل حلف الكنز الأثري الوحيد في هذه المنطقة، بل هناك مئات الكنوز الأثرية على ضفاف الأنهار مثل الخابور والجغجغ نزولا نحو الفرات، في مناطق تتبع مدينتي دير الوزر والرقة، وأغلبها تعرّض للنهب والسرقة سابقا على يد عصابات منظّمة شارك فيها متنفذون من النظام السوري السابق.

السبب الثاني الذي جعل منطقة الجزيرة مستباحة أثرياً عدم وجود سلطة سورية مسؤولة تهتم بحماية بالثروة التراثية، وتحميها من النهب والدمار بسبب الحروب. وحسب شهود من الجزيرة، تقاسمت الثروات المادية في المنطقة الأطراف التي سيطرت عليها. وتصرّف كل منها بالآثار التي تقع تحت سلطته. ويعود السبب الثالث إلى وجود أسواق دولية لهذه الآثار التي يجري تهريبها وبيعها وفق آليات تهريب، تقوم بها عصابات دولية متخصّصة، تنشط أساساً داخل مناطق النزاعات والحروب، ويعرف بعض الآثار طريقه إلى أسواق دولية مرموقة في عواصم تحارب هذا النشاط وتجرّمه. والسبب الرابع، هناك من له مصلحة في طمس هوية المنطقة وتاريخها. وتشهد على ذلك المشاريع السياسية التي باتت تطرح لمستقبل الجزيرة بعيداً عن سورية.

إذا كان الإيرانيون سرقوا الآثار السورية، فإن ما يؤمل، على الأقل، أن يكون مصيرها مثل مصير آثار تل حلف، التي نهبها أوبنهايم، وأقام لها متحفاً خاصاً، وهي تحتل جناحاً خاصاً في برلين اليوم، فهي على الأقل موجودة ومعروضة للزوار، ويعرف العالم أنها جزء من تاريخ سورية، الأرض التي ولد فوقها التاريخ.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى