منوعات

The Chilling Effect أو “الرعب” قبل الكلام: هل نطرد من عملنا بسبب نكتة؟/ عمّار المأمون

يهدد مفهوم The Chilling Effect أو “أثر الرعشة”، حرية التعبير في ظلّ صراع الهويات الذي نشهده. أصبح الخوف من النكات والسخرية والتعبير عن التفضيل الذاتي خطراً قد يؤدي إلى نزع الشرعية عن الفرد ويهدده بفقدان عمله ومحيطه الاجتماعيّ.

نقرأ في تدوينة منشورة عام 2018 بعنوان “النكتة… ماذا لو حققنا معها باعتبارها مُجرما؟!” لعبد الجواد سكران،  عن حادثة اختبرها حين كان في سوريا، إذ ألقيت نكتة “طائفيّة” في أحد اجتماعات العمل ضمن سياق شديد الحساسيّة، أي الثورة السورية وما نتج عنها من تحزّب.

لا يهمنا نص النكتة، بل ما يشير إليه سكران بعدها، إذ يخبرنا أنه أخطأ وضحك، وهذا خطر. هو سنيّ، وصاحب النكتة مسؤول علويّ، أما صديقه المسيحي فربما لم يضحك، بل فكر مرتين، ثم نبهه على خطئه/ ضحكه بعد الاجتماع.

امتناع أحدهم عن الضحك أمام “نكتة”، يدلّ على شيء من الخوف، والحذر الذي يقتضي الصمت والتفكير مرتين أو ما يعرف باسم Chilling effect – أثر الرعشة،  الكلمة التي تحمل تفسيرات متعددة تصل حد الإنكار، فالحقل القانوني ما زال إلى الآن لا يعترف بوجود هذا المفهوم بشكل واضح، فيما يمتد غموض هذا “الأثر” إلى علم النفس، الذي لم يرصد أعراضه الجسدية والنفسيّة بدقة.

ازداد تداول أثر الرعشة مع تطور تقنيات الرقابة العامة والرقمية، فكمية البيانات المتاحة على الإنترنت غير مسبوقة، والجهات الفاعلة الحكومية والشركات التي تستخدم بشكل متزايد التقنيات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي (AI)، والتعلم الآلي، وتقنية التعرف إلى الوجه (FRT) للمراقبة وتحليلات البيانات، ضاعفت القلق حول “الآثار المخيفة” لرأسمال المراقبة وتطبيقاته الأمنيّة والنفسيّة، والمقصود بدقة أن هذه التكنلوجيات  “تثبط” أو تثني الناس عن ممارسة حقوقهم والتعبير عن آرائهم، ما خلق موجة انتكاس في مجال الحريات والتعبير عن الرأي.

أصدرت مؤسسة Open society، عام 2021 كتيباً تشرح فيه هذا المفهوم وتطبيقه في القانون الدولي والأوروبي، واستخدامه في محاكم حقوق الإنسان الدولية لردع الدول عن ارتكاب انتهاكات ضد النشطاء والصحافيين. وفي الكتيب ذاته نقرأ كيف توظف السلطات أثر الرعشة لزرع الرعب والخوف في قلوب مواطنيها، ووضعت المؤسسة التعريف التالي: “من وجهة نظر قانونيّة، أثر الرعشة يعرّف بوصفه الآثار السلبية، لأي تصرف تقوم به دولة،  على الحقوق الطبيعية والقانونية للأشخاص ومن بحكمهم، وما يؤدي إلى ثنيهم بشكل استباقي عن ممارسة حقوقهم أو الوفاء بالتزاماتهم المهنية، خوفاً من أن يكونوا عرضة لمحاكمة رسميّة، تؤدي إلى عقوبات، أو عواقب غير رسمية، كالتهديدات، الاعتداءات، أو حملات تشويه السمعة.”

 التعريف مثير للاهتمام، لا يدّعي الشمولية، لكنه ينتصر للقانون بوصفه ضامناً لحرية التعبير، كما يكشف عن استراتيجيّة تهدد “كلام” الفرد، ووضعيته كمذنب/ بريء، وأثر هذه الثنائية عليه، بين المحاسبة القانونيّة، أو المحاكمة الشعبيّة أو تهديد “الالتزامات المهنيّة”. وهنا محاولة لرصد هذا الأثر ضمن سياقات يوميّة وعامة، باتت تؤثر في عمق حياتنا وخياراتنا الفردية.

امتناع أحدهم عن الضحك أمام “نكتة”، يدلّ على شيء من الخوف، والحذر الذي يقتضي الصمت والتفكير مرتين أو ما يعرف باسم Chilling effect – أثر الرعشة

أثر الرعشة في ظل غياب القانون

في دمشق، أوقف الجندي على أحد الحواجز سائق أجرة كان يقل ر.س من مكان دراسته إلى منزله، تأمل العسكري بطاقة ر.س الشخصيّة وبطاقته الجامعية، ثم سأله :” هل أنت صحافي ؟”. بطاقته الجامعية تشير بوضوح إلى “كلية الصحافة”، ارتعش ر.س، وأجاب “لا ، أنا ناقد فنّي!”.

 يمتلك الجندي في هذه الحالة سلطة الاعتقال وأحياناً القتل، وخوف ر.س، أنقذه واضطره للكذب، لأنه ببساطة موضع شكّ، ما جعله عاجزاً لا عن التعبير عن رأيه وحسب، بل الاعتراف بمهنته التي لم يكن يمارسها بعد.

نعيش في مساحات وبلدان، حيث العدالة ضئيلة ومُتدنية، لا مؤسسة موثوقة تضمنها، وما من سياق عادل يمكن عبره استعراض الذنب والاتهام وضبطهما. لكن هذا لا يعني أن الرعشة تلاشت، بل اشتدت، فغياب منظومة للعدالة، يعني حريّة الاتهام والمعاقبة، والأهم، لا برهان على البراءة، فأثر الرعشة، حين البحث في تاريخه، مُرتبط بالرقابة السياسية بداية، وممارسات السلطة ضد ما يتداول في الفضاء العام، ليصبح الارتعاش شأناً شديد الفردية يتعلق بكل فرد وموقعه، وقدرته على ضبط نفسه، بحسب السياق.

ارتعاشة اللاجئين

يُشاع أن كل اللاجئين في أوروبا مراقبون، حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي وهواتفهم وكل أنشطتهم مُسجلة، وتنتشر بينهم فرضيات مُريبة، تحذيرات على شاكلة، “لا تبحث عن كلمة داعش في محرك البحث، بل لا تكتبها، كن حذراً في ما تبحث عنه”. أراد أحدهم وهو لاجئ، أن يطلع على مخططات طباعة الأسلحة عبر تقنية 3D لإشباع فضوله، لكنه ارتعش وامتنع عن البحث، وإلى الآن لم يستطع خوفاً ممن يراقب “الانترنت”.

ازدادت سطوة أثر الرعشة إثر الفضائح التي لاحقت “الانترنت”، نقولها هكذا، دون أي تحديد، “الانترنت”. إذ اكتشفنا أن كل ما نقوم به مراقب، حتى الكلمات التي نريد البحث عنها ولم نضغط على “بحث”، مُسجلة.

الوعي بالمراقبة الكُليّة يحرك الخوف الارتعاشي إلى أقصى مدى، خصوصاً لدى الصحافيين والنشطاء، كما ورد في كتاب “ثقافة المراقبة” لدايفيد ليون، فالمتخيل الحالي لدى النشطاء والصحافيين والكتاب عن حريتهم مرعب، هناك فرضية تقول أنهم مراقبون وهم “يعملون”، وكلمة خاطئة قد تثير الانتباه، ونقصد بخاطئة الـtrigger word، تلك التي تُفعل في مكان ما ضوءاً لدى موظف ما، معناه أن هذا الشخص، صاحب الـIP الفلاني، بحث عن كلمات محددة “تثير الانتباه”.

دفع الوعي بالمراقبة كثيرين إلى التفكير مرتين قبل البحث عن كلمات مثل “داعش، انتهاكات، تسجيلات”، كون هذه التركيبة من الكلمات مُسجلة، ومحفوظة في مكان ما، وقد يخطر في بال “السلطة” مهما كان شكلها، مطاردة من يقوم بالبحث عنها أو استجوابه.

المفارقة، أننا لا نعلم ما هي الـtrigger words بدقة، وهذا تحديداً أثر الرعشة، “أن لا نعلم إذا كان ما سنقوله أو نكتبه سيؤدي إلى إشعال ضوء أحمر في أحد الشاشات في مكاتب الاستخبارات”.

أثر الرعشة أمام “الجمهور” في غياب القضاء

كيف نحاكم المُتهمين في ظل غياب العدالة؟

السؤال شديد الإشكاليّة، خصوصاً حين نتحدث عن “متهمين” بالتحرش، الاغتصاب، الاعتداء اللفظي، خطاب الكراهيّة، التمييز العنصري…الخ. في بعض الأحيان يتدخل القضاء، وينتصر للضحية، أو العكس تماماً، يمعن في إذلالها. لكن هناك حلول أخرى، مثل المقاطعة العامة، الفضح، الإلغاء، التهميش. هذه التقنيات نتاج حرية التعبير (نظرياً)، لا التي تضمنها السلطات المحليّة في العالم العربي، بل وسائل التواصل الاجتماعي. وهنا الإشكالية، في هذا الشكل من الحملات و”العدالة” المرتبطة بها، تمييع لصلاحية تسمية المتهم/ المتهمة، فضمن هذا النموذج، فإن الضحية هي التي تقرر (ولا اعتراض على ذلك أبداً)، ليتدفق بعدها “الجمهور” للانتصار للضحية والمطالبة بالعدالة.

لا نعلم بدقة ما هي العدالة المطلوبة، ولا نتحدث هنا بسذاجة، لكن إن كانت الثقة بالمؤسسة القضائية معدومة، فما هو العقاب وأسلوب تطبيقه، ما نعلمه أن هناك جمهوراً من “المعنيين” الذين يمتلكون سلطة علنيّة، وقدرة على التعبير سواء تحدثوا بأصواتهم عن أنفسهم، أو استفادوا من فئة الذين يتحدثون باسم من لا صوت لهم، بكلمات أخرى “النشطاء”. لكن، في ظل غياب محاكم تدين المتحرش أو العنصري، وتلبي نداءات المعنيين كما حصل في Me too أو black lives matter، تشتد سلطة العدالة الشعبية، وضرورة إرضاء “الجمهور” من المعنيين وغير المعنيين، من ضحايا وأنصار ومتفرجين. في هذا السياق، أي في غياب مؤسسة قضائيّة مجدية، تتضح معالم خطاب الاتهام القائم على: أحقية الضحيّة، سلطة الناشطين وشعبيتهم، منظمات المجتمع المدني، الخوف على رأس المال من تشويه السمعة، الخوف الارتعاشي…. بالتالي، العدالة والعقاب والاتهام لم تعد بيد مؤسسات الدولة (الفاسدة حكماً بحسب البعض)، بل ترتبط بالقدرة على التأثير وحشد الجموع على الشاشة، أي بصورة ما، سلطة الفضيحة، وهذه أيضاً، أداة لا يمكن إنكار فاعليتها.

لكن، هناك إشكالية في الديناميكيّة السابقة، كونها تطالب “الجميع” بأن يأخذوا موقفاً، وأن يعبروا عن تضامنهم، وإلا وضعوا في خانة الاتهام، بوصفهم “شهوداً” صامتين، والأهم، هذه الديناميكيّة تطالب “الجميع” بأن يشاركوا في تحديد المذنب وعقابه، ما يخلق إشكاليات، نركز هنا على ثلاثة منها، ترتبط بأثر الرعشة، أي الخوف من التعبير عن الرأي قبل نطقه.

درج

——————————–

النكتة”.. ماذا لو حققنا معها باعتبارها مُجرما؟!/ عبد الجواد سكران

في اجتماع غير رسمي جمعني ببعض المهندسين والمدراء زملاء العمل، وكنّا مختلفي الانتماءات الدينية والمذهبية، السنّة وأنا واحد منهم والشيعة والعلوية والمسيحية وشيوعيو التوجه، وكانت الأحاديث مختلفة ومتشعبة ثم انتقلت بشكل عادي إلى “التنكيت” للضحك والتسلية، وحتى هذه اللحظة كانت الأمور تسير بشكل طبيعي إلى أن ألقى أحد المدراء من الطائفة العلوية نكتة سياسية: “إن بشار توفي فجأة وكان عمر ابنه حيدرة ثمانية أشهر، فاجتمع مجلس الشعب وقرر تعديل الدستور بحيث يصبح ممكنا لمن عمره ثمانية أشهر وفوق أن يتسلم منصب الرئاسة، فخرج الشعب السوري في مظاهرات تأييد لقرار مجلس الشعب وللتعديل الدستوري هاتفا: انكغغغغغ …انكغغغغ ..أمبوووووووو” فضحك الجميع بدرجات متفاوتة وضحكت معهم، ثم ساد صمت حذر!

خرجت من القاعة لأمر ما فلحق بي أحد الزملاء وكان من الإخوة المسيحيين وتربطني به صداقة جيدة، سحبني من يدي بعيدا عن باب القاعة وعلى وجهه ترتسم علامات قلق. استغربت تصرفه وزاد استغرابي حين نظر اليّ قائلاً: “ماذا فعلت؟” قلت له:” ما هذا السؤال؟ وماذا فعلت لتسألني وأنت بهذه الحالة الغريبة؟” ردّ قائلا وبنبرة مشددة: “ما هذه الضحكة التي ضحكتها على “نكتة” المدير فلان؟” قلت له وأنا في غاية الدهشة: “نعم ضحكت فقد كانت النكتة طريفة فعلا وأسمعها أول مرة، ثم لست الوحيد الذي ضحك فالجميع ضحكوا وبصوت عال”. قال لي: “أنت مسلم سني، غير مسموح لك أن تضحك على نكتة سياسية أمامهم، هذا سيسجل عليك يا صديقي وأخشى أن تُسأل عن ذلك”.

استعدت المشهد من جديد بدءاً من وجه المدير الذي ألقى النكتة منتقلا بذاكرتي عبر كل الوجوه على اختلاف انتماءاتها، ولشدّ ما أثار انتباهي ضحكة المدير وشخصين آخرين من نفس الطائفة. فعلا لم تكن ضحكتهم صافية النية بل كانت كأنها ملصق من ملصقات الفيس بوك حيث تنقلت عيونهم بين الحضور وكأنها تلتقط صوراً لوجوههم وتفاعلها مع النكتة.

النكتة ضيف خفيف لا يحتاج للاستئذان:

نعم يا صديقي، النكات ليست كلها بريئة كما يعتقد البعض، ويبدو أن لها وظائف شتى لا تقتصر على الجانب السياسي فحسب بل تتعداه إلى جوانب كثيرة، وتدخل إلى مسارات شتى لخدمة أهداف موضوعة سلفاً. فالنكتة بما تتمتع به من طرافة وفكاهة وذكاء تدخل إلى النفوس بشكل سلس وتمنحها شعور بالبهجة يستدعي الضحك، ولهذا اعتبرت وسيلة مهمة من الوسائل التي يستخدمها أصحاب المشاريع والأهداف الخفية.

لماذا نحن؟

لا يشك أحد بأن وطننا العربي تحت دائرة الاستهداف من محيطه إلى خليجه لما يتمتع به من ميزات كثيرة وموارد غزيرة، ولهذا كان عرضة للاستعمار المباشر في حقبة تاريخية مضت وانتهت، إلا أنها استمرت بأشكال أخرى من خلال الديكتاتوريات المرتبطة التي تنفذ أجندات المستعمر وبرامجه بكل إخلاص وتفان على حساب المصلحة الوطنية والقومية. إن استمرار السيطرة على الشعوب المقهورة يقتضي إدخال أسلحة جديدة في أتون المعركة التي لم تهدأ ضدهم يوما ولن تنتهي، ومن هذه الأسلحة الخطيرة “النكتة” التي قد لا نلقي لها بالا ولا ندرك تأثيرها، بل نسعى بسذاجة لتمريرها ونشرها والمساهمة في تفعيل دورها.

هل النكتة شريك في المؤامرة؟

ربما ينبري بعض الذين ينكرون نظرية المؤامرة للنفي الشديد لهذا الكلام ودحضه واعتباره منضويا تحت هذه النظرية، لكن الوقائع أيضا تدحض فكرتهم بكل تأكيد، خذ مثلا ما رواه لي أحد الأصدقاء خلال تأديته العمرة مع صديقه الذي يشغل منصبا رفيع المستوى في وزارة الأوقاف في إحدى الدول العربية، حيث اضطر هذا المسؤول للعودة الى بلاده بعد تلقيه اتصال من وزيره. تواصل صديقي معه بعد فترة وسأله في معرض الحديث عن سبب عودته المفاجئة فأجاب: “لقد ألقت السلطات القبض على خلية تتعامل مع جهة مخابراتية خارجية يقتصر عملها على استلام النكات المرسلة ثم نشرها من خلال جلسات المقاهي ومناطق الازدحام العامة، وتتمحور هذه النكات حول الاستهزاء بالدين وقيمه وشعائره بأسلوب فَكِه يدعو للضحك مما سيدعو من يستمع إليها إلى نشرها من جديد، وما هي إلا فترة وجيزة حتى تتعمم على مساحات جغرافية واسعة وشرائح عريضة من المجتمع” طبعا هذه الحادثة كانت قبل التطور الكبير في وسائل التواصل الذي سهل بشكل كبير عملية النشر.

النكتة متهم خلف القضبان وهذا هو الادعاء:

طبعا من الواضح أن الهدف من هذه النكات غير البريئة هي نزع صبغة الاحترام والتقدير التي تربت عليها أجيال المجتمع للقيم الدينية التي تشكل الأساس القيمي لتوجيه المجتمع وتصحيح أخطائه وفقا لما يريده الله والإسلام، فالكثير من الناس المتدينة فطريا تعتبر هذه القيم مقدسات يمثل احترامها صمام الأمان للمجتمع، وانهيارها أو انهيار مكانتها في نفوس الناس سيفقد المجتمع مرجعيته الأخلاقية والدينية الضابطة لسلوكية أفراده ككل، وهذا يبدو خطوة متقدمة لحساب الأجهزة الخارجية تضمن لهم الدخول السهل في النسيج المجتمعي والتلاعب فيه وتوجيهه وفقا للمقاصد والأهداف الموضوعة.

الأمر لا ولم يقتصر على القيم الدينية فقط، فخذوا مثلا “المعلم” الذي يعتبر أهم مرتكزات بناء المجتمع من خلال دوره المحوري في العملية التربوية والتعليمية، فلو استعرضنا النكات التي تجعل من المعلم مثار سخرية واستهزاء في عيون تلاميذه لأدركنا فعلا حجم الكارثة، وكم تم العمل عليها بدقة واحترافية لتؤتي أكلها في كل جيل، فواحدة من النكات الشائعة تقول: قال المعلم لتلاميذه: “من يجد نفسه غبيا فليخرج ويقف هنا” فلم يخرج سوى تلميذ واحد سأله المعلم: “لماذا تشعر بأنك غبي؟” فأجابه التلميذ: “أنا لست غبيا يا أستاذ ولكن أردت أن أؤنسك حتى لا تكون وحيداً”! وغالب النكات على المعلمين تستقصد معلم اللغة العربية ليتم ضرب عصفورين بحجر واحدة، حيث يتم الاستهزاء والتسخيف لكليهما. ماذا نتوقع من جيل ينظر إلى معلمه وإلى لغته هذه النظرة المليئة بالهُزء والسخرية؟! فمن المعروف أن نجاح العملية التعليمية يرتكز على هذين الركنيين واحترامهما وحبهما.

هناك جانب إيجابي في النكتة واستخدامها لا أريد إغفاله، فمن المجحف أن نغفل دورها في التنفيس عن الشعوب المقهورة تحت حكم الأنظمة القمعية، حيث يتم توجيه النقد من خلال النكتة لكل مظاهر الفساد

هناك جانب إيجابي في النكتة واستخدامها لا أريد إغفاله، فمن المجحف أن نغفل دورها في التنفيس عن الشعوب المقهورة تحت حكم الأنظمة القمعية، حيث يتم توجيه النقد من خلال النكتة لكل مظاهر الفساد

إن استهداف التعليم لم يقتصر على المعلم فقط وإنما تجاوز ذلك الى تنفير الطالب من المدرسة والدوام فيها، وهنا سأنقل ما كتبته الأستاذة منى صالح العلي في مقالة بعنوان “هي مجرد نكتة”: (ينهال على أجهزتنا الذكية مع بداية كل فصل دراسي جديد، أو اقتراب نهاية أي إجازة رسمية، موج عارم من الرسائل والفيديوهات الساخرة، والتي هدفها تشويه تعليمنا، وتصويره بأبشع الصور، وكأنه هادم اللذات، وجامع الحسرات، فتبدأ المشاعر والقلوب بالاستجابة لتلك الرسائل والصور وإرسالها مرة أخرى لتغزو كثير من القروبات والأسماء، فيقرأها الصغير قبل الكبير، المتعلم قبل الجاهل دون معرفة ما تحمله تلك المنقولات (النكت) من خطر جسيم علينا وعلى أبنائنا.

ومما يُثير العجب والدهشة هو سرعة تداولها وانتشارها لتكون بسرعة البرق أو أشد سرعة، بحيث لا يخلو موقع اجتماعي منها. فهل سألنا أنفسنا مرة واحدة قبل المساهمة في نشر هذه النكت وبثها: من هم مخرجو هذه الرسائل ومطلقوها؟ وما الهدف من نشرها؟). وفي متابعة استقصائنا لهذا الفيروس الخطير سنجد أنه دوره وخطره يتسع ليشمل كيان الأسرة بدءاً من علاقة الزوج بزوجته إلى علاقته مع أم زوجته (الحماية) ولا نستثني علاقة الأبناء بالوالدين فهي الأخرى لها نصيب وافر من الاستهداف.

النكتة وسيلة لتشجيع التعاطي:

يعتبر تعاطي الحشيش آفة اجتماعية تشهد انتشارا في كثير من مجتمعاتنا وخاصة بين الفئات الشبابية، وما أكثر النكات الطريفة الجميلة التي تُظهر الحشاش أو المحشش وكأنه شخصية خفيفة الدم، ذكية، لماحة، حكيمة، محببة إلى النفس وقريبة منها، فتنطبع بذلك في خيال المراهقين هذه الصورة المحببة، ولا يجد هذا المراهق غضاضة بأن يكون هو نفسه مجسدا لهذه الشخصية من خلال التعاطي.

سلاح ذو حدين:

أخيرا، هناك جانب إيجابي في النكتة واستخدامها لا أريد إغفاله، فمن المجحف أن نغفل دورها في التنفيس عن الشعوب المقهورة تحت حكم الأنظمة القمعية، حيث يتم توجيه النقد من خلال النكتة لكل مظاهر الفساد والملاحقة الأمنية لكل شاردة وواردة، فهي إذن سلاح ذو حدين، فكما يستخدمه الناس للتعبير عما بداخلهم، تستخدمها أيضا جهات مخابراتية محلية أو خارجية لتحقيق الأهداف المرسومة. إن خطر النكتة اليوم يبدو أكبر وأشد تأثيرا في ظل التطور الكبير في وسائل التواصل الاجتماعية التي تُستخدم في نقلها بيسر وسهولة ولشرائح كبيرة وأعداد فلكية خلال وقت قصير جدا. التوعية من هذا الخطر الداهم واجب على كل مخلص وواع لحماية مجتمعاتنا من الاختراقات الفكرية المدمرة.

عبد الجواد سكران

أنا مهندس سوري أقيم حاليا في اسطنبول كنتد واعمل حاليا كمدرب للموارد البشرية . لي اهتمامات فكرية في شتى المجالات ولعل اهمها الساسي والاجتماعي والديني اكتب الشعر واجيد اللغة الانكليزية والروسية

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button