الفرد والخطيئة… أو هل يخلّصنا «الدايت» من البدانة؟/ محمد سامي الكيال
بات البحث عن النظام الغذائي الأمثل أحد أكثر القضايا المعاصرة أهمية، التي تثير اهتمام معظم الناس، لدرجة تدفعهم لتغيير أنماط حياتهم وسلوكهم الاجتماعي. وهو أمر ليس بالجديد عموماً، فلطالما تحدّث الفلاسفة والأطباء والحكماء القدماء عن الغذاء السليم، واعتبروه مدخلا للتسامي الروحي والعقلي، ودخل الأمر في التعاليم الدينية المنسوبة للأنبياء. كما أن لكل جماعة بشرية ثقافتها الخاصة في التعاطي مع الغذاء، مع تفضيلات وتحريمات، تشكّل أحد أهم أسس الأنظمة الرمزية/الثقافية السائدة في عصر ما. ليس الطعام تفضيلاً شخصياً إلا في حدود ضيقة نسبياً، فهو غالباً ممارسة اجتماعية متداخلة بكل المنظومات السائدة: الدين؛ السياسة؛ القانون؛ وبالتأكيد الاقتصاد، بمستوياته الإنتاجية والتقنية.
إلا أن التعاطي مع المسألة الغذائية في عصرنا بات أكثر تعقيداً، إنه سياسات دول واقتصاد عالمي غالباً، يقوم على حلقات وسلاسل مترابطة من الإنتاج والتوزيع والتوريد والإدارة، وإذا أصاب الخلل إحدى تلك الحلقات، نتيجة أزمة ما، فربما تكون النتائج مرعبة: مجاعات وحروب وانهيار لأنظمة اجتماعية، فضلاً عن هذا فإن الثقافة الغذائية مرتبطة جداً بتلك السلاسل. لا يمكن لناشط خُضري مثلا أن يكتشف مدى أهمية وصحيّة ثمار «الأفوكادو» أو «الكينوا» لو لم تكن هنالك سياسات عامة وصلته بمنتجي هذه الثمار، من فلاحي أمريكا الجنوبية وافريقيا، بعد أن وجدت أن الاستثمار في هذه الزراعة والترويج لها يحقّقان قيماً مادية كبيرة.
سياسات الغذاء إذن «تصنعنا» بشكل من الأشكال، فهي ما يجعلنا قادرين على الاستمرار والتكاثر، كما أنها تساهم في تحديد وضعنا الصحي، وصياغة هيئتنا الجسدية، بكل ما يرتبط بذلك من مفاهيم جمالية وأخلاقية. عندما تصبح البدانة «وباءً» كما تؤكد معظم الدراسات، وليس فقط في الدول المتقدمة، بل في كثير من الدول النامية، فهذا يعني بكل بساطة أن أمراً ما في سياسات الغذاء يجعل البدانة، أو التهديد بالابتلاء بها، ظاهرة اجتماعية.
السعي نحو «الدايت» السليم هو نتيجة طبيعة لخطر البدانة المحدق بمعظم الناس، الذي لا تقتصر أضراره على الجانب الصحي، بل أيضاً بما قد يكون أكثر إيلاماً، أي وصمة العار التي تلاحق من لا يملكون جسداً «صحياً» والتي لها نتائج اجتماعية، منها النبذ الاجتماعي والحرمان من فرص العمل وتعذّر التواصل مع شركاء جنسيين. إنها وصمة تهدد البقاء نفسه في كثير من الأحيان. لكن إذا كان وباء البدانة نتيجة سياسات عامة، وربما دولية، فلماذا يُحمّل الأفراد المسؤولية الأخلاقية عن بدانتهم؟ الجواب السائد والمُضمر: لأنهم شرهون، أو غير ملتزمين صحياً، أو حتى أغبياء وفاشلون. يقودنا هذا إلى سياسات أخرى متعلّقة بسياسات الغذاء، يمكن تسميتها «سياسات البدانة» أي مجموعة المنتجات المادية والقيم الثقافية والأحكام الأخلاقية العامة المتعلّقة بالبدانة والتخلّص منها، وصولاً إلى «الجسد الصحي» كيف تعمل هذه السياسات؟ وما دورها في صياغة تصوراتنا عن ذواتنا والعالم؟
فردنة الخطيئة
قامت الأديان العالمية، خاصة المسيحية والإسلام، على فكرة فردانية الخطيئة والإثم، وكذلك الثواب. بمعنى أن الذنب، الذي يستوجب عقاباً إلهياً، هو وزر الفرد الذي ارتكبه، ولا يُحاسب عنه أي شخص آخر، وربما كان هذا أحد الجذور الأولى لفكرة الذات الفردانية: لا تزر وازرةٌ وزر أخرى. إلا أن تلك الأديان كانت جمعيّة في الوقت نفسه، إذ تلعب جماعة المؤمنين، أو الكنيسة، دوراً أساسياً في دفع الأفراد للبرّ والتقوى، وتعرّفهم طريق الخلاص. وإذا اعتبرنا البدانة خطيئة بالمفهوم المسيحي (يصعب أن نجد إدانةً لها في الإسلام) باعتبارها نتيجةً للشّره، أحد الخطايا السبع، فإن الخلاص من هذه «الخطيئة» يكون بالاعتراف الكنسي، ومن ثمّ اتباع تقنيات جسدية قاسية، تُساعد الكنيسة في تحديدها. كان الرهبان المسيحيون، من أهم من اتبع «دايت» فعّال في حياتهم، كي يصلوا للطهارة والخلاص.
ربما احتفظ عصرنا بفكرة «فردانية الخطيئة» لكنه لا يقدّم تقنيات جمعيّة شبيهة بما تفرضه الكنيسة. لن يجد البدينون، الذين يُصوّرون بوصفهم خطاة، نتيجة انجرارهم لشهواتهم وشرههم وانعدام وعيهم، كنيسةً ذات عقيدة صحيحة لترشدهم، بل مئات من الوصفات، المتضاربة كثيراً من الأحيان، التي تشرح لهم «الوعي» المناسب ليتخلّصوا من ذنبهم وخطيئتهم. هنا يبرز تناقض أساسي في «سياسات البدانة» المعاصرة: السُمنة تعتبر خطيئة فردية تجاه مبدأ كلي (التصوّر المثالي عن الجسد) تستلزم وصمة عار، إلا أنها لن تجد تعليماً مقدساً، مهمته التخليص من ذنوب النفس، وإرشادها لاتباع المبادئ الكليّة السليمة. لا يوجد إلا تعليمات مرتبطة بمنتجات غذائية؛ ناشطون ومؤثّرون و»خبراء» متعددون على وسائل التواصل الاجتماعي، يستعرضون مدى جمال حياتهم، عندما طابقوا الصورة المثالية عن «الجسم الصحي». المُقدّس غير موجود هنا، لكن تبقى الخطيئة. وهذا قاسٍ جداً، لأنه يترك الأفراد معزولين وضعفاء، لا سند لهم، في مواجهة شعورهم بالنقص والضعف والضلال.
تُفردن «سياسات البدانة» الذنب، ولا تشير بوضوح إلى الأسباب الموضوعية والجمعيّة للسُمنة: المشكلة فيك أنت، بوصفك بديناً. عليك أن تعترف دائما بهذه الخطيئة، وتحاول البحث عن خلاصك الذاتي. وهنا يعرض لك «السوق» مئات «الخيارات» للتخلّص من بدانتك، لا يبدو أحدها أكثر «حقاً» من الآخر، وعليك أن تختار بـ«حرية» وتستهلك ما يبدو لك مناسباً. يبدو هذا نمطاً من الخداع الأيديولوجي الصريح، ليس البدين، وغيره من البشر المهددين بالسُمنة، مَن قرّر السياسات الغذائية العامة، التي أغرقته بمنتجات عامرة بالسُكّر، واختلاط الدهون المُشبعة بالكاربوهيدرات البسيطة. وليس هو من اخترع ما يسمى بـ«الدايت الأمريكي» وثقافته (أي الأغذية السريعة المسبّبة للبدانة، التي انتشرت عالمياً نتيجة تعميم نموذج الصناعات الغذائية الأمريكية) وفي الوقت ذاته عليه أن يحدد لنفسه، وبنفسه، طريقا «قويماً» من خلال قيامه باختيار فرداني «حر» تحت ظل سياسات عامة، أضخم منه بكثير. مفهوم «الخيار الفردي» هنا، وهو أيديولوجيا استهلاكية صريحة، يؤشّر إلى وظيفة أساسية لـ»سياسات البدانة» وهي فردنة الذوات.
أيديولوجيا الدايت
تكثير خيارات «الدايت» وجعلها متعلّقة بخيارات الفرد، يؤدي، من ناحية أيديولوجية، إلى نزع اجتماعية العادات الغذائية، رغم أن هذه العادات، من ناحية بنيوية، شديدة الجماعية والعمومية. يظنّ مُتّبع «الدايت» أنه يختار، في ما لا يفعل أكثر من التنقّل الدائم بين مسارات محددة سلفاً للاستهلاك الغذائي. تُعطي هذه «الخيارات» المتعددة إحساساً، يصعب إيجاد أساس واضح له، بالفرادة، وتحطّم الطقوس الجمعيّة لتناول الطعام، من جلسات عائلية وولائم اجتماعية، ولا تترك إلا فرداً يتوهّم أنه حر، غارق في الذنب والخطيئة، ويرزح دائماً تحت ضغط «الاعتراف» بعاره وضعف نفسه؛ وتقنيات قاسية وعنيفة تجاه الذات، لن توصله إلا لمزيد من الخضوع لـ«سياسات البدانة». الذات الفردية هنا شديدة الانقياد لكل سلطة، ليس فقط سلطة الدول وأجهزتها القمعية والإعلامية المعروفة، بل سلطة أي شركة أو مشروع، يموّل «مؤثّرين» للدعاية لمنتجاته. «الجسد الصحي» هنا يصبح مثالاً سلطوياً. مَن يمتلكه ناجح وملتزم ومقتنص لكل الفرص، ولكي تصل لهذا المثال عليك أن تُعنّف نفسك أكثر، وحتى لو صلت لـ«فورم» مثالي، ستظل تحت تهديد أن يزيد وزنك وتنكمش عضلاتك إذا تراخيت. ولهذا ربما تمتلئ صالات «الجيم» بالبشر المرعوبين من السقوط في «فشل» السمنة. يصعب تخيّل رياضة وحيدة أكثر من «الجيم» إذا لا مجال فيها للعب اجتماعي بين فِرَق، أي مجموعات متراصة من البشر، الذين يعرّفون أنفسهم بـ«الفريق» وليس الفرادنية. إنسان «الدايت» و«الجيم» نموذجي جداً لمفهوم فردنة الذوات، الذي يراه كثيرون من النقّاد حجر الأساس في الأيديولوجيا النيوليبرالية.
«التحرر» بدل «الخلاص»
كانت البدانة في ما مضى دلالة على النعمة، لا يصل إليها إلا قليل من الأثرياء، اليوم باتت من صفات الطبقات الأدنى، الموصومة بعدم «وعيها». فيما كان الجسم الممتلئ، وربما السمين، من سمات الجمال عند النساء خاصةً، ويدلّ على «خير» الأهل. وصف بعض المؤرخين والأنثروبولوجيين طقوس تسمين العرائس قبل الزواج في بعض بلدان «الشرق» وربما ما زالت هذه الطقوس مستمرة حتى اليوم في بعض الدول العربية/الافريقية، مثل موريتانيا.
البدانة ليست عاراً في جوهرها إذن، وتجاوز شعور الذنب ضروري، بوصفه خطوة أولى للتحرر من أيديولوجيا الجسد النيوليبرالية، خاصة لمن لا يهتمون كثيراً بالمفهوم المسيحي، الذي تمّت علمنته اليوم، عن الخطيئة والخلاص. إلا أن البدانة تبقى خطراً كبيراً على البقاء، خاصة عندما تتحوّل إلى وباء عالمي. وربما يكون الأجدى عدم التعامل معها تحت ضغط الذنب، بل فهمها سياسياً: هذه الجائحة نتيجة سياسات وصناعات غذائية مختلّة، وإذا كان من المتعذّر اليوم تغييرها، فربما لن يفيد الخضوع لوجهها الآخر، أي «الدايت» الدائم، والرياضة المعزولة المرتبطة به. التحرر من «الخطيئة» وتوابعها قد يكون الخطوة الأولى، وربما لا نحتاج إلى «أنفولونسرز» كي نعرف كيف نأكل، ونتخذ خيارنا الأخلاقي في هذا الخصوص.
٭ كاتب سوري
القدس العربي