نصوص

أنا الصبيّ الطائش الذي شتم نظام الأسد/ كارمن كريم

أكتب باسم وهمي، قد أكون فتاة أو صبياً، شيخاً طاعناً في السنّ، أو عجوزاً تدلل أحلام أحفادها، لكن ما لا شك فيه، أنني أتألم، وأنني سوريّة.

وردني اتصال مُبكرٌ من والدتي. أخبرتني أنها لم تستطع النوم خوفاً عليَّ. أسألها، لمَ القلق إلى هذه الدرجة؟ تقول غاضبةً: “كيف بتكتبي ضدهن، ما بتعرفي أنو بيلعنو أبو حياتك!”. أصمت وأتذكر سلسلة من المنشورات التي انتقدتُ فيها النظام السوري. أخبر أمي بألا تخاف، فأنا لا أكتب خارج الخطوط المرسومة بعناية لنا، ولا أذكر الأسد مباشرة، كما أنني بأمان كوني موجودة في النصف الآخر من الكوكب.

لم أحزن لما سبق، لكنّ شرودي في كلام أمي، واسترجاعي مخاوف صغيرة من النظام، دفعاها الى سؤالي: “زعلتي مني؟ معك حق أنتي صحافية وأنا عبدخل بشغلك”. أبتسم وأقول لها ألا تحزن أو تخاف، أعلم كيف أحمي نفسي منهم، كما أن هناك الآلاف مثلي ممن يتحدثون عن فظائع النظام.

ما لا تعرفه أمي حقيقةً، أنني لم أعد واعيةً تماماً لما يجري حولي، قررت في ليلة كتابة تغريدة على “تويتر” ومنشور على “فيسبوك” أعترف فيهما بشخصيتي الحقيقية، وأقول أنا صاحبة اسم “كارمن كريم”. كان قراراً متهوراً، دفعني الاستسلام الى التفكير به، لكنني عدلت عن الأمر كما هو متوقع.

 لا أعلم كيف قررت أن أبدأ بالكتابة ضد النظام السوري بعد سنوات من الصمت، وكيف أشعل هذا القرار قوةً في داخلي، وأيقظ معركة الخوف أيضاً.

وردني اتصال مُبكرٌ من والدتي. أخبرتني أنها لم تستطع النوم خوفاً عليَّ. أسألها، لمَ القلق إلى هذه الدرجة؟ تقول غاضبةً: “كيف بتكتبي ضدهن، ما بتعرفي أنو بيلعنو أبو حياتك!”.

أشعر بالحياة والناس كأطياف من حولي، يعبرونني وأبقى في مكاني، أخاف الأشياء نفسها، أتردد عند كتابة العبارات ذاتها، وأحسد من يملكون القوة والحرية للتحدث من دون خوف عن أنفسهم وعائلاتهم، حوّلني ذلك كله بعد سنوات من اختباره إلى فتاة تبكي على أمور تافهة، لا أتوقف عن البكاء لساعات، وكلما حضنني أحدهم بكيتُ أكثر، ما يحرك في داخلي الإحباط، فأنا لم أكن يوماً فتاة ضعيفة، ويعرف كل من حولي عنادي وصبري، لكني الآن أدرك أنني محطمة، وأن الشروخ  داخلي تتسع تدريجياً، تتسرب عبرها أحلامي، وخططي وسنوات حياتي.

تقول صديقتي:”عليّ أن أشدَّ ركبتيّ”، أي أن أستمر بالوقوف والصمود، لكن تراودني منذ أشهر غواية الاستسلام. ليس هذا وحسب، فمنذ أيام، وبينما كنت أسترجع صوراً لي في سوريا، تمنيت للحظة لو أنني لم أخرج وبقيت هناك، لا بدافع الحنين، إنما رغبة في شعور الانتماء مرة أخرى، حتى لو كان انتماء الى البؤس، على رغم معرفتي بسخافة ما أتحدث عنه بعدما أتيحت لي فرصة الهرب -فرصة يحسدني عليها الجميع- شعرت بالخجل والصدمة، كيف أتمنى الرجوع أنا التي قلت يوماً لو تمكنت من النجاة من سوريا لن أنظر خلفي مجدداً.

أنا هنا مجرد اسم مُستعار، لا يمكن التأكد من هويتي، هل أنا فتاة أم رجل أم شيخ، هل أنا حقاً موجودة؟ ولماذا أدّعي بأنني فتاة بينما يمكنني امتلاك أي لقب أريد، كالصبيّ الطائش!.

 أنا الصبي الطائش الذي قرر شتم نظام الأسد. أنا الشعب الخائف الذي يروي انتهاكات الديكتاتور.

أعتقد أنني نجوت، لكن حقيقةً، أنا بدأت للتو محاربة الديكتاتور والخوف، التي لا تنتهي بالخروج/ الرحيل، بل تبدأ به. أنا أكره سوريا التي تنتمي الى الأسد، وأكره أنني أبدو سوريّة إلى هذا الحد، مع ردات فعلي الجاهلة للحياة الطبيعية، وتفكيري الدائم أنني في بلد فيه كهرباء، وأن اللمبة المنارة فوقي تقابلها واحدة مطفأة في منزل عائلتي، وأن الحقوق البسيطة التي أحصل عليها هنا من دون عناء، تغيب تماماً في سوريا.

أعاني من شرخ داخلي، كما الكثير من السوريين، لست حالة فردية أو قضية جوهرية، ربما هذا هو الألم الإضافي، تحولنا إلى قطيع آخر في الخارج، قطيع من الخائفين والمترددين، أنا لست استثناءً إنما عيّنة مشابهة لملايين العينات الأخرى، التي يُثبتُ من خلالها أن نظام الأسد دمرنا كأفراد وكشعب.

الأمر الوحيد الذي يشعرني بالانتماء، لقائي مع صديق سوري هنا، نتقابل في أي مكان، قهوة، على البحر، أو نتمشى. يتصل أو أتصل به فجأة، نجلس على الرصيف، لقاء قصير، ربما لنصف ساعة، نتحدث فيه كسوريين، عن مخاوفنا، وعن حطامنا، عن تفاصيل عائلاتنا (جاءت). أشياء مكررة ملايين المرات، لكنها تبقى حقيقية بالنسبة إلينا، نحن الذين توقفنا عن مشاركة مشاعرنا مع من حولنا، لأنها ببساطة، سلسلة مملّة من الانكسارات والمخاوف، لكن حاله كحالي، يختبر شرخاً يُدعى “سوريا”، وسيتفهم مشاعري حين أخبره أن والدتي في اتصالها الأخير كانت سعيدة لأن الكهرباء “جاءت”، ولأنها أكلت الشوكولاتة، كنت أدرك أنه وحده سيفهم الألم الذي يراودني حين أرى الطمأنينة على وجه والدتي، فقط لأن الضوء مُنار فوقها، ما يستدعي الاحتفال بحبة شوكولاتة.

 أودّعه بعد لقائنا القصير وأعود إلى المنزل أو العمل، أشعر بأنني أستطيع ترك سوريا عشرات المرات، في كل مرة ألتقي فيها سوريّاً تائهاً مثلي، أخبره ويخبرني عن سوريا القاسية التي نحفظها عن ظهر قلب، هكذا أمتلك نصف ساعة في الأسبوع أعود فيها إلى سوريا وأعود بعدها إلى حياةٍ أحاول فيها ألّا أكون سوريّة.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى