بيركلي وقت الطاعون وقصائد أُخرى/ جاك سبايسر
تحليل نفسي: مرثية
ما الذي تفكر به؟
أُفكّر بصيف مبكر
أُفكّر بتلال مبلّلة تحت المطر
بمائه المنهمر. يتساقط
على أطيانٍ فارغة من البلوط والمنزنيتّة،
نازلاً على أجمات خضراء عتيقة متشابكة تحت الشمس،
شجيرات شوكية، مريمية، وخردل ربيع.
أو بالرياح الحارّة التي تنزل من سانتا آنا
وتُجنّن التلال،
الرياح السريعة، المغبرّة قليلاً
ترضُّ كل شيء وتحلّي البذار.
أو بالمدينة أسفَل حيث أشجار الخوخ
خرقاءُ مثل مهار الفرس،
حيث الطائرات الورقية تعلق بالأسلاك
فوق عواميد الإنارة،
والمجاري كلّها تختنق بالجذوع الميتة.
بماذا تفكّر؟
أظنّ أني أُريد أن أكتب قصيدة بطيئة مثل الصيف
بطيئة مثل ابتداء شيء ما
مثل الرابع من يوليو في مكان ما في النصف الثاني من الستانزا
بعد كثير من المطر غير العادي
كاليفورنيا تبدو طويلة في الصيف.
أريد أن أكتب قصيدة طويلة مثل كاليفورنيا
وبطيئة مثل الصيف.
فهمتني يا دكتور؟ يجب أن تكون بطيئة
مثل رأس الصيف
بطيئة كما يبدو الصيف
ذات يوم حار نشرب فيه البيرة خارج ريفيرزديل
أو نقف في منتصف شارع أبيض من الحرارة
بين بيكيرزفيلد وجهنم
منتظرين بابا نويل.
ما الذي تفكّر به الآن؟
أُفكّر بأنها تشبه إلى حد كبير كاليفورنيا.
عندما تكون ساكنة، يشبه فستانها خريطة طريق. طرقٌ سريعة
تصعد وتنزل على جلدها
طرقٌ سريعة فارغة
يلاحق القمرُ أرانب كبيرة الآذان تقطعها
في ليالي الصيف الساخنة.
أُفكّر بأن جسمها قد يكون كاليفورنيا
وأنا، سائح مشرقي
ضائع في مكان ما بين جهنم وتكساس
أبحث عن خريطة لكاليفورنيا الطويلة، المبللة، الراقصة
التي لم أرها قط.
أرسليني بعض البطاقات البريدية بقرش، يا آنسة،
أرسليني.
واحدة لكل ثدي مصور مثل
نصب وطني فريد،
وواحدة لجسمك الكاسح مثل طريق سريع بثلاثة مسالك
يبعد سبعة وعشرين ميلاً من أقرب منامة
في أقدم فندق في العالم.
ما الذي تفكّر فيه؟
أُفكّر بعدد المرّات التي سوف تُعاد فيها
هذه القصيدة. كم صيفاً
سوف يعذّب كاليفورنيا
إلى أن تحترق الخرائط اللعينة
إلى أن يقعَ رسام الخرائط المجنون
على الأرض ويتملّك
الأرض الحلوة الثخينة التي يختبئ منها.
ما الذي تفكّر به الآن؟
أُفكّر بأن هذه القصيدة يمكن أن تستمر إلى الأبد.
■ ■ ■
“نَجِدُ الجسد صعبَ الكلام…”
نَجِدُ الجسد صعبَ الكلام،
والوجهَ منيعاً صعب السّمع،
نَجِدُ العينين عند التقبيل تتلكآن
والأحقاء الهائجة
تهذر مثل حمقى.
الجنس وجعٌ في الفم.
الأزيز الذي تصدره أجسادنا
عندما تفرك الفاه على الفاه
وتحاول التحدث.
مثل الأطفال الصّغار الصامتين نتعانق،
ونتألم سوية.
والحب هو خلو الأُذن. علاجه أن
نضع وجهاً على أُذننا
وننصت إليه مثلما ننصت إلى صدَفةٍ
يُهدهدنا هديرُها.
نَجِدُ الجسد صعب الكلام، ونتحدث
عبر جدرانه مثل الغرباء.
■ ■ ■
بيركلي وقت الطاعون
أخذَنا الطاعون وأخذ الأرض من تحتنا
زهرة مثل بثَرة، تحبسنا بداخلها.
انتظرنا وتلوّت السماء الزرقاء ردحاً
وأصبحت سوداء من الموت.
أخذَنا الطاعون والكراسي من تحتنا
داسَت بحذر عندما دخلَت القاعة
(كنّا نناقش يِيتس)؛ ووقفَت قليلاً،
ثم ابتسمَت وقتلتنا.
أخذَنا الطاعون، ضحك علينا وأعاد تحجيمنا،
نفَخنا حتى صرنا عجباً يصيب المرء بالدوار.
مِتنا بمعجزة؛ وآلَمنا ذلك لوهلة
ولكنه خلّف لمعةً ما في أعيننا.
■ ■ ■
الشيءُ اللغة
هذا المحيط، المُهين بأقنعته
الأقسى من أي شيء.
لا يسمع أحد الشِّعر. المحيط
لا يطلبُ السّماع. قطرةٌ
أو خبطةُ موجة. كلاهما لا يعنيان
شيئاً.
فهو
الخبز والزبدة
والملح والبهارات. الموت
الذي يصبو إليه الرجال. يضرب
الشطَّ بطيش. إشارات بيضاء
طائشة. لا
يسمع أحد الشِّعر.
■ ■ ■
رسالة إلى فيدريكو غارسيا لوركا، 1952
عزيزي لوركا،
أُريد أن أصنع قصائد من الأشياء الحقيقية. أن تكونَ الليمونةُ ليمونةً يمكن للقارئ أن يقطعها أو يعصرها أو يتذوقها – ليمونة حقيقية كما الجريدةُ في كولاج هي جريدة حقيقية. أريد أن يكون القمر في قصائدي قمراً حقيقياً، يمكن أن تغطيه فجأة غيمةٌ لا علاقة لها بالقصيدة – قمرٌ مستقل تماماً عن الصور. الخيال يتصوّرُ الحقيقيّ. أريد أن أشير إلى الحقيقيّ، أن أبوح به، أن أصنع قصيدة لا صوت لها إلا الإشارة بالإصبع.
كلانا حاول أن يتحرّر من الصور (أنت من البداية، وأنا فقط بعدما كبرت كفاية لكي أتعب من وصل الأشياء ببعضها)، أن يجعل الأشياء مرئية بدلاً من أن يرسم صورها (خيالاتٍ من دون تخيّل). كم من السهل في التأملات الإيروسية أو التخيّل الأكثر حقيقيّة لحلمٍ ابتكارُ صبيّ جميل. كم من الصعب أن آخذ صبياً بثوب سباحة أزرق راقبتهُ عرَضاً مثل شجرة، وأن أجعله مرئياً في قصيدة كما الشجرة مرئية، لا مثل صورة أو رسمة، وإنما مثل شيء حقيقيّ قبضَتْ عليه بُنية الكلمات إلى الأبد. أقمار حيّة، ليمونات حيّة، صبية أحياء في أثواب سباحة. القصيدة كولّاجُ الحقيقيّ.
ولكن الأشياء تضمحل، يجادلُ المنطق. الأشياء الحقيقية تصبح زبالة. قطعة الليمون التي تُلصقها بالكانفة ينمو عليها العفن، والجريدة تخبرُ عن أنباء لا تُصدّق من قِدمها، كتبت بعامية منسية، والصبي يصبح جَدّاً. بلى، ولكن زبالة الحقيقيّ تمدّ يدها إلى العالم الحاليّ مع ذلك، وتصنع أشياءها هيَ، كذلك ينادي الليمون المرئيُّ الليمونَ، والجريدةُ الجريدةَ، والصبيُّ الصبيَّ. فباضمحلال الأشياء تَجلِبُ أقرانها إلى الوجود.
الأشياء لا تتصل، بل تتقابَل. ذلك ما يجعل من الممكن لشاعر أن يترجم الأشياء الحقيقية، وأن ينقلها عبر اللغة بسهولة كما ينقلها عبر الزمن. الشجرة التي رأيتَها في إسبانيا هي شجرة لا أراها في كاليفورنيا، وتلك الليمونة لها رائحة مختلفة ومذاق مختلف، ولكن الجواب هو التالي – كل مكان وكل زمان لديه شيءٌ حقيقي يقابل شيئك الحقيقيّ – تلك الليمونة قد تصبح هذه الليمونة، أو قد تصبح عشبة البحر هذه، أو هذا الرماديّ بالذات في هذا المحيط. ليس على المرء أن يتخيل تلك الليمونة، بل عليه أن يكتشفها.
حتى هذه الرسائل تقابل شيئاً (لا أعرف ماذا) كتبتَه أنت (ربما بإبهام كما تقابل تلك الليمونة عشبة البحر هذه)، وذات يوم في المستقبل سيكتبُ شاعرٌ ما شيئاً يقابلها بدوره. هكذا نكتبُ نحن الرجال الموتى لبعضنا.
مع المحبة،
جاك
* Jack Spicer شاعر أميركي من مواليد لوس أنجليس بكاليفورنيا عام 1925 ورحل في سان فرانسيسكو عام 1965.
** ترجمة: أنس طريف
العربي الجديد