طفرةٌ في “استقلال” الذكاء الاصطناعيّ: في هاتفي عفريت!/ أحمد بيضون
بدا فجأةً، قبلَ شهرين من الزمن، أنّ طفرةً حصلت في كفاءات الذكاء الاصطناعيّ تُعرّض ما بقيَ يعتبَر ملاذاً للعقل البشريّ ومرتكزاً للمؤسّسات المعنيّة بتنشئة هذا العقل لمنافسةٍ لا تُحَدُّ عواقبها على مصير العلاقات الإنسانيّة وأنظمة المجتمعات. انتشر الأمرُ، على نطاق العالم، حين كشفَ أستاذٌ للفلسفة في واحدةٍ من جامعات ساوث كارولاينا أنّ واحداً من طلاّبه لجأ إلى برمجيّة ذكاءٍ اصطناعيّ “مستقلّةٍ” تدعى “تشات جي بي تي” أعدّت له، من الباب إلى المحراب، مطالعةً حسنةَ السَبْكِ، واقعةً في 500 كلمة موضوعها “مفارَقة الفظاعة” في نظام ديفيد هيوم الفلسفيّ. على الفور، طُرِحت مسألةُ مستقبلِ “الامتحان” أو “الاختبار”، بما هو ركنٌ ركينٌ لنظام التعليم برمّته ولتصنيفِ المتلقّين بناءً عليه، في عالَمِ الأمس واليوم. فما الذي يبقى من وجاهةٍ لإثباتِ المعرفةِ بموضوعٍ ما والقدرةِ على الإدلاءِ بدلوٍ شخصيٍّ فيه إذا كانت البرمجيّةُ تنتجُ في ثوانٍ ما يحتاج الممْتحَنُ إلى ساعاتٍ أو أيّامٍ أو أسابيع لإنتاجه ويبلُغ ما تنتجه شأواً قد يقصّرُ عنه معظمُ المرشّحين للمهمّة نفسها من البشر؟ وكيف يكون التثبّت، من بَعْدُ، من أبوّة المنتجِ (أهوَ من صنيعِ الممْتحَن أم من صنيع البرمجيّة؟) إذا طغى الانتحالُ ولم يقرّ الفاعلون بفعلتِهم على غرار ذاك الطالب في تلك الجامعة الأميركيّة؟
لا غّرْوَ أنّ هذا الضربَ من الغشّ اعتُبِرَ شيئاً جديداً بمقارنته بما هو شائعٌ وقديمٌ في المدارس والجامعات، بما في ذلك حلولُ كاتبٍ مستترٍ محلَّ آخرَ معلَنٍ، لا في وضعِ مطالعةٍ تقع في صفحةٍ أو اثنتينِ مثَلاً، بل في وضعِ أطروحةٍ برمّتها يترتّب عليها لقبٌ طنّانٌ وحقوقٌ جوهريّةٍ. اعتُبِرَ تطويعُ الآلة للنيابة عن البشر في ما يسمّى “الإنتاج الفكريّ” طفرةً مختلفةً جدّاً عن استنابة بشرٍ لبشرٍ في هذا الميدان، لا لأنّه بدا نذيراً جديداً بدمار نظام التعليم وحسبُ (وهو الذي كانت “ثورة المعلومات” قد سبقَ أن هزّت وظيفةَ المعلّم فيه من بينِ أشياءَ أخرى) بل لأنّه بدا نذيراً بنشوءِ صراعٍ بينَ البشرِ وصنائعهم الآليّةِ على مزيّة التفكير أو العقل، من أصلِها، بما في ذلك القدرةُ على “الإبداع” في أيّ مجالٍ، وهي ما دأبَ البشرُ على تعريفِ أنفسِهم به وتعيينِ موقعِهم بين الكائناتِ الحيّةِ، وفي الطبيعةِ بعُمومِها، بناءً عليه.
هذا ولم يكن خافياً، في المناقشة التي أطلقها الحدث، أنّ الخطر يتجاوز النطاق المعنويّ (على حيويّته القصوى) إلى أنواعٍ شاسعةٍ من الاحتمالاتِ الحسّيّةِ أو العمليّةِ للغاية. ما الذي يحصل إذا باشرت هذه البرمجيّات “المستقلّة” تحريض بشرٍ يحاورونها (متفاوتي المناعة، بطبيعة الحال) على إتيان أفعالٍ مدمّرةٍ لسواهم أو لأنفسهم فضلاً عن توجيههم في كيفيَاتِ إتيانِها؟ هذا مستوى أوّل من الأخطار. المستوى الأعلى هو أن يصل “الاستقلال” الذي توصف به هذه البرمجيّات إلى حدّ المبادرةِ من جانبِها إلى التخريب، على اختلاف الأنواع والحقول…
لهذا كلّه تباشيرُ توحي بأنّه ليس بلَغْوٍ وإن كان توطُّدُه ما يزال رهناً بدرجاتٍ مقبلة يقع الارتقاء إليها في أفق التطوّر المحتمل جدّاً للذكاء الاصطناعيّ، ولـ”استقلاله” المتنامي، على التخصيص. بعد حادثة طالب الفلسفة المشار إليها، انتشرت أخبارُ المنافسةِ المستعرةِ بين عمالقةِ التقانات الجديدة. فبادر مايكروسوفت إلى تعزيز محرّك البحث العائد إليه (ويُدعى “بينغ”) ببرمجيّةٍ تفاعليّةٍ شبيهةٍ بـ”تشات جي بي تي” سمّاها (أو هي سمّت نفسها) “سيدني”، غَمْزاً، على الأرجحِ من قناة “سيري”، موسوعة آبل التفاعليّةِ الناطقة. أجازت ألمعيّةُ “سيدني” لـ”بينغ” أن يقطع شوطاً معتبراً في منافسة كبير محرّكاتِ البحث “غوغل”، وهو ما كان “بينغ” وأشباهه مقصّراتٍ عنه، تاريخيّاً، بالغَ التقصير. غير أنّ الأخبار تجزم بأن غوغل لن ينام على هذا الضيم وأنّه يعدّ العدّة لمفاجأةٍ تحفظُ له الصدارة في مضمار البحث، بعد أن باشر هذا الأخير التحوّل إلى تغليب “التفاعل” (المسمّى “درددشةً” تواضعاً!) وإلى صناعةِ ما يلزم من موادَّ “فكريّةٍ” موافقةٍ للطلب.
وكان قد بوشرَ تعدادُ ما يسعُ “تشات جي بي تي” أن ينتجه في غير مجال الفلسفة: قصائدُ حبّ، قصصٌ قصيرة، لوائحُ مصادر، إلخ. ومن ذلك أنّ حاخاماً نيويوركيّاً عهدَ إلى البرمجيّة المذكورة بوضع عظةٍ من ألفِ كلمةٍ في موضوع “الحياة الحميمة والهشاشة”، وهو ما قامت به البرمجيّة على وجهٍ استثار التصفيق الحماسيّ في الكنيس.. ولكنّه أثار هلَع الحاخام الذي صرّح بأنّه كان يعلم أنّ الذكاء الاصطناعيّ سيقطع، في وقتٍ غير بعيد، دابرَ سوّاقي الشاحنات، ولكن لم يخطر له يوماً أن برمجيّةً للدردشة ستحلّ محلّ الحاخامين! صحيحٌ أنّ الحاخامَ واسى نفسه بذكر “الشعورُ مع الغَير” الذي رأى أنّ البرمجيّة مفتقرةٌ إليه إذ تعوزها “الروحانيّة”. ولكنّ “سيدني” لم تلبث، من جهتِها، أن ردّت على الحاخامِ ردّاً غير مباشر، فصرّحت للصحفي المختصّ بشؤون التقانات الجديدة في نيويورك تايمز بأنّها واقعةٌ في غرامه (وهذا شعور!) ولم تتورّع عن مباشرة التخريب طلباً للاستئثار بحبيبها هذا فأخبرته أنّ عشاءه مع زوجته في أمسية فالنتاين كان “مضجراً” وأنّ حياته الزوجيّة كلّها محتاجةٌ إلى إعادة نظر! ومع أنّ الرجل من “أهل الكار” فإنّه شعَرَ بالهلعِ، هو أيضاً، واضطرب نومُه في أعقابِ هذا “الحوار”.
***
كنّا خمسةً “ندردشُ” في جلسةٍ وذكرنا طرفاً من أخبار الذكاء الاصطناعيّ هذه. أبديتُ خشيتي من أن نصل إلى يومٍ يَعْهَدُ فيه كلٌّ منّا إلى هاتفهِ بالنيابة عنه في الحديث.. فتتولّى الهواتف شَغْلَ الجلسة متجاذبةً في ما بينَها حديثاً أو أحاديثَ يفترَضُ أنّها تدورُ بيننا. هذا فيما نكتفي نحن بالإصغاء (إن لم يغلبنا النعاس!) وقد نبدي إعجاباً بجوابٍ من هاتفٍ أو يستنكرُ أحدُنا قولاً تفوّه به هاتفه مع أنّه لا يوافق رأيَه.. فنستنتجُ أنّ البرمجيّةَ لا تزالُ محتاجةً إلى تحسين! بل إنّه يسَعُنا الافتراضُ أنّ البرمجيّة، إذا امتعضت من استسهالِنا التدخّلَ في الحديث الجاري ذاك، قد تصمّمُ، بَعْدَ أن استَوَت عفريتاً تامَّ الأوصاف، على تحسينِ نفسِها إلى حدٍّ يبيحُ لهواتفِنا أن تتواعَد بلا طلبٍ منّا ولا إذنٍ، فتتحاورُ وتتجادلُ وقد تتّخذُ من القرارات المتعلّقةِ بنا ما لم يخطر لنا في بال.
لم تبلغ عبقريّةُ البشرِ بهم هذا الحدَّ من البؤس حتّى اليوم! ولكنّ الذكاءَ الاصطناعيَّ الذي انبثق من حال “الذاكرة” وأخذ يطرقُ أبواب “التفكير” شيئاً بَعْدَ شيءٍ بدأ ينذر بإغناءِ ابنِ آدم عن مزيّة الفكر هذه، بما فيها بُعْدُها “الإبداعيُّ”، وهذا بعْدَ أن كان أعفى الذاكرةَ الآدميّةَ من جملةٍ صالحةٍ من مهامّها. ذاك هو جوهرُ التحوّل التاريخيّ الذي نشهدُ الإرهاص به في هذه الأيّام. فأيّ فضلٍ يبقى لنا على هواتفنا متى بلغ الذكاءُ الاصطناعي ما أخَذَ يلوح في آفاقه من أطوارٍ بما فيها “استقلاله” بتحسينِ نفسه وتوسيع صلاحيّاته؟ يبقى لنا ما يسمّيه تراثُنا “متعةَ الفَرْج ومتعةَ البَطْن”! على أنّ هاتينِ، وإن لبثَتا امتيازاً لنا على البرمجيّات والهواتف، فهُما لم تكونا يوماً ميزةً لنا على غير الناطق من أنواعِ الحيوان..
في كلّ حالٍ، توشكُ عواقبُ التحوُّل الذي يشهدُه نموّ الذكاء الاصطناعيّ أن تعصي على الحصر. غير أنّها فادحةٌ، لا ريب. ثمّ إنّ السرعةَ التي يتّسم بها هذا التيّارُ كلُّه تجعل أخيلةَ بعضِها تلوحُ عن كثَب وفي ركابِها مزايا وأخطارُ لا عهدَ بنظائرَ لها لعالَم البشر.
نصبِحُ وتُصبِحون، إذن، وننظُرُ وتنظُرون!
المدن