مراجعات الكتب

“انقسام الروح” جديد الكاتب السوري الأميركي وائل السواح… يوميات في التشرد الثوري/ محمد برو

انقسام الروح، هكذا يسمي الكاتب السوري الأميركي وائل السواح عمله الجديد وهو يسترسل في سرد يومياته الكثيفة في رابطة العمل الشيوعي، ومواقفه الفكرية والسياسية وكيف تطورت بدءاً من علاقته بالحزب الشيوعي السوري لقائده خالد بكداش الذي بقي في رئاسة الحزب منفرداً من “عام 1933 حتى وفاته عام 1995أي أنه بقي رئيساً للحزب الشيوعي السوري مدة 62 سنة”، وكيف انفصل عنه لينضم الى الحلقات الماركسية التي أنتجت فيما بعد ما سمي برابطة العمل الشيوعي، وكان مشاركاً في الاجتماع الأول للحلقات عام 1974 الذي تمخض عنه وعن الاجتماع الثاني والثالث شكل تنظيمي سمي رابطة العمل الشيوعي.

عاش وائل ورفاقه سنوات من العمل السري عرفوا فيها التنقل بالهويات المزورة والعيش في شقق فقيرة بمناطق مهمشة من دمشق كالطبالة والدويلعة ونهر عيشة، هنا البشر فطريون وطبيعيون وبسطاء وكرماء، تستقبلك عيونهم الباسمة وقلوبهم قبل أن تستقبلك عتبات بيوتهم، متواطئون بصمت في مواجهة خصم أو عدو معروف قد تعجز الشفاه عن ذكره جهراً، هي حياة القلق المستمر وضيق ذات اليد والحماسة والتمرد الثوري، تخيل أن تنزل في كاراج مدينة دمشق دون أن يكون لديك أدنى فكرة عن مكان تقصده، أو ركن تنام فيه.

يرسم الكاتب والمترجم ، السوري الأميركي وائل السواح بريشته عشرات البورتريهات المقتضبة، لرفاق يساريين وكتاب ومثقفين وفنانين وشعراء، عاش معهم وتركوا آثارهم في حياته، “سعد الله مزرعاني الحزب الشيوعي اللبناني الذي كان أصغر الأعضاء في المكتب السياسي للحزب 1976 وكان من أشد مناصري جورج حاوي”، “نصير الأسعد القيادي في منظمة العمل الشيوعي اللبنانية، قليل الرسمية والتكلف شديد الحماسة، يملك ولاء للديمقراطية أكثر من ولائه للأيديولوجيا، وهذا يعد في الأوساط اليسارية في مرحلة السبعينات شيء نادر الوجود، من أشد المعارضين لنظام الأسدين”، “كميل داغر الذي كان يزورنا بصحبة صلاح الذي اكتشفنا فيما بعد أنه الاسم الحركي للمفكر التروتسكي جيلبير أشقر”، “حسيبة عبد الرحمن التي تمثل كل ما يحبه الفتى الثوري بالفتاة الثورية حضورها طاغ، تناقش في السياسة والفكر وتعشق تروتسكي وروزا لكسمبورغ وتدخن بشراهة”، “عباس عباس أبو ديمة، الماركسي العتيق الذي لا يلين، الرجل الصبور العنيد الذكي”، “أحمد جمول الذي عرفني على عالم آخر، مختلف، فاتن ومثير”، وغيرهم كثير، نادراً ما يذكر وائل أحداً ممن عرض لذكرهم بسوء باستثناء ذلك الذميم الذي طرده من بيته محمود عبد الواحد”، وكان بأمس الحاجة للتخفي عن أعين رجال الأمن آنذاك.

ربما كانت تجربة رابطة العمل متقدمة على من عاصرها من التجارب اليسارية السورية، في تعدد الأصوات في التنظيم الواحد وغياب القائد أو الرئيس، رغم قلة عدد الأعضاء، وخير مثال على ذلك تفرق اتجاهاتهم ومواقفهم من ثورة الخميني في إيران، بين من يرى أن حكم الملالي في إيران سيعيدها إلى العصور الوسطى، وبين من يرى بصريح العبارة الفجة أن “شحاطة الخميني تساوي أكبر حزب شيوعي اليوم”.

في هذه السردية الرشيقة والماتعة ينقلنا صاحبها بين الثقافي والسياسي والثوري وبين الشعبي والعادي الجميل، بين الدفاتر النظرية للماركسية وبين صحون الزعتر البلدي واللبنة والتبولة والشاورما والكنافة النابلسية والشاي وكأس العرق الباردة والمازة البروليتارية الرثة، بين لقاءات بيروت والجبل وبين حارات دمشق العتيقة، تضج هذه المذكرات بصوت الحياة الصاخبة، بالحميا والنزق التي تميز بها مناضلو السبعينات في سوريا ولبنان.

“إذا كانت هذه قيادات معارضتنا فأعتقد أن حافظ الأسد سيحكمنا حتى نموت”، هكذا أسر أحمد درويش الأمين القطري لجماعة 23 فبراير/شباط، بصوت هامس لولده مازن، سيصر رياض الترك على موقفه السلبي من رابطة العمل الشيوعي، بعدم إشراكهم بأي ائتلاف يساري أو معارض، ولقد سمعت أصلان عبد الكريم (وهو من رموز رابطة العمل ومؤسسيها) في سجن صيدنايا مراراً، يذكر حواراً دار بينه وبين رياض الترك، يقول أصلان موضحاً لرياض الترك إننا “رابطة العمل” نقف ملتصقين ببابك، وما أن تفتح الباب حتى نسقط داخل البيت”، لكن رياض الترك بقي متمترساً بموقفه للنهاية.

عندما بدأت الحرب بين الأسد والطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين في عام “1979-1980” استشعر الماركسيون خطرها عليهم، فتبدلت انحيازاتهم أو أولوياتهم من إسقاط النظام إلى دحر الديكتاتورية، وعندما أوصل السوفييت بابراك كارمل إلى القصر الجمهوري في كابول عبر الدبابة الروسية وخلعوا الرئيس الأفغاني حفيظ الله أمين عندها بدأ التيار الذي يرى أهمية الاقتراب من الروس والذي يمثله أصلان عبد الكريم يزداد قوةً، بخلاف موقف عموم أعضاء الرابطة سابقاً، يورد وائل ثلاث نقاط جوهرية ساهمت في ابتعاده عن الرابطة وشكلت لديه شعوراً بالغربة، أولها تحول الفهم في طبيعة الثورة القادمة من ثورة ديمقراطية إلى ثورة اشتراكية، حيث لم يعن للكثيرين من الرفاق في الرابطة أن شركاءهم الفلاحين لا يريدون سوفخوزات اشتراكية، إنما غاية آمالهم الانتقال إلى المدينة والحصول على كرسي وظيفة في الجيش أو الأمن أو الإذاعة، ثانيها ضمور دور المرأة في التنظيم، فالهيئة المركزية لم تحظ بوجود امرأة واحدة، ثالثها الانتقال من الرابطة إلى الحزب تلك النقلة التي وقف فاتح جاموس ورائها، ونجح بمقايضة أصلان عبد الكريم (كلاهما من قيادات رابطة العمل)، بقبول فكرة التحول إلى حزب مقابل تقريب خط الرابطة من السوفييت.

في شطر واسع من الكتاب تسمع لوائل سواح الأديب أكثر مما تتابع وائل السياسي الماركسي، ولقد ذكر في بعض أحاديثه أن العمل السياسي سرقه من عالم الأدب، وهذا صحيح من وجهة نظري، كتب مرة تعريفاً للسجن “هو انعدام إمكانية الهرب، الحرية أنك تستطيع أن تهرب من أي مكان أو زمان أو شخص لا تريده، تستطيع أن تهجر صاحبتك أو تطلق امرأتك أو تغادر صفوف حزبك أو تغير عملك، في السجن أنت ببساطة لا تستطيع…”،

المفارقة هنا أنك في السجن تمتلك أقصى درجات الحرية في التفكير والقول وخوض النقاشات والندوات، ربما كانت أم الفضائل في تجربة الاعتقال بالنسبة لهؤلاء الشباب إعادة النظر في المراوغات اللينينية الالتفافية حول مفهوم الديمقراطية، تارة تحت عنوان الديمقراطية الثورية أو الديمقراطية الاشتراكية أو المركزية الديمقراطية، الأمر الذي سيوصل الكثيرين منهم للوقوف أمام مفهوم الديمقراطية العارية التي تضع الإنسان وحريته في مركز غاياتها، لم يكن بلوغ الهدف غاية السائرين الذين يشبهون وائل في هذه الطريق الوعرة إنما متعة ورومانسية السير وحده، كانت فكرة التحول من رابطة إلى حزب قتل للحلم الرومانسي، كأنه يشير أو يتمسك بأنوثة الرابطة وينفر من ذكورية الحزب، هذا يرجح تأثير الأدب على تأثير السياسة في تجربة وائل.

سيكون لسقوط جدار برلين 1989 وما سبقه من انعطاف سوفييتي خطير أنجزه الرئيس الروسي غورباتشوف عبر البيروسترويكا 1987، فعل الزلزال الذي سيشطر الرفاق الشيوعيين في سجن صيدنايا إلى اتجاهين متباينين، وسيكون الزلزال التالي الموقف من غزو صدام حسين لدولة الكويت 1990، فالشطر الأول وجد في الطاغية صدام حسين بسمارك للعرب يوشك أن يوحدهم بسطوة القوة والهدف النبيل، ناسين حجم الإجرام المهول الذي مثله صدام حسين خلال أحد عشر سنة من حكمه كجزار للعراق، بينما بقي الشطر الثاني أمينا لرؤيته عن الديمقراطية التي تلتزم بالضرورة أولاً بحرية الفرد.

عند هذه النقطة ينهي وائل سواح سرديته التي تمثل له انقسام الروح، ذلك الانقسام الذي لن يتوقف عند هذين الشطرين، فمع بزوغ الثورة السورية سيكون هناك أكثر من اتجاه، وسيكون هناك تيار يمثله فاتح جاموس الذي أمضى خمسة عشر عاماً في سجون الأسد، مع هذا فهو اليوم أقرب للنظام منه إلى الجماهير التي كان يوماً ما معنيا بالنضال لأجلها، وستكون هذه الانشقاقات في المواقف تمظهراً حاداً لانقسام الروح التي بدأت بالحلم النبيل والهدف الرومانسي، الذي يغتني السائر فيه بمجرد المسير، بعيداً عن إمكانية الوصول أو استحالته.

لم يتوسع وائل سواح في كتابه “انقسام الروح” بالحديث عن تجربة المعتقل، والتي تعد بحق من التجارب الغنية، هناك جرت حوارات ومراجعات وإعادة قراءات، ما كان لها أن تتأتى لولا تلك الفسحة في الحرية والزمن الممتد، تلك الفسحة التي يتيحها المعتقل وحده، وفضل أن يفرد لهذه التجربة كتاباً منفرداً هو على وشك الإنجاز ونحن على شفير الانتظار.

الناس نيوز

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى