طباخ الحنين: اللاجئون السوريون والهوية والطعام في إسطنبول/ محمد تركي الربيعو
مع قدوم اللاجئين السوريين لمدينة إسطنبول التركية، اختار قسم منهم، من القادمين من دمشق على الأخص، الاستئجار في حي الفاتح الذي مثّل قبل ستينيات القرن الماضي أساس المدينة، ليس فقط من الناحية المعمارية، لكن في ما يخصّ السكان أيضاً، فقد كان لأهالي هذا الحيّ طريقتهم وآدابهم في المعاملة، كما عُرِف بكونه مكانا للعلماء الأثرياء وفق ما يرويه المؤرخ التركي ألبير أورتايلي في مذكراته عن الحي الذي عاش فيه، وكان مثالاً للمعمار الخشبي، قبل أن يختفي، وتحلّ مكانه البيوت الإسمنتية. كما يعرف الحي بوجود جامع الفاتح، الذي بني بعد فترة قصيرة من دخول العثمانيين للمدينة في عام 1453، وهو ما صبغه بأجواء تاريخية ودينية. وربما ما ساهم في اختيار السوريين لهذه الحي أيضا، العلاقات الشخصية والأقارب الذين سبقوهم، كما أنّ شريحة من الدمشقيين كانت تبحث عن مكان أكثر محافظة مقارنة بباقي الأحياء الإسطنبولية، إضافة إلى أنه بدا قريباً في شكل شوارعه ومساجده من شكل مدينة دمشق.
وفي ظل هذا الوجود، أخذت المحلات والمطاعم السورية في حي الفاتح، سواء في شارع مالطا، ولاحقاً شارع الأمنيات، تعكس مع زيادة أعدادها حجم الحضور السوري في الحي، كما غدت هذه الأسواق مكانا مناسبا لفهم يوميات السوريين وعلاقتهم بالمدينة، وطبيعة التغيرات والتفاوض حول هوية السوريين في ظل اللجوء. وخلال الفترة الممتدة بين 2013ـ 2016 تقريبا، حدث تطور آخر على صعيد الوجود السوري في إسطنبول، تمثل بتحول المدينة لمركز جذب اقتصادي، مع قدوم أصحاب الأموال السوريين من الخليج، ما انعكس على عالم الطعام السوري عبر افتتاح مطاعم أكبر من ناحية، وأكثر تنوعا على صعيد الأصناف. ففي السابق، كان المطعم السوري يقدم كل شيء، وفي الغالب، شاروما أو فلافل. لكن خلال هذه الفترة افتُتحت مطاعم لتقديم الطبخ، وأخرى تخصّصت بالشاورما وغيرها. ولم يعنِ هذا التمايز التنوع في الطعام وجودة تقديمه حسب، بل أتاح فرصاً لطباخين آخرين بالظهور في المدينة؛ ومن بينهم الشيف (أبو عمر) صاحب مطعم البيت الدمشقي، الذي تخصص في سنوات افتتاحه الأولى بتقديم طبق سوري تقليدي ويُدعى (القشة أو المقادم أو السجقات) ويتكون من أمعاء الخروف المحشي بالأرز، بالإضافة إلى لسان الخروف. يطلق على الطبق ذاته في مصر اسم «ممبار» بينما يُسمى في العراق بـ»الباجة» وفي تركيا باسم «إشكمبيه» وهو طبق يتطلب وقتا طويلا من الإعداد، وكان سابقا يُطبخ في المنازل من قبل السيدات، لكن في العقدين الأخيرين ومع تطور ظاهرة الأكل في السوق وبسبب الرائحة القوية المرافقة لإعداده، لم تعد سوى الأمهات الكبار في السن هن من يطبخن هذا الطبق، بينما اعتمد الغالبية من الرجال والنساء على تناوله في الخارج. إلا أنّ نجاح الشيف أبو عمر لا يقتصر على كونه أول من قدّم هذا الطبق الشعبي بين السوريين في إسطنبول، وإنما في قدرته على تحويل عالم الطبخ ومطعمه وغاياته الاقتصادية إلى جزء أيضا من شبكات الحنين والذاكرة في بلدان اللجوء.
أبو عمر اللاجئ… ارتحال البشر والطعام
تبدو ظاهرة أبو عمر جزءا من تطور حياة اللاجئين السوريين في تركيا، وما أفرزته من فرص اقتصادية، وهذا ما تؤكده ربما التقلبات التي عرفتها يومياته خلال سنوات ما قبل 2011. ولد أبو عمر(مهند البغدادي) في فترة الثمانينيات في دمشق، وعمل في فترة شبابه في محل صغير لإكسسوارات أجهزة الكمبيوتر كان يمتلكه في شارع البدوي في حي الشاغور العريق، وبعد أربع سنوات من الثورة، قرر الهجرة لأوروبا عبر إسطنبول بسبب تردي الأوضاع المعيشية والأمنية في البلاد. كانت إسطنبول قد تحولت خلال فترة 2015/2017 تقريبا إلى ممر أساسي لتهريب اللاجئين، حيث كان يمكن العثور في حي إكسراي على محلات لبيع مستلزمات العوم والهرب في البحار، وعلى مئات اللاجئين ممن ينتظرون مهرّبا كي يقلهم عبر الحدود اليونانية إلى أوروبا. وقد تمكن أبو عمر من العبور إلى اليونان، ولاحقا هولندا، وهناك مكث لعدة أشهر في الكامب، ثم انتقل للعيش في أحد المدن الهولندية. قرر أبو عمر في هولندا العمل في مهنة غير رسمية، فالحياة داخل الكامب بدت له مملة، والالتحاق بالعمل يحتاج إلى عدد من الشروط، ما جعله يشعر أحيانا بتوقف الحياة، وفي إحدى المرات، كما يذكر لنا، اقترح على أحد أصدقائه بيع أكلة القشة عبر صفحة على فيسبوك. وهنا بدأت علاقته مع هذا الطبق، الذي سيلعب دورا في تحويله إلى نجم مشهور بعدها بسنوات. اللافت أن هذه الأكلة الشعبية لم يتعلمها لدى شيف مختص، أو في سوق شعبي في دمشق، وإنما في مطبخ والدته، فالرجل الدمشقي/ المديني، كما يؤكد، يبقى حشريا على صعيد الطبخ وتعلم فنونه، كما لعبت مقاطع يوتيوب، التي غدا أبو عمر مولعاً بها، دورا في صقل مهاراته. وفي ظل شعوره بعدم الجدوى من البقاء في هولندا، وخلافا لحركة الهجرة السورية نحو أوروبا، قرر أخذ طريق العودة في نهاية 2016، لكن هذه المرة ليس لدمشق، بل لإسطنبول، التي بدت أكثر غراء له على صعيد إكمال مشروعه في طبخ القشة السورية.
البيت الدمشقي في إسطنبول… العبور للماضي
عندما وصل إلى إسطنبول، استأجر أبو عمر محلاً في شارع الأمنيات (حي الفاتح) لكن صغر المحل ووجوده في مكان لا يطل على الشارع مباشرة، لم يتيحا له الشهرة الكافية. وبعد سنة تقريبا من هذا العمل، انتقل بمطعمه إلى أحد الشوارع المجاورة لجامع الفاتح، وخلافا للمطعم الصغير الأول، حمل المكان الجديد لغة ورائحة أخرى. أول ما يلفت النظر عند زيارته هي هندسة المطعم، فقد اختار الطباخ، الذي أشرف بنفسه على تجهيز مطعمه، أن يبدو قريبا في شكله من البيوت الشامية التقليدية، كما نعثر داخل المكان الجديد على مقاعد خشبية، وزخرفات شرقية بسيطة، ونحاسيات وضعت على الجدران، وصورة لبيت الوالي في دمشق، الذي تعود نشأته الى القرن الثامن عشر، وقد تحول في العقدين الأخيرين إلى فندق سياحي. تتعمّق رائحة المكان لدى الزائر، مع العثور على نوفرة في وسطه، وعلى قواعد خشبية للسقف قريبة من القواعد التي نراها في شوارع دمشق القديمة.
يقول أبو عمر إنّ سبب اختياره لهذا الديكور التقليدي مرتبط بفكرة البيت الدمشقي التقليدي والحنين إلى أجوائه وشكله، ولاسيما النوفرة. كما يوحي كلامه، حول نشأته في أحد الأحياء التقليدية في دمشق، بوجود إرث ثقافي حاول هذا الطباخ نقله معه للخارج. لكن هذا الاستنتاج سرعان ما يتراجع مع ما يذكره لاحقاً من أنه لم يعش في بيت دمشقي قديم، وإنما انتقل وهو صغير، بعد بيع منزل جده الكبير، إلى حي الزاهرة، الذي يعدّ امتداداً لحي الميدان التقليدي، وهو حي كان قبل خمسينيات القرن العشرين عبارة عن بساتين فواكه وخضروات قبل أن يشهد مع وسط الستينيات انتقال عدد من العائلات الميدانية وبعض العائلات الدمشقية الأخرى للاستقرار والبناء فيه. ومع الاستمرار في الحديث تنكشف بعض الخيوط الأولى عن مصدر هذا المخيال المعماري إن صحّ التعبير، إذ يؤكد أنه في فترة شبابه كان مولعاً بمتابعة مسلسلات البيئة الشامية، التي أخذت تُنتَج بعد التسعينيات، لتصل لذروتها مع إنتاج مسلسل «باب الحارة» الشهير، وربما ليس هو الوحيد الذي أبدى تأثراً به، فقد ترافق بث «باب الحارة» بموجة شعبية من المشاهدة والتفاعل مع أبطاله والأجواء الاجتماعية التقليدية داخل الحارة، وبالأخص لدى جيل الثمانينيات والتسعينيات. كما يبين أن هذا الولع بالبيئة التراثية للمسلسلات طالما دفعه إلى التردد على مطاعم دمشق القديمة في حي باب توما مثل بيت جبري، لرؤية نوفرته الكبيرة، الذي تحوّل أيضا من بيت تقليدي إلى مشروع استثماري. وربما يختصر أبو عمر هذا التأثر بالدراما بما ذكره لنا خلال إحدى حواراتنا: «سبب حبي لمسلسل باب الحارة هو أنه أمدني بأجواء تراثية».
القرية الشامية
كان الإثنوغرافي الفرنسي أريك دينيس في سياق قراءته للقاهرة بين آثار الماضي وإعادة التأسيس الليبرالي قد لاحظ أنّ إعادة إحياء روائع الماضي لا يقف عند حدود رسم صور عن المدينة، أو أحياء أبنيتها فقط، بل يشمل أيضاً الاستخدامات الاجتماعية للأبنية ولإطارها القديم أيضاً، عبر جعل التراث والتاريخ حاضرين في المدن. والشيء ذاته حدث في سوريا بعيد مسلسل «باب الحارة» فقد تزايد الاهتمام ببناء مطاعم شبيهة بالماضي، مثل القرية الشامية على طريق المطار في دمشق. وهذا ينطبق على أبو عمر، الذي لن يكتفي بمجرد الولع بمسلسل «باب الحارة» بل سيعمل على نقل أجوائه إلى مطعمه، لنشهد وجود عالم باب الحارة في إسطنبول وإعادة إحياء لشخصية أبو نجيب المشهورة في مسلسل «زمن البرغوت» ( مسلسل شامي). وربما ما يدعم هذا الاستنتاج، هو لسان المكان، واستخدامه طريقة نداء الباعة في دمشق الماضي؛ فقد كان هذا الطباخ من أوائل الذين حاولوا جلب الزبون من خلال مقاطع الفيديو المصورة على وسائل التواصل الاجتماعي، إذ يقوم بتقمص دور «أبو غالب» أحد أبطال الأجزاء الأولى من «باب الحارة» والذي يعمل في بيع الحمص وينادي على زبائنه من خلال ذكر طقطوقات شعبية، وقد كانت هذه النداءات، خلال النصف الأول من القرن العشرين، تمثل شارة لسانية للتعرف على ما يبيعه أصحاب المحل، كما كانت توظّفُ أحيانا كغزل مبطن لفتاة جميلة، أو لإهانة شخص غير محبوب يمر أمام البائع، وفق ما يذهب لذلك قتيبة الشهابي في كتابه «نداءات الباعة في دمشق الفيحاء» لكن يمكن القول أنّ هذه النداءات اختفت تدريجيا في سوريا، وبقيت مقتصرة على بعض الأسواق القديمة، وبأشكال أخرى أيضا، قبل أن يُعاد إحياؤها مرة أخرى من خلال شخصية أبو غالب في المسلسل، كما ذكرنا. لكن رغم هذا التقليد لباعة الماضي، فإنّ ما يلفت النظر في نداءات أبو عمر إضافته لبعض التعديلات، من خلال وضع مؤثرات موسيقية تراثية للنداء بالشكل الذي يساهم في تعميق الأجواء الدرامية والتراثية، وبالتالي زيادة فرصة جذب الزبائن، ولعل هذا التعديل الذي يجريه على التقاليد، يدعم فكرة أنّ التقليد لا يعني بالضرورة الجمود، بل هو عملية تشهد تعديلات عديدة عبر الزمن.
والمُلاحظُ أيضاً في تأثر واستفادة أبو عمر من الدراما الشامية، أنه ليس الوحيد الذي يعيش هذه الحالة داخل حي الفاتح في إسطنبول، فالكثير من المطاعم السورية باتت تفعل ذلك، مثل مطعم بوز الجدي لبيع الفول والفلافل، الذي يقوم أيضاَ على مدار اليوم بعرض مسلسلات شامية مثل «ليالي الصالحية» ما يضفي أجواء تراثية على مشهد تناول الطعام، بالإضافة إلى ارتداء العاملين فيه لباسا مشابها للباس المسلسلات الشامية القديمة. واللافت أنّ سياسات الحنين هذه لم تعد تقتصر على السوريين حسب، بل نرى أن نمط التأثر بصور الماضي واستثماره بات يشمل أقساما كبيرة من مدينة إسطنبول ومطاعمها خلال السنوات الأخيرة؛ مثل محل عارف أوغلو ولباس وطرابيش شغيلته العثمانية، فبعد سياسة اللبرلة التي عرفتها البلاد مع قدوم حزب العدالة والتنمية، بيّن بعض الباحثين الأتراك أنّ عمليات إعادة الترميم التي عرفها مركز المدينة التاريخي في السنوات الأخيرة لم يكن الهدف منها الحفاظ على الماضي، بل خلق فرص استثمارية وسياحية.
لا يعني هذا الكلام أنّ أبو عمر هو جزء من سياسات الحنين وإحياء الماضي الرسمية التركية، بل هو أحد مستهلكي/أو صناع هذه السياسة السائدة في دول المنطقة من القاهرة إلى إسطنبول. فهو يحاول استثمار التراث لغايات التسويق وجلب زبائنه من اللاجئين السوريين، والذين أخذوا بالمقابل يندفعون بوتيرة أكبر نحو أماكن شبيهة بالماضي والأماكن السورية القديمة في ظل الشعور بالغربة وانهيار الذاكرة الاجتماعية جراء الحرب، ولذلك نراهم يقبلون على مطعمه تحديداً لتناول هذه الوجبة، وليشاركوه أيضا في لعبة الذاكرة
والماضي المتخيل (الدرامي) المعاد صنعه داخل إسطنبول.
كاتب سوري
القدس العربي
———————————
رسائل المذاق: طباخون سوريون وعالم بوراك التركي
محمد تركي الربيعو
في مقال سابق لنا بعنوان «طباخ الحنين» حاولنا تسليط الضوء على سياسات وفنون الحنين التي بات يتبعها بعض الطباخين والمطاعم السورية في إسطنبول، لجلب الزبائن من ناحية، وأيضا في سياق محاولة هؤلاء الفاعلين التعبير عما يرونه هوية سورية في بلد اللجوء. لكن مقابل الانخراط في إعادة خلق الهوية، يبدو أن عالم الطباخين السوريين (اللاجئين) لم يلعب دورا حسب على صعيد الحشد الهوياتي، أو نشر ثقافات ذوقية جديدة داخل إسطنبول، بل نرى أيضا تأثرا بعالم المذاق التركي وفنونه في تقديم الطعام، ولذلك يشكل عالم الطعام اليوم فرصة للنظر في علاقة اللاجئين السوريين بثقافة البلدان المضيفة، ومدى تأثرهم بهذه الثقافة، وهو ما سنحاول تتبعه من خلال مطعم مطبخ أبو عمر (صاحب البيت الدمشقي في إسطنبول) الذي عرف في السنوات السابقة بإعداده لطبق القشة التقليدي (أمعاء الخروف).
فن إعداد القشة
في كتابها «فن الطهو والأنثروبولوجيا» ناقشت الأنثربولوجية جوي أدابون فكرة الطهي أو الطعام، بوصفه شكلا من أشكال الفن، وبوصفه منظومة من الأفعال، تهدف إلى تغيير العالم. وفي حالة أبو عمر، نجد أنّ ما جعلَ هذا الطباخ ناجحا ومتفوقا على أقرانه من الطباخين السوريين، في عالم إعداد القشة، هو تحويله عمله إلى فن، مرة بتغيير شكل مكونات الطبق من خلال إضافة المكسرات، ومرة أخرى بتحويل الطبخ إلى نشاط مرئي.
فعلى صعيد مكونات القشة، نلاحظ أننا أمام عملية إعادة انتاج التقليد، أو المحلية مرة أخرى، فهو يعيد الوصفة التقليدية، مع إضافة ما يستطيع التقاطه من وسائل الإعلام، ويبدو أنّ هذا النوع من المعرفة والمهارات اللازمة لإعادة إنتاج مثل ذلك التقليد، هو شيء أخذ ينمو معه ويكتسبه من خلال الخبرة اليومية في المطعم، ما يدعم فكرة أن عادات وتقاليد الطبخ هي ممارسات حية وديناميكية وقابلة للتكيف والتعديل إلى ما لا نهاية. غالباً ما يختتم أبو عمر الأطباق التي يعدّها، كما يظهر من خلال مقاطعه على يوتيوب، برشّ كمية من المكسّرات على وجهها، وهو ما يذكرنا بطريقة تقديم بعض المحلات التركية لوجبات المشاوي بالأخص، عبر وضع كميات مبالغ بها من الفستق الحلبي.
يقول أبو عمر، عن إضافته للمكسرات على وجبة القشة، التي تبدو غريبة وبعيدة عن طريقة تقديمها المعتادة داخل سوريا، إنه ليس هناك من أضاف المكسرات لهذه الأكلة سابقا. وهذا ما تؤكده فعلاً بعض كتب تاريخ الطعام مثل، الملحق الصغير «معجم الأكلات الشامية» الذي ألّفه السياسي السوري فخري البارودي في الخمسينيات، وهو ملحق بات يحمل اليوم مهمة «الإنقاذ الإثنوغرافي» لعادات الطعام لدى السوريين في ذاك الزمن. ويبين البارودي في هذه الوثيقة أنّ أكلة القبوات (أو القشة) تُعدُّ كالتالي «تنظف الأمعاء جيدا ثم تُحشى باللحم والرز والعصفر، ويمكن إضافة قليل من الصنوبر، ثم يغمر ويترك بالماء ويترك على النار حتى ينضج» ليُقدّم لاحقا ساخناً، مع إضافة قليل من الليمون عليها حسب طلب كل شخص. قد تشبه هذه الوصفة أيضا طريقة إعداد الطبخة ذاتها في تركيا، «İşkembe» التي تُقدّمُ أيضا بشكل بسيط، دون مكسرات أو حبات من الرمان. ويذهب أبو عمر إلى أن ما دفعه لهذه الإضافة، أنّ المكسرات تضفي جمالية فنية على صورة الطبق، أو «تجعل الطبق يرقص» وفق تعبيره، كما يؤكد أنّ تقديمه للطبخ، سواء عبر يوتيوب أو داخل المطعم يقوم على قاعدتين، الأولى طريقة استقبال الزبون، وهذا ما نراه من خلال اعتماده طقوسا ولغة باب الحارة الدرامية، ثم تأتي طريقة تقديم الطبق بشكل فني.
ولن يقتصر أبو عمر في سياق تزيين طبخاته على رشّ المكسرات، بل سيقوم خلال التعريف بها أيضاً بأداء أدوار تمثيلية، إما من خلال استضافة بعض الأشخاص لتأدية مقاطع تتحدث عن إعداد طبق شامي تقليدي، أو من خلال جلب شخصية تعمل على تقليد دور شخصية أبو غالب الشهير، التي أداها الممثل السوري نزار أبوحجر. والطريف أيضاً اعتماده على فكرة المونولوج الدرامي، لكنه هنا يعيد توظيفها ويجري تعديلاً على فكرتها لتتلاءم مع أفكاره في التسويق وتقديم طبخاته. فالمونولوج عادة ما يأتي في سياق تراجيدي، أو جاد عبر حديث الذات مع نفسها، بينما يقوم أبو عمر برفقة مصور المقاطع بتعديلها لتغدو فكاهية، فتتمثل الذات الأخرى في المقاطع مرة بشخصية زعيم مسلسل باب الحارة «أبو شهاب» وأحيانا بشخصية أخرى ذات ملامح دمشقية قديمة. وعند سؤاله عن كيفية تعرفه على هذا الأسلوب في التصوير، يبين أبو عمر أنه اكتسب هذه الخبرة الفنية من خلال مقاطع يوتيوب، الذي غدا المصدر الشعبي الأوسع للمعلومات في السنوات الأخيرة. كما يبرر ما يفعله بما يسميه «التجريب» وربما تدعم هذه المقولة فكرةَ أدابون حول الفن والطعام، فالفن في نهاية المطاف هو تجريب، وبالتالي يمكن القول إنّ ما يفعله هذا الطباخ السوري هو جزء من فن تقديم طبخاته، أو التعريف بها عبر يوتيوب، وهو أسلوب لم يكن يراه السوريون في السابق داخل دمشق أو حلب مثلا، وإنما بات جزءا من حياة المطاعم السورية في إسطنبول ، كما أنه لم يُعدّ أمراً ثانوياً اليوم، بل غدا شيئاً أساسياً في عالم الطبخ والمطاعم، ولاسيما في السنوات الأخيرة مع انفجار عالم الصورة والسوشيال ميديا.
مسرحيات بوراك
لكن في مقابل الاستنتاج الذي يرى أبو عمر المتأثر بالسوشيال ميديا ومقاطعها، ومحاولته توظيف أدوات هذا العالم في طريقة عرضه لطبخاته، تبدو هذه الصورة غير كافية لفهم هذا الأسلوب، بوصفه وليد التطور الرقمي والتأثر به حسب، خاصة أن هذا الاستنتاج الذي يولي للعالمي الدور الأبرز في التأثير، ينفي في المقابل تأثير البيئة المحلية التي يوجد فيها الفاعل (الطباخ أبو عمر) وهي في حالتنا تتمثل في عشرات، إن لم نقل مئات مقاطع الطعام التي تروج للطعام التركي في إسطنبول، حيث يقيم الطباخ.
لا ينفي أبو عمر تأثره قليلاً، في طريقة تعريفه بوجباته، بالشيف التركي بوراك، الذي بات يحظى في السنوات الأخيرة بمتابعة الملايين، كما غدا مطعم المدينة وفروعه في حيي اكسراي وتقسيم ي اسطنبول، أو مطاعمه الأخرى في دبي والدوحة، محل زيارة من قبل نجوم السينما ولاعبي كرة القدم، كما عرف هذا الشيف بدوره في بعض الحملات السياسية للحكومة التركية، داخل البلاد وخارجها، ومع مرور الأيام غدا شخصية عابرة للمحلية، وجزءا من أدوات تركيا الذوقية/ الناعمة في الإقليم. والطريف في مقاطع أبو عمر الأولى، أنه يبدو أحيانا وكأنه يتقمص شخصية بوراك، وهو مشهد سيتعمق مؤخرا مع افتتاح أبو عمر لمطعمه الجديد قبل عدة أشهر، إذ سيظهر في مقاطع الفيديو الجديدة ومن خلفه الفرن، الذي عادة ما ميز مقاطع بوراك وغالبية الطباخين الأتراك. وفي هذا المشهد نرى الطباخ السوري وهو يحاكي مشاهد بوراك على صعيد إعداد الخروف بالفرن. مع ذلك يبقى ما يميز بوراك هو الصمت مقابل الصوت الجهوري.. فالشيف بوراك يعتمد الإيقاع السريع ولا يتكلّم إلا في ما ندر، بينما يُعدُّ الكلام «الشامي الدرامي» (الممطوط / إطالة الوقت في لفظ الكلمات) والإيقاع البطيء جزءا من عالم مطبخ أبو عمر.
وعلى الرغم من اعتراف الطباخ السوري بدور بوراك، إلا أنه يعود في حديثنا معه ليؤكد في المقابل أن الأخير يفتقد للذوق العربي، وأنّه يبقى لباب الحارة النصيب الأكبر من التأثير في أسلوبه وطريقة تقديمه، ثم يعود خلال حديثه ليؤكد مرة أخرى أن اهتمامه ببوراك يأتي في سياق متابعته لكل ما يُنشر من مقاطع فيديو حول الطعام عبر يوتيوب، سواء أكانت تركية أو هندية أو عربية. هذا التردد، أو الحيرة بين الاعتراف ونفي التأثر بالوسيط الثقافي التركي (الشيف بوراك في حالتنا) قد يبدو مفهوماً. تلاحظ عالم الاجتماع ساسكيا ساسن، أنه في الغالب، يميل صنّاع التراث إلى إهمال أي دور من أدوار التوسّط في صناعاتهم، وهذا ما حاول طباخنا، صانع القشة التراثية، فعله من خلال التأكيد على أن تأثير «باب الحارة» (أو التراث كما يتخيله/ المحلي السوري) فيه كان أكبر من أي شيء آخر، ومن ثم يصبح الاعتراف بالثقافةِ الفنية لبوراك أمراً طبيعياً أكثر من الاعتراف به على أنه نوع خاص من الثقافة الوسيطة. وبغض النظر عن مدى التأثر بالمشهد البوراكي، وطريقة اعتراف صانع القشة التراث بذلك، فإنّ ما تكشفه مقاطع أبو عمر هنا نقطتين مهمتين: الأولى هو أنّ الفضاءات الرقمية التي ظهر على مسرحها هذا الطباخ، لا تقف خارج الاجتماعي، وإنما تتشكّل من عناصر تاريخية وعناصر أخرى تتعلق بموضوع الرحيل والتأثر بالأنماط الثقافية في بلدان اللجوء، من خلال الخبرة المعاشة، وبالتالي فإنّ عملية الرقمنة في هذا الصدد، تبدو في الغالب منقوشة بثقافة المحلي.
لذلك نلاحظ في فيديوهاته، وبالأخص في طريقة تمثيله خارج المطعم، كما حين يقوم بتصوير مقاطع من الريف أنه يبدي تأثراً كبيراً بأحد مقاطع بوراك، يضاف إلى ذلك أنّ مخيال المخرج الشاب الذي يرافقه في التصوير، بدا لنا متأثراً بالبيئة وطرق التعريف بالسياحة والثقافة التركية، فهو كما يذكر يعمل في الأيام العادية في تصوير بعض الفيديوهات لصالح مطاعم وشركات سياحية تركية، ولذلك نجده متأثرا أيضاً بأسلوب الترويج التركي للسياحة والثقافة والطعام، ومن الأشياء الطريفة هنا أن هذا المصور يبدو ملاحظا لموضوع تأثر أبو عمر ببورك التركي، فيحاول اعتبار الأمر شيئا طبيعيا، من خلال القول «إن هناك شبها بين بوراك ذي الملامح التركية وأبو عمر بملامحه الشرقية» على الرغم من أي مقارنة بين الطباخين تظهر خلاف ذلك. لكن في كلامه ما يظهر إلغاء الوسيط ( الثقافة التركية/ بوراك) سواء عن قصد، أو عن لا وعي، لصالح القول إن الأسلوب في عرض الأطباق والتعريف بها هو أسلوب عالمي ناجم عن متابعة السوشيال ميديا فقط، وليس تأثرا بالفنون التركية في عرض الطعام سواء في المطاعم، أو عبر السوشيال ميديا.
أما النقطة الثانية، فإنّ ما يدعم فكرة تأثّر أسلوب تقديم أبو عمر للطبخ ببعض أساليب الطباخين الأتراك، هو أنّ هذا التأثّر لا يقتصر على أبو عمر حسب، بل بتنا نراه على صعيد تقديم أطباق الحلو في بعض المحلات السورية، كوضع فنجان صغير من الماء، أو إجراء تعديلات على بعض الصحون مثل إضافة البوظة للنابلسية، في تقليد لسلسلة مادو التركية الشهيرة Mado، وغيرها من التعديلات. وربما نسمعُ عن هذا التأثّر الذوقي أحيانا عند الاستماع لحديث بين سوريين في تركيا مع سوريين في الداخل أو في أوروبا، إذ يعيدون تكرار فكرة أنّ ذوقكم المقيمين في إسطنبول بات تركياً، بمعنى أنّ هناك تأثرا بالنمط الثقافي التركي على صعيد بعض الممارسات اليومية، مثل شكل الشوارب واللحى، وبعض فنون تقديم الطعام، وقصص كثيرة أخرى.
كاتب سوري