“الزند-ذئب العاصي”: عن تلك “القاف” التي نحذر منها/ عمّار المأمون
هذا المقال ليس بحثاً في أصول اللهجات وتنوّعها في سوريا، ولا مقاربة ألسنية لها، ذاك مبحث، لا باع لنا فيه. يمكن القول، هو أشبه بملاحظات على اللهجات السوريّة في السياقات العامة والترفيهيّة، الشأن الذي لن يخلو من تعميم، وسهو، وأحياناً مغالطات.
“عاصي الزند مو جايي ليحاربكن. جايي وبده القصاص، القصاص من واحد بس”.
جملة سُمعت في الفيديو الترويجي الأول لمسلسل “الزند” على لسان الممثل تيم حسن، تبدو فيها لهجته مستمدّة من بيئة سورية محلية تحمل “القاف” المشددة عنواناً لهويتها. والحذر واللغط هما بالضبط ما تثيره “القاف”، التي نتنبّه عند الحديث عنها، وتُلصق بطائفة أو مكان جغرافيّ محدد، هكذا جزافاً في بعض الأحيان.
صحيح أن هناك من “يمتلكها” وينطقها من دون اعتبار لدورها، لكنها في الوقت ذاته، تكشف في تنويعاتها ، غياباً وحضوراً، انتماء لا يمكن إنكاره. انتماء يُدركه الفضولي إن سأل، والعارف إن استمع. في حين يكتفي البعض ويقول بسذاجة/جهل/ خوف، هي قاف “العلويّة”، من دون أي اعتبار لحقيقة أن “قاف” الساحل لسان الكثير من الطوائف، وأن منشأها جغرافي لا طائفي.
لا تكفي التوطئة والحذر في الحديث عن “القاف”، هناك اتهام يلاحق من يكتب عنها أو يحاول رصد تحركاتها، بأنه الوحيد الذي “يلاحظها” ويشكل وجودها، وكلامه ليس إلا انتصاراً للسيادة الصوتيّة لتلك الفئة التي تخففّ “القاف” إلى “ألف”، متعاليةً على كل اللهجات، في “قافها” و”كافها” و”شينها”.
لا يُخفى على أحد أن “القاف” الساحليّة في سوريا ضمن السياقات العامة، تثير الرعب حين سماعها من شخص لا نعرفه، رغم أن رأس السلطة ، الأسد الأب والابن، لا يتحدثان بها، لكنها ارتبطت بالهرم السلطويّ، بصورة أدق، كل من ينطق القاف الساحليّة، يُفترض أنه “علويّ” وذو سلطة، ولو كان عكس ذلك تماماً، فالقاف إن رنّت، أرعبت من لا يعلم، إلى حين اكتشاف صاحبها وموقعه من هرم العلاقات الاجتماعيّة والسلطة.
تحولت “القاف” إلى سلاح رمزيّ لدى البعض، يتم انتحالها وإيقاع الجملة التي تحتويها، لجاه ما أو سلطة ما، وإن كانت هشة أو وهميّة. لكنْ لها أثر أوليّ، ولا نقصد قاف الجنوب أو الشرق، بل قاف الساحل حصراً، ذلك الذي يهزأ سكانه من المنتحلين ومن “سوء تقليدهم” لها. بل إن البعض، رادار للهجات، يرصد لا فقط الطائفة والانتماء، بل درجة العلاقة مع السلطة، للقاف إذاً فقهاؤها وأزلامها، يُمكن القول إن “القاف” فاتحة لتساؤلات، سياسيّة لا فقط ثقافيّة.
نستعيد “القاف” هنا بحذر ضمن المسلسلات، إذ لسنوات طويلة، كانت تظهر، أي “القاف”، في سياق الكوميديا، والتمثيل الكاريكاتوري لرجل الأمن كما في مسلسل “أيام الولدنة-2006” على لسان الممثل باسم ياخور، لا على لسان رئيس فرع المخابرات الذي يؤدي دوره دريد لحام. علماً أن لحام نفسه حين تنكر بزي رجل شرطة في مسلسل “الأصدقاء-1998″، مُنتحلاً سلطة لا يمتلكها، تبنى “قاف” الجنوب السوري ولهجته.
بلغت “القاف” شكلها الكاريكاتوري الأشد في مسلسل “ضيعة ضايعة” بجزئيه (2008-2010)، اللذين يرسمان مُتخيلاً كوميدياً عن سكان قرية ساحليّة في سوريا. نال جماهيرية كبيرة ولعبت اللهجة دوراً في انتشاره، الشكل الكاريكاتوري نفسه ظهر لاحقاً مع مسلسل “خربة-2011″، لكن القاف هذه المرة من الجنوب، لا الساحل.
حصر “اللهجة” بسياق الدفاع عن الانتماء المحليّ والمناطقي، يُخفي ما تحمله، كأي لهجة في أي مكان في العالم، من دور هوياتي وعلامة على الانتماء، هي جزء من مجموعة علامات، ذات تاريخ لغوي وثقافي، وهذا ما نراه في “الزند – ذئب العاصي”
نادرة هي الحالات التي تظهر فيها “القاف” خارج السياق الكوميديّ الخاص برجل الأمن، أي شخصيات جديّة تتحدث بلهجاتها المحليّة، من دون مبالغات كاريكاتوريّة، إذ لطالما سادت اللهجة البيضاء في المسلسلات السوريّة، واستخدمت اللهجات الأخرى للإضحاك، كالحمصية (عيلة 5 نجوم- اسماعيل كمخا-1994) و الحلبيّة (باب الحارة- محمد خير الجراح)، باستثناء المسلسلات التاريخّة، التي تظهر فيها اللهجة كضرورة للمصداقيّة .
يمكن القول إن التغيير بدأ، أو ظهرت اللهجة في سياق واقعي في مسلسل “خريف العشاق-2021″ من إخراج جود سعيد، لكنها لم تُلاحظ بشدة، إذ اختلطت مع لهجات أخرى، يكشف كل منها عن موقف سياسي وانتماء أيديولجيّ، أي بصورة أو بأخرى، تبنت المخاوف التقليدية المتعلقة بـ”القاف” وانتماء أصحابها إلى السلطة، ولم يتردد صناع العملّ في استعراضها واللهجات الأخرى كجزء من نسيج اللهجات السوريّة، ومعانيها السياسيّة.
لم تشكل “القاف” إشكاليةً واضحةً إلا مع مسلسل “الزند – ذئب العاصي” الذي يُبث على منصة “شاهد” هذا العام، ولا نتحدث عن الإتقان أو التنويعات الجغرافية لناطقيها ودلالات الانتماء المرتبطة بها، بل استخدام اللهجة نفسها وما تحويه من تنويعات صوتيّة على “القاف”، بوصفها جزءاً من هوية البطل “الزند”، وتنويعاتها كدلالات على انتماء الشخصيات.
سيادة القاف دفعت البعض الى وصف المسلسل بـ”العلويّ”، واستعادة المظلوميّة العلويّة، وتبني سرديّة النظام، والسخرية من الثورة السوريّة، لأنه يقدم بطلاً يتحدث بالقاف، علماً أن المسلسل يصوّر تاريخ حوض نهر العاصي، ولا يوضح الطوائف، والأهم، لا علاقة له بالساحل، لكن “الرعب من القاف” هو الذي ساد، وصودرت اللهجات والمناطق كلها لصالح طائفة واحدة موجودة في مخيّلة المشاهدين.
الميوعة التاريخيّة في بعض أحداث المسلسل فتحت باب التأويلات، فبطله أي “الزند”، يقتبس من نيتشه، وتحولات البطل نفسه وتعدد الحكايات، وحضور القاف جعل “الاتهام” أسهل، علماً أن اطلاع سريع على التيتر النهائي للمسلسل، وكمية الشكر الموجهة إلى الدوائر الرسمية والوزارات والمحافظات في سوريا، يكشف ببساطة “علاقته” بالنظام القائم في سوريا.
إشكالية”القاف” في سوريا، تشابه إشكالية الطائفة العلويّة، والمعادلة التقليديّة حول استفادة النظام السوري من بعض أفراد هذه الطائفة لترسيخ حكمه، وما هو متداول في الأدبيات السياسية والاجتماعيّة حول علاقة أفراد من الطائفة مع السلطة، والتي حوّلت اللهجة إلى معادل رمزي للانتماء السلطويّ، لا المناطقي، الحالة التي لا يمكن تعميمها بدايةً على “الجميع”، أي جميع أبناء الطائفة، والأهم، لا تعني مصادرة “القاف” نفسها من طائفة واحدة وحرمان الباقين منها، أو وصمهم طائفياً أو سياسياً.
هنا نعود للحذر، هل نفسر المسلسل ونسقطه تاريخياً على “الآن” أم على “الماضي”؟كل قراءة تفترض تفسيراً محدداً للـ”قاف” والأهم، تفترض أيضاً علاقة مختلفة مع السلطة وباقي اللهجات في المسلسل، مثلاً، من هو الذي يتحدث من دون “قاف”؟ ما مكانته الاجتماعية؟ ما موضعه ضمن السلطة؟.
لكن، هل يمكن تجاهل ما تحمله اللهجات في سوريا من دلالات سياسية وطائفية واجتماعيّة؟ طبعاً لا، خصوصاً تلك التي ترنّ فيها “القاف” في أعلى الحلق وما تحيل إليه من انتماء طائفي وسياسي، تستخدم في سوريا كأداة للتخويف، وهذا ما نراه بوضوح في حكاية اليوتيوبر الذي أثار الجدل إثر خديعته للممثل السوري أيمن رضا وإيهامه بأنه ضابط في المخابرات الجويّة، عبر مكالمة هاتفيّة، استخدم فيها صوته فقط، ولهجة نحذر من الحديث عنها. وهذا بالضبط، ما نحاول قوله، للهجة في الحالة السوريّة دور في خلق الرعب، أي لا يهم من ينطقها، المهم الأثر الذي تتركه في المستمع، وفي حالة المسلسل، أي الترفيه والتخييل، اللهجة ذات معان سياسيّة غير واضحة في “الزند”، لكن لا يمكن تجاهلها.
يتضح دور اللهجة مثلاً في شهادات الكثير من المعتقلين، الذين تعرفوا على سجانيهم من “لهجاتهم” وأصواتهم. ونقرأ في كلام الشهود ضمن محاكمة أنور رسلان وإياد غريب، دور “اللهجة” في التعرف على المحقق أو الضابط.
نقرأ أيضاً عن العنصرية المرتبطة باللهجات، في كتاب” انس اسمك-مازن آل حمادة، مذكرات مختف” لـ غارانس لو كيزن، الذي يشير فيه “المُختفي” على يد النظام السوري، مازن آل حمادة، إلى العنف الذي تعرض له بسبب لهجته “الديرية” وأحياناً العنصرية من أقرانه.
حصر “اللهجة” بسياق الدفاع عن الانتماء المحليّ والمناطقي، يُخفي ما تحمله، كأي لهجة في أي مكان في العالم، من دور هوياتي وعلامة على الانتماء، هي جزء من مجموعة علامات، ذات تاريخ لغوي وثقافي، وهذا ما نراه في “الزند – ذئب العاصي”، تنويع اللهجات لا يخفى على أحد، ويكشف التوزع الجغرافي حول حوض العاصي في سوريا. في الوقت ذاته، هي دعوة لإعادة النظر في الكلام، ومعانيه، لا كما يشار إلى الاستسلام الكلّي لبراءة اللهجة، أي لهجة من دون أي انتماء، والتعامل معها بوصفها لا تتداخل مع أي قطاع آخر. ببساطة، لا براءة لكلام، ولا حرف، ولا حتّى هنّة.
يشير الباحث ماكس فايس في كتابه “جماليات الثورات – تاريخ ثقافي لحزب البعث السوري” الصادر حديثاً، الى أن المنتجات الثقافية في سوريا تلعب دور “الكلام باسم/ الكلام عن”، ويقصد هنا الخطاب الذي توجهه المنتجات الثقافية للشكل السياسي القائم وبلسان من “تنطق”. في “الزند” الكلام، باسم أو عن، يتضح من اللهجة، هي علامة على “توطين” الشخصيات، أمام اللعب بالأحداث التاريخيّة، كاسم فريدريك نيتشه الذي يتكرر مراراً في المسلسل، علماً أنه لم يكن معروفاً بعد. اللهجة إذاً، وهنا بالضبط نعود إلى الحذر، وكل “قاف” وتنويعات لفظها، تحكي تاريخ جماعة، وعلاقتها مع السلطة داخل المسلسل، وخارجه أيضاً، تحكي “باسم أو عن” جماعة ما، يُترك تأويلها للمشاهد، هذه المواربة مباحة في العمل الفنّي، لكن ما لا يباح، أن يُصادر حق التأويل من المشاهد، والأهم موقفه مما يـ”ـقـ”ـال.
الكلام باسم أو عن يعني أن المسلسل حامل لمجموعة أفكار، أو لنقل مفاهيم ظهرت على السطح، وأصبحت متداولة في الفضاء العام، المسلسل مسموح، وظهور “القاف” بهذا الشكل لافت للنظر إن قارناه بالأمثلة السابقة، وهنا السؤال، ما الذي يحاول المسلسل أن يـ”ـقـ”ـوله عن/ باسم السلطة في سوريا؟ ربما الحلقات الأخيرة قد توضح ذلك، وربما لا.
درج