امتدحْ الديكتاتور ولا تقترب من شارِبَيْه/ مالك داغستاني
عالمياً، يعرف كل المهتمين بالأدب والثقافة الروسية اليوم أسماء من مثل الشاعرة الروسية آنا أخماتوفا التي عاشت الحقبة السوفييتية، كما يعرفون ماياكوفسكي، وكذا الروائي والمسرحي ميخائيل بولغاكوف، والكاتب الساخر زوشينكو وأسماء عديدة أخرى. ولكن أحداً لم يعد يذكر أدباء البروباغاندا السوفييتية، الذين ارتضوا أن يكونوا مجرد أدباء سوفييت، ولم يحفلوا بالانتماء إلى كوكبة أسماء الكتاب الروس العظام أمثال تولوستوي وبوشكين ودوستويفسكي وتشيخوف وصولاً إلى مكسيم غوركي الذي رفض كتابة رواية عن سيرة الديكتاتور ستالين.
في كتاب “سوريا الجنرال أسد” المنشور عام 1991 لمؤلفه “إينياس دال” الذي اضطر لانتحال اسم غير حقيقي على غلاف كتابه، هو “دانييل لوكا” خوفاً من آلة القتل الأسدية. يتحدث الكاتب عن حادثة اختفاء الشاعر حسن الخيِّر بما يفيد أنه تم تدوال معلومة تؤكد بأن رفعت الأسد وزبانيته قتلوا أكثر من أربعمئة شخص بتغطيسهم في حمام من الأسيد في سجن المزّة. وكان من بينهم الشاعر حسن الخير، صديق الطفولة لحافظ الأسد. كان الخيّر قد اختفى بعد كتابته قصيدته الشهيرة ماذا أقول، ومطلعها: “ماذا أقول وقولُ الحقِّ يعقبه / جلد السياط وسجن مظلم رطبُ”. والتي وصف فيها الصراع المحتدم نهاية السبعينات بين سلطة الأسد وجماعة الإخوان المسلمين، بأنه صراعٌ بين عصابتين، والضحية هو المواطن السوري.
يتابع إينياس دال راوياً واقعة تدلل على البنية الإجرامية لدى الديكتاتور، الذي لا يكتفي بمصادرة الدولة، وإنما يتابع لجعل المواطنين رعايا، يمتلك الحق بالتحكم بحياتهم ومصائرهم: “بعد مدة وجيزة قامت أرملة الشاعر بطلب مقابلة رئيس الدولة، لتحدثه عن ظروف اختفاء زوجها. بعد أن أعلن الأسد الرئيس قناعته بأن الإخوان المسلمين قتلوه، أعلمها بأنها يمكن أن تعدّه بمنزلة أبٍ لأطفالها. استخفَّت الأرملة الشجاعة بهذا العرض، وأجابته بأنها لا تبحث عن أب لأطفالها وإنما تبحث ببساطة عن أبيهم، ثم أضافت بأنها مقتنعة بأن رفعت الأخ الأصغر لحافظ قام بتصفيته. غضب الأسد واستدار نحو أحد الحراس طالباً إليه طرد هذه المرأة إلى الخارج”.
“ما قرأته للتوّ ليس شعراً، إنه انتحار. انتبهْ، أنت لم تقرأ قصيدتك لي، وأنا لم أسمعها، وأرجو ألا تقرأها لأي شخص، كائناً من كان” هكذا علّق بوريس باسترناك، بعد فراغ الشاعر الروسي أوسيب ماندلستام من إلقاء قصيدته “جَبَلِّيّ الكريملين” وهي قصيدة لاذعة نظمها عام 1933 ضد ستالين. مما جاء فيها “يلوكُ مفردة الإعدام على لسانه مثلما يلوك حبة التوت، أصابعه الثقيلة دهنيّة كالديدان، كلماته قوية كالأوزان المصنوعة من الرصاص، أما شارباه فيتطاولان كشاربي الصرصار، عندما يضحك”. أجل كان الشاعر والروائي الروسي باسترناك صاحب رواية “الدكتور زيفاكو” والحائز على نوبل فيما بعد، خائفاً مما سمع.
رغم أن ماندلستام لم يدوّن قصيدته على الورق، واكتفى بتلاوتها شفاهاً في المجالس الخاصة لأصدقائه، إلا أن أحداً ما حفظها على ما يبدو، وأوصلها إلى القيادة السوفييتية. تم القبض على الشاعر ونال ما نال من التعذيب الجسدي والنفسي، وكان من المفترض أن يتم إعدامه في النهاية. لكن زوجته ناديجدا وصديقته الشاعرة أخماتوفا بدأتا حملة لإنقاذه، ونجحتا في خلق أجواء تستنكر إعدامه. في مؤتمر صحفي، حذّر السفير الليتواني في موسكو من أن النظام على وشك قتل شاعر معروف. لكن ما نجّى ماندلستام حقيقةً هو أن باسترناك ناشد البلشفي البارز نيكولاي بوخارين للتدخل، واستجاب الأخير وأرسل ملاحظة إلى ستالين، فتحولت عقوبته إلى النفي من موسكو لمدة ثلاث سنوات.
في تلك الفترة قاد ستالين حملة تصفيات طالت حتى رفاقه. كان بوخارين الذي أنقذ ماندلستام من الموت عضواً في اللجنة المركزية والمكتب السياسي للحزب، وشغل منصب رئيس تحرير جريدة “برافدا” وبعدها جريدة إزفستيا. ولكن ما إن اختلف مع ستالين حول سياساته، حتى أُعدم مع آخرين عام 1938. أما شاعرنا الذي بدأ يعاني من وضع صحي مضطرب، فقد أعيد القبض عليه بسبب تقرير من مخبر على سوية إداريّة عالية وانحطاط أخلاقي مريع، إنه فلاديمير ستافسكي رئيس الاتحاد العام للكتاب السوفييت.
خلال فترات طويلة كان ماندلستام قد مُنع من النشر، وعمل في وظائف مختلفة ليؤمن طعام أسرته. إضافة للترجمة، إحدى الوظائف التي عمل بها كانت صنع الأحذية. بدا دائماً وكأنه شاعراً طي الصمت، بينما كان الأدباء السوفييت يحظون بأفضل الفرص، ولذا لم يعرفه الجمهور الروسي كل تلك الفترات. في 27 كانون ثاني/ديسمبر 1938، قبل وقت قصير من عيد ميلاده الثامن والأربعين، توفي أوسيب ماندلستام في معسكر اعتقال شمال شرقي سيبيريا. كان سبب الوفاة قصور القلب وتصلب الشرايين حسب التقارير. دُفن الشاعر في مقبرة جماعية بعد أن ظلت جثتة مع جثث أخرى بدون دفن حتى حلول الربيع. كان يتم تجميع الجثث في “كومة الشتاء” كما كانت تدعى، وتضم من يموتون أيام تراكم الثلج ليُدفنوا بعد ذوبانه.
علمت زوجته بموته، حين أعيد إليها طرد من الألبسة كانت أرسلته له من أجل الشتاء. كُتب على الطرد “يعاد بسبب موت المستلم”، ولم تعرف مكان دفنه حتى وفاتها عام 1980. يعود الفضل بكل الشهرة العالمية التي سينالها أحد أفضل الشعراء الروس في القرن العشرين لزوجته. عاشت ناديجدا بقية حياتها وكأن مهمتها الوحيدة على الأرض حفظ وأرشفة قصائد وكتابات زوجها، وإخفاؤها عن عيون المخبرين ورجال الأمن، حتى تمكنت من تهريبها خارج البلاد، ليعرف العالم بعدها أن شاعراً روسياً عظيماً كان قد قتل في ظل الديكتاتورية.
إحدى مفارقات سيرة هذا الشاعر، أنه في عام 1935 كتب قصيدة قصيرة يسخر بها من نفسه سماها “شارع ماندلستام” جاء فيها: “شارع ماندلستام؟ ما هذا الاسم الأخير بحق الجحيم؟ يبدو معوجاً وليس مستقيماً/ عاش قليلاً من الخطايا، ولم يكن رائق المزاج/ يجب أن تدعى حفرة ما بهذا الاسم/ هكذا سيكون اسم الشارع، بالأحرى الحفرة/ هذا ماندلستام”. في موقع المعسكر حيث توفي، تمت تسمية شارع باسمه بعد إعادة الاعتبار إليه. في أيار/مايو 2012 سيظهر اسم شارع ماندلستام في وارسو مسقط رأس الشاعر، ويطلق على فعالية ضمن مشروع ثقافي أوروبي. عام 2016، تكريماً لذكرى مرور 125 عاماً على ميلاده ستقرر بلدية موسكو إطلاق اسمه على أحد شوارعها. لكن يبقى الأهم رمزياً، إطلاق اسمه على كوكب اكتشفه عالم الفلك الروسي نيكولاي تشيرنيخ عام 1977 ودعاه “ماندلستام 3461”.
اليوم يُحتفى باسم أوسيب ماندلستام وترجماته في مختلف بلدان العالم، كواحد من أعظم شعراء اللغة الروسية، وأكثرهم إلهاماً، مثل أخماتوفا وباسترناك ومارينا تسفيتيفا. ما يثبت أن الأدب الحقيقي والفن أكثر خلوداً من الديكتاتوريات. المؤكد أنه، وفي أي بلد عانى من الاستبداد، عندما سيدوِّن المؤرخون للأدب، فإنهم لن يوردوا أسماء أدباء وكتبة الأنظمة، من منتجي الأدب الدعائي الركيك الذي يمتدح الديكتاتور، إلا بصفتهم نكرات، حتى لو ترأسو اتحادات الكتاب وكانوا أعضاء في أهم الهيئات الرسمية. بينما سيُنصف التاريخ الأدبي، ولو متأخراً، الشعراء والكتاب والفنانين الذين تطاولوا على شارب الديكتاتور وكان مصيرهم إما التهميش أو العيش في المنافي أو السجون ومعسكرات الاعتقال.
تلفزيون سوريا