( انقسام العالم العربي لثلاث مجموعات )/ مروان المعشر*
عمقت جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية الأزمات الاقتصادية التي تواجه عددا من الدول العربية، في حين ساعدت الحرب الروسية الأوكرانية دولا أخرى خاصة دول الخليج. تبعا لذلك، تواجه الدول العربية المستوردة للنفط زيادات غير مسبوقة في أسعار الغذاء والطاقة، والبطالة والدين والتضخم، بينما تتحصل لدول الخليج احتياطيات نقدية هائلة، بسبب الارتفاع الآني لأسعار النفط. ويمكن القول إن الأزمات المتتالية التي مرت على المنطقة خلال العقد الماضي باتت تؤشر بوضوح إلى أن النظم السياسية والاقتصادية الحالية التي تسود المنطقة العربية بأكملها، لم تعد قابلة للاستمرار، أو بمعنى آخر، فإن السلطوية التي تمثل عماد النظم السياسية، والريعية التي تمثل عماد النظم الاقتصادية، باتت بحاجة لمراجعات جذرية حماية للسلم الأهلي وضمانة للاستقرار والازدهار المستقبلي.
وقد أدت المقاربات المختلفة التي اعتمدتها الدول العربية لمجابهة التحديات المتلاحقة إلى نشوء ثلاث مجموعات عربية اليوم، ليست مرتبطة بالجغرافيا، قدر ارتباطها بنوعية السياسات المتبعة اليوم في هذه الدول. يمكن تصنيف هذه المجموعات إلى ثلاث: الدول المزدهرة، والدول المكافحة، والدول الفاشلة. لا يكمن السؤال في هذه الدول، إن كانت تستطيع الحفاظ على النظام العربي القديم، فالجواب هو حتما لا، وإنما يكمن السؤال في طبيعة النظام العربي الجديد الذي تحاول هذه الدول الانتقال إليه.
بعد انخفاض أسعار النفط عام 2014، بدأ عدد من الدول الخليجية تدرك عدم جدوى الاستمرار بنظمها الاقتصادية الريعية، لمجابهة تحديات الحد من البطالة وخلق فرص عمل حقيقية، كما أن عائدات النفط لم تعد تستطيع مجاراة التضخم الذي طال القطاع العام في هذه الدول. بدأ العديد من الدول الخليجية بمحاولات جادة لتنويع اقتصادياتها بعيدا على الاعتماد الوحيد على النفط، كما أدخلت إصلاحات اقتصادية جادة في مجالات الضرائب، ورفع الدعم عن سلع عديدة وتحديث قوانين الاستثمار، خاصة في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر. وفي حالة السعودية، تم إدخال إصلاحات اجتماعية كبيرة في الفترة الأخيرة، كالسماح للنساء بقيادة السيارات ورفع العديد من القيود الاجتماعية على المواطنين والمواطنات، بينما سبقتها الإمارات العربية المتحدة إلى ذلك بعقود، كما اعتمدت هذه الدول مقاربات جديدة للمساعدات الخارجية التي تمنحها، فقد تم التخلي عن المساعدات التي تذهب لدعم خزينة الدول المستوردة للنفط إلى أخرى مشروطة بتبني تلك الدول إصلاحات اقتصادية، أو الإصرار على تملك حصص في الشركات التابعة لتلك الدول، أو التوقف عن دعم بعض الدول التي لا تشاطرها رؤى سياسية مشتركة، بما فيه الكفاية من وجهة نظرها. وبعد الارتفاع الأخير الذي طرأ على أسعار النفط، لم تعد هذه الدول لسياساتها الماضية بالنسبة لمساعداتها الخارجية، وإنما وجهت جل الواردات الإضافية التي تحققت من النفط لتطوير مشاريع داخلية. وقد قوبلت هذه الإصلاحات بالكثير من الإيجابية، خاصة لدى الجيل الجديد، ما سمح للأنظمة الحاكمة في هذه الدول بالاستمرار في التغاضي عن إصلاحات سياسية تعطي مواطنيها دورا أكبر في عملية صنع القرار، وتضمن اهتماما أكثر بموضوع حقوق الإنسان. وهناك شكوك أن تنجح هذه الإصلاحات وحدها في المدى البعيد، إذا تم الاستمرار في وضع القرار السياسي بيد فرد واحد، أو فئة محدودة، وإن لم يتم الابتعاد عن الزبائنية ولجم الفساد.
أما الفئة الثانية، المكافحة، فأغلب دولها تنتمي إلى الدول الفقيرة بالنفط والغنية بالعمالة، كالأردن ومصر وتونس كأمثلة. اعتمدت هذه الدول إلى حد كبير على مساعدات الدول النفطية وحوالات العاملين من مواطنيها في تلك الدول، وبالتالي كانت اقتصادياتها شبه ريعية أيضا. وقد طال التضخم في القطاع العام هذه الدول أيضا، إضافة إلى ترسيخ ثقافة الواسطة والمحسوبية على حساب الكفاءة والإنتاجية. وقد شهدت احتجاجات واسعة في بداية العقد الماضي حين لم تعد المساعدات وحوالات العاملين قادرة على مجاراة التوسع في القطاع العام، أو خلق فرص عمل حقيقية، ما أدى إلى تدهور قطاعات التعليم والصحة والنقل، بعد أن ذهبت معظم الإيرادات لتغطية النفقات الجارية، بدلا من تلك الرأسمالية التي تؤسس لمعدلات نمو عالية. تعاني هذه الدول اليوم من صعوبات اقتصادية جمة، خاصة مع التغيير الذي طرأ على نظم المساعدات الخارجية للدول النفطية، ما أضعف إلى حد كبير من اعتمادها على الأموال الخارجية لإدامة نظم اقتصادية، وكذلك سياسية مستدامة. وتشهد اليوم ارتفاعات خطيرة في أحجام البطالة والدين وأسعار الغذاء والطاقة.
وفي حين تدرك هذه الدول وصول نظمها الاقتصادية، إن لم أقل السياسية أيضا، إلى طريق مسدود، إلا أن نظمها السياسية لا تزال تقاوم الانتقال إلى نظم جديدة تعتمد الكفاءة أساسا، والتشاركية منهجا وسيادة القانون والمواطنة المتساوية إطارا، ولو بطريقة متدرجة، كون هذه النظم تعتقد أن من شأن ذلك تغيير القواعد الاجتماعية التي تعتمد على ولائها. وبينما يقترح الإصلاحيون في تلك الدول نموذجا عماده الانتقال إلى نظم تعتمد الكفاءة من شأنه تحسين الإنتاجية وتحفيز النمو وخلق فرص عمل حقيقية جديدة، وبالتالي زيادة القواعد الاجتماعية الموالية للأنظمة، فإن النخب السياسية والأمنية تعارض ذلك بشدة خوفا من خسارتها لامتيازاتها ونفوذها. وقد أدى هذا النقاش لمعارك فكرية بين الجانبين، بينما يتدهور الوضع الاقتصادي في هذه الدول يوما بعد يوم، ما لم تدرك النخب السياسية والأمنية أن الأدوات القديمة التي اعتمدت على السلطة الأمنية والموارد المالية الخارجية لإدامة السلم الأهلي قد ولت إلى غير رجعة.
نأتي إلى المجموعة الثالثة وهي مجموعة الدول الفاشلة، التي للأسف لم تتعامل مع التعددية الإثنية والدينية داخلها كمصدر قوة بدلا من سبب للانقسام. يمثل لبنان وسوريا وليبيا واليمن والسودان أبرز الأمثلة على تلك الدول. ففي لبنان، ترفض القوى السياسية فيه أي إصلاحات مهما كانت متواضعة لضمان سيطرتها السياسية واستحواذها على الموارد المالية، بغض النظر عن حجم التدهور الاقتصادي الذي وصل حافة الإفلاس. وفي سوريا استخدم النظام أقسى ما يمكن من قوة حتى يحافظ على الحكم وعلى امتيازاته. ولا تزال الحروب دائرة في ليبيا واليمن والسودان، تتدخل فيها دون شك دول خارجية، ولكن تعنت النخب السياسية في كل هذه الدول ورفضها الاتفاق على تفاهمات سياسية تخرج بلادها مما وصلت إليه من خراب، هو السبب الأول الذي أدى اليوم لاعتبارها دولا فاشلة من المجتمع الدولي، وليس التدخلات الخارجية التي أتت بسبب فشل هذه الدول داخليا. ما القاسم المشترك بين هذه الدول، المزدهرة كما المكافحة والفاشلة؟ رفضها كلها لاعتماد مقاربة كلية للإصلاح تشمل الإصلاحات السياسية كما الاقتصادية والاجتماعية. تحاول الدول العربية المزدهرة اليوم شراء الوقت عن طريق إصلاحات اقتصادية واجتماعية تستثني إدماج مواطنيها بصورة جدية في عملية صنع القرار. أما الدول المكافحة فتقوم بإصلاحات مجتزأة تعالج قدرا بسيطا من التحديات التي تواجهها، والتي لم تعد كافية لإخراجها من عنق الزجاجة. اما الدول الفاشلة، والرافضة لأي نوع من الإصلاحات والمنتظرة لمعجزة تأتي من الخارج لإنقاذها، فليس لها من سبيل للخلاص إن لم تأخذ قرارا بمساعدة نفسها بنفسها.
واقع الأمر في الدول العربية يشير إلى أن الإجراءات المجتزأة لم تعد قادرة على مواجهة التحديات المتلاحقة والمتزايدة التي تعصف بالمنطقة، وإن الإصلاح الجدي عليه معالجة كل التحديات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية في آن واحد وطبقا لخطة متدرجة وجدية في الوقت نفسه، خطة تتضمن إصلاحا حقيقيا للأنظمة التربوية التي تخرّج أجيالا اليوم لا تستطيع التعامل مع التغيرات المستمرة للحياة، وليست مؤهلة للإبداع والابتكار التي تشكل عناوين التقدم والازدهار. وبطبيعة الحال، فإن أي انتقال سلس لنظم تعتمد الكفاءة عوضا عن المحسوبية، لا بد أن يرافقه وجود شبكات أمان اجتماعي تتكفل بالفئات الاجتماعية الفقيرة، وإلا فإن السلم الأهلي سيتعرض للخطر. كما حان الوقت كي يلحق العالم العربي بباقي مناطق العالم ويعترف بالمساواة الكاملة للمرأة، وإعطائها حقوقها السياسية والتشريعية إن أريد حقا لمجتمعاتنا الازدهار المستدام. كما أن هناك حاجة ماسة للحوار الوطني بين مكونات المجتمع كافة، وبالأخص مع الأجهزة الأمنية التي تسيطر في الغالب على القرار السياسي والاقتصادي. فبغض النظر عن الدوافع وراء تمسك هذه الأجهزة بأدوات استنفدت لضمان السلم الأهلي، هناك حاجة للحوار معها، مع الإقرار بصعوبة ذلك، ومحاولة إقناعها أن تمسكها هذا ما عاد كافيا لضمان السلم الأهلي، أو لتحقيق الازدهار في مجتمعاتها. تواجه معظم الدول العربية اليوم، عدا الخليجية منها، وضعا صعبا للغاية. وفي حين أن التغلب على الصعاب الحالية ليس مستحيلا، إلا أنه يتطلب سياسات مختلفة ومقاربات كلية غير مجتزأة للإصلاح المنشود. لم تعد هذه المقاربات ترفا، ولم تكن يوما.
*نائب رئيس الدراسات في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، ووزير خارجية ونائب رئيس وزراء الأردن سابقا. وهو مؤلف كتاب “الصحوة العربية الثانية والمعركة من أجل التعددية”.