حسّان عبّاس… رحيل مبكّر عن سورية -مقالات وحوارات للفقيد، مقالات تناولت رحيله ملف من اعداد “صفحات سورية”
إلى حسان عباس: لقد آن آوان الحداد/ محمد العطار
هذا ليس بوحاً يا حسان، ولا رثاء. هذه شذرات من أحاديث ورسائل مؤجَّلة، كان صراعك مع المرض قد دفعني مراراً لأن أمتنع عن إرسالها لك في كل مرة هَمَمتُ بذلك. هذه كلمات غير منتظمة، لن تقرأها، ربما لهذا بالذات أُخرجها الآن للعلن.
ولأنها كلمات ابتلعتُها مراراً في الشهور الأخيرة، سيصعب عليّ ترتيبها، وسيستحيل إتمامها دفعة واحدة. هذه حكاية جيلَين يا حسان، جيلِك وجيلي. هذه حكاية مازلنا نحاول فهمها ولملمة أجزائها المبعثرة بوقع القمع والهزائم والانكسارات المتوالدة.
لكن من أين أبدأ؟ ربما من لقائنا الأول. كنتُ أنا في الثامنة عشرة، وأنت في الثالثة والأربعين. كان صيفَ العام 1998 حين زرتُك في بيتك في حي مشروع دمر بدمشق، رفقةَ صديق عمري أوس، لتعهد لي بمهمة ستغيّر حياتي تماماً: أن أُشرف على دروس ولديك يزن وآرام أثناء غيابكما اليومي عنهما، أنت وزوجتك زهرة، مساء كل يوم بسبب العمل. كان يزن في الصف الأول، وآرام في الرابع. كنتُ أنا على وشك الالتحاق بالسنة الأولى في قسم الأدب الإنكليزي بجامعة دمشق. الشاب الذي كنته في حينها كان تواقاً لخلع زي المدرسة الثانوية ودخول الجامعة. كان في حقيقة الأمر مازال طفلاً. أدركتَ أنت هذا، وقلته لي لاحقاً. قلت لي إن هذا ما جعلك تختارني لهذه المهمة، لأنك أردت صديقاً لآرام ويزن وليس أستاذاً خصوصياً. وهكذا كنا. لقد جعلتم مني جزءاً من عائلتكم. نشأت بيننا صلة قربى تقوم عُراها على الاختيار، لا الولادة والنسب. صلة قربى لن يفتتها شيء… حتى الموت. اليوم أعرف هذا بشكل قاطع.
ومنذ لقائنا الأول ذلك، ومكتبتك الكبيرة الوافرة بالكتب والمجلات والأفلام والتسجيلات الموسيقية باتت مكتبتي أيضاً. في ساعاتي الطويلة التي سأقضيها هناك، طوال السنوات الخمس اللاحقة، سأقرأ بنهم سأفتقده كلما كبرت، وكلما اعتقدت مزهواً بحُمق أني بتُّ أعرف أكثر. بين تلك المكتبة ومكتبة أسامة ووفاء، جيرانِكما في نفس البناء ووالدَيْ رفيقَي طفولتي أوس وملهم، قرأتُ كل شيء وقع تحت يديّ. من هيغل وماركس إلى فوكو ودريدا، ومن ثربانتس وغوته إلى توماس مان وويليام فوكنر. ما لم أفهمه حينها كان على الأغلب أكثر مما فهمته، لكني كنتُ كمن وقع على كنز ولا يريد التفريط بأي شيء منه.
بين هذين البيتين أيضاً سيتشكل وعيي السياسي، كما هو حال الكثير من الصبايا والشباب من أبناء جيلي. ففي البيتين الذين تفصل بينهما أمتار قليلة فقط، سأتعرف على فنانين وكتاب وسينمائيين وحقوقيين ومعتقلي رأي قضوا سنوات طويلة في سجون النظام السوري. البيتان أصبحا عالماً رحباً لا حدود لمعارفه ومفاجآته بالنسبة لي. في بيت وفاء وأسامة ومعك سنلتقي رياض الترك عقب خروجه من اعتقاله الطويل الأول في 1998. هناك سألتقي معك أيضاً للمرة الأولى برزان زيتونة، ولاحقاً بزوجها وائل حمادة. وستتولد صداقات أَدين لها بالكثير، كتلك التي جمعتني بياسين الحاج صالح وسميرة الخليل.
لكن أكثر ما أندم عليه وأنا أتذكر تلك الأيام حماقاتي المتكررة في نقاشاتي معك، وأنا أحاول أن أستعرض معارفي الهشة. كم كنتَ صبوراً حينها يا حسان، وكم أعانني صبرك ذاك فيما بعد لأفهم كيف تكون الممارسة الثقافية فعلاً مقاوماً، وكيف يمكن اجتراح هوامش هذه المقاومة في بلد يحكمه الخوف من العسكر والمخابرات. من بيان سألتَني إن كنتُ أرغبُ بتوزيعه في جامعة دمشق، لجمع التوقيعات عليه دعماً لرواية ممدوح عزام قصر المطر التي كانت تتعرض لهجمات تكفيرية من بعض مشايخ عقل الطائفة الدرزية؛ إلى طلبك مني المساعدة في تحضيرات «نشاط الجمعة الثقافي» في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى في دمشق، والتي كنتَ تُديرُ فيها حوارات لم تكن تتسع لها أية فضاءات أخرى في المدينة، إذ حرصتَ على إعطاء منبر لكتاب وموسيقيين وسينمائيين مستقلين لعرض أعمالهم.
ثم جاء انخراطك المحموم بربيع دمشق في عام 2000، الذي كان حُلماً أُجهِضَ سريعاً على كل حال. لن أنسى قط القلق والترقُّب على مُحَيّاك تلك الفترة التي أعقبت توقيعك على بيان «الـ99»، ثم عملك الدؤوب لتكريس نشاط «منتدى الحوار الثقافي» في مشروع دمر، وإشراكك لي ولصبايا وشباب آخرين في المنتدى تنظيماً وحضوراً ونقاشاً. هل تعلم كم كان هذا مُلهِماً وكبيراً لصبايا وشباب في أوائل العشرينات يا حسان؟ كم كنتَ كريماً معنا!
هل تذكر النادي السينمائي الأول الذي أطلقناه؟ لم نكن نملك حينها أي مقومات. بالطبع لا التراخيص والموافقات كانت ممكنة، ولا توافر أي فضاء يحتضن هكذا نشاط. فكان الجواب بسيطاً: بيت أسامة ووفاء مجدداً! كنتَ أنت مُرشِدنا مرة أخرى: مجموعة صبايا وشباب يتجمهرون في غرفة جلوس حول شاشة تلفزيون لمشاهدة أولى عروض النادي السينمائي الصغير. وقع اختيارك على فيلم راشومون لكيروساوا كي نفتتح أفلام النادي. كنتَ تمتلك نسخة وحيدة مع ترجمة فرنسية فقط. لم يكن أحد منا يُجيد الفرنسية بالطبع، ولم تكن تلك الأيام في سوريا لا أيام أنترنت ولا أفلام متوفرة على ديفيدي. فاخترعت أنت الحل كعادتك: ستُترجِم لنا الفيلم كدوبلاج مباشر. كان الأمر مَثارَ تهكم بيننا، لكننا وبعد عشر دقائق فقط كُنا غارقين في تحفة كيروساوا بالأبيض والأسود، وبصوتك البشوش يتولى الترجمة. مَن غيرُك يفعل ذلك يا حسان؟
هل تذكر من كان معنا ذلك اليوم؟ شادي، وملهم أيضاً.
شادي كان يكبرني بثلاثة أعوام، وكان حينها يصارع وحده كآبة شديدة أخفاها عنّا. كنتُ فقط أشعر بميله الشديد للانعزال، فأُصِرُّ عليه أن يأتي معي إلى جلسات مشابهة كالنادي السينمائي. شادي لم يتوقف عن الحديث عنك وعن راشومون لشهور عديدة تلت، بالمناسبة. لكنه بعد سنتين تقريباً سيعلن هزيمته في صراعه المديد مع الكآبة. سيمشي وحيداً في الليل في قلب دمشق، يصعد إلى بناء قبيح عالٍ كان ما يزال قيد الإنشاء، ويرمي بجسده ليتحرر من عبء لم نستطع قط مشاركته إياه. ستتصل أنت فيّ مباشرةً بعدما وصلك الخبر. لن تقول لي شيئاً على الهاتف سوى أنك تريد أن تراني بسرعة. استغربتُ إصرارك، الذي بدا لي مزعجاً قليلاً. عندما وصلت إليك، سألتني «كيفك بعد خبر شادي؟». تصنعتُ الصلابة، ولا شك أني بدوت وقحاً في إجابتي حين قلت «أحترم خياره». لن أنسى ما قلته لي حينها: «لا بأس إن حزنت أو حتى بكيت. لن ينتقص الأمر من رباطة جأشك بالمناسبة». أكملتُ أنا تهكمي ولم أبكِ طبعاً.
بعدها بسنوات قليلة سيتوقف قلب ملهم عن الخفقان وهو نائم، ابن أسامة ووفاء الأصغر؛ صديقي المقرّب وابن أصدقائك المقربين. ستعرف هذه المرة مني. كنتُ أحضن سمو وهي تبكي، وكنتَ أنت تتحضر صباحاً للذهاب إلى عملك قبل أن تشاهدنا في الشارع، لأخبرك برحيله وسمو ما زالت غارقة في البكاء. طلبتَ منا أن نصعد معك إلى منزلك، وفعلنا. جلستَ وحرصتَ على مواساة سمو، وكنت تلتفت إلي وأنت تدرك أني ما زلتُ تحت وقع الصدمة. مرة أخرى لم أبكِ. كان ذلك في وقت يموت فيه شباب سوريين لم يبلغوا الثلاثين بعدُ من الكمد في بلد كان يخنقهم باضطراد.
لم نكن نعرف حينها أن ثورة ستندلع بعد سنوات تتلوها مقتلة مفتوحة على كل أشكال الموت وصنوفه، ستحصد شباباً وأطفالاً وكهولاً، لدرجة أننا سنفقد القدرة على إحصاء وتذكُّر من رحلوا. لكن هناك أمراً واحداً تقريباً ثابرتُ عليه، وثابر عليه كل من حولي. لم أبكِ. لم نبكِ. لم أبكِ عمر عزيز حين وصلتْ أنباء موته في سجنه الأسدي، ولا بكيتَه أنت أيضاً وقد أحببتَه كثيراً. لم أبكِ خالد العيسى الذي اغتاله الظلاميون الإسلاميون، ولا صديق الطفولة أنس العظمة الذي شاهدتُ صورة جسده النحيل المُعذَّب ضمن صور قيصر. معظم السوريين حولي، ممن فقدوا أكثر مني بكثير، لم يبكوا أيضاً، أو فعلوا ذلك باقتضاب وبشيء من استعجال ومواربة.
كنتَ أنت أحد هؤلاء بالمناسبة. لا بل كنت من أكثر من عرفتُهم حرصاً على إخفاء مشاعر الحزن أو الضعف ورفض التوقف من أجل الحداد. حرصتَ دوماً على أن تبدو متفائلاً مستبشراً بالأفضل، حتى حين كان من الجلي أنه لن يأتي! فعلتَ ذلك لأنك كنت تشعر بأن من واجبك أن تمد الآخرين بالقوة والأمل. كان هذا عبئاً ثقيلاً وزائداً عن أي حاجة يا حسان، وأخشى أنه من أدخل المرض إلى جسدك الذي أنهكتْه مكابرة الحزن ورفض التوقُّف للإصغاء لأنّاته ولو قليلاً. باتت مقولتنا الرائجة: «مصيبتنا أهون من مصيبة غيرنا!»، وحجتنا الجاهزة: «بخجل إحزن وأنا عم شوف أبو فلان أو إم فلان والوجع اللي عايشينو». لم نُقِمْ مراسم العزاء التي تليق بالرحيل الهائل لموتانا، أو حتى برحيلنا عن بيوتنا ومدننا أو رحيلها عنا. لم نتوقف لنتيح للحداد والحزن وقتاً. كنا مشغولين على الدوام بأن نبقى متماسكين، وربما لنتحضّر لمآتم جديدة قادمة لا محالة بعد حين. نهرول ونلهث ونحن نواجه موت أحبتنا، نهرب من البكاء عليهم بسخاء نحو كتم الحسرات وجعلها تأكلنا ببطء. وهكذا أصبح موتنا سخياً، وبكاؤنا مُمتنعاً، وحدادنا مُبتَسَراً.
لكن مهلاً لماذا عدتُ إلى اللقاء الأول؟ ربما كان يجب علي البدء من لقائنا الأخير يا حسان.
كان ذلك في شهر شباط من العام 2019، أي قبل فترة قصيرة من بدء استيطان المرض اللعين لجسدك. أكثر من عشرين عاماً فصلت هذا اللقاء عن لقائنا الأول في دمشق، امتدّت عبرها صداقتنا وتوطّدت، لا بل إنك في مرحلة ما أصبحت أستاذي أيضاً في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، الذي دَرَّستَ فيه مادة النقد الأدبي لعشر سنوات. في هذا اللقاء، كنتُ أنا أقارب الأربعين، وأنت تجاوزتَ الستين ببضع سنوات. كنتَ تعيش وحيداً في بيروت، فيما زوجتك زهرة في دبي، وآرام في باريس، ويزن في برايتون: حكاية سورية مألوفة! عائلات مشتتة ومتباعدة. كانت هذه زيارتي الأولى لبيروت بعد مغادرتي القسرية لها، وبعد أن ظننتُ أنه لم يعد بإمكاني زيارتها مجدداً.
كل شيء تغير، حلمنا بالتغير في سوريا سُحق، وعالمنا انقلب رأساً على عقب. هناك شيء واحد فقط لم يتغير: إقبالُك على العمل، وعلى اختراع الأمل، وطاقتك المدهشة على ابتكار مبادرات جديدة والتشبيك من خلالها مع جيل الشباب.
ها أنا أَستحضرُ بالضبط شريط لقائنا الأخير ذاك: كنا نتمشى خارج مكتب حسان في حرم الجامعة الأميركية في بيروت، وفي يدي نسخة من كتابه الجديد الموسيقى التقليدية في سوريا، فيما هو يحدثني بشغف عن كتاب جديد يشرع بالبدء فيه حول تمثيل الجسد في رواية الحرب السورية، ومبادرات ومشاريع كثيرة أخرى، تجعلك تُدهَش من قدرة هذا الرجل على العطاء. ثم توقفنا أمام بناء زها حديد الجديد داخل حرم الجامعة. لم أكن قادراً فعلاً على تحديد مشاعري تجاه البناء ذي الكتلة الباطونية الخام البارزة. سألتُه ونحن نتأمل البناء: «ألا تضيق عليك بيروت يا حسان؟». كانت كل أحاديثنا في الأيام السابقة عن انسداد الأفق في بيروت، وبخاصة على وافديها السوريين الذين كانت أوضاعهم القانونية فيها تزداد صعوبة، فيما سُبُل معيشتهم معدومة تقريباً. عدد كبير من أصدقاء حسان وطلابه غادروا بيروت، وكان هو يشعر بثِقَل فراغهم المتزايد من حوله. لكن حسان قال لي وهو يحثني على المُضِيّ لتجاوز المبنى الحديث نزولاً نحو الواجهة البحرية لحرم الجامعة: «أنا كتير مبسوط إنكن سافرتو، إنتوا هلأ بمكان أحسن بكتير». ابتسمتُ وأنا موقن بأنه لن يعترف، ولو تلميحاً، بأن الأمر يسبّب له الضيق.
كم كان متعذراً عليك يا حسان أن تُشعرنا ولو مرة بأننا قادرون نحن على طمأنتك أو بث العزيمة فيك! ليتك منحتَنا الفرصة لمرة واحدة فقط أن نبادر نحن نحوك أولاً، ولو بمقدار قليل من الحب والاهتمام الذي أحطتنا به. حتى في أيام مرضك الأخيرة، وفي الرسائل الصوتية المسجَّلة التي باتت تقل وتتباعد، كنتَ أنت السبّاق معي ومع الآخرين للاطمئنان عليهم. كان هذا يُربكني أكثر ويتركني متلعثماً، أبلع نصف جُمَلي وأُبقيها حبيسة صدري.
لأكثر من عشرين عاماً يا حسان عرفتُك فيها، بقيتَ أنت أكرمنا. بنيتَ جسوراً كثيرة بين جيلك وجيلي، لم أعرف أحداً مثلك عمل لهذا الأمر بمثل ذاك الدأب. أترى من يودّعونك اليوم يا حسان؟ ليس فقط رفاق دربك، وليس فقط أبناء جيلي ممن كانوا طلابك أو عملوا معك أو تحت إشرافك، لكن صبايا وشباب يصغرونني اليوم بعشرين سنة، يقولون أشياء كثيرة عن نُبلك وعن دروب أَرشدتهم إليها ومشيتَ معهم فيها، كصديق أولاً قبل أن تكون معلماً. لا تجود علينا الأقدار بأُناس من معدنك كثيراً يا حسان.
عندما وصلني خبر رحيلك البارحة، بقيتُ صامتاً وقتاً طويلاً. راعني أني لم أعرف ماذا أفعل! لكن أكثر ما أثار حِنقي هو أني مرة جديدة لم أبكِ. تبادلتُ بعض الرسائل المكتوبة مع أصحابنا المشتركين، لكني رفضتُ الكلام مع أي منهم. كنت أعاود الوصول إلى أرقام زهرة وآرام ويزن على موبايلي، لكني لم أجرؤ على الاتصال بأيٍّ منهم. فقط أرسلتُ لهم رسائل قصيرة. هذا كل ما استطعتُ فعله. كان قلبي ثقيلاً يكاد ينفجر، لكن عيوني بقيت جافة. كُلَّما نظرتُ في المرآة يتراءى لي أنْ لا حياة فيهما. هاتفي لا يتوقف عن الرنين. إنهم أحبتك الكثيرون يا حسان. لكني لا أردّ. مضى اليوم هكذا: أمشي في دوائر داخل المنزل، أَنظرُ في المرآة لأرى عيوناً جافة، أنتظرُ ساعات الليل المتأخرة كي أخرج دون أصدف أحداً. إنها ساعات الليل المتأخرة التي تعرف أني أحبها يا حسان، وكنتَ تتندّر أني بذلك أُشْبه البوم الذين تعشق، والذين علمتني أن أعشق، وأن أعيش حياتهم أيضاً.
الطقس في برلين كان يليق بجنازة متعذرة كجنازات السوريين في السنوات الأخيرة يا حسان. غيوم داكنة ماطرة وريح باردة. سلكتُ دروبي المعتادة بعيداً عن الشوارع الرئيسية في حي نويكولن. أَخترقُ حدائق تبقى مُعتِمة هنا في الليل، ثم أمشي بجانب المساحة الخضراء المترامية الأطراف لمطار تيمبلهوف القديم وهي غارقة في العَتمة. لا أحد غيري يمشي في هذه الليلة الماطرة هنا. ومن فتحة في جدار أعرفها جيداً أدخل إلى مقبرة موازية للمطار القديم، هناك حيث أصادف البومَ حين أكون محظوظاً. أُبطئ من خطواتي قليلاً وأنا أجوب في المكان الذي أُنشد فيه السكينة في تجوالي الليلي المُعتاد. يشتد تساقط المطر، لكني أشعر بجسمي يتعرق وكأني مصابٌ بحُمّى. وكانفجارٍ لِماء من باطن الأرض، تندفع صورك فجأة في رأسي.
تتداعى ذكريات متناثرة وبديعة عبر سنوات طويلة: احتفاؤك بالطعام الذي كنت تتفنّن بإعداده، والموسيقا التي سمعتها من أسطواناتك لأول مرة. تعلمت منك حب الجاز وتشيت بيكر. ينساب صوت إحدى مقطوعاته عالياً في رأسي، فأُكمل المشي دون حاجة لأراقب خطواتي على أرض عشبية مبتلة، فأنا الآن لست في المقبرة قرب مطار تيمبلهوف في برلين. أنا الآن أُعبر الحديقة التي كانت تفصل بيت أهلي في دمشق في حي مشروع دمر عن الشارع الذي يقع فيه البناء الذي تقطن فيه أنت وتقطن فيه عائلة أوس أيضاً. تماماً كما كنت أفعل منذ عشرين سنة تقريباً عندما يجافيني النوم بسبب آلام الحب الأول.
أقترب من بيتك الذي كان في الطابق الأول مطلاً على الشارع الفرعي الهادئ تماماً في هذه الساعة المتأخرة من الليل. أشعرُ بوهنٍ مفاجئ في ركبتَيّ يُجبرني على الجلوس في حديقة بناء بيتكم مقابل نافذة المطبخ. تَغمرني السكينة الآن وأنا أجلس هنا، على مقربة من بيوتي الثلاث. بيت أمي وأبي حيث قضيت طفولتي أنا وأخوتي، وبيتك أنت وزهرة وآرام ويزن، بجانب بيت وفاء وأسامة وأوس، في هذين البيتين كبرتُ واختبرتُ الحب وانكساراته والكتابة وخيباتها للمرة الأولى. الثقل السقيم يتلاشى من صدري وكذلك حرارة جسمي المرتفعة. وحيداً في هذه اللحظة المتخففة من كل عبء، تبتلّ عيناي أخيراً. أبكي كثيراً يا حسان، أبكي كما يليق بك. أبكي كل من لم أستطع بكاءهم من قبل.
ثم أرى الضوء ينساب من نافذة مطبخك، وأراك وقد نهضت من النوم تشعر ببعض الجوع. أعلم أنك بصدد تحضير بعض «الشنكليش» الآن، وستستغل فرصة أن الجميع نيام كي تضيف له بعض الفليفلة الحمرا التي تؤذي معدتك لكنها تحبها جداً. أراقبك بهدوء وأنت تعد وجبتك الأثيرة هذه، لكنك تراني بالصدفة من نافذة المطبخ، فتقترب مُندهشاً وتخاطبني: «شو عم تعمل هون يا شب؟». أمسح دموعي بسرعة كي لا تلحظ. «ولا شي… مارق بالصدفة». لا تصدقُني طبعاً لكنك تبتسم، فيما أغادرك أنا وأقول لك «تصبح على خير حبيبي حسان… تصبح على خير». أُقفلُ عائداً إلى البيت قبل أن تستيقظ أمي لتصلي الفجر فتلحظ سريري الفارغ. ثم أجد نفسي أمشي بمحاذاة مطار تيمبلهوف في برلين. حبات المطر باتت أخف، والشارع ما زال مقفراً.
أصل البيت وأشرع بكتابة هذه الكلمات لك. تخرج مني دون ضوابط وقيود. لا أعرف كيف بدأتْ لكني أدركُ أن الكتابة لك وعنك لن تتوقف هنا، فيما يلوح ضوء النهار وتبدأ أشعة الشمس النادرة هنا في برلين باختراق نافذتي. هذا نهار مشمس يا حسان بعد ليلة ماطرة كئيبة، نهار يليق بوداع متحرر من امتناع الحداد. يليق ببداية حزنٍ نحتاجه كي لا تسحقنا الحسرة، حزنٍ يُتيح للحب أن يغلب المرارة والقبول أن يغلب الإنكار، حزنٍ نحتاجه لمعاودة الإقبال على الحياة بدل الانسحاب المضطرد منها. هذا وعدي لك يا حسان، أن أتيح لهذا الحزن الكبير عليك كل وقته، وأن أعلن الحداد الذي يليق بك، فيما أراك الآن تردد كلمات إيميلي ديكنسون العذبة:
لأني لم أستطع التوقف للموت
تلطَّفَ هو وتوقف لي
حملتنا العربة وحدنا فقط….. رفقة الخلود
وانطلقنا ببطء، دونما استعجال..
وأنا تركت خلفي تعبي وراحتي.
موقع الجمهورية
————————
أثر الموسيقى، رسالة إلى حسان/ نسرين الزهر
حسان العزيز،
اقترحَ صديقٌ أن نجتمع في جنازة رمزية في باريس لنودعك، في الهواء الطلق بسبب استحالة الصالات المغلقة في ظرف الحجر الصحي الحالي. فكرت أنه قد يكون من الممكن أن نودعك على ألحان أحببتها، وما أكثر المراجع التي كنت تذكرها موسيقياً في صفوف دروس الترجمة. لم أتذكر أي اسم أو أي مقطوعة، ولكن يبدو لي والله أعلم أنك كنت تحب الجاز. أقرأ من ينعيك ويقفز قلبي، فكيف لي أن أنسى ما يذكره عدي الزعبي في أنك من محبّي البوم، جامع لمئات القطع من البوم، رمز الحكمة اليونانية كما كنت تقول. أحاول أن أتذكر شيئاً من النصوص التي كنت تسحرنا بعرضها علينا للترجمة، لم أعد أذكر النصوص، أذكر احساس الامتنان واحساس التعرف على الأشياء في غرفة من غرف القبو في المركز الفرنسي في البحصة، منذ اللحظة الأولى التي قدمك فيها جمال شحيّد كأستاذنا الجديد بعد عودتك من فرنسا. أليس هذا أفضل ما يتركه معلّم لطالب؟ لذة التعرف؟ وذلك السحر الذي ظل يرتبط بسحر رواية مولن الكبير لآلان فورنييه. لم أعد أتذكر شيئاً من تفاصيل الرواية والأحداث، ولكني أتذكر مشاعر الخطف والسحر. النصوص التي كنا نقرؤها معك ومع ديمتري وجمال كانت تعطيني نفس الشعور، سحر وانخطاف.
كنت تتعجب من سذاجتي الممزوجة بعماء وعند. «ألم تنتبهي حتى الآن أن فلان شديد الإعجاب بك؟» بالله؟ ما انتبهت؟ «ما هذا الخيار الجامد ؟ دبلوم دراسات عليا باللسانيات؟» لازم تكتبي أدب وتترجمي. صحيح ماذا حلّ بفلان المعجب بي؟ الشاب الشاعر البكّاء الذي رعيته كما كنت ترعى الجميع وتنتبه لأدق تفاصيلهم؟ ما أتذكره، يا حسان، أنك كنت ترى بدون نظاراتك. المثقفون في بلادنا يكونون عادة محاطين بطبقة مغناطيسية لصيقة بأجسادهم، منشغلون بسرّاتهم ولا يرون الآخرين إلا بقدر ما يعكس لهم هؤلاء الآخرون ما يرضيهم عن أنفسهم. كنت ترى الآخر، حين تنظر في عينيه تنظر فعلاً ولا تكون شارداً. ترى دون انشراط بطقوس و إشارات بلدنا الرهيب. في بلدنا الرهيب الذي ليس لنا بلد غيره، كما يقول ياسين، الناس متخصصون في علم القبّان، قبل أن تراك وتنظر في عينيك ترى ما تمثله وما تزنه فعلاً من سلطة ومن سطوة ومن قدرة على الوصول وإيصال الآخرين. لم تمتهن القبّان، كنت ترى جمال الجميع دون وزنهم بموازين بلدنا.
لم أعد أذكر ما المسرحيات التي دعوتنا، نحن طلابك، لنحضرها. لكني أتذكر ما بقي من انطباع عند رؤيتك على درجات مسرح الحمراء مع الدكتورة زهرة، إذ كنا نثق بأن المسرحية جديرة بالمشاهدة. أول مرة دخلت مكتبة معهد دراسات الشرق الأدنى في أبو رمانة، لأستعين بمراجعهم اللغوية عند تحضيري لحلقات بحث في اللسانيات، كنت أرتجف من الخجل، كنت أشعر أنه ليس مكاني وأني غريبة. مشكلتي الأبدية أني لست مشروعة في أي مكان. أخذتني من يدي وعَرَّفتني على كل العاملين، من أمين المكتبة إلى مسؤول الاستقبال، وعرفتني على سهيل شباط وعلى أستاذ لغة عربية وعلى دارس يهيئ لقاموس لهجة شامية، لم أعد أذكر كل الأسماء، أذكر مشاعر الأمان والعرفان.
أعرف أن موضوع الذاكرة يقلقك، الذاكرة التي أصبحت هاجسك في السنين الأخيرة، ولكني فعلاً نسيت اسم اللحم المقدد الذي كنت تحبه وتشتريه من البرتغال في سفراتك العديدة للشبونة للتنسيق مع هيئات متوسطية نشاطات وفعاليات وتأهيلات شبابية حول المواطنة، ولكني أذكر ما بقي في إحدى زوايا دماغي حين دعوتناإلى بيتك وطبخت، كل ذلك الحب الغامر والدفء.
مرة، كنت أنتظرك أمام باب المعهد الفرنسي، ولم أرَ طفليك يزن وآرام يخرجان من السيارة لتودعهما في بيت أهلك المقابل للمعهد، وكانوا أقصر من زجاج السيارة في النصف الأول من التسعينات. لم أعد أذكر أي شيء من تلك الحادثة إلا انطباعي عن أناقة وأثيرية بالتعامل مع طفليك، ومع والديك اللذين كانا ينتظران على الشرفة وأنا المنتظرة على الرصيف المقابل. أعتقد أنك كنت تحاول اقناعي بترجمة كتاب ما حول ماركس؟ تلك الأناقة الغريبة التي لا أعرف ما هي، أحسستها أيضاً بعد سبعة عشر عاماً، نيسان 2013، في عيونك المنهمرة بكاءً على رحيل أكرم أنطاكي. حين انتهى القداس وخرجنا من كنيسة الصليب، تفاجأت بدموعك، قلت حينها للحاضرين أنها نهاية إقامتك في سوريا وستغادر إلى لبنان، لم أعد أذكر بقايا الكلام حينها، ولكني أذكر أناقة البكاء وتلك الأثيرية المنسجمة مع ذاتها دون تغيّر، وحزننا جميعاً .
لم نلتقِ كثيراً بعد الثورة، قليلاً في بيروت ومن ثم باريس التي أحببتها. في لقاءاتنا المقتضبة كان هناك عمل، تعمل الكثير، بصمت ودون جعجعة. منذ اللحظة الأولى كنتَ تدركُ معركة محو الذاكرة، الذاكرة الجمعية، وكل ما فعلته في حياتك كان متسقاً مع ذلك الهم. لا تتضح الصورة إلا في لحظة النهاية، وكأن صنيعة الحياة عليها ألا تتبدى كاملة إلا بأناقة ثوب اللحظات النهائية، فراشة ملونة من شرنقة. أتابع أرشيف مركز دراسات الشرق الأدنى في دمشق، لقاءاتك المسجلة في الأمسيات الثقافية مع الكتاب، النادي السينمائي، سلسلة شهادات سورية، كتاب التراث الموسيقي السوري، نفس الانسجام.
في لحظات خاطفة وقليلة، كنتُ أستشعر عندك بعض المرارة بأن عملك العميق والدؤوب لا يُقدَّر تماماً حق تقديره. هذا ثمن الأناقة يا حسّان، الأناقة التحت-جلدية كما يصفها ياسين السويحة، الذي كنتَ تكرر لي كم تحبه. أن تدخل كجزء مضمون في كادر حياة الجميع دون أن تخبط قدميك على الأرض، مثل خلفية موسيقية كاملة الانسجام لا يوجع إلا انقطاعها، إزميل يحفر دون ضجيج، موجود فقط.
في المشهد النهائي لفيلم مازلت أليس لجوليانا موور، بعد أن تنسى أليس المصابة بالألزهايمر كل شيء وكل تفاعل، تتكلم معها ابنتها وتسألها «هل تفهمين ما يعنيه كلامي؟» لتجيب الأم: «الحب». قد ننسى التفاصيل لشدة أثيريتها وسلاستها ومرافقتها الطبيعية للحياة وكأنها مضمونة لن تنقطع. ولكن أثر الموسيقى يبقى حتى لو نسينا العلامات. المحبة والأناقة والكرم تبقى، حتى لو أصابنا ألزهايمر، مثل الموسيقا التي كنت تسمعها في أيامك الأخيرة يا حسان.
موقع الجمهورية
———————————-
حسان عباس… لن ينساك أحد عرفك/ فاديا لاذقاني
مهرجان كل أحد
قالت لي رلى ببسمتها الخاصة
ـ تعالي معي نتغدى غداءً لن تنسيه بحياتك
لحظتُ أنها لم تقل أعزمك، بل تعالي معي
– أين هذا المطعم؟
– ليس له تعريف.. قطعة من الجنة على أرض دمشق.
– إنه بيت كرم عريق يبقى مفتوحاً بابه طوال نهار الأحد.. أستطيع اصطحاب من شئت.. هو بيتي الثاني.
– كيف أرافقك من دون إخبار الداعين؟
ضحكت بخبث رلى تاركةً لي متعة المفاجأة والاكتشاف.
في الطريق القصير الساكبة جناينُ بيوته الدمشقية العريقة، فروعَ وزهور وروائح الياسمين، متدليةَ بثقلها الناعم تكاد تغطي كاملةً، أرصفة حويراتٍ كأنه تلزمك لوصفها مفرداتٌ آتية لتوها من روح “أناشيد الإنشاد”، بين فندق الفردوس مروراً بالفرنسيسكان، وقهوة النجمة الآفلة، وصولاً إلى “أبو رمانة”، ما برحت أتساءل عن كنه هذا البيت العجيب. بعضٌ من حرج يساورني، كالذي دعا نفسه بنفسه إلى وليمة لم أكن أعرف أنها ستكون عيداً طويلاً لا ينتهي!
الباب العريض مفتوحٌ للغادي والرائح. شرفة البيت في الطابق الأرضي مزينة بزهورتشي بعناية و”حنيّة” ربة البيت، مقابل معهد الدراسات الفرنسية في دمشق، تتغنج ككل شقيقاتها في هذا الشارع الناسق الجميل. رخامٌ فاخرٌ يغطي المدخل الوسيع. شقة واحدة في كل طابق. إلى اليمين لوحة صاحب البيت “عبد الهادي عباس”. في الصالة الكبيرة يضيع للوهلة الأولى نظرُك بين العدد الهائل من الكراسي حول الطاولة البيضاوية، وأصحاب البيت الوديعين المرحِّبين من الوالد الكبير، الشخصية التي لعبت دوراً في تاريخ سوريا، لأم حسان ضئيلة الجسم فضفاضة الروح ببسمتها، التي تكفي عالماً كاملاً، وصوتها الهادئ الناعم الموشح ببعض خجل “أصيل” تلقائي.
كم كنا؟ خمسة عشر؟ عشرين؟ الوالدان الكبيران، حسان وزهّور، وآرام ويزن ما يزالان صغيرين يلعبان على الشرفة أو يركضان إلى مطبخ العيد العاجّ كورشة نحل لا تهدأ. أخت حسان وزوجها والابن، وأصدقاء ممن شاءت لهم صدف عيد الأحد المفتوح أن تحط بهم أرجلهم، أو جوعهم، هنا. أم حسان كانت مائدتها عامرةَ بأطيب أنواع الأكل الشامي واللبناني، كم صنفاً كانت تصنع كل أحد؟ ألوان وأشكال وأطعمة وأحجام تكفي لحارة. وهي تسكب لهذا وذلك قائلة: أحبُّ الأمور إلى نفسي إطعام الحبايب. وبعد نهاية الوجبات الدسمة، كانت أم حسان تعمّر لكل من يريد على حدة “أركيلته” الخاصة بلون وطعم مختلف حسب ذوقه وأمنيته، مع قهوة طازجة التحميص شامية أو شاي لمن يريد. حسان لم يكن يدخن.
الرجل الوقور عبد الهادي، القاضي الكبير، الباحث والمترجم والنائب ـ آن كان للنيابة شأنها – يحدثنا، مستشهداً تارةَ بذاكرته، وتارة من بعض كتبه العتيقة المالئة رفوفاً ورفوفاً، بعضها في الصالة الواسعة وبعضها في مكتبه، عن تجاربه، وينثر علينا مآثره وعبره. كم كان صعباَ الخروج من جنة الأحد هذه. لم يكن أحد منا يغادر قبل بداية حلول المساء منتظراً اللحظة الأخيرة، أما الساعات فكم كانت تمضي بسرعة على غفلة منا. بعد ذلك الأحد العجيب الذي ما زالت نكهته وجوّه وطعمه وروائحه طازجةً في التلابيب. أضحت روحاتي ومشاركاتي، غداء بيت أهل حسان عباس عاديةَ، لدرجة أنني صرت أشعر مثل رلى، التي تربت معهم منذ الصغر فهما عائلتان في واحدة، أن بإمكاني أنا “نفسي اصطحاب من أريد”. هذه كانت بالحرف كلمات والدة حسان لكل من يدخل بيتها. هكذا كان بيت أهل حسان الدمشقي العريق، ومهرجان عيده الأحديّ الدائم.
مشاوير الحي اللاتيني
في قهوة دانتون، قال لنا بحزن لا يوصف:
الشباب في بلدنا لا يعرفون معنى المواطنة.. أجريت معهم استفتاءً عن تعريفها. الأجوبة القريبة من الحسنة لا تتجاوز عدد أصابع اليد. البلد يتقهقر. يجب العودة.
ولادة آرام في باريس. وهاجس العودة للـ”وطن” يلبس حسان، كي يكون إلى جانب والده المريض، وكي يعطي وينقل جلّ ما أمكنه للأجيال الناشئة.
عاد حسان وعمل في مركز الدراسات الشرقية الفرنسي، رفض كل عروض الدروس الخصوصية، لم يكن يهمه المال: أحرم نفسي مرتين أو ثلاث مرات من المطاعم، وكل غذائي وهنائي نقلُ وتعليم ما أتاحت لي الحياة تعلمه، سواء في المعهد المسرحي، أو في ندواته، التي كان ينظمها لوحده من الألف إلى الياء. كم من شاعر وفنان رسم ومبدع، دعا حسان إلى صالونه الذي بدأ الشباب يتقاطرون عليه؟ في بيته بمشروع دمر، كانت الكتب تعج بالمواضيع، وكذلك أسطوانات الموسيقى ومجموعة هائلة من “البُومات” كنا نداعبه بتقديم ما استطعنا إليه سبيلاُ منها. أما هو، فبالكاد كان يحمل أقصى ما يستطيع حمله من الكتب واسطوانات الموسيقى الكلاسيكية الغربية والشرقية في كل سفرة من سفراته. ثم كان رحيله الإجباري إلى بيروت، وإنشاؤه للرابطة السورية للقلم، ونشره نتاجات سنوات الجمر، وإدارته لنادٍ سينمائي، ومشاركته العديدة في مؤتمرات بحثية في أكثر من مجال، إلى إصداره عديداً من الكتب البحثية.
كان يأتي كلفحة غيمة.. كثرٌ هي المرات لم نكن نستطيع رؤيته لدى مروره، كان يعتذر بإصرار عن الدعوات المسائية والعشاءات، شاكراً أصدقاءه ومحبيه بلطفه الفواح وصوته المميز: أرجوكم افهموني، أنا في باريس زيارة خاطفة مشاركاً في مؤتمر. كم حفلة موسيقية وفيلما وعرضا مسرحيا، راح عليّ وأود أن أراه بين سويعات فراغ برنامج المؤتمر. قيل لي البارحة إنه، ذات مرة في مؤتمر في بريطانيا، كاد أ لا يستطيع روية ابنه يزن المقيم هناك، بعد الخروج الكبير، وقيلت لي حادثة، وما أكثرها، تعكس تواضعه الجم وأدبه العميق. صحافي من تلامذته يعمل في راديو “بي بي سي” لندن، شكره على تبادل بينهما قائلاً له إنه شرّفهم، كان ردّ حسان الاعتذار عن التأخير، و”أنا الذي تشرفت بموضوعك”. ألم يكن يردد لنا ما تقوله له زهرة بين المزاح والشكوى الناعمة “أكاد أنا صرت حافظة دروسك عن ظهر قلب، كل مرة تحضير تحضير، كل يوم كل يوم، قراءة وكتابة حتى الرابعة صباحاً. ألم تملّ من تحضير الدرس نفسه؟ كان يقول بعينيه اللماعتين وبسمته العريضة تهرب من خلل شاربيه الكثين: من قال إنني أكرر الدرس نفسه؟ العالم يرى الظاهر، فيظنه نفسه، لكن لكل درس طعمه وروحه وخصوصيته حسب الموضوع وشخصيات الطلاب. لم أعرف شاباً، سورياً كان أم أجنبياً، لم يُغرِق في مدحه. هكذا يكون المعلمون الكبار.
بعد ثلاثة عشر عاماً دراسة في باريس مع زهرة الرقيقة الكريمة، التي ترشح ذكاءً ومهارة في العمل، والتي يحترمها القاصي والداني. كانت العودة إلى دمشق.. ثم الطوفان و”الخروج الأكبر” إلى التيه، إلى بيروت. تشرذمت العائلة التي كانت تنعم بوضع مريح في الشام، فأضحى كل عضو من أعضائها الأربعة في مكان من أقاصي الأرض.
قبل تركه دمشق بأشهر، كتب مقالته المؤثرة جداً إبان مغادرة أحد أصحابنا الأعزاء من برزة إلى التشرد. عنوان المقال: البيوت الموؤدة. يا له من مقال مستطلع للمستقبل.
كل الذين أحبهم ذهبوا..
قاعة التشريفات في السوربون، في الصدر منها تمثال روشيليو يحرسنا: حضرنا مراسم دفاع حسان عن أطروحته “القصة القصيرة بين الحربين العالميتين” وتعبت أيدينا ونحن نصفق له فرحاً وتهليلاً، إذ حاز أعلى درجة ممكن أن يمنحها كبار الأساتذة لخريجي الدكتوراه في الأدب الفرنسي. مع تهنئة خاصة منهم.
كافيه الأوديتور، المطعم الياباني آخر شارع مسيو لو برانس، من جهة حدائق اللوكسمبورغ، شوارع الحي اللاتيني كلها تقريباً، شارع جوليان لا كروا، غابات الواز ضواحي باريس حيث الشواء مسموح،
وداعاً حسان “الغالي”.
كاتبة فرنسية من أصل سوري
———————————-
يزن حسان عباس..اشتعَلت غيرتي من شرارات تسرّبت داخل طوقك
طفلاً صغيراً يستمعُ إلى أغنية يتخللُها مقطعٌ من خطاب الديكتاتور في فيلم شابلن، أَذكرُني. لم أكن عرفت شابلن بعد، فكنتَ أنت الشابلن في المخيلة. صورةُ الشخص الذي كنتَه تطابقت في مخيلتي مع ما جاءَ في الخطاب تطابقاً غريباً. هكذا أذكُر.
كلَّ شيء بذلتَه حتى تعيَّشَني أفضلَ طفولة. بجناحيك طوّقتَني لتحميَني من عوالمك: الواقع المحيط بجوانبه الاجتماعي والسياسي والأكاديمي. محصّناً بطوقك، ما لمَحتُ إلا القليل. بعض أشخاص. بعض وجوه. بعض أماكن. كلهم كانوا في قلب قضيّتك التي تبنيتَها قبل أن أجيء أنا إلى الحياة أصلاً.
من وراء الطوق، طوق الحماية الذي خفَّ إطباقُه في سنوات مراهقتي، بدأ العالَمُ يتكشف أكثر. من ورائِه لمحتُ طريقاً: الطريق الذي كنت ترسمه لأسرتنا – بل للسوريين كلهم. ذكرياتٌ مبهمة تراودني فأستعيدُ كيف شعرتُ بالحنق كلما رافقتُكَ في مشوار. أنت لم تتعمد شيئاً من هذا كله، لكني شعرتُ دوماً بأني ضائعٌ وضئيلٌ وثانوي. ثم اشتعلت نارُ غيرتَي من شراراتٍ تسرَّبت داخلَ الطوق. حرمني طوقُ المحبةِ هذا من أن أصِلَك، مثلما يَصِلُكَ طلابُك وأصحابُك وكلُّ الناسِ في عالمِك خارجَ حدودِ حِصني. عندها، أعلنتُ الانكفاء. رفعتُ رايةَ اللامبالاة، وأشرعتُ في بحور المراهقة. ربما لأني وجدتُ في انطوائي ملجَأ – أو لعلها كانت حركات مراهقين.
فُتِحَ الطوقُ بعدها. حين كبرتُ أكثر وأُخرِجتُ من طوقي، رفضتُ عوالمَك. ما شأني وإياها؟ لمَ عساي أن أختارها وأمامي هذا الفضاء الوسيع من الخيارات دونها؟ اخترتُ خوضَ رحلتي في المجهول. رحلتي أنا وحدي. في وطني الجديد بعد ذلك، الذي تسميه أنت منفى، رأيتَني رجلاً لا صلة له من قريب ولا من بعيد بعوالمك، وأحسَبُ أنّ هذا آلمَك. ثم، شيئاً فشيئاً، بدأتَ تشهدُ انخراطي في أشياء جديدة. تشهدُ كيف تبدّلَت عناوين الكتب التي أختارُها. الشغفُ بالسياسة والعملُ الأكاديمي. الشغلُ لمساعدة اللاجئين والنقاشاتُ في قضايا حقوق الإنسان. شهدتَ تحولي، وهو، وإن لم يكن إلا جزءاً يسيراً من أحلامك الكبيرة لي، أَسعدَك!
أنا نفسي ارتحتُ، لا أخفيك. صرتُ أشعر بارتياح كلما قاطعَت الحياةُ دربي مع دوربِ أصحابِ الوجوهِ التي أشعلت غيرتَي في الماضي. والحقيقةُ أني صرتُ ألتمسُ في هذه الوجوه إشارات بأني على الدرب الواعد سائر.
“طوكيو ستوري” كان الفيلم الأخير الذي تفرجنا عليه معاً. فيلمٌ من الخمسينيات يسرد بالأبيض والأسود، وببطء متعِب، إجحاف الحياة، والعلاقة المُعقَّدة بين الأطفال حين يبلغون، مع أهلِهم حين يسنّون. شعرتُ أنكَ بهذا الفيلم كنتَ تناشدني أن أبقى بقربك أكثر. كانت تلك أوّلَ مرة لي أناقشُ فيلماً وأنقدُه معك. هذا أمرٌ عملتَه أنت مرات لا تُحصى مع كثيرين غيري، في جلسات نادي السينما الكثيرة التي أشحتُ عنها وجهي. تخللت الفيلمَ مقاطعُ ولقطاتٌ تحدثنا عنها، لكنا تجنبنا الحديثَ فيها حتى لا يعترف أيٌّ منا بما كنا نعرفُ أنه مقبلٌ على الحدوث.
الآن وقد رحلت، تغمرنا محبةُ الناسِ لك واحترامُهم. عرفتُ دائماً كم أحبّك الجميع، لكني لم أدرك قبلاً كم بلغتَ بعيداً برحابة قلبك، وعملك، و روحك، وفكرك.
فلترقد بسلام.
(*) مدونة نشرها الكاتب يزن عباس في صفحته الفايسبوكية.
المدن
———————————
حسّان عبّاس: ليس للموت يوم مناسب لكنه أسوأ الأوقات لرحيلك/ وائل السواح
غادرنا حسّان قبل أسبوع واحد من الذكرى العاشرة للثورة السورية التي قام هو بدور متميّز فيها، دور اتصف بالحكمة والتوازن ورفض التطرف والعسكرة. غادرنا الآن ونحن في أمسّ الحاجة إلى توازنه وخطابه المعرفي…
ليس هنالك وقت مناسب للموت، ولكنه يأتي أحياناً في أسوأ الأوقات وأقلها مناسبة، فتكون الفاجعة. مات حسّان عباس. رحل في وقت نحن، السوريين، في أمس الحاجة إليه، وترك وراءه قضايا كبيرة وكثيرة تحتاج إلى مواجهة وتحتاج إلى حلّ.
هل تؤمنون بالحب من النظرة الأولى؟ أنا لا أومن، ولكن الحال مع حسّان كان مختلفاً. وقعت في غرامه من النظرة الأولى. كان ذلك في باريس عام 1992، وكان قد تخرّج حديثاً بشهادة الدكتوراه في النقد الأدبي. كان شابّاً مكتمل الرجولة والوسامة والدماثة، لفت انتباهي شارباه السوداون المعقوفان، وعمق عينيه، والهدوء الآسر في صوته.
“سأعود إلى سوريا”، قال لي ردّاً على سؤالي عن خططه المستقبلية. وفوجئت. بينما كان معظم السوريين يسعون إلى فرصة في الخارج، قرّر حسّان أن يعود إلى سوريا. وإلى سوريا عاد، مسلّحاً بالعرفة والصبر والدأب والإصرار على أن يبني شيئاً جديداً. في دمشق، رفض وزير التعليم العالي إعطاءه وظيفة في الجامعة، خاضعاً بذلك لأوامر المخابرات السورية التي لا رادّ لقضائها. ولعلّ في ذلك خيراً، فلم يتحوّل حسّان إلى موظّف في آلة الدولة التي سيطر الأسد على كلّ مفاصلها، بلّ ظلّ يغرّد ما أمكنه خارج هذه الآلة وضدّها.
كان حسّان مرشدي إذا عصف بي هوس وجودي أو سؤال فلسفي في السياسة، ودليلي إذا ما هجس في ضميري قلق أخلاقي.
سأفتقد في حسّان ثلاثة أشخاص: الأول هو المثقّف والناقد الأكاديمي الذي لم يبخل قطّ بمعرفته على الآخرين. أكاديمياً، علّم حسّان أجيالاً من غير العرب اللغة العربية والثقافة العربية في معهد لدراسات الفرنسية، وغرس فيهم حبّ سوريا والتعلق بها. والتقيت بعشرات الأشخاص في أوروبا الذين درسوا على يديه وأحبّوه واحترموه ولا يزالون يكنون له احتراماً كبيراً. وألّف عدداً كبيراً من كتب النقد، صدر آخرها قبل أيام فقط من رحيله، “الجسد في رواية الحرب السورية”. وكان يتناول في نقده النص من زوايا غريبة وجريئة وثورية.
واستغلّ منبر المعهد الفرنسي ليحوّله قاعة محاضرات ونشاطات معرفية للسوريين، وأسّس النادي السينمائي في أول إحياء مهم لتجربة النادي السينمائي في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. كما أسّس، مع الرائدة النسوية اليسارية نوال يازجي منتدى سبق المنتديات كلّها، وكان رسولاً مبشّرا بربيع دمشق، حيث بدأ نشاطه قبل وفاة الدكتاتور، إذا جاز لنا استعارة تعبير رياض الترك. كان حسّان يعتقد أن الأساس في العمل في تلك الفترة كان بناء فكرة المواطنة وإعادة بناء المجتمع المدني باعتباره حجر الأساس لبناء الديموقراطية، فلا ديمقراطية بدون مبدأ المواطنة وبدون مجتمع مدني يراقب عمل الحكومات والأحزاب والسياسيين ويصوّب أخطاءهم إن وقعت. وخلال أقل من سنة كان لدى القائمين على المنتدى حوالى 400 اسم مشارك. وركز المنتدى على المناحي الثقافية ذات البعد العام. وبرز من بين المحاور التي قدمت في المنتدى محور “الثقافة والضمير في سورية”. ولعل تنظيم إدارة الجلسات كان أكثر تميزاً من المنتديات الأخرى، حيث أتيح للمحاضر وقت محدد، مع عدد محدد من المتخصصين بموضوع المحاضرة حيث يقدمون تعقيباتهم عليه، قبل أن يفتح الباب للنقاش العام.
أغلق المنتدى بسبب ضغوط الأمنية، ولكن نهاية المنتديات لم تحبط عزيمة المثقفين فبدأت مجموعات وأفراد منهم، كان بينهم عدد مهم من الشباب، باتخاذ مبادرات هامشية، أي بعيدة من الأطر المؤسساتية المحددة من السلطة. وفي كلّ من تلك النشاطات، كان أثر حسّان عباس بارزاً، كمؤسس أو مشارك أو داعم أو ناقد.
وسأفتقد في حسّان الناشط الذي لا تلين لعزيمته قناة. منذ عودته من باريس، انخرط في نشاط مدني لنشر فكرة المواطنة بين السوريين، وفي مطلع الألفية، عبّد 99 مثقفاً سورياً الطريق أمام مثقفين وسياسيين آخرين للعمل العلني، من خلال توقيعهم ما سوف يعرف في التاريخ السوري المعاصر باسم “بيان التسعة والتسعين”. وهناك موقعون كانوا مفكرين وأكاديميين وكتاباً وأساتذة جامعات، ولكن بعضهم الآخر كان سياسياً من أحزاب سياسية معارضة، وهو ربما ما أعطى البيان الشهير صبغة سياسية أكثر منها مدنية. ومع ذلك فقد كان هذا البيان الشرارة التي أشعلت الحريق. وكان حسّان أحد أربعة أشرفوا على جمع التوقيعات، في زمن لم يكن الإنترنت قد وجد في سوريا بعد، فكان عليه الانتقال من مقهى إلى مقهى ومن بيت إلى آخر، ليجمع توقيع هذا الكاتب أو ذاك المخرج. وفي حوار مطوّل بين حسّان وبيني في أيار/ مايو 2008، قال لي إن السلطة أُخذت بالبيان على حين غرّة، ولم تجدْ بدّاً من التسامح معه، ما أدّى إلى نوع من الانفتاح والحرية وقلّل من خوف الناس، وتساءل لماذا لم تفعل السلطة شيئاً فهي إما كانت ذكية ولديها نيات جيدة في مساعدة المجتمع المدني على تنشيط حيزه الثقافي أو أنها كانت تعتبره لعب أولاد.
وبعد انطلاق ثورات الربيع العربي، كان حسّان آلة عمل لا تهدأ، محاولاً تقصّي إمكان نقل الحراك إلى سوريا، وفي 5 شباط/ فبراير 2011، كنا، نحو 200 رجل وامرأة، نمشي في جنازة المخرج السينمائي الراحل عمر أميرلاي، حين اقترب مني وقال: “أتدري، قد تكون هذه هي المعارضة السورية بأكمها؟”. وبعدما وارينا عمر الثرى، غرز حسّان في تراب القبر علماً صغيراً لسوريا ما قبل البعث، وهو العلم الذي سيغدو سريعاً علم الثورة السورية ورمزها. وشارك حسان في معظم الاحتجاجات في دمشق التي شارك فيها مثقفون، وفي إحدى التظاهرات تعرّض لضرب مبرح من عنصر مخابرات، أدّى إلى كسر في ساقه، قبل أن يصيح به ساخراً: “اركض، اركض يا دكتور! دكتور ولا تعرف كيف تركض؟”.
وفي مطلع 2012، قام حسّان بأهم نشاطاته المدنية- السياسية، تأسيس الرابطة السورية للمواطنة. وشاركناه في التأسيس، نحن الثلّة القريبة من أصدقائه ورفاقه. كان بيننا صباح الحلاق والراحلة مها جديد، التي سبقت حسّان بأشهر قليلة فقط، والمحامي وسام جلاحج، وكاتب هذه السطور، وآخرون لا يزالون في سوريا، فلا أذكر أسماءهم. كانت رابطة المواطنة ثورة في الثورة. عملت على صُعُد شتّى مختلفة ومتداخلة، فدرّبت سوريين وساهمت في توعيتهم في مجالات مثل المواطنة والجندرة والمساواة وحقوق الإنسان والعدالة الانتقالية. وأصدرت الرابطة سلاسل من الكتب، في المجالات السابقة، فربط حسّان بذلك النشاط اليومي بالمعرفة.
ولكنّ من سأفتقد أكثر من الشخصين السابقين هو حسّان الصديق، حسّان الذي كنت ألجأ إليه – ومثلي كلّ أصحابه – ليل نهار إذا ما اعترضتني حاجة أو انتابني قلق أو استبد بي ضيق. كان حسّان مرشدي إذا عصف بي هوس وجودي أو سؤال فلسفي في السياسة، ودليلي إذا ما هجس في ضميري قلق أخلاقي. وكان درّة التاج في كلّ لقاءاتنا وسهراتنا الاجتماعية، إذا ما سهرنا في بيت حسّان وسلام، أو التهمنا القبوات في حقل بسّام وليلى في برزة البلد أو جمعنا طبق الكسكس الذي لا يبارى والذي تعدّه زهرة. وكان في كلّ يوم يطبّق ما كان يسمّيه في محاضراته “الكياسة المدنية”.
غادرنا حسّان قبل أسبوع واحد من الذكرى العاشرة للثورة السورية التي قام هو بدور متميّز فيها، دور اتصف بالحكمة والتوازن ورفض التطرف والعسكرة. غادرنا الآن ونحن في أمسّ الحاجة إلى توازنه وخطابه المعرفي الهادئ وقدرته على ضبط الجنوح كيفما اتجه بنا.
ولن أنتهي قبل أن أقول وبدون خجل، لنتعلم منه، إن حسّان من أسرة علوية تزوّج امرأة سنية وثار على النظام الدكتاتوري الطائفي ووقف ضدّ الأسلمة والعسكرة والشعارات الفارغة، وحاول أن يسخّر المعرفة في سبيل الثورة ويؤسّس بالتالي لثورة معرفية، نحن في أمس الحاجة إليها.
قال لي مرّة في حوار لي معه، إن للفعل الثقافي في سوريا المعاصرة “دوراً كبيراً جداً في تغيير الثوابت الاجتماعية التي أرستها سياسة حزب البعث، وبالتالي في خلق مجتمع جديد متحرر من هيمنة الرأي الواحد، ومن ضغط المؤسسة الحكومية. مجتمع مسؤول، يعتمد على نفسه، يحترم التعددية، ويتحرر من ثقافة الخوف. ومجتمع كهذا يستطيع أن يشكل أرضية مناسبة لبناء الديموقراطية.”
وداعاً حسّان. وداعاً يا صديقي!
درج
——————————
حسّان عبّاس… رحيل مبكّر عن سورية
لم نكدْ نفرح بكتاب حسّان عبّاس الأخير حتّى غادرنا. كنّا ننتظر الحصول على نسخة من مؤلَّفه هذا، “الجسد في رواية الحرب السورية”، الذي صدر قبل أيّام تعدّ على الأصابع. بات علينا اليوم قراءة الكتاب في غياب صاحبه. رحلَ الباحث والمثقّف السوري اليوم الأحد، مبكّراً، عن 66 عاماً، في لحظة تعرف فيها سورية حاجةً ماسّة إلى عقولٍ مثله، تحملها وتنير لها الطريق.
لطالما عُرف حسّان عبّاس، في مجتمع المثقّفين السوريّين، كاسمٍ تدور في فلكه مشاريع ومساع ثقافية لا تكلّ. يشهد على هذا عمله في “المعهد الفرنسي للشرق الأدنى”، وقد استفاد فيه من مساحة من الحرّيّة النسبيّة في بلد مثل سورية لتنظيم العديد من اللقاءات والقراءات التي لم تكن لتروق للنظام السوري؛ وتأسيسه، بعد انطلاق الثورة، “الرابطة السورية للمواطنة” ومنشورات “بيت المواطن”، التي أصدرت عشرات العناوين في وقت قصير؛ وكذلك تأسيسه وإدارته لنوادٍ أدبية وسينمائية؛ وتدريسه في “المعهد العالي للفنون المسرحية”، ناهيك عن مشاركته في العديد من المشاريع الأخرى إلى جانب مثقّفين ومثقّفات من بلده أو من فرنسا.
ولا يبالغ المرء في القول إنّ عبّاس، في نشاطه وكتاباته، يعدّ أبرز المثقّفين السوريّين اشتغالاً على مسألة المواطنة، التي لم يغادرها طيلة مسيرته، منذ مشاركته في الكتاب الجماعي “أنا، أنت، هم” (2002) وإصداره “دليل المواطنة” (2004)، بالاشتراك مع الفنان أحمد معلا. وجاءت الثورة السورية، التي كان عبّاس من أوّل المثقفين السوريين دفاعاً عن مطالبها وداعماً فكرياً لها، لتضع مشروع المواطنة هذا في وسط اهتمام الراحل، حيث خصّص لها قسطاً كبيراً من مجهوده، ناشِراً وباحثاً مشاركاً في ندوات ومؤتمرات، ومنظّماً للقاءات.
إلى جانب هذين العملين، وقّع عبّاس العديد من المؤلّفات التي انشغل فيها، بشكل رئيسيّ، بالبحث في الثقافة السورية وتاريخها. من هذه الأعمال “الخارطة الثقافية لمنطقة وادي النصارى في سورية” (2010)، و”الموسيقى التقليدية في سوريا” (2018). وجاء كتابه الأخير، “الجسد في رواية الحرب السورية”، ليكلّل هذه المسيرة المنهمكة بمتابعة حاضر البلد، ليس ثقافياً وسياسياً فحسب، بل كتابياً أيضاً. ويشهد التقاطه لمسألة الجسد، ومحاولته دخول التاريخ السوري المعاصر انطلاقاً منها، على معرفته بدقائق هذه الحاضر السوري.
كما وقّع حسّان عبّاس عدداً من الترجمات من الفرنسية، من بينها: “ماكينة الإبصار” (2001) للكاتب الفرنسي بول فيريليو، و”المفكرون الجدد في الإسلام”، للباحث الفرنسي المغربي رشيد بن زين (2009).
في بلدة مصياف، غرب سورية، رأتْ عينا حسّان عبّاس النور للمرّة الأولى، عام 1955. حصل على إجازة في الأدب الفرنسي عام 1981 من جامعة دمشق، وشهادة دراساتٍ معمّقة في النقد الأدبي عام 1984، من جامعة “السوربون الجديدة” (أو “باريس الثالثة”)، وهي الجامعة نفسها التي سيحصل منها على درجة الدكتوراه في المجال نفسه، عام 1992. بعد مسيرته الدراسية في فرنسا، عاد عبّاس إلى سورية، مشتغلاً في الحقل الثقافي والفكري، ولم يغادرها إلى بيروت إلّا مضطرّاً، بسبب قمع النظام.
العربي الجديد
—————————-
حسان عباس.. المثقف، الحنون، طبيب الصداقات، وعاشق البُوم المرح
أشعلت وفاة الكاتب والناقد السوري، حسّان عباس، صفحات الفايسبوك العربية عموماً، والسورية خصوصاً، بمشاعر وذكريات كثيرة، متقدة وحارقة، ننشر بعضها هنا…
أسامة محمد
أبكيكَ يا حسّانْ
أضمُّ نُعمى وتَضُمّني ونَبكي.
كما لو أنّ الدنيا تَلدُ أولَ سؤال.. أوَّلَ مرّة.
هلّ ثمّة زَمَنٌ لولا الأسئلة
حدائِقُكَ التي زرعتَ
ورَويتْ!
ها هنَّ.. وها هُمْ.. بَناتُكَ وأبناؤك
هُنا وهناكْ. يضيؤهم قلبُك وعقلُكَ
لطْفُ العارِف وجمالُ المعرفة
مواطَنةُ. وحريّة
دِينُها حُبّْ
فاروق مردم بيه
حسّان عبّاس.. خسارةٌ لا تُعوّض لكلّ من حلم مثله للسوريّين بحياةٍ كريمة بلا طُلمٍ ولا ظلاميّة. هو الذي كتب في الذكرى الثالثة للثورة: “سمّوها ما شئتم، انتقدوها كما أحببتم، اخدعوها، راودوها، تحايلوا عليها، احفروا الأرض تحت أقدامها، لوّنوها، العنوها، افعلوا ما شئتم.. فهي، وبمحاكاة لما قاله غاليليو غاليليه لمرهبيه: ومع ذلك فهي تثور. هي باقية، وهي أصلاً لم تبدأ إلا لتبقى حتى تصل إلى ما يريده أهلها: حياة كريمة بلا ظلم ولا ظلامية”.
سميح شقير
سلامٌ لروحك يا صديقي د. حسان عباس وقد غادرتنا باكراً
واشهد بأنك قامة سورية رائعة.
وانك بذلت عمرك كله فكراً وممارسةً من أجل أن تكون سوريا دولة المواطنة والديمقراطية حاضنةً لكل ابنائها.
خسارة كبيرة
أن ترحل قبل تحقق الحلم وقبل ان نعانقك مودعين
لروحك السلام وطيب الذكرى
ايها الانسان الإنسان.
عدي الزعبي
التقيت بحسان عباس قبل ما يقرب من شهر. زرتُه في غربته في دبي. دردشنا لساعتين أو اكثر، بحضور عائلته. كان متفائلاً، مليئاً بالطاقة. عنده الكثير من الخطط والمشاريع.
المشروع الأول، الأهم، هو أن يعيد تجميع تماثيل البومات المتناثرة بين دمشق وبيروت.
اشتُهر الدكتور حسان عباس بمحبته للبوم، عنده المئات منها، تماثيل صغيرة وكبيرة، بلاستيكية وكريستال وزجاج وفخار وغيرها. يجمعها منذ بداية الثمانينيات. بعضها غال جداً، بعضها نادر، بعضها رخيص تشتريه بيورو واحد. يحبها جميعاً، وعنده دفتر كبير يسجل فيه تاريخ كل بومة ومصدرها.
تجعل هذه التماثيل بيوت حسان، في دمشق وبيروت ودبي، تطفح بالثقة والتفاؤل والمرح. لأكثر من خمس وعشرين سنة، يشرح لي محبته لهم. لا أعتقد أنني فهمت. ولكنني أحب البوم لمحبة الدكتور لهم. محبة استثنائية خاصة مميزة.
المشروع الثاني، ان يفتتح نادياً سينمائياً في دبي. كان يعرف أن ما بقي من العمر قد يكون قصيراً جداً، ولكنه كان متحمساً جداً كي يبدأ من جديد، بداية صعبة في بلد بعيد.
انطباعي الأخير عنه محيّر جداً: في عز مرضه، عاد ذلك الانطباع كما قبل خمس وعشرين سنة حين قابلته للمرة الأولى: المعلم المليء بالأمل والثقة والتفاؤل، المعلم الذي تثق به، مهما اختلفت معه، المعلم الذي يشبه أساطير كونفوشيوس عن أهمية التعليم والاخلاق والالتزام بالطريق القويم، وبالتهذيب الشديد حتى مع الخصوم، في عالم مليء بالكراهية والحروب والخسارات والوقاحة.
فكرت بأن أطلب منه بومة، كي أحتفظ بها، كذكرى منه.
لم أجرؤ. أعرف انه متعلق جداً بكل بومة في مكتبته.
سأشتري غداً بومة في مالمو، لتؤنسني هنا، وتعطيني بعض الطاقة والمحبة.
الله يرحمك يا حسان، ويصبر أهلك، ويساعدنا يكون عنا ولو شوي من قوتك ومحبتك وتفاؤلك.
بول أشقر
حسان هو أول من عرفني على المجتمع السوري بتفاصيله وتذوقه الاشياء الجميلة وبغوصه في عمق المشاكل وتعقيداتها، وبنضاله الثابت ضد الاستبداد دون الوقوع تبدا. في غوغائية الشعارات… ً
رجل عالم ومثقف… وحنون حنون وحنون… قلما تعرفت عن هكذا حنان…. في الفترة الاخيرة، كنت اطل على شرفته للاطمئنان عنه بسبب العمليات المتتالية التي اجريت له… كنا نجلس على الفرندا الجميلة (دائما كان يحب الفرندا المليئة باشجار الفاكهة وبالازدهار العطرة)… قبل ان يجيبني عن وضعه الصحي، كان يسألني عن تفاصيل صحتي كأنه طبيبي الخاص…
وداعاً يا طبيبي الصدوق، تحية لروحك الجميلة والراحة لجسدك والعزاء والصبر لزوجتك ولولديك ولشقيقتك ولذويك ولاصدقائك الكثر.
نديم حوري
رحل حسان عباس. رحل المواطن. كل التعازي لاحبائه واصدقائه وكل الحالمين بيوم افضل لسوريا ولهذا المشرق. التقيت به متأخرأ بعدما كنت قرأت له وسمعت عنه من اصدقاء مشتركين لسنين. في لطفه، وحسّه المرهف، وثقافته، يلتمس الواحد هذا المشرق العريق، الانساني (humaniste )، المتنوع بعيد كلّ البعد عن ثقافة الجزمة والتطرف والعسكرة التي انهكتنا.
تعاون عبر السنين مع مبادرة الاصلاح العربي وربطته الصداقة والزمالة مع عدد من مؤسسي المبادرة.
كان حسان يؤمن بالعمل الثقافي كأداة عملية في بناء السلام في سوريا. نعيد نشر فكرته لخريطة ثقافية قادرة على انتاج مسارات تجمع المواطنين وتمهد للتماسك الاجتماعي وتحقيق العدالة الانتقالية في سوريا.
انه حقاً زمن رديء. نفقد مفكرين نحن بأمس الحاجة لهم. لكن يبقى أن نتذكر أعمالهم وكتاباتهم. التعازي لاحبائه واصدقائه، ولاسرته الواسعة وللاصدقاء والزملاء في رابطة المواطنة.
———————————-
حسان عباس… مواطن بلا وطن: وداعا أيها المعلّم…/ محمد ديبو
مواطن، معلّم، محب… صفات ثلاث، ربما تختصر بين حروفها وفي معانيها العميقة، شيئًا من تاريخ وحياة الراحل حسان عباس، هذا الإنسان الذي ننعيه اليوم بصيغة الموت والغياب، وهو الذي جعل أمسنا حافلًا بالحياة والعلم، وحاضرنا عمل وعمل ومقاومة، ومستقبلنا أمل قابل للتحقّق بقوة الإرادة والمثابرة.
ففي صفة المواطن التي ناضل طيلة حياته لصناعتها وترسيخها وتعليمها وتأصيلها في وعينا مفهومًا وممارسة، أملًا في يوم يصبح فيه أبناء الطوائف والأقليّات والأكثريّات والطبقات… مواطنين أحرارًا في وطن حرّ، دون أن يتخلوا عن ثقافاتهم المختلفة والمتنوعة، والتي كان حتى آخر لحظة من حياته يصرّ على الدفاع عنها. ففي تلك الصفة (مواطن) ومعانيها التي لا تقبل أيّ التباس، يكمن كلّ تاريخ حسان عباس في مقارعة العنف والتوحش والدكتاتوريّة التي جعلت منه مواطنًا منفيًا بلا وطن، مواطن منفي مع وقف التنفيذ.
أمّا صفة المعلّم التي طالما اعتز بها حسان عباس دون أن يغادر صفة الطالب الذي كلّما ازداد علمه عرف مقدار جهله (وهو موسوعيّ المعرفة) وتواضعه الذي طالما أسر محبيه وطلابه، وكان صاحب هذه السطور واحدًا منهم (سواءً في الورشات التي قام بها أو في الحياة التي لم يبخل فيها يومًا على طلابه بما حازه من معارفها وخبراتها). ففي تلك الصفة يكمن أجمل ما في حسان عباس، ذلك الإنسان الذي أعاد لصفة المعلّم معناها وقيمتها في وطن لم يعمل حكامه طوال عقود إلّا على تسفيه العلم وأصحابه. وكأنّ حسان عباس، في مثابرته على التعليم وشغفه به، كان يدرك أنّه إذ يصرّ على ممارسته تلك، يقوم بفعل مقاومة من نوع أخر، مقاومة هادئة ودائمة ومستمرة، تبني بدلًا من أن تهدم، تُراكم، وتراهن على الوعي في مواجهة الجهل، الذي أدركَ الراحل (آه ما أقسى هذه الكلمة يا حسان) أنّه ألدّ أعداء الإنسان وأنّه سلاح الدكتاتوريات التي طالما عملت على ترسيخه وتعميمه كي تسود، ولهذا أصر حسان على ممارسته حتى آخر لحظة من حياته: مواطنًا يعلّم ويتعلّم.
أما الصفة الثالثة، والتي يمكن للمرء أن يكتب صفحات طويلة عنها وفيها، والتي تكمن في أن كلّ ما كان يمارسه ويصدر عنه، إنّما يصدر عن صفة أصيلة لا تفارقه، ألا وهي صفة المُحب، فهو حين يعطي المعلومة يعطيها بحبّ وحين يمارس التعليم يمارسه بشغف العاشق، وحين يدير ورشة في المواطنة تصدر إشارات الحب والشغف عن كلّ كلمة أو حركة أو إشارة يقوم بها، وهذا ما جعل الكثير من الطلاب والأساتذة يبادلونه هذا الحب بحب وتبجيل كبيرين، وهو ما يمكن للمرء أن يتلّمسه في هذا الحزن العميم الذي عمّ وسائل التواصل الاجتماعي بعد رحيله، ومن الإجماع الكبير الذي حازه حول شخصه في حياته، إذ كان يكفي أن يذكر أحدنا اسمه في أيّ حديث أو لقاء حتى يلقى الإجماع ونظرات الاستحسان والحب، وهذا أمر نادر جدًا في حياتنا السوريّة التي ملأتها في السنوات الأخيرة الفرقة والنميمة والانقسام والشتيمة التي طالما أدار الراحل ظهره لها، مؤمنًا أن العمل وحده ما يحقق البناء الذي طالما سعى له، وهو العمل الذي أجهد نفسه به كثيرًا ( في أحد المرات قلت له متى نراك في المرة القادمة، فتح مذكرته وقال لي أقرب موعد فارغ عندي في شباط أيّ بعد ثلاثة أشهر)، إلى أن سُرق منّا، علّه يجد هناك في الأعالي حيث هو ذاهب راحة ما، ربما ليتابع دروسه في المواطنة لسكان ممالك السماء بعد أن ضاقت به ممالك الأرض التي شردتّه في المنافي بعيدًا عن وطن طالما أحبّه وأراد أن يرى مُثله وأحلامه في المواطنة مجسّدة فيه، فكان أن منحه لقب: مواطن بلا وطن.
لكن قلوب محبيك وطلابك ومواطنيك، تحملك بين طياتها، فنم في أوطانها، ريثما نبني لك وطنًا من عنبر وريحان، بما علمتنا إياه.
وداعا أيها المعلّم.
حكاية نا انحكت
———————————
في رثاء حسان عباس: له فضلٌ شخصيٌ عليّ لن أنساه ما حييت/ دلير يوسف
كاتب ومخرج من سوريا، أخرج عدداً من الأفلام السينمائيّة منها: “أمراء النحل” و”منفى” و”بانياس: البدايات” و”حبل غسيل”. صدر له مطبوعًا كتاب بعنوان “حكايات من هذا الزمن” في العام 2014 وكتاب بعنوان “صباح الخير يا أحبّة” في العام 2020. مقيم حالياً في برلين- ألمانيا.
“أنا إنسان قضيت عمري بالتعلّم ولا أزال طالب علم، عدا ذلك، أعمل موزّعًا طاقتي بين ميادين ثلاثة: البحث والتعليم والعمل المدني. غايتي من البحث هي المساهمة في معرفة من نحن كبشر من هذه المنطقة، ولماذا صار حالنا إلى ما هو عليه من تأخر وفوات. غايتي من التعليم هي أن أنقل ما أتحصّل عليه من علم إلى أوسع شريحة من شباب بلدي أما غايتي من العمل المدني فهي نشر ثقافة المواطنة بما تتطلبه من ديمقراطيّة وعلمانيّة وفكر نقدي”.
بدأت النشر صغيرًا، مقالات صغيرة ونصوص أدبيّة وشيئًا ما كنت أسميه شعرًا، أنشرها في مواقع وصحف مختلفة مذ بلغت الثامنة عشرة. في الثالثة والعشرين قلت لنفسي آن الأوان لخطوة أكبر، وكنت حينها قد خرجت لتويّ للمرة الثانية من سوريا. كتبت مقالًا عن الحياة في دمشق وفي الغوطة الشرقيّة وأرسلتها عن طريق تطبيق المسنجر إلى الأستاذ حازم صاغيّة رئيس تحرير جريدة الحياة آنذاك. نشر المقال بعد يومين دون أن يغير فيه حرفًا، وهذا حسب علمي نادر، إذ أنّ محرري جريدة الحياة يفعلون بالمواد المكتوبة التي تصلهم ما يشاؤون.
بهذا فتح عليّ الأستاذ حازم صاغيّة بابًا واسعًا. أستطعت بعدها أن أنشر في كبريات الصحف العربيّة، بناء على طلبهم وعلى سبيل الذكر لا الحصر، نشرتُ مقالات في الحياة والسفير والنهار والعربي والجديد… كلّ هذا بفضل شجاعة الأستاذ حازم صاغيّة الذي آمن بشاب خارج لتوه من قبضة الوحش الأسد.
كنت حينها في الثالثة والعشرين من عمري، كاتبًا في صحف محترمة وناشطًا في المجتمع المدني السوري في بيروت، وكنت مواظبًا آنذاك على حضور معظم النشاطات الثقافيّة والأدبيّة والسياسيّة التي تخص سوريا.
على هامش إحدى ورشات العمل، نسيت موضوع هذه الورشة، والتي كانت تقام في أحد فنادق بيروت، جلسنا، أنا والدكتور حسان عباس، على طاولة صغيرة لشرب القهوة. حينها كنت أعمل في جمعية سوريّة صغيرة أسستها برفقة أصدقاء أعزاء اسمها “SRDH” وكنّا نخطط لنشاطات مشتركة مع الرابطة السوريّة للمواطنة والتي يرأسها الأستاذ حسان عباس.
حكى لي يومها عن نشاطات الرابطة، وحكى لي عن سلسلة “شهادات سوريّة” التي قاموا بإصدار أول كتاب منها مؤخرًا. قال لي إنّهم يرحبون بأن ينشروا لكتّاب شباب مثلي، وقال بأنّه يحب ما أكتب، إن صادف وقرأ شيء لي فذلك يسعده.
بعدها بشهور أعددت مسودة لكتابي الأول، وأرسلتها له. وأخذ الكتاب دورة حياته، من القراءة الأولى والموافقة والتدقيق والتصميم حتى خروجه إلى المكتبات. وهكذا خرج كتابي الأول “حكايات من هذا الزمن” ضمن سلسلة “شهادات سورية – الكتاب الخامس” إلى النور، بفضل الأستاذ حسان عباس. والذي عاملني منذ اليوم الأول باحترام قل نظيره.
هكذا كان فضل حسان عباس عليّ؛ أدخلني إلى عالم الكتّاب وجعلني كاتبًا له كتاب. أدخلني عالم النشر ووضع قدميّ على هذا الطريق الطويل. كما أنّه كان معلمًا لي، وإن بطريقة غير مباشرة. فمثلي مثل كثير من أبناء جيلي ممن التقى بحسان عباس وعاصره، تعلمت منه التواضع وبذل الجهد من أجل المجتمع والعمل من أجل الآخرين ورفض الاستبداد وحبّ الثقافة.
كان معلمًا قلّ مثيله، وكان قبل كلّ شيء صديقنا كلّنا، رغم فرق العمر الكبير، كان صديق كلّ من قابله، وأكاد أجزم بأنّه ترك أثرًا في حياة كلّ من تعامل معه. رجل نبيل بكل ما لكلمة النبل من معنى، وإنّ استطعنا إطلاق لقب فارس على أحد الأشخاص فيكون هو من القلّة التي يستحقونها فعلًا، وذلك لما فعله من أجل الثقافة السوريّة ومن أجل السوريين خلال سنوات طويلة دون كلل أو ملل.
من الصعب عليّ أن أكتب الجملة التالية، لكن هي جملة لا بدّ منها: رحل عن عالمنا اليوم الكاتب والباحث والناشط المدني الدكتور حسان عباس.
لو كان لنا بلدٌ يحترمنا، لو كان عندنا بلد يحترم مواطنيه ويقدّر مثقفيه وقاماته الثقافيّة لنُكِست أعلام هذا البلد أيامًا طوالًا، ولأُعلن الحداد العام على رحيل شخص مثل الدكتور حسان عباس، وهو الذي لم يوفر جهدًا على مدى سنوات طويلة ليقارع الاستبداد بكلّ الطرق الممكنة، هو الرجل المثقف الذي لم يوفر جهدًا في نشر الثقافة في كلّ مكان يكون فيه، ويكاد يكون تأثيره في الأجيال الصغيرة، وأقصد بها الأجيال الأصغر منه وخاصة جيلي، لا يقاربه تأثير أي شخص آخر عمل في الثقافة والأدب.
نشر ثقافة السينما حين كانت سوريا مملكة صمت، ساهم في إنشاء النادي السينمائي في المركز الثقافي الفرنسي في دمشق، فكانت لبعض شباب العاصمة، وأنا منهم، فسحة تنفس، ونافذة على عالم آخر لا نعرفه، إن كان بالأفلام التي عرضها النادي أو بالنقاشات التي تلته.
نشر ثقافة المواطنة في الوقت الذي تموت فيه سوريا تحت ضربات طائفيّة وحين كان الناس يُقتلون على الهويّة على حواجز الطائفيين وفي معتقلات الأسديين. ساهم بتأسيس الرابطة السوريّة للمواطنة، وكان أبًا للثقافة السوريّة في بيروت. أعاد إحياء ناديه السينمائي هناك، ونشر كتبًا لكتّاب شباب، وأقام ورشات عمل ونقاشات ونشاطات لا تنتهي خلال سنوات وجوده في بيروت. وكلّ ذلك كان إلى جانب عمله في الناشطيّة الثقافيّة وفي التعليم.
كاد عمله أن يكون أكبر تأثيرًا وأعمق من عمل وزارة ثقافة في دولة استبداديّة مثل دولنا. بالطبع كان أكثر عمقًا وتأثيرًا، فعمله نابع من القلب ممزوج بحنيّته ولطفه النادران، وبابتسامته التي تبعث الطمأنينة والتفاؤل في وجه من يحادثه.
يصف الدكتور حسان نفسه في حوار قديم بأنّه يعمل على صنع التفاؤل، فيقول: “الوضع الذي وصلنا إليه اليوم وضع محزن ولا أريد أن أرش فوق الموت سكرًا، نحن نفقد أصدقاءنا وبيتنا وأرضنا، وشبابنا يفقد مستقبله والأقل شبابًا يفقدون تاريخهم. أنا كشخص حين أجد أن كلّ شيء يدفع للتشاؤم أسأل نفسي مامعنى وجودي في الحياة إذا كنت أرى كلّ الأشياء سوداء فالأفضل أن أموت، ولكن لاأريد أن أموت إذ، لابد من بناء الأمل. التشاؤم برأي أمر طبيعي ولكن التفاؤل أمر إرادي، ولكنني رغم تشاؤمي قليلاً إلا أنني مواطن يصنع التفاؤل.”
حسان عباس، شكرًا لك على كل ما قدمته لنا، وأعدك بأنّ القيم التي زرعتها فينا لن تموت.
حسان عباس، وداعًا.
————————————-
================
تحديث 10 أذار 2021
——————–
حسّان عبّاس.. روايات سورية من لحم ودم/ علاء رشيدي
لا تقتصر النتائج البحثية التي يتوصّل إليها الباحث السوري حسّان عبّاس ــ الذي غادرنا يوم الأحد (1955 ـ 2021) ــ في كتاب “الجسد في رواية الحرب السورية”، الصادر حديثاً عن منشورات “المعهد الفرنسي للشرق الأدنى”، على أدب الحرب السوري. فرغم أن الدراسة تشمل، بشكل أساسيّ، 15 عملاً روائياً بنَتْ حكاياتها على أرضية الحرب في سورية، إلّا أنّ الخلاصات التي يقف عليها عبّاس في مجال النقد الأدبي تمتدّ لتشمل الأسلوبيّات الشعرية، وقاموس اللغويات الأدبية العربيّة في التعامل مع الجسد نصّياً.
يفتتح المؤلف كتابه بالتوضيح: “لا أدب بدون جسد، بدون أجساد، ما دام الأدب يحكي، يروي، حكاياتٍ تحتاج إلى فاعلين لا يمكنهم إلّا أن يتمثّلوا بوجود مادّي”. يذكّرنا المؤلّف بصورة الجسد كما تفرضه أو تريده الثقافات المهيمنة، التي ترسمه كالقرين المبتذل، وتفرض الجسد الملحمي الذي يذوب فيه جسد الفرد لصالح جسد الجماعة. إنّها، بعبارة أُخرى، صورةٌ للجسد المقموع، وخصوصاً في ما يتعلّق بحرّيّته الجنسية. هنا، يتناول عبّاس مجموعةً من الأعمال الأدبية السورية التي قاربت التابو الجنسي، ومنها بعض أشعار نزار قباني، وروايات، مثل “وليمة لأعشاب البحر” لحيدر حيدر (1984)، و”دار المتعة” لوليد إخلاصي (1991)، و”اختبار الحواس”، لعلي عبد الله سعيد (1992)، إضافة إلى أعمال مسرحية، مثل “الاغتصاب” (1990) و”منمنمات تاريخية” (1994) لسعد الله ونوس.
ثنائيات متقابلة
مع انطلاقة الثورة السورية، عام 2011، دخلت صورة الجسد في مسارين متوازيين، وإن كانا لا يخلوان من التناقض. مسارٌ ملحميّ يجمع الأجساد المختلفة في كتلة واحدة، بحيث تشترك بحكاية واحدة، وفعالية واحدة، ومصير واحد؛ ومسار فرداني ينكمش فيه الجسد إلى حدوده الفردية ليصوغ حكايته الخاصّة، المستقلّة. الجسد الملحمي يتمثّل في المظاهرات والاعتصامات والتجمعات الشعبية، أما الجسد الفردي، فيتمثّل في الجسد المعذّب في المعتقلات.
يقسم الباحث دراسته لتمثّلات الجسد أدبياً إلى الخصائص المادّية المتعلقة بالمظهر العام الممنوح للشخصيات، والخصائص اللامادية المتعلقة بالبنية الداخلية للشخصيات. في محور يحمل عنوان “البدانة والنحول”، يستخلص عبّاس أن الكثير من الروايات تُطبّق نوعاً من التصنيف الذي يربط بين حجم جسد الشخصية وسلوكياتها. أي أنها تقوم بعملية مماهاة بين المظهر الفيزيائي للجسد وقيَم إنسانية/ أخلاقية للشخصيات: “ممّا يشكل تنميطاً مسبقاً للأجساد، يجعل من الضخامة الجسدية، التي يعبّر عنها بصفتي البدانة والسمنة أحياناً، صفة تكاد تكون غالبةً للشخصية السلبية، الشريرة، العدوة، فاقدة الأهمية، المنتمية إلى الموقع المناقض للموقع الذي تحتله الشخصيات التي يبدي الكاتب تعاطفاً أو تضامناً معها، والتي تَظهر من جهتها نحيلة وضعيفة ولطيفة”، كما هو الحال في روايات مثل “الذئاب لا تنسى”، للينا هويان الحسن، و”مفقود” لحيدر حيدر.
أمّا في رواية “المشاءة”، لسمر يزبك، فنجد مقابلة مباشرة بين الضخامة والنحول في مشهد واحد يَروي العلاقة بين ضحيّة وجلّاد. الضحيّة شابٌّ يعتقله عناصر حاجز أمنيّ، والجلّاد هو هؤلاء العناصر. الضحيّة الشاب نحيل، بينما رجال الأمن ضِخام البُنية. وفي رواية “بانسيون مريم”، لنبيل الملحم، تكون الشخصيات الأساسية في الرواية ذات أجساد ضعيفة أو مريضة أو مشوهة؛ أما الشخصيات الثانوية، فأجسادها، في الأغلب، بدينة.
يتكرّر الربط بين هيئة البدَن والقيَم الأخلاقية في محور يخصّصه الباحث السوري لمسألة العضلات المنفوخة والعضلات المفتولة، حيث يلحظ أن الشخصيات التي تتكلّم الروايات عن عضلاتها هي شخصيات ذكورية، تحكمها ثنائية العضلات المفتولة، القاسية، ذات الدلالة الإيجابية غالباً، من ناحية، والعضلات المنفوخة، من ناحية ثانية، وهي ذات دلالة سلبية بشكل عام. في “الموت عمل شاق”، لخالد خليفة، تُظهر شخصيّة حسين شيئاً من التفرّد والعنفوان والتمرّد على السُلطة الأبوية، يُخرجها من وضع الخضوع إلى حالة المقاومة، ما يمنحها امتيازَ أن تنعم بعضلاته مفتولة. وفي “الخائفون”، لديمة ونوس، يتميّز نسيم ــ الشاب الثلاثيني والشخصية الإشكالية التي تجسّد الضحية المثالية للسلطات الحاكمة في سورية ــ بجسد جذّاب ومثير، ذي عضلات مفتولة وقاسية. أما في “السوريون الأعداء”، لفواز حداد، و”أيام في بابا عمرو”، لعبد الله مكسور، فتتّسم أجساد الشبيحة أو المعتدين بالعضلات المنفوخة.
وإذا كانت صفتا البدانة والنحول مرتبطتين ببُنية الجسد الخارجية، فإن صفتي الهشاشة والضعف ترتبطان ببُنيته الداخلية. ففي “بانسيون مريم”، يرسم نبيل الملحم خارطة جسدية بالغة الدلالة لشخصيات الرواية: الأجساد البدينة للشخصيات الثانوية والكومبارس، والأجساد الضعيفة هي أجساد سكّان البانسيون بالدرجة الأولى. يعلّق حسن عبّاس: “ليست الأجساد في هذه الرواية بريئة، بل يمكن القول إنها هي الشخصيات الجوهرية، وما شخصيات الرواية سوى ذرائع لوجودها. بمعنى آخر، يبدو هنا أن الروائي وضع الأجساد أولاً، ثم ألبسها ثياباً وأسماء وليس العكس، في أسلوبية لا نجدها، على الأقل بهذه الدرجة من الوضوح، في كثير من الروايات”.
كلام العيون واللّحى
يركّز البحث على دراسة الوجوه كعنصر رئيس في تمثّل الجسد في الروايات، وذلك من خلال التركيز على عنصرين اثنين من العناصر الوجهية: العيون واللّحى. تستوقفنا، بالدرجة الأولى، الرابطة التي تقيمها الروايات بين العين والأفعال المتعلّقة بالضوء، في إشارة مجازية إلى مجموعة من الصفات الإيجابية لدى الشخص الموسوم، ومنها اللمعان، والتألّق، والإشعاع. في “الموت عمل شاق” لخالد خليفة، تظهر العيون كعضو نبيل يحضر من خلاله الجسد المقاوم الرافض للوضعيات المحبطة. وترسم “بانسيون مريم”، لنبيل الملحم، خارطة للعيون تحاكي في انفعالاتها الوضع الذي أوجدته الانتفاضة في البلاد، لتصبح عيون الشخصيات كمرآة للواقع السوري.
تظهر اللّحى في إشارة إلى الإسلاميين في “السوريون الأعداء”، لفواز حداد، وترمز إلى الشبيحة رواية “أيام في بابا عمرو”، لعبد الله مكسور. أما في رواية “الذين مسّهم السحر”، لروزا ياسين حسن، فترمز الكاتبة إلى أسلَمَة المعارضة عبر إرخاء اللّحى، حيث نقرأ حواراً بين مقاتلَيْن يناقشان حال التسلح لدى فصائل المعارضة حول مدينة حلب، ونتبيّن منه أن الدعم لا يأتي إلى الثوار الحقيقيين وإنما إلى الإسلاميين، فيقول أحدهما ساخراً: “علينا أن نربّي لحانا ونحلق شواربنا كي يأتينا الدعم”.
أنسنةُ الجسد وحيْوَنته
تحت عنوان “الجسد المُحَيوَن”، يقدم الكتاب لتقنيّتي الأنسنة والحيونة. في رواية “الذئاب لا تنسى”، للينا هويان الحسن، تظهر كائنات البادية الطبيعية من حيوانات وجنّ كحوامل طبيعية للعواطف والمشاعر الإنسانية، متفوّقةً على البشر الذين أفقدتهم السلطة والحرب إنسانيّتهم. بينما، في تقنيّة مُقابلة، تشكّل رواية “نزوح مريم”، لمحمود حسن الجاسم، منجماً ثريّاً لأمثلة التحويلات التي يمارسها الروائي على الشخصيات البشرية لمنحها صفات أو هيئات حيوانيّة تساعده في رسم عوالم روايته. وحول رواية “الذين مسّهم السحر”، لروزا ياسين حسن، يكتب عبّاس: “تُظهر لنا خارطة الكلْبَنة ــ أي منح الشخصيات الإنسانية صفات الكلب ــ في هذه الرواية أنّ السوريين، في صراعهم السياسي والعسكري، قد استخدموا مخزونهم الثقافي المشترك، متمثلاً هنا بالرمزية الأخلاقية الدونية للكلاب، سلاحاً يوجهه كل فريق إلى الفريق الذي يواجهه”. ويشير إلى أنّ الروائية تستحضر صورتين جسديّتين للكلب: “صورة الجلّاد المتوحّش، وصورة الضحيّة الذليلة. إنّه استخدام معنويّ، لا مادّي، لصورة نمطيّة مُسبقة مُعمّمة في أذهان الناس، هي الصورة اللاأخلاقية للكلب”.
أرشيف الجثث
يخصّص المؤلّف المحور الأخير من كتابه لدراسة “الجثة أو الجسد الميت”، فيُشبّه رواية الحرب السورية بالمقبرة الجماعية، إذ تكاد لا تخلو رواية من مشاهد الجثث أو من ذِكرها. وتظهر الأجساد الميتة والجثث في روايات الحرب كخلفية ذات دلالة أو كمشهد عابر في رسم الواقع. رواية “الذئاب لا تنسى”، للينا هويان الحسن، تُسهب في وصف الأشلاء والجثث: “أشلاء، كلّ شيء يمكن أن يتفتّت بلحظة ويتحوّل إلى أشلاء”. ونجد في رواية “موسم سقوط الفراشات”، لعتاب شبيب، أرشيفاً منوّعاً من الجثث ذات الحكايات الفريدة. كما يدرس المؤلف مفهوم “التجثّث” ــ أي التحوّل من جسد حيّ إلى جثة ــ في عدد من الروايات، أبرزها “الموت عمل شاق” لخالد خليفة، والتي يُقابل فيها الروائيّ بين تفسّخ الجثّة وخراب سورية، بفعل الحرب القائمة، مستخدماً الجسد كمعادل رمزيّ مباشر لسورية.
العربي الجديد
———————-
حسان عباس في ذاته المغايرة/ أسامة اسبر
نعتَ شاعرُنا العربي الكبير المتنبي الموتَ بالغدر، واعتبره أيضاً ضرباً من القتل، في بيته الشهير الذي يقول فيه:
إذا ما تأمَّلْتَ الزمانَ وصرفَه
تَيقَّنْتَ أن الموتَ ضربٌ من القتل
وهو فعلاً نوع من القتل حين يستهدفُ شخصيات فكرية وإبداعية لم تتوقف يوماً عن العمل من أجل تغيير المجتمع نحو الأفضل باذلة من أجل ذلك الغالي والرخيص، ومفضلة حياة المنفى على حياة الذل والخضوع. وإذا لم يمتلك المرء إيماناً دينياً من نوع ما سيبدو له الوجود لعبة ومسرحاً عبثياً لموت متواصل، فيما الحياة الحرة الكريمة، حياة الحقوق والمواطنة والاختيار، حياة التغيير والتجدد شبه منعدمة، والسبب في ذلك طبيعة النظام الاستبدادي السائد، وطبيعة جزء كبير من الفكر السياسي المعارض السائد والاثنان لا يكفان في منطقتنا عن الصدور عن بنية واحدة، أو بحسب الفكرة الألتوسيرية، عن البنية الإيديولوجية والتي يحدث فيها تواطؤ مريب: أي تتواطأ العائلة والمدرسة والإعلام والمسجد والنقابات والأحزاب التوفيقية والقوانين والمنظومات والعادات والتقاليد والأجهزة القمعية بمختلف أنواعها في تشكيلها، وبالتالي تسهم في ولادة الإنسان الممتثل والخاضع والخائف من التغيير والقابل للواقع السائد بكل إكراهاته، وهكذا يخرج الحاكم وكثير من معارضيه من المنظومة نفسها. إلا أن هذا يجب ألا يكون مدعاة للتشاؤم والسوداوية وموت الأمل، بل يجب أن نكون كما قال المسرحي السوري العظيم سعد الله ونوس محكومين بالأمل، وإذا كانت البنية تتحكم وتُنتج وتفرض نظرة الإنسان إلى الوجود والثقافة التي تحد من خياراته، وتدعوه للامتثال إلا أن وعيه لذاته وتمرده عليها، وبالتالي تمرده على البنية – الرحم يؤدي إلى ولادة ذاته المغايرة كإنسان حر رافض لذاته كنتاج للبنية، وبالتالي ولادته وانبعاثه من ذاته القديمة الموروثة في ذات جديدة، ذات الإنسان الرافض للواقع السائد والمنادي بتغييره. هذه الولادة الجديدة للذات السورية المغايرة حقّقها وجسّدها حسان عباس، الذي توفي أمس إثر صراع مع مرض عضال، مات لكنه وُلد في الفكر المتحول والذي لا يموت والذي هو وحده القادر على إنقاذ سوريا من الموت. فقد رفض أن يكون نتاج البنية التقليدية التي تصنع الإنسان الممتثل المهادن والقابل للأمر الواقع، وقرر أن يكون ذاتاً جديدة تنادي بالتغيير، وبالتالي كان صوت ذاته الجديدة والتي وضعتْهُ على المسار الفكري الصحيح، مسار نقد الأوضاع السائدة وتأصّلها في الثقافة الموروثة، وحين حدثت الانتفاضة السورية أعلن على الفور وقوفه مع خطها المدني لكنه لم يهادن الخطوط الأخرى التي التهمتها وحافظ على موقفه النقدي مشدداً على دور الكتاب والتربية والتعليم والإبداع الفكري والأدبي والفني الموسيقي والسينمائي والعمل الثقافي الدؤوب القائم على البحث المعرفي في خلق ثقافة تنويرية بديلة هي التي ستنقذ المنطقة من التهاوي المتواصل في ظلام الاستبداد والفكر الأصولي.
كانت معرفتي بحسان عباس جيدة جداً، وحين كان في المعهد الفرنسي، وجه لي دعوة مع بعض الشعراء الشباب الآخرين لإحياء أمسية شعرية ونقاش مفتوح مع الحضور، كانت هذه أول أمسية شعرية لي في دمشق، وبالتالي أن تكون الدعوة موجهة من حسان عباس فهذا يعني أن هناك سبباً وراءها والسبب هو أنه كان يؤمن بالعمل الثقافي والإبداعي وبضرورة دعم المواهب الشابة ووضعها في سياق ثقافي مختلف في وقت كانت فيه المراكز الثقافية الرسمية (باستثناء بعض المراكز التي لعبتْ فيها المبادرات الشخصية دوراً لافتاً) لا تعبر عن نبض الإبداع السوري، لا يعني هذا أن المعهد الفرنسي يجب أن يكون بديلاً، بل أنه قد يكون بديلاً مهماً حين تكون فيه قامة مهمة كقامة حسان عباس، تفهم ألاعيب القوة وتعرف كيف تفتح منافذ الاستقلالية والخصوصية. ولم يتوقف الأمر هنا، فقد كان حسان عباس شعلة ثقافية حية استطاعت أن تؤسس لجو ثقافي بديل في وقت كانت فيه روح الشباب تبحث عن منافذ لها خارج التدجين الثقافي العام الذي سُلط عليه سيف الرقابة.
لم يكن حسان عباس في أيامه الأخيرة متفائلاً كما كان في ٢٠١١، لكنه حين رأى أن الحل الأمني سلك طرقاً شرسة وعنيفة أدت إلى وأد النزعة المدنية وتحويلها إلى تيار ديني متطرف، وبعد أن تحولت الصرخة المدنية إلى خطبة دينية، وانفتح باب العسكرة على مصراعيه، ووُلد التطرف الديني ودخل مالُ النفط الخليجي على الخط واشتُريت الذمم واستُلبت الإرادات، وأُفْسدت النفوس وتفككت الدولة وفقدت أراضيها وتجسدت في ميلشيات وتجسدت المعارضة في جماعات أصولية يقودها أشخاص على صلة بالقاعدة، وصار الحلفاء أصحاب القرار في البلد، لم ير حسان عباس المستقبل مشرقاً ومضيئاً، وتحدث في حوار أجراه معه منذ مدة قصيرة ”معهد حرمون للدراسات المعاصرة” عن ”مشهد عبثي“، ولم ير أية صورة مشرقة وردية لمستقبل سوريا القريب، وكان الشيء الوحيد الذي تخيله صورة كارثية تعكس بلداً ممزقاً دولته فاشلة وسيادته مُنتهكة ومجتمعه متصدّع طائفياً واقتصاده منهار ويواصل انهياره. غير أن حسان عباس لم يكن من النوع المتشائم وهذه ميزة المثقف العضوي التغييري المحب لشعبه، لهذا نوه في الحوار نفسه أن الصورة العبثية التي يتحدث عنها هي صورة سورية في المستقبل القريب، وليست سورية المستقبل، التي يجب أن يعمل السوريون الحقيقيون على أن تُعمَّر من جديد، وبإرادة سورية مستقلة، بعيداً عن الإملاءات الخارجية. ولهذا كان حسان عباس يرى منذ البداية، أي منذ بداية كتاباته حول الشأن السوري أن العمل الثقافي التنويري هو الجوهر الأساس في كل شيء، إذ لا يمكنك أن تغيّر مجتمعاً إذا لم تُغير رؤيته للعالم والحياة، إذا لم تُفْهمهُ أنه ما يزال تحت المجتمع، وأن عليه أن يكون مجتمعاً بالمعنى الحقيقي والمدني للكلمة. وكي تغير هذه الرؤية عليك أن تكون مخلصاً للمبدأ الفلسفي اليوناني: اعرفْ نفسك، و أن تفكر بكيفية ولادة ذوات جديدة، ذوات قادرة على أن تتمرد على نفسها كنتاج للبنية اللاشعورية، ذوات لا يمكن أن تعاود المنظومات القديمة إنتاج نفسها من خلالها وبالتالي هي ذوات تنويرية تمتلك رؤية جديدة للتغيير، تتمرد على نفسها وتتحرر وتُجسِّد أخلاق الحقيقة ومقاومة الاستبداد السياسي والتطرف الديني، ولا مستقبل لسوريا إلا بتحطيم هذه البنية والتي صارت في منطقتنا، نبع الاستبداد والتطرف سواء أكان يرتدي بدلة العلمانية أم عباءة دينية.
قضى حسان عباس لكن آراءه لن تموت وهي التي أبدعتها ذات حقيقية مغايرة أنجبت نفسها في سياق البحث عن الحقيقة وفي تجسيدها للصوت المقاوم لكل أشكال الاستبداد والتخلف، وهي دوماً ستشكل زوادة لكل مُنْجبٍ لنفسهِ وصاقلٍ لها، ولكل رحالة على دروب التغيير السياسي، ولكل باحث عن الحقيقة خارج المسرح الإيديولوجي المليء بالأكاذيب والتشويهات، مسرح العبث السوري حيث الخريطة نفسها تبدو كما لو أن خطوطها تتحرك بشكل سريالي أو تدور كدواليب اليانصيب فلا نعرف على ماذا سيتوقف الرقم أو إذا كان سيتوقف في المستقبل القريب.
قضى حسان عباس من ورم خبيث غير أنه لم يكن رقماً عابراً، كان صوتاً منقذاً ومداوياً، هذا الصوت الحر الذي، في سيمفونية إبداعية وحرة مع أصوات سورية أخرى حرة مُنقذة، سيظل يعمل على مداواة الجسد السوري من ورم الاستبداد والتطرف.
About the Author: Osama Esber
أسامة إسبر، شاعر ومترجم سوري. يعمل محرراً في موقع ”جدلية“ وموقع ”تدوين للنشر“ وكصحفي ومترجم مستقل . صدرت له أربع مجموعات شعريّة هي ”شاشات التاريخ“، ”ميثاق الموج“، ”تتكرر فوق المنفى“، و“حيث لا يعيش“، كما صدرت له مجموعتان قصصيتان هما ”السيرة الدينارية“ و“مقهى المنتحرين“. ومن أحدث ترجماته عن الإنجليزية ”الكاتدرائية“ لريموند كارفر، رواية ”أسنان بيضاء“ لزيدي سميث، ”الفناء الإسمنتي“ لإيان مكيوان، ورواية ”التراب الأميركي“ لجينين كمنز، ورواية ”كندا“ لرتشارد فورد ورواية ”توقيعه على الأشياء كلّها“لإليزابيث جلبرت. و“الكتب في حياتي“ لهنري ميلر. شارك في المشغل الدولي للكتابة الإبداعية في جامعة آيوا، و يُقيم حاليّاً في أمريكا
———————————–
حسان عباس: اكتب فالزمن غدار!/ ميشال شمّاس
بهذه الكلمات خاطبني الراحل الجميل الدكتور حسان عباس قبل خمس سنوات، “اكتب يومياتك يا ميشيل مع المعتقلات والمعتقلين الذين دافعت عنهم والتقيت بهم في نظارة القصر العدلي بدمشق وأمام أبواب قضاة التحقيق.. اكتب يا ميشيل فالزمن غدار..”، ثم عاد قبل شهرين وذكرني أنه مازال ينتظر توثيق مشاهداتي في الدفاع عن المعتقلين.. لكن الزمن كان غداراً، فغدر به، لم يمهله، اختطفه من وسطنا في وقت نحن أحوج إلى وجوده حياً بيننا.
التقيت شخصياً بالراحل أول مرة في مقر الرابطة السورية للمواطنة بحيّ بدارو في بيروت عام 2013، وإن أول ما لفت نظري فور دخولي مكتب الرابطة تلك الرزم المكدسة من الكتب، وعندما سألته عن تلك الكتب، أجابني الراحل إن هذه الكتب تروي قصص السوريات والسوريين وحكاياتهم بحلوها ومرّها مع أول انتفاضة يجرؤون فيها على قول “لا” و”كفى” لطاغية دمشق، وهي تنتظر هنا لتوزيعها لمن يهتم، وأذكر حينها أنه قال لي وهو يشير إلى تلك القصص: “ننتظر منك يا ميشيل أن تكتب لنا أيضاً مشاهداتك اليومية في المحاكم، فمن حق الناس عليك وعلى كل الذين يدافعون عن المعتقلات والمعتقلات، أن يعرفوا ما كان يجري معهم عند إحالتهم من الفروع الأمنية وكيف كان يتم التعامل معكم ومعهم من قبل عناصر شرطة القصر العدلي وقضاة المحاكم” وعندما رويت له بعضاً من مشاهداتي عاد وكرر طلبه، وتعهّد حينها بطباعة ما أكتبه على نفقة “الرابطة السورية للمواطنة”، كما قدّم باسم الرابطة دعماً مادياً للمعتقلين وعائلاتهم، وأعلن استعداد الرابطة عن تقديم أي دعم ممكن لقضية المعتقلين ولهيئة الدفاع عن المعتقلين.
ثم توالت لقاءاتي معه خاصة بعد أن تحوّلت بيروت على مدى سنوات إلى ملتقى السوريات والسوريين الهاربين من بطش مخابرات الأسد التي كانت تلاحقهم إلى أي مكان يلجؤون إليه قبل أن تتحول بيروت إلى مكان طارد خاصة للسوريين المعارضين لنظام الأسد. وأذكر أنه في أيار 2015 عندما كنتُ في مقر الرابطة وردني اتصال من جنيف أخبرني المتصل أن اسمي مدرج بين الأسماء الذين سيلتقيهم المبعوث الأممي الجديد “ستيفان ديمستورا” للاطلاع على رأيهم بشأن الأوضاع في سورية. وعندما علم الراحل بأمر لقائي مع “ديمستورا ” قال لي يجب أن تسافر إلى جنيف، فأنت أفضل من يعرض قضية الاعتقال والمعتقلين وتسلط الضوء على مأساتهم الإنسانية وما يتعرضون له من تعذيب في مراكز الاعتقال، وشدد على أن هذه القضية الإنسانية يجب أن تكون في سلّم أولويات أي حل في سورية.
وعندما انتقلت مع عائلتي إلى بيروت في تموز عام 2015، هرباً من الاعتقال، كان من حسن حظي أنني عثرت على شقة للسكن لا تبعد عن مقر الرابطة أكثر من عشر دقائق مشياً على الأقدام، وهذا ما سمح لي بالتواصل شبه اليومي على مدى ستة أشهر مع الراحل وجميع أعضاء الرابطة حتى شعرت أنني أصبحتُ جزءاً منهم.
إن أكثر ما شدّني إليه الراحل هو جوابه الدائم لمن يسأله كيف تفضل التعريف بنفسك: “أنا إنسان قضيت عمري بالتعلّم ولا أزال طالب علم، عدا ذلك، أعمل موزّعاً طاقتي بين ميادين ثلاثة: البحث والتعليم والعمل المدني. غايتي من البحث هي المساهمة في معرفة من نحن كبشر من هذه المنطقة، ولماذا صار حالنا إلى ما هو عليه من تأخر وفوات. غايتي من التعليم هي أن أنقل ما أتحصّل عليه من علم إلى أوسع شريحة من شباب بلدي. أمّا غايتي من العمل المدني فهي نشر ثقافة المواطنة بما تتطلبه من ديمقراطية وعلمانية وفكر نقدي”.
خسارتنا اليوم برحيل حسان عباس هذا السوري الجميل خسارة كبيرة لا تعوض، فقد خسرنا برحيله حكيماً ومثقفاً وناقداً وأكاديمياً ومحاوراً لم يبخل أبدأً بنقل معرفته للآخرين، وخسرناً مؤلفاً لعدد كبير من الكتب صدر آخرها في الأول من مارس آذار أي قبل ستة أيام من رحيله وحمل عنوان ” الجسد في رواية الحرب السورية”، وقد احتفى الراحل بصدوره على صفحته، وكأنه كان يستشعر غدر الزمن به.
كما خسرنا برحيله مناضلاً عنيداً وصلباً ضد الطائفية والاستبداد والتطرف، ومناصراً قوياً لنشر مفهوم المواطنة بين السوريات والسوريين، ولهذا سعى إلى تأسيس الرابطة السورية للمواطنة إلى جانب عدد كبير من الناشطات والناشطين، والتي عرّفها الراحل: “إنّها تجمع مدني طوعي لكل من يرغب في العمل على ترسيخ المواطنة وقيمها على صعيد العلاقة بين المواطنين، والعلاقات بينهم وبين الدولة، والعلاقات بينهم وبين المحيط الذي يعيشون فيه. ومع أنها ليست تنظيماً سياسياً، فإنّها تعمل في الشأن العام وتسعى إلى أن تكون ذات تأثير في المجتمع المدني”. ولخص الراحل أهدافها “المشاركة الفاعلة والواعية لأي شخص دون استثناء أو وصاية في بناء الإطار الاجتماعي والسياسي والثقافي للدولة. وقد لعبت الرابطة دوراً مهماً في تعريف الناس بمفهوم المواطنة وحقوق الإنسان من خلال الدورات التدريبية الكثيرة التي أقامتها في بيروت والتي شارك فيها مئات من السوريات والسوريات على امتداد سنوات عديدة.
موجعة جداً هذا الخسارة، ومؤلم أكثر هذا الرحيل المبكر للسوري الأصيل الصديق الجميل حسان عباس، وإن فقده في هذه الظروف الصعبة التي نعيشها، حيث نحن بأمس الحاجة إلى حكمته وتوازنه وخطابه المعرفي الهادئ سيزيد أعباءنا ويثقل كاهلنا بالفراغ الذي سيتركه غيابه المفاجئ، لطالما كان الراحل سوريّاً حقيقياً وجامعاً، فإن لساننا يعجز عن رثائه الذي يستحق.
لترقد روحك بسلام يا صديقي، وستظل حاضراً بيننا بإرثك النيّر الذي تركته لنا أيها السوري الجميل.
ميشيل شماس .
————————–
================
—————–
حسان عباس في “لا تغمض عينيك”.. عن نصوص تثبت الشمس في كبد السماء/ علاء رشيدي
عدا عن كتبه التخصصية في المواطنة (أنا أنت هم، كتاب جماعي عن المواطنة، 2002)، في الأدب (رحلة مع الهايكو، 2008) و(الجسد في رواية الحرب السورية، 2021)، وفي الموسيقى (الموسيقى التقليدية في سورية، 2018)، يأتي كتاب (لا تغمض عينيك) الصادر عن دار “بيت المواطن”، متضمناً مجموعة المقالات التي كتبها حسان عباس في السنوات الأخيرة والتي من خلالها يمكن الولوج إلى مجموع أفكاره، وخلاصة رؤاه السياسية، الاجتماعية، والفنية خلال المرحلة السورية الراهنة. عدا على أن عنوان الكتاب اليوم، بعد إغماضه عينيه عن رحلة الحياة، يكتسب شحنة عاطفية كثيفة مؤثرة في القارئ.
الحدث السوري من الملحمي إلى العبثي:
في مقالة بعنوان (ثم يأتي العبث) يطرح عباس قراءة للأحداث السورية بناءً على نظرية الأجناس الأدبية، فيعتبر أن الحكاية السورية مرت بثلاث مراحل متتابعة: الأولى المرحلة الملحمية والتي تتمثل بالشجاعة الفريدة التي أبدتها جموع من السوريين كسرت قمقم الخوف، وقامت بمظاهرات واعتصامات للمطالبة بالحرية.
ثم انتقلت إلى المرحلة الثانية وهي المرحلة التراجيدية التي انتقل فيها الحال من الثورة إلى الحرب الداخلية، وتتميز هذه المرحلة بمميزات البطل التراجيدي من الشجاعة والإقدام أولاً، التضحية والفداء كرمى القيم السامية ثانياً، والنقاء الأخلاقي الذي يدفع به إلى خوض حرب يعرف بكامل وعيه أنها حرب بلا مخرج ثالثاً.
أما المرحلة الثالثة التي تفتتح على مشهد الخراب والموت والحزن العميم، إنها المرحلة المأساوية بامتياز، ويتحول فيها الأفراد إلى شخصيات تقوم بحربها بقناعاتها وبكامل حريتها ووعيها. الموت في هذه المرحلة ليس احتمالاً غير مستحب بل يصبح فعلاً مطلوباً.
وبعد أن يشرح الكاتب المراحل الثلاثة: الملحمية، التراجيدية، والمأساوية، يقدم نبؤة مستقبلية عن المرحلة القادمة، فينهي مقاله بالعبارة التالية: “في مرحلة قادمة، وبعد أن ينجزوا المأساة، سيجلس المتقاتلون منهكين متسولين للحل المجهز سلفاً. عندها، إن بقي لدى بعضهم شيء من الضمير، سينظرون إلى أرض الخراب ويتساءلون في قرارة أنفسهم: لم فعلنا كل ذلك؟ عندها تبدأ مرحلة العبث”.
القصص في فن المقال:
يجمع عباس في مقالاته بين فن القص وفن المقالة، في نصوص مثل (مواقف) التي تروي حكايات عن نازحين سوريين في داخل مدينة دمشق، عن آباء فقدوا أبناءهم وعقولهم يهلوسون بآلامهم في وسائل النقل العامة، يتضمن أيضاً حكاية عائلة يتم ابتزازها للحصول على معلومات عن أبنائهم المختفين قسرياً، كما يروي قصة مشاركته مع الروائي (خالد خليفة) في تشييع الشهيد (ربيع الغزي) والاعتداءات التي تعرضوا لها، لتصبح المقالة عبارة عن خمسة قصص متجاورة يوصل الكاتب من خلالها آراءه عن ظواهر اجتماعية سورية.
تحضر القصة أيضاً في مقالة بعنوان (السيدة مريم) التي يتوقف عباس عند نماذج الأمهات الكليمات لكنهن في الوقت عينه استطعن على بث التوازن، الأمل بالمستقبل، والحث على التغيير كما هي والدة الشهيد (أيهم غزول) التي يصف النص ابتسامتها الدائمة: “هذه المرأة التي تعرف أنها تهز العالم بيسارها، ليس بالعنف والدعوة إلى القتل والانتقام، بل يفيض الإنسانية وحكمة الألم”، وفي هذا الإطار فقد ساهم عباس بتحرير وتحقيق كتاب بعنوان (شهادات أمهات سوريات) نشر بالتعاون بين الرابطة السورية للمواطنة التي كان قائماً عليها، ومجموعة (بسمة) الدولية.
في (ثمة رأس كان هنا) يجاور عباس بين قصة إنقاذ طفلة من الأنقاض وقد أطيح برأسها، وبين حادثة قطع رأس تمثال أبو العلاء المعري في بلدته المعرة: “شتان ما بين وحشية حز رأس آدمي، خاصة وإن كان طفلاً، وقطع رأس تمثال، بل لا تجوز المقارنة بين الفعلين، لكن ثمة قاسم مشترك بينهما، لا يمكننا إنكار وجوده، إنه الهمجية بكل ما تعنيه من وحشية وجهل”. وكذلك لمقالة (أشياء السيد س التافهة) طابع قصصي، فالكاتب يروي حكاية عن شخصية السيد “س” الإنسان العادي الذي يعيش في دمشق، لكن حياته العادية مليئة بالأفعال البطولية، وعبر حكاية هذه الشخصية المجهولة، المقالة موجهة إلى ذكرى عمر عزيز، يحاول عباس ان يرسم معالم البطولة لكن بشكلها السوري الراهن منذ 2011، فيكتب: “إيصال صندوق حليب لأطفال مهجرين في حي بعيد، إيصال مساعدة مالية لسيدة مهجرة، مساعدة مجموعة من الشباب في تنظيم نشاطهم المدني، وإنهاء دراسة علمية لمركز أبحاث، لقاء بعض الشباب المحبطين ليحاول بعث الأمل فيهم”.
الحكاية السورية ونماذج من الأدب والفن العالمي:
كلما عالج عباس في نصوصه موضوعة ما، قدم عنها نماذجاً من حكايات التراث الإنساني، من الأعمال الأدبية أو الشعرية، مثل حكاية (إيلبينور) من ملحمة الأوديسة، حكاية (يهوذا الإسخريوطي) الذي أوكل له (المسيح) مهمة حفظ أموال الجماعة لكنه خان الأمانة، يروي الكاتب هذه الحكاية في إطار معالجته لموضوعة الفساد، التي لم يقصر الكاتب معالجتها على النظام الحاكم، بل تحدث عن الفساد الموجود في القوى التي تعتبر نفسها في إطار المعارضة أو الثورية، وخصوصاً الفساد في المبالغ المالية المرسلة للإغاثة. كما يعالج عباس ثقافة الإقصاء وممارساتها في مقالة بعنوان (شعارات الأقصاء)، عبر تحليل الهتافات والشعارات التي عملت على إقصاء الآخر. بينما يعالج في مقالة (متعلمو السحر)، كيف انقلب خيار النظام الحاكم بالحل الأمني والتساهل مع تسلح المجتمع والتركيز إعلامياً على الشكل العسكري، انقلب ليتحول هذا السلاح إلى أيدي الجهاديين، وتصبح سورية أرض جهاد، لقد انقلب السحر على الساحر بحسب تعابير الكاتب.
لا تخلو مجموعة المقالات أيضاً، من تحليل لأعمال فنية تعكس التجربة السورية، ومنها مقالة (مقاربتان بصريتان للنزوح السوري)، التي يحلل فيها عباس فيلمان (نحنا مو هيك، للمخرجة كارول منصور)، و(آهات الحرية، الذي يشارك د. حسان كأحد شخصياته) كنماذج سينمائية في مقاربة مسألة النزوح السوري، نماذج تطرح أسئلة الماضي، أسئلة النزوح، وأسئلة الراهن أو المنفى، فيكتب: “في الفيلم الأول الشخصيات هي الحكايات، أما في الفيلم الثاني فالمنفى هو الحكاية، وفي الحالتين نجح المخرجان، كل من وجهة نظره، وكل حسب حساسيته، في مقاربتهما البصرية لمأساة النزوح السوري”.
لينك فيلم (آهات الحرية):
عن الخوف والعنف في الممارسة السورية:
تفكيك آليات الخوف العنف في الثقافة والممارسة السورية يحضر كشاغل أساسي في كتابات عباس الأخيرة. في (شياطين الخوف) يبحث الكاتب في بنية ثقافة الخوف وكيفية تشكليها ومأسستها عبر أجهزة القمع والرقابة: “ثقافة الخوف هي الزيت الذي يسمح لمسننات الأنظمة الاستبدادية بالدوران”، ويروي لنا مثالاً حكاية امرأة قالت حين مشاهدتها لفيلم “طوفان في بلاد البعث” لعمر أميرالاي: “شعرت وأنا أشاهد الفيلم بالسرور، غير أني انتبهت إلى مشاعري فخفت، ثم أعدت لروي قناع الجدية بعد أن اطمأننت أن أحداً لم ينتبه إلى سروري”، لتعملنا المقالة أن هذه المرأة كانت من بين الأوائل اللواتي شاركن في المظاهرات المطالبة بالحرية.
يعتبر الشاعر (إبراهيم اليوسف) أن عباس قدم في مقالته (الرأرأة السورية) نواة نظرية جديدة في توصيف الخوف السوري، حين يستعير مرضاً يشخص بالطب السريري العيني بالخلل في الأجهزة التي تتحكم بحركة العين يؤدي إلى حركة اهتزازية لا إرادية في العين. هذا المرض يستعيده عباس عند الحديث عن الخوف عند السوريين: “بعيداً عن الطب، كانت تلاحظ لدى السوريين في سنوات حكم عائلة الأسد حركة لا إرادية يقومون بها بعيونهم، تتميز بانحراف كرة العين عن محورها لتتجه نحو النوافذ والأبواب، في الحيز الذي يجمعهم، فور نطقهم، أو نطق أحد مُجالِسيهم بكلمة أو إشارة تنال من القائد أو الحزب أو أجهزة الأمن ومن ينتمي إليها”.
أما في مقاله (تحولات في ثقافة الخوف)، فهو يتتبع الأساليب الجديدة التي اتبعت من قبل السلطات، سوآءا الحاكمة أو التي فرضت بقوة السلاح والتطرف الديني، في فرض ثقافة الخوف مجدداً بعد حدث الثورة السورية: “هنا، كان لابد للنظام من أن يستعيد ثقافة الخوف، وكان ذلك يتطلب استحداث آليات جديدة غير تلك التي هشمتها الثورة. لكن يبقى الأمل بأن شعباً كسر خوفاً متركماً من عقود، لن يعصب عليه صد خوف تتراءى طلائعه براياتها السود”. أما مقاله (الوحش فينا) فهو الأكثر قسوة في نقد الذات السورية، الذي يتساءل عباس في نهايته: “ينظر السوريون اليوم إلى روايات العنف المتناثرة في فضاء بلادهم ويتساءلون: من أين جاءنا هذا الوحش؟ أم تراه كان فينا؟”.
الذاكرة الجمعية من التماثيل المهيمنة إلى توثيق الانتهاكات:
مجموعة من النصوص تناول فيها عباس موضوعة الذاكرة السورية في مراحل متعددة وِأشكال مختلفة فيتناول ذاكرة الماضي، ذاكرة اللحظة، وذاكرة النازحين والمنفيين بعيداً عن وطنهم. عن ذاكرة الماضي يتطرق مقاله (التمثال والذاكرة الجمعية) عن دور التماثيل والمشيدات والنصب والجداريات في إغراق المواطن بحضور السلطان، ليصبح حاضراً حتى في ذاته، وفي الاقتباس التالي يشرح عباس بدقة التماثل الذي تريده السلطة بين الفضاء العام المهيمن عليه، وبين بواطن الأفراد الداخلية: “للنصب والتماثيل والجداريات تأثير نفسي مباشر على المواطنين لأنها تحول فكرة الوجود الكلي للسلطان إلى أمر ماثل في الواقع. تنقلها من مستوى المتخيل إلى مستوى المحسوس المادي. وعندما تملأ تماثيل السلطان ونصبه الفضاء المحيط بالمواطن، ترتسم أيضاً كصورة مهيمنة في فضائه الداخلي”.
وعن ذاكرة اللحظة يكتب مقاله (حراس الذاكرة) كإهداء للدور الذي قام به النشطاء والناشطات، في توثيق انتهاكات الحرب السورية: “فالانتهاكات المسجلة وثيقة لا بج منها لمل بناء لسيرورة عدالة انتقالية”. أما عن ذاكرة النازحين قسراً والمنفيين فيعتبر عباس في مقاله (سورية لا أم لها) أن ذاكرة السوريين في علاقتهم مع وطنهم أصبحت مشوهة: “الذاكرة الجمعية السورية عن الوطن كمكان جامع لمواطنيه حبلى بندوب البتر والاستئصال والاقتطاع”.
الحب والثورة التوق إلى المشتهى:
في مقالة (الحب في زمن الثورة) يقارب عباس: “بين الحب والثورة قواسم مشتركة، منها أن كليهما ينهض على توق لتجاوز حال قائم إلى حال مشتهى. الحب طاقة جوانية تشع من إنسان وتصبو إلى تماه في آخر، أو حاجة لجوجة لا تنصرف حتى تجد اشباعها في الآخر. والثورة، خروج على وضع لم يعد مقبولاً، وفعل يهدف إلى خلق وضع آخر”، ويجمع الكاتب في هذا النص مجموعة من شهادات-قصص تجمع بين الحب والثورة، واحدة عن شاب أنقذ متظاهرة من أيدي الأمن لتنشأ بينهما قصة حب، وحكاية أخرى تروي فيها المرأة المتظاهرة: “كنت أتذرّع باشتياقي لأهلي فأذهب إلى مدينتي كل خميس. لكن غايتي كانت المشاركة بمظاهرات الجمعة، ليس لأنني مع الثورة كليا فقط، لكن لأنه كان ينتظرني، يمشي مع المجموعة التي تحمي النساء المشاركات في المظاهرة، لكنني كنت أعرف أنه كان هناك ليحميني. عشقته مرتين: لأنه هناك، ولأنه هناك ليحميني”.
سورية كمكان، والأمكنة في سورية:
تعج كتابات عباس أيضاً بالأمكنة السورية من المدن الكبرى، إلى البلدات، إلى الأحياء الصغيرة والفرعية، أبرز المقالات في هذا الإطار كتبه عن مخيم اليرموك تحت عنوان (تاريخ إلى غبار): “في هذه الأثناء، وأنا أكتب هذا النص، يرج زجاج نافذتي من أصوات القذائف المنطلقة من أرض ومن سماء باتجاه المخيم. قذائف لا تفرق نارها بين فلسطيني وسوري”. أما مقالة (حيث لا مكان)، فهي لا تتعامل مع مكان محدد، بل مع مفهوم المكان بالمطلق، يتناول هذا النص حجم الدمار الذي حل بسورية، ورغم أن الكاتب يتفاءل بالأجيال القادمة إلا أنه يخشى في نهاية النص ألا يجدوا مكاناً أو وطناً اسمه سورية، أن تتحول سورية إلى اللا مكان.
وعن المكان-البيت، يدرس عباس في مقالة بعنوان (البيت الموؤود) علاقة البشر بمنازلهم، في ظل انتشار الدمار، النزوح القسري هرباً من الموت، تهدم أحياء بأكملها، وظاهرة التعفيش وسرقة المنازل، لكن الكاتب يقارب في هذا النص علاقة الإنسان ببيته مقاربة حميمية-نفسية-فلسفية: “البيت هو روح صاحبه، والإنسان هو روح بيته، فالعلاقة بين الإنسان وبيته هي أكثر من علاقة، هي حياة”، ويقدم الكاتب مقارنة حساسة بين جثة الشهيد التي لا تُغسل بل تكفي في ثياب صالحة للكفن، والبيوت الشهيدة التي لا تنظف ولا تغسل ولا تكفن، بل تبقى أشلاؤها المتقطعة تحت رحمة عيون الغرباء”.
المدرسة التعبوية والتعليم الأحادي الفكر:
يولي عباس الكثير من الأهمية إلى النظام التعليمي السوري ودور المدرسة في تكوين الفكر الجمعي، فيفتتح مقاله (المدرسة السورية، إلى أين؟) بالعبارة التالية: “المدرسة هي مصنع المواطنة، هكذا تقول أدبيات المواطنة”، وينتقد فيها الكاتب فرض الفكر القومجي الذي يرى في المدرسة جهازاً تعبوياً، وظيفته تنشئة أجيال مشبعة بالفكر الأحادي الذي نصب نفسه قائداً للدولة والمجتمع، وغياب الثقافة المواطنية عن مناهج التعليم السورية. ويتوقف عند مستقبل التعليم السوري وخصوصاً مما أحاق بالطفولة السورية من تسرب من التعليم، من النزوح القسري، وحياة المخيمات التي لا تملك ما يكفي من مقومات التنشئة المستقبلية للأجيال، ويتوقف في نصه عند الدمار الذي أحاق بعدد كبير من المدارس. وفي مقاله (رؤوس التبن) يستعرض أساليب المدرسين العنيفة والتعابير اللفظية القاسية التي يستعملونها في مخاطبة التلاميذ.
الانشغال بمستقبل الطفولة السورية:
المقالة التي يحمل كامل الكتاب عنوانها (لا تغمض عينيك)، عنوان يتضمن شحنة عاطفية قوية بعد مغادرة الكاتب للحياة، مهداة إلى أطفال مذبحة قرية البيضا. المقالة تتناول عنف المشاهد القادمة من هذه الجريمة، تناقش قدرة العين والعقل على تحمل قسوة هذه اللقطات والصور وتباهي الجناة بفعلتهم في الفيديوهات، يشبه بصريات هذه المجزرة بلوحات الفنان الإسباني (فرانشيسكو غويا)، وأفلام (بيير بولو بازوليني)، وروايات الفرنسي (سيلين)، وفعل الأمر “لا تغمض عينيك” موجهة في المقالة إلى ضمير الإنسانية: “أمام صور مذبحة قرية البيضا، تدفعنا الرغبة إلى القول لكل سوري، ولكل من شارك في هذه المجزرة وفي غيرها، لكل الأطفال الذين يقضي آباؤهم، ومن يقود آباءهم، على مستقبلهم؛ يدفعنا الغضب للصراخ في وجه العالم المطعون في إنسانيته: لا تغمض عينيك! “.
يتتبع عباس حال الطفولة السورية التي تشكل مؤشراً دقيقاً لما يعانيه المجتمع برمته، فالطفولة السورية هي حاملة الأسئلة الأخلاقية الأقسى على الضمير العالمي. في مقاله (إذا نزل النبي) يبين الكاتب أن الطفولة السورية تنوس بين مأساتين، مأساة الطفل حمزة الخطيب الذي أدت وفاته، ليس إلى الشرارة التي أطلقت الثورة، لكن إلى شحذ الحراك الشعبي بمزيد من الغضب والاحتجاج، ومأساة الطفل محمد القطاع الذي أعدم من قبل القوى الدينية المتشددة للتجديف الذي لفزه بلحظة غضب. كأن المقال يقول بأن الطفولة السورية أيضاً تعيش بين استبدادين استبداد النظام الحاكم واستبداد القوى المتطرفة دينياً.
في (صناعة التفاؤل) يعتبر حسان عباس أن سؤال السوريين الراهن هو الحال بين التشاؤم والتفاؤل، ويستشهد بتعريف المصور الفرنسي بيكابيا عن المتشائمين بأنهم أولئك الذين يرون النهار منحصراً بين ليلين، أما المتفائلين فهم الذين يرون الليل منحصراً بين نهارين. وبترجمة المعادلة على الوضع السوري، تقدم المقالة مقاربة خاصة للتشاؤم الثوري الذي يتوجب أن يكون دوره الأول صناعة التفاؤل، مما يعني أن التشاؤم هو الدافع الذي يحرك المناضلين لبناء مستقبل أفضل: “قد لا يكون غدنا نحن السوريين مشرقاً، لكن علينا فعل المستحيل لنثبت الشمس في كبد السماء”.
تلفزيون سوريات
——————–
================
تحديث 13 أذار 2021
———————–
حسان عباس : المثقف العضوي ابن الحياة ../ رفيق قوشحة
يعطي حجم التفاعل الذي جرى على وسائل التواصل الاجتماعي بصدد رحيل الباحث والناشط والأكاديمي الدكتور حسان عباس المكانة الأثيرة المميزة التي حظي بها في المجتمع السوري ( والعربي ) ، الأوساط الثقافية والسياسية والفكرية فيه بشكل خاص , مما أشاع هذا الحزن الكبير والتعبيرات المؤثرة والتضامن الوجداني مع شخص الراحل حسان عباس ونشاطه العلمي والوطني وإرثه الفكري ، لا سيما في قضايا تحقيق المواطنة والمجتمع المدني .
شكّل رحيل حسان عباس صدمة ، ربما نتيجة لشعور ضمني عميق لدي الكثيرين من أن سوريا في هذه المرحلة العصيبة حقا التي تمر بها هي أحوج ما تكون إلى رجال من نوع حسان عباس ومستواه الفكري والإنساني والمعرفي والوطني والمجتمعي وهو ما ركزت عليه كل المنشورات بما يشبه الإجماع، وكانت تشير بوضوح لا لبس فيه إلى أهمية المشروع الفكري الذي حمله حسان عباس على منكبيه وفي قلبه على مدى يزيد على ثلاثين عاما في دمشق، وتحت عيون الأجهزة الأمنية لنظام الاستبداد الذي يعلم الجميع أنه لم يكن يخيفه شيء أو أحد بقدر أولئك الذين يشكل الراحل نموذجا ساطعا لهم، وهم المثقفون الديمقراطيون العلمانيون السوريون الذين اختاروا هذا النوع من العمل التوعوي الفكري الجاد والعميق بشقيه الوطني والثقافي تحت أهداف مجتمع ودولة المؤسسات , سيادة القانون , حرية التعبير , والتنوير الفكري والديمقراطية .
كان أمثال حسان عباس في سورية على مدى حكم الأسد الأب والابن أيضا هم الأكثر تعرضا لمحاولات القمع والإسكات والتهميش والمنع من العمل في الجامعات ومراكز البحث العلمي ناهيك عن محاولة ملاحقتهم سياسيا لمن كان منهم عضوا في تشكيل حزبي هو غالبا من قوى اليسار الديمقراطي السوري وهم قلة , لذا فقد تعرض الدكتور عباس لما تعرض له كل أقرانه وبالفعل تم منعه من العمل أستاذا في جامعة دمشق مرتين على مدى أكثر من عشر سنوات من المحاولات حتى أوتي الحظ الكافي وعمل أستاذا في قسم الدراسات المسرحية في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق لما تمتع به المعهد من استقلالية نسبية وإدارات متفهمة، ناهيك عن تبعيته الإدارية لوزارة الثقافة وليس لوزارة التعليم العالي أو الإعلام وكان له أن استمر في التدريس لمدة عشرة أعوام وترك أثرا علميا واجتماعيا متفردا يشهد على ذلك معاصروه من الأساتذة في المعهد أو منشورات طلابه الذين درسوا عليه وتخرجوا ونشطوا في سوريا التسعينيات وما بعدها .
يميز جهد وعمل حسان عباس أنه وببساطة ويسر ملفتين استطاع أن يجعل من العمل الفكري مادة في التداول الاجتماعي اليومي، نازعا عن صورة المثقف سمتها النخبوية السلبية , بمعنى أنه تعمد من خلال النشاط الثقافي الدوري الذي أشرف عليه في عمله في مركز الدراسات والأبحاث الفرنسية في دمشق على مدى يزيد عن خمسة عشر عاما أن يطرح الافكار المحرمة : الديمقراطية , التعددية , الحريات , حوار وتواصل الثقافة المختلفة , الحقوق الأساسية في المجتمع , السمات النقدية في الفكر والفلسفة والأدب ,,إلخ من الموضوعات , استطاع أن يطرحها في أتون النشاط والحوار اليومي في أوساط الشباب والمبدعين في سوريا الذين كانوا يهتمون بالتواصل مع نشاط المركز، وكان واضحا تماما أن الدائرة توسعت بسبب من العمل الدؤوب وظهرت أسماء مهمة من الشباب المبدع في الشعر والقصة والرواية والمسرح تمت بصلات قوية إلى الفضاء الشيق والغني الذي خلقه هذا الرجل الدؤوب على مدى سنوات، والذي توجه مع بداية حراك الشارع السوري عام 2011 بتأسيس الرابطة السورية للمواطنة التي وجدت صدى واسعا عند كثير من الشباب السوري في تلك المرحلة شديدة الحساسية في تاريخ سوريا المعاصر .
يكاد توصيف المثقف العضوي عند غرامشي ينطبق على الدكتور عباس ويتجاوزه في كثير من الأحيان على الطريقة السورية وفي الظروف السورية اجتماعيا وسياسيا في تلك المراحل , من أن, المثقف العضوي الذي يتناغم جهده ونتاجه الفكري والثقافي عموما مع جوهر المتطابات والمعاناة الإنسانية والاجتماعية لمحيطه الحيوي , باعتبار أن كل جهد حسان عباس لم يخرج عن إطار أفكار الحرية والديمقراطية والتنوير والعقلانية ضد التعصب بكل أشكاله الدينية والقومية وغيرها ولعل هذه بإجماع الكثيرين هي الأمراض والعلل الرئيسية التي عانى وما زال مجتمعنا السوري والعربي يعاني منها حتى الآن في ظل ظروف الاستبداد السياسي وحليفه الديني .
كانت خسارة المفكر اللبناني لقمان سليم كبيرة لنا قبل أسابيع من رحيل حسان عباس , ولعله ليس مصادفة أن يكون حجم ردود الأفعال على رحيلهما بالقدر نفسه من الزخم والعاطفة والتقدير لأنهما فعلا وعمليا كانا كل في محيطه يعملان دون اتفاق على المسار نفسه والقيم نفسها والثقافة نفسها , قيم الحرية , الديمقراطية والتحرر من الجهل والتعصب والاستبداد , فخسرنا لقمان سليم في عملية اغتيال لمنهج عمل وفكر مدني في مواجهة طوائف مافيوية ظلامية تتغطى بشعارات المقاومة الزائفة ,جعلنا المرض العضال نخسر حسان عباس لتكون الخسارة مضاعفة ولا يمكن تعويضها مهما كانت الأرض ولادة , فكلاهما شكل حالة أشبه بالعقل المنير والمنتج للوعي الإنساني الاجتماعي الحر الممتزج بإرادة التغيير , وهذا هو بالضبط ما نحن أحوج ما نكون إليه للخروج بمجتمعنا من عنق الزجاجة الذي استطال أكثر مما يحتمله البشر .
يبقى لنا إرث حسان عباس الكبير والغني الذي يمكن في ضوئه العمل على تعزيز هذه القيم بإثارة الأسئلة نفسها والعمل على تطوير الأداء بما يليق بهذه القيم وما يليق بإنساننا الذي تليق به الحرية والحياة الكريمة ، هذا الإرث مسؤوليتنا جميعاً .
رفيق قوشحة – كاتب سوري .
الناس نيوز
————————-
حسان عبّاس: خفيفٌ لطيفٌ مِثلَ فَيء إلى يزن وآرام/ حمادة لاذقاني
جاءني خبر مرضك قبل أشهر. أردت الاتصال بك يومها. فوراً. لكني شردت قليلاً، قليلاً تكفي حتى يثنيني شيطاني ويملي عليّ بأن الكتابة أخف وطأة. لا أثقل عليك، ولا أجهد نفسي في ترديد كلام المواساة الذي أجهل بالصوت. بالصوت يا حسان. وأنت تَسمعُ على الطرف الآخر من الهاتف. من العالم. تخيل؟ يعني لو كنتُ أعرفُ أنك لن ترد على هاتفك، فأترك لك رسالة صوتية – فيها وما فيها يا حسان.
انتظر. القصة ستحلوّ. في اليوم ذاته، الذي جاءني فيه خبرُ مرضك، والذي لم أتصل بك فيه حتى أكتب لك، تبدّل القرارُ مرة أخرى. ذات المساء من ذاك اليوم، راودتني نوبة إنكار. هكذا: (أطنّش) كأن خبراً لم يجيء. شيء ما طمأنني بما لا يقبل الريبة أن المسألة صغيرة عابرة. فالحياة كلها أشغال يا حكيم. سأراك في بيروت في الصيف. سأسHلك عن صحتك. ستخبرني بأنك على ما يرام – لكن مشتاق لأحباب سوريا والإمارات وفرنسا وإنكلترا – آرام بدّل سكنه، كسور يزن لا تثنيه عن تسلق الجبال. حال الشتات الملعونة هذه لا يمكن أن تدوم – لكن العمل أسهل من هنا. الرابطة والجمعية والمنتدى والجامعة وطوابير البحوث ومشاريعها.
هل تعرف؟ أنا أعرف. ستحدثني عن أخبار مشاريعك وأشغالك فلا يتيح لي الوقتُ الضيق أصلاً سؤالَك عن صحتك، ولا أقول إن خبر مرضك قد جاءني قبل أشهر، وإني كنت سأسأل عن صحتك، لولا نوبة إنكاري وقرار التأجيل حتى أسألك أو لا أسألك، حين أراك صيفاً. في بيروت.
25/01/2021
رسالة في هاتفي: (حاكيه. الآن “متحسن” بعد نكسة أول السنة. يزن وآرام عندهم في دبي).
أفففف.
07/03/2021
حسان.
10/03/2021
ثلاثة أيام على رحيلك. الإنكا – النوبة التي رويت لك عنها قبل قليل تراوحني.
المسألة ليست أنك لم ترحل. رحلت. هناك حزن. وصلتني رسائل تعزية – وأرسلت بدوري التعازي. لكن – عجيب. أستيقظ صباح اليوم على وقع هذه الفانتازيا – اسمع: ماذا لو أن الخبر غير حقيقي؟ أوووف. يا حسان. يا حسان. فهمتُ أنك رحلت. لم يبقَ أحد لم يكتب عن رحيلك. لكني أراك في صالون بيتك في مشروع دمر. هكذا – تقرأ كلمات أحبابك، وكلامي معهم. تضحك. تبتسم. تغضب أحياناً. أراك وحدك، ولا أعرف إذن فيما إذا كانوا متواطئين – يزن وآرام وزهرة. ماذا لو كان الخبر كله كاذباً؟ لا أقصد الكذب بالمعنى قليل الأدب – خبر كاذب بالمعنى الدونالد ترامبي – خبر فيسبوكي، حسان. لا أقول مُلفّق. لا، لا، لا. فهمت أنك رحلت. لكن، لأسباب أمنية – مثلاً؟ فهمت علي؟ فهمتم علي؟
نينا ابنتي تنادي. النداء هذا هنا في البيت – لا في الرؤيا. لحظة من فضلك.
عدت. هل تذكر البشارة بـ “نينا”؟ قلت لك: ما رأيك أن نطلق عليها اسم آرام؟ آرامي، ويقبل التأنيث.
حسان: “شو؟! اسمعوا على هذا الكلام. ما عندنا آرام؟”. نظرة إلى بطن نجلاء المنتفخ: “سمّياها فَيء – لا داعي للهمزة إن رغبتما. فَيّ. خفيف لطيف”.
طيب. لا تزعل. نجلا لا توافق على آرام على كل حال. لا تزعل يا عم. نسميها يزن؟
أنت يا حسان، خفيف لطيف مثل فَيء. لكنك تزعل. أنا أعرف أنك تزعل. تزعل من الظلم والتجويع، وتزعل كثيراً من سلب الحقوق وتغييب العقول. تزعل من العمل حين لا يكون مُتقناً. زعلتان شخصيتان في رصيدي أنا وحدي.
الأولى يوم سألتني عن رأيي في كتاب غبار الطلع لعماد شيحة، فأجبتك بأني لم أكمله. تذمرتُ لأني وجدت قراءته مضنيةٌ، وكررتُ كلاماً سمعته بأنه مكتوب لأصدقاء عماد دون غيرهم. “شو؟! ما بيصير – لازم تقرأ كل كتاب للآخر”، قلت مع نظرة جادة مَهيبة – استدرَكتَها تجبر خاطري هامساً “هذه المرة فقط – لا بأس. الحقيقة، صعبٌ هذا الكتاب”.
الثانية يوم قررتُ الانسحاب من العمل على كتاب عن أعلام دمشق لدمشق عاصمة الثقافة العربية 2008 بعد أن طلبوا مني إضافة أسماء “أعلامهم”. “ما بيصير تنسحب،” قلتَ مع النظرة الجادة المهيبة تلك – “يخرب بيتهم – كيف يجرؤون؟” أردفت.
نينا تنادي مرة أخرى. لحظة. عذراً.
المهم، حسان. إن كنت تقرأ هذه الكلمات (وأنت لن تقرأها بطبيعة الحال – لكنها ستصلك) أعلم أني حين بدأت الكتابة، حسبت أني سأكتب عن أشياء كثيرة مختلفة عن تلك التي كتبتها للتو. أعرف جيداً أن أصدقاءك، الذين يعرفونك أكثر مني بكثير، ما تركوا شيئاً ما كتبوا عنه – عنك.
فكرت، حين بدأت، أني سأكتب لك عن المواطنة. عن الأرشيف وأرشفة التراث السوري الضائع في الحرب. عن حسان المؤسسة في غياب المؤسسات. عن لغتك الجميلة: إصرارك على استخدام كلمات عامية سورية طريفة، تعقبها بحماسة ملاحظة حول دخول الكلمة في العربية الفصحى. عن أسماء الضيع وشخصيات المسرحيات الفلكلورية – الأمثال والحكم والأساطير. عن موسيقاك والأغاني الجميلة.
عن ألبومات – جمع بومة – التي تزين رفوف بيتك وجدرانه. زرت بيتك يا حسان أول مرة حتّى أدرّس يزن الإنكليزية. اليوم أجلس مع يزن في مقهى نطلق عليها “مقهى حسان” في كامدن بلندن –_لصاحبها شاربان جميلان – أستمتع بطلاقته في اللغة. يتقنها أكثر مني هذا اليزن. صحيح! أثناء دراسته الجامعية هنا، ردّ لي يزن “الجميل”. كيف؟ صرنا نشتري القهوة من تلك المقهى بسعر مخفض مخصص للعاملين فيها، بمعيته.
أين كنتُ؟ كنت سأكتب عن نقاشات فيلم صندوق الدنيا وعشرات العروض في الإيفياد – الإيفبو في أبو رمانة. لكن لن أكتب عن تحفظات المعارضين السوريين على عملك لأنك “حرام عليك”، و”مثقف بحجمك كيف يحجم عن العمل بالسياسة”، فـ “الثقافة بدون سياسة لا تجدي”. عجبك؟
ثم كيف لا أكتب عن نادي القراءة في بيت جبري – الذي تعرفت على نجلاء في إحدى أمسياته – فتزوجتني فيه. بعد سنوات ستسرّ أنتَ إلى فاديا، التي أفشت لنا السر نجلا وأنا، أنك من أول وهلة، قدّمتنا نجلا وأنا واحدنا للآخر، حلمتَ/ تمنيتَ في أعماقك أن “نقع في الحب” ونعيش حياتنا سويةً؟ على سيرة الحب: عن رقصتك الجميلة مع زهرتك في الحفلات – أكتبُ يا جميل! تذكرتُ واحدة طريفة. تفضل: كنت سأُذكّرك بأمسية استضافة نزيه أبو عفش وقصيدته التي أغضبت رجل الأمن المندس – المكشوف من زمان يا حسان. تذكرت؟
رسالتان من حسان
رسالة1: رحم الله امرأً
أسمح لنفسي بأن أشارك مقطعاً من رسالة أرسلها حسان يعتذر مني عن المشاركة حين طلبت منه مقابلة إذاعية حول الموسيقا الدينية في سوريا بعد كتابه (الموسيقى التقليدية في سوريا). اعتذار بجمال مشاركة:
حسان: “يؤسفني أن أعتذر عن المشاركة (ليس فقط لأنني أتجنب قدر الإمكان الميديا) لكن أيضا وبالدرجة الأولى لأنني لا أعتبر نفسي عارفا بموضوع الحلقة. رحم الله امرأً عرف حده فوقف عنده، وأنا ألتزم دائما حدودي وأعكف عن الخطو وراءها. صحيح أنني وضعت كتابا عن الموسيقا (وهو كتاب عن الموسيقا التراثية وليس فيها) وهو ما يمكن إدراجه في مبحث علم الإناسة الثقافية. وهذا لا يعطينا أي حق في الكلام في موسيقا الإنشاد وخاصة أن هناك اختصاصيين ذوي باع طويل في الأمر (د. فواز باقر على سبيل المثال) ولا أجرؤ على الإدلاء برأي أمام رحابة علمهم”.
رسالة2: فصوص العروس – إلى نسرين الزهر ونجيب الخش – في الثامن والعشرين من آذار مارس 2020
أسمحُ لنفسي أن أشارك رسالة ثانية من حسان
على فيسبوك – كتب صديق:
“صابيعك ملقّسة وخدودك معاجيق
من وين بدّي بلّش شمشمة وتمجيق”.
حسان يسأل: هل تعرفون الاسم الآخر للملقسة؟
أنا: كبيبات؟
حسان: غلط.
نسرين ونجيب، ولا أعرفهما إلا بالاسم، جربا الإجابة أيضا. حسان عاجلني برسالة خاصة حتى لا يكشف لغز الحزورة – أشارك الحل معهما: “حمادة الاسم الآخر للملقسة في مصياف كان “فصوص العروس” على اعتبار أن الطبق كان يقدم للعروس لأنه حامي (بكل المعاني) لكنه مولد للغازات. مشتاق لكم”.
لندن في 10 آذار مارس 202
الناس نيوز
——————————–
باقة ورد أبيض إلى حسّان عباس/ رشا عمران
يوما في عام 1998، وكنت أقيم في طرطوس، ولم أنشر بعد سوى كتاب شعري واحد، يتصل بي حسّان عباس، ويدعوني لإقامة أمسية شعرية في المعهد الفرنسي لدراسات الشرق الأدنى في دمشق، والذي كان حسّان مدرسا ومسؤولا فيه عن النشاط الثقافي. وافقت، وكانت تلك أول أمسية منفردة لي. يومها حين انتهيت من القراءة، تقدّم حسّان نحوي، وبيده باقة ورد أبيض، قدّمها لي، ثم أدار معي حوارا مهما، كان له أثر على كتابتي لاحقا. وكانت تلك الباقة أول هدية من نوعها أتلقاها من أحد، لم يهد لي أحد من قبل وردا أبيض، قلت لحسّان ذلك. قال: هذا فضل الشعر. .. اتضح لي بعد ذلك صدق ما يقول، فللشعر فعلا أفضاله الكبيرة، تلك التي قلت لحسّان يومها إنني لا أعرفها ولا أثق بها.
تربطني بحسّان عباس صلة قرابة بعيدة، غير أنه لم يهتم بها كثيرا. كنت، بالنسبة له، رشا عمران فقط، شاعرة، وتشتغل على مشروع ثقافي مستقل في مدينتها. كانت تلك هي الروابط التي تجمع حسّان بالآخرين، الشعر والفن والثقافة المدنية والإنسانية، تلك التي كان يرى أنها يمكن أن تحوّل البشر إلى أصدقاء حميمين، حتى لو اختلفوا بشأن تفاصيل أخرى كثيرة، فالجمال، كما رآه، قيمة كبيرة ينبغي إضافتها إلى الحياة والاشتغال عليها لنحظى بالأصدقاء. كانت الفنون واسطة الجمال الأولى لديه، هو الحاصل على شهادة الدكتوراه من السوربون في النقد الأدبي، والمدرّس في معهد الفنون المسرحية في دمشق لأجيال عديدة. وليس غريبا أن يعتبره جميع طلابه صديقا لكل منهم، إذ أثق أن باقة الورد الأبيض التي قدّمها لي تلك الليلة قدمها لكل طلابه وطالباته، بطرقٍ مختلفة. كانت لديه تلك الاستثنائية في جعل الجميع يشعرون أنهم أصدقاء مقرّبون. وسيلته لذلك الاستماع بحب، ودماثة مذهلة في التعامل، ومقدرةٌ على النصح من دون وصاية، بل عبر تبادل الأفكار والنقاش والاستفاضة في الشرح، بقدر الاستفاضة في الصمت والاستماع إلى الآخرين.
أتذكّر أن ابنتي، طالبة معهد الفنون المسرحية، سنوات ما قبل انطلاقة الثورة، كانت تستيقظ سعيدةً في الأيام التي يحاضر حسّان عباس فيها، وتلك حال جميع طلابه، سواء في معهد المسرح أو في معهد الدراسات. في دعوة شعرية في بريطانيا، التقيت بشاب بريطاني قدّم أمسية شاركت فيها، سألته أين تعلم تلك اللغة العربية الجميلة التي يتحدّث بها معنا، أخبرني أنه درس في دمشق في معهد دراسات الشرق الأدنى، وأنه بقي على صلةٍ وثيقةٍ ببعض الأساتذة هناك، “وبالأخص حسّان عباس الذي أصبح صديقي”.
ذات يوم في بيروت بعد الثورة، كنا مجموعة من السوريين في أحد المقاهي برفقة حسّان عباس، حين بدأ أحد الحاضرين بالتهجّم عليه، معتبرا أن “كل من يعمل مع منظمات المجتمع المدني، يجب ألا يتحدّث عن النضال الوطني والمواطنة (عمل حسّان على تعزيزها مفهوما أساسيا للوطنية بدأب استثنائي)، فهو لا يفعل سوى خدمة أجندات الممولين”. امتد النقاش طويلا، وكانت مدهشة قدرة حسّان عباس على الهدوء وسط كل تلك الاتهامات (تقترب من الشتيمة) التي كان يتعرّض لها وجها لوجه. أتذكّر ابتسامته، وهو يناقش صاحب الاتهام، هدوءه ودماثته، قدرته على إيصال فكرته من دون توتر ومن دون غضب ومن دون رد الاتهام بآخر، وتلك المساحة من التسامح والقبول التي ظهرت واضحةً في نهاية الجلسة، عندما عانق مهاجمه القادم من سورية، عارضا عليه مساعدته في شأنٍ خاص به في بيروت، ومتمنّيا له عودة آمنة. أعتقد أن من يملكون قدرته على تقبل النقد والاتهام محاولة تفنيدها بهدوء، هم أشخاص نادرون، خصوصا بين المثقفين السوريين الذين لا يكفّون عن حديث “النضال الوطني الديمقراطي”، وبأيديهم قاموسٌ من الشتائم والاتهامات، يلقونها على المختلفين معهم في الرأي، وأظنهم لن يتورّعوا عن استخدام المقاصل ضد معارضيهم، لو أتيح لهم استلام السلطة ذات يوم.
كان حسّان عباس مثالا يُحتذى في تقبل النقد والاختلاف، وحتى الخلاف الحاد. وعرف كيف ينقل هذا إلى كثيرين من طلابه الذين درّسهم على مدار سنوات حياته، وهم أكثر من شعر بهول فقدانه، إذ ثمّة فراغ تركه لديهم، عليهم واجب ملئه بإكمال مشاريعه العديدة، والتحلّي بالصفات التي ميزته عن مثقفين سوريين كثيرين، إذ لطالما آمن أن الأمل الوحيد لسورية هو في أجيالها الشابة.
العربي الجديد
———————
===============
رحيل حسّان عباس… الثقافة السورية تخسر سفيرها
غيب الموت، يوم الأحد، الجامعي والناقد السوري حسان عباس، بعد صراع مع المرض، وهو من مواليد بلدة مصياف التابعة لمدينة حماة عام 1955.
من المفارقة ان حسان عباس، رحل بعد أيام قليلة على إصدار بحثه “الجسد في رواية الحرب السورية” عن “المعهد الفرنسي للشرق الأدنى IFPO” بيروت. وكتب زميله الشاعر فؤاد م فؤاد في الفايسبوك “رحل حسان عباس، الرقة والوداعة واللطف والموقف الصلب والشغف بالمعرفة، رحل الرجل الذي ادرك رحيله منذ زمن، فلم يتشبث كثيراً بالحياة. ولم يصارع المرض.. تركه ينهش في جسده ويترك في العينين حزناً عميقاً، منذ عامين، استقرت تلك النظرة المنكسرة والحزينة مكان النظرة الواثقة الضاحكة في عينيه، أدرك أنه راحلٌ فلم يقاوم، الرجل النبيل يمضي، سأبقى أنتظرك في الروضة يوم الأحد، لا تتأخر أرجوك”.
وعباس من ابرز الناشطين الثقافيين في سوريا منذ التسعينيات، وحتى خلال عمله في مركز اصفري في الجامعة الاميركية(بيروت)، كان يقيم نشاطات متنوعة وجديرة بالاهتمام، سواء أكان يتعلق بالمسرح أو المواطنية أو الموسيقى، وعدا عن نشاطاته، فهو كان اكاديمياً وجامعياً محباً لمهنته، سئل: “كيف تفضّل التعريف بنفسك؟”، فأجاب: “أنا إنسان قضيت عمري بالتعلّم ولا أزال طالب علم، عدا ذلك، أعمل موزّعاً طاقتي بين ميادين ثلاثة: البحث والتعليم والعمل المدني. غايتي من البحث هي المساهمة في معرفة من نحن كبشر من هذه المنطقة، ولماذا صار حالنا إلى ما هو عليه من تأخر وفوات. غايتي من التعليم هي أن أنقل ما أتحصّل عليه من علم إلى أوسع شريحة من شباب بلدي. أمّا غايتي من العمل المدني فهي نشر ثقافة المواطنة بما تتطلبه من ديمقراطية وعلمانية وفكر نقدي”.
وعباس الحائز وسام “السعفة الأكاديمية برتبة فارس” من فرنسا عام 2001، لكثرة نشاطاته. سيرته الاكاديمية والثقافية كانت خرقاً للواقع السوري في ظل البعث، فبحسب ما كتب فايز سارة في كتاب “حسّان عباس بعيون معاصرة”، عندما بدأ حسّان عباس وعيه يتفتح على الحياة، قفز عسكريو حزب البعث وبعض حلفائهم من المغامرين للاستيلاء على السلطة في سوريا عبر انقلاب عسكري في آذار عام 1963، وبعد ذلك بثلاثة أعوام قاد عسكريون من البعث إضافة إلى ميليشيا تتبع الحزب اسمها الحرس القومي، انقلابا جديدا على رفاقهم وقادتهم في الحزب والدولة، ثم قام حافظ الأسد أحد الذين تسلقوا على السلطة في انقلاب شباط 1966 بقيادة انقلاب على رفاقه في قيادة الحزب والدولة في تشرين الثاني 1970 ، وزج أبرزهم في السجن… هكذا كانت سوريا دوامة من الصراعات والانقلابات، وكلها انعكست على الواقع الثقافي… فقد أمضى حسّان عباس طفولته متنقلا بين مصياف مدينة الوالدة ودمشق، قبل أن يستقر في دمشق يافعا وشابا ليتابع تعليمه برعاية عائلة مميزة، حيث “الأب محام معروف والأم سيدة نذرتْ نفسها لخدمة أسرتها الصغيرة، المحسوبة في نخبة المجتمع الذي بدأ ينتقل في العهد البعثي من طابعه المدني، ليصير تحت سيطرة العسكر، ومن واقع النظام الليبرالي والتعددي إلى نظام سيطرة الحزب الواحد، ومن دولة المؤسسات والقانون إلى حكم الأجهزة العسكرية والأمنية، ومن التعليم المفتوح على الحياة والمعرفة إلى التعليم المقيد بألف قيد وقيد، لعل الأبرز في مؤشرات تغييره، اختفاء حصص الرسم والموسيقى والخط من مناهج التعليم، وإطلاق المنظمات الفاشية للعمل وسط التلاميذ والطلاب من المرحلة الابتدائية” والعبث بكل اشكال التعليم الجامعي…
عندما سافر حسان عباس إلى فرنسا، قضى سنوات 1974-1977 في دراسة الطب في جامعة مونبلييه، لكن نفسه عافتها، أو فشل في هذا المجال، فعاد لدراسة الأدب الفرنسي في جامعة دمشق، وعاد إلى باريس في العام 1982 ليدرس النقد الأدبي في جامعة السوربون، عندما تخرج حاصلا على شهادة الدكتوراه في النقد الادبي عام 1992 عاد ليبدأ مشروعه السوري من جامعة دمشق، لكنه اصطدم برفض الجامعة تعيينه بين أساتذتها بفعل تقارير مخبري النظام(الاسدي)، التي كتبوها عنه في فترة دراسته الباريسية، فخسرت الجامعة وجوده فيها، وسرعان اختاره المعهد الفرنسي للدراسات العربية في دمشق، ليكون في عداد كادره الرئيس، وقدّم عباس خلالها ما يزيد عن 400 فعالية، وبموازاة هذا النشاط أدار ناديين للسينما، وساهم في تأسيس وإدارة عدد من الجمعيات المدنية العاملة في مجالات الثقافة والمواطنة وحقوق الإنسان، ودرّس عشر سنوات في (المعهد العالي للفنون المسرحية) في دمشق، ودُعي محاضراً في عدد من الجامعات والمعاهد العربية والأوروبية.
ويعرف عباس بانتمائه إلى النخبة السورية، التي رفضت الاستكانة لسياسات النظام السوري وممارساته… كان عباس ناشطاً ثقافياً واكاديمياً ومناصر للتغيير، هو الذي كتب في الذكرى الثالثة للثورة: “سمّوها ما شئتم، انتقدوها كما أحببتم، اخدعوها، راودوها، تحايلوا عليها، احفروا الأرض تحت أقدامها، لوّنوها، العنوها، افعلوا ما شئتم.. فهي، وبمحاكاة لما قاله غاليليو غاليليه لمرهبيه: ومع ذلك فهي تثور. هي باقية، وهي أصلاً لم تبدأ إلا لتبقى حتى تصل إلى ما يريده أهلها: حياة كريمة بلا ظلم ولا ظلامية”.
———————————
السوري حسّان عباس بعيون معاصريه: سفيراً للحرّيّة والمواطنة
أصدرت منصّة “شركاء” الإلكترونية، مؤخراً كتاباً احتفاءً وتكريماً بشخص ومنجز الباحث الأكاديمي والمثقف الموسوعي السوري الدكتور حسّان عباس، الرئيس المؤسّس لـ (الرابطة السورية للمواطنة)، ومؤسّس دار نشر “بيت المواطن” ومديرها، الحائز على وسام “السعفة الأكاديميّة برتبة فارس” من فرنسا عام 2001.
الكتاب الموسوم بـ «حسّان عباس بعيون معاصرة» جاء في (165 صفحة من القطع المتوسط)، وأشرف على تحريره وقدّم له المعارض السوري البارز فايز سارة. وهو يحتوي بين دفتيه على مقالات وشهادات لعدد من أبرز كتّاب وشعراء سوريا ممن عرفوا الدكتور عباس أو تعرفوا على منجزه الإبداعي عبر منصّات النشر والإعلام الإلكتروني والصحافة. كما احتوى الكتاب على مجموعة من المقالات المختارة لصاحب «الموسيقى التقليدية في سوريا» (منظمة “يونسكو”، باريس 2018)، تناولت الأحوال السورية في السنوات العشر العجاف، مع ملحق عن نشاطات المحتفى به ومسارات حياته الذاخرة بالعطاء.
الدكتور حسّان عباس يُجيب سائله: “كيف تفضّل التعريف بنفسك؟”، بالقول: “أنا إنسان قضيت عمري بالتعلّم ولا أزال طالب علم، عدا ذلك، أعمل موزّعاً طاقتي بين ميادين ثلاثة: البحث والتعليم والعمل المدني. غايتي من البحث هي المساهمة في معرفة من نحن كبشر من هذه المنطقة، ولماذا صار حالنا إلى ما هو عليه من تأخر وفوات. غايتي من التعليم هي أن أنقل ما أتحصّل عليه من علم إلى أوسع شريحة من شباب بلدي. أمّا غايتي من العمل المدني فهي نشر ثقافة المواطنة بما تتطلبه من ديمقراطية وعلمانية وفكر نقدي”.
تمّ إهداء الكتاب، من قِبل محرّره، “إلى سوريات وسوريين قدموا الكثير من أجل مواطنيهم وبلدهم؛ إلى حسّان عباس واحداً من هؤلاء، ما قمنا به اعتراف وتقدير لبعض ما قمت به”.
ومما جاء في مقدّمة الكتاب التي كتبها الأستاذ فايز سارة، “إنّ روح هذا الكتاب، بطابعه التكريمي وبالمشاركين فيه الذين كتبوا مقالات، خصّصت له، وتنشر فيه حصراً، يستحقّ أن تكتب له مقدّمة مختلفة، مقدّمة تتحدّث عن الفكرة أولاً، فكرة هذا النوع من الكتب، قبل أن تتناول المثال أو تجسيدها العملي في الكتاب الذي صار بين أيدينا.” وتابع: “تعود فكرة الكتابة عن شخصيات في النخبة السورية عندي، ولاسيّما الثقافية منها إلى ما أحاط بالنخبة من تدمير وانتهاك وتهميش متعمّد من جانب نظام البعث منذ استيلائه على السلطة عام 1963، وهو أمر تمّت متابعته وتكريسه في عهد الأسدين الأب والابن اللذين أمعنا في عملية تهميش النخبة السورية وانتهاكها إلى حدِّ التدمير، فيما ركزا من جانب آخر كل الأضواء على شخصيتيهما، وأحاطا نفسيهما بشخصيات، لا تملك من مواصفات النخبة وقدراتها إلّا القليل، لكنّها مشبعة بروح التزلف والتصفيق للدكتاتور وكيل المديح لجنون العظمة فيه، وكان وضع النخبة في المجال الثقافي والإعلامي بين أسوأ الأمثلة في تعبيرات ما أصاب النخبة، وكان الأشدّ وضوحاً في النماذج، التي تولت إدارة المؤسّسات الثقافية والإعلامية وخاصّة في اتّحاد الكتّاب العرب واتّحاد الصحافيّين والجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات، وقد تحوّلت جميعها إلى مؤسّسات وهيئات لا هدف لها سوى خدمة النظام، وتمجيد الدكتاتور فيه، والإشادة بما قام، ويقوم به حتى لو كان مصنفاً في عداد الارتكابات والجرائم المعلنة”.
عقود من العمل في خدمة سورية والسوريين..
سارة، الذي شارك في الكتاب بتحرير مقالة أيضاً، بعنوان «عن زمن استبداد ودم ورجل يسعى إلى ربيع»، بيّن في المقدّمة أنّ د. حسّان عباس ينتمي إلى نخبة السوريين، “التي رفضت الاستكانة لسياسات النظام وممارساته، وعملت قدر ما استطاعت، أن تقوم بما رأت أنّ عليها القيام به، فجهدت وحاولت بكل الطرق والأساليب مستغلة كل ما أمكن من ظروف وطاقات لخلق وقائع جديدة، تتراكم باتجاه التغيير بجوانبه المختلفة.”وأضاف: “جَهِدنا في محتويات هذا الكتاب، أن نقدّم صورة عنه في مساره الحياتي من تكوينه المعرفي إلى العملي، مروراً بنشاطاته المتعدّدة، وصولاً إلى ما يمثّله من خلاصات في الجهد الذي قدّمه خدمة لسورية وللسوريين على مدار ثلاثة عقود ونيّف، بدأت في المكان الرئيس لدراسته في باريس، وتصاعدت في دمشق المدينة التي اختار العودة إليها والعمل فيها، وتواصلت في بيروت، التي لجأ إليها بعد أن أصبح من المحال البقاء في دمشق، وصار من رابع المستحيلات، أن يتابع عمله فيها. واستكمالًا لتكريم د. عباس، رأيت أنّ إعادة نشر بعض كتاباته في هذا الكتاب احتفال به، وتكريم له. إذ أننا نحتفي بأفكاره وآرائه في إطار إجمالي سيرته، وهكذا فإنّ تزيين الكتاب ببعض ما كتبه من مقالات، يقع في دائرة جُهدنا، آملاً أنّي اخترت نصوصاً، قاربت أو طرحت الأهم في آرائه ومواقفه.”
المساهمون في الفصل الأول من الكتاب إلى جانب محرّره، مجموعة من النخبة السورية من الشعراء والكتّاب والكاتبات هم (حسبما وردت أسماؤهم في الكتاب): فرج البيرقدار، وائل السواح، سمة عبد ربه، علي الكردي، ميشيل كيلو، عمر الجباعي، مزن مرشد، إبراهيم اليوسف، وبدر الدين عرودكي.
فيما خُصّص الفصل الثاني لكتابات د. حسّان عباس في الحال السوري، ومن عناوين المقالات المنشورة: («جدران الوهم»، «حرّاس الذاكرة»، «تحوّلات في ثقافة الخوف»، «المجتمع المدني المقبل»، «صناعة التفاؤل»، «المواطنة أمام امتحان الوباء»، و«سوريا لا أمّ لها»).
ونجد في نهاية الكتاب فصلٌ بعنوان «مسارات حسّان عباس في دروب الحياة»، وآخر عنوانه «روابط من نشاطات حسّان عباس ومقابلات معه وكتاباته». إضافة إلى الهوامش والتعليقات.
من مآثر رجل بحجم وطن..
في حوار لي معه تمّت الإشارة إليه في الكتاب (نُشر في مركز حرمون للدراسات المعاصرة، في 3 أيلول/ سبتمبر 2020)، يرى صاحب «سورية، رؤية من السماء»؛ أنّ “الثورة السورية مثّلت برأيي أنبل حراك وأهم علامة مضيئة في تاريخ سوريا الحديث، فهي الثورة المواطنية الوحيدة التي جمعت غالبية السوريين من شتّى الأصول والانتماءات تحت راية الكرامة والعيش المشترك. غير أنّ مسارها انحرف، بسبب عنف النظام وسياساته التفريقيّة وما أنْبتَه من عنف مقابل ومن تصدعات مجتمعيّة لا يبدو أنّ ثمّة براء منها في المستقبل القريب. وقد أسفرت الأوضاع التي أفرزتها سنوات القتال الطويلة عن مآسٍ لم يسبق لها مثيل في العالم الحديث”. مؤكّداً أنّه “سيكون من الخطأ الجسيم تحميل الثورة وزر هذه المآسي، صحيح أنّ لقوى المعارضة دوراً ليس ضئيلاً فيما وصل البلد إليه لكن المسؤولية الجذرية لكل هذا السقوط الاقتصادي والاجتماعي والمالي والثقافي إنّما تقع على النظام. فسياساته الحمقاء هي التي دفعت الثورة نحو العسكرة والتأسلم، وهي التي فتحت البلاد للميليشيات والقوى الخارجية، وهي التي طيّفت المجتمع، وهي التي هجّرت نصف السكان من منازلهم ورمتهم بين نازح ولاجئ، وهي التي أفقرت الناس، إلى ما هنالك من نتائج تراجيدية على هذه القائمة السوداء”.
ونقرأ من مقالة الشاعر السوري فرج البيرقدار، المقيم في السويد، والمعنونة بـ«بشارة الحرّيّة»؛ “حسّان عباس أحد الرموز الذين عبروا كل ما أحاط بالسوريين من حواجز ومراصد وأجهزة رقابة وقمع ومصادرة، إلى أن احتلّ مكانه وصار واقعاً يصعب إلغاؤه كما يصعب تجاهله، وأيضاً يصعب وضعه عند حدوده، التي تحاول السلطات فرضها كلما وأينما استطاعت. كان حسّان، وما زال يشتغل على التأسيس وعلى الأسس بالمعنى المعرفي الثقافي والحقوقي والنقدي والمسرحي والغنائي والتراثي. لم يغرق في التفاصيل، ولم يستطع أحد إغراءه بها أو إغراقه فيها. ثقافته الموسوعية مأثرة تليق بحاملها، ولكن المأثرة الأهم هي المصداقية في جمعه بين القول والفعل على نحو بالغ الاتساق والخصوبة، ولذلك لم يتردد في انحيازه الواضح لمطالب السوريين منذ بداية الثورة، كما في نقده للازدلافات والمنزلقات والكوارث التي استطاع النظام بقمعه الوحشي أساسًا، وتكالب المصالح والأجندات الإقليمية والعالمية تالياً، جرّ الثورة إليها من عسكرة وتطييف وشرذمة وتبعية”.
ومن الشهادات اللافتة عن رجل نبيل بحجم وطن، ما كتبه المعارض البارز الكاتب ميشيل كيلو، المقيم في فرنسا، والتي جاءت بعنوان «مأثرة حسّان عباس»، والتي أشار فيها كاتبها إلى أنّه “بانطلاق الدكتور عباس من الحرّيّة كخصيصة يتعرف الإنسان بها، فإنّه كان من المحتم أن يؤسّس دولة المجتمع المدني على المواطنة، ليتساوى أمامها السوريون في كل ما يتّصل بحقوقهم وواجباتهم، وبتعين الشأن العامّ والحقل السياسي بهم، وتعينهم به كضامن لحرّيّاتهم، فقد جانبه القهري أو أقلع عن استخدامه ضدّهم، لأنّه لم يعد يرى فيهم رعايا/أعداء. قال حسّان عباس بالمواطنة كحلقة رئيسة، كرّس جهوده لتحقيقها، فكان من المحتم أيضًا أن ينصب اهتمامه على بناء ونشر الوعي بها لدى عامّة السوريين. لهذه الغاية، أسّس (رابطة المواطنة)، وجعل شعارها “المساواة والمسؤولية والمشاركة”، بما هي تجليات حتمية للحرّيّة: أساس الدولة المدنية الديمقراطية المنشودة لسورية”. يضيف كيلو: “قدّم عباس للرابطة تعريفاً يقول: “إنّها تجمع مدني طوعي لكل من يرغب في العمل على ترسيخ المواطنة وقيمها على صعيد العلاقة بين المواطنين، والعلاقات بينهم وبين الدولة، والعلاقات بينهم وبين المحيط الذي يعيشون فيه. ومع أنّها ليست تنظيماً سياسياً، فإنّها تعمل في الشأن العامّ وتسعى إلى أن تكون ذات تأثير في المجتمع المدني”. أما هدفها فهو: “المشاركة الفاعلة والواعية لأيّ شخص دون استثناء أو وصاية في بناء الإطار الاجتماعي والسياسي والثقافي للدولة””.
عباس مفكّراً ومنظّراً في زمن الاستبداد..
من مواسم رحلة عطاء د. حسّان عباس إسهامه في تأسيس وإدارة عدد من الجمعيات المدنية العاملة في مجالات الثقافة والمواطنة وحقوق الإنسان، إضافة إلى مؤلّفاته وتنظيراته الفكرية ومنها ما أشار إليه الشاعر والروائي السوري الكردي إبراهيم يوسف، المقيم في ألمانيا، الذي كتب تحت عنوان «د. حسّان عباس ونظرية الرأرأة.. أثر آلة الاستبداد بين العاهة والتشخيص»، والذي رأى فيه أنّ الثورة السورية “استطاعت أن تحوّل معارفنا النظرية التي طالما تعاملنا معها على أسس معرفية، إلى واقع معيش، فيما يخصّ الاستبداد، والدكتاتورية، والظلم، والعنف، بمعنى أنّها أزالت المسافة الكامنة بين النظرية والتطبيق، إذ إنّ ما ظللنا نتناوله عبر ما يصلنا من أوعية معرفية أو ثقافية، في العقود الأكثر ظلامية، التي مرّت ولما تزل تخيم في أبشع صورها، بعد وصول حزب البعث إلى السلطة، وإنتاجه أعلى نمطاً للاستبداد والطغيان، إذ سعت آلة النظام إلى كمِّ الأفواه، ومواجهة أيّ رأي مختلف، أو أيّ موقف لا يندرج في خدمة النظام على أنّه معاد، وتمّت تربية -جيش- من العيون والمخبرين الذين انحصرت مهمتهم في مراقبة سلوك الناس، وحركاتهم، وسكناتهم، وأقوالهم، بل محاسبة كثيرين على مبدأ المظنّة، ما رسّخ بنيان هذه الآلة الرّهيبة التي راحت تحاسب بعضهم حتى على رؤية في منام”.
يحلّل اليوسف في سياق مقالته استنباط الدكتور عباس لمصطلح «الرأرأة» الذي جاء على ذكره في مقالة له عنوانها «الرأرأة السورية» (نشرت في صحيفة “المدن” الإلكترونية اللبنانية، في 17/10/2013)، فيقول: “ينطلق د. حسّان عباس في استنباطه لمصطلح «الرأرأة» من أحد أمراض البصر، إذ يرى أنّ للرأرأة نفسها أربعين حالة، بحسب التشخيص الطبي، إلّا أنّه لا يستغرق طويلاً في حدود هذا المرض العيني، العياني، بل يتّخذه معبراً إلى مرض آخر، فإذا كانت الرأرأة (في لغة الطب) عبارة عن “عَرَضٍ سريري يشير إلى خلل في الأجهزة التي تتحكم بحركة العين ويعود إلى إصابات مرضية مختلفة. ويتصف هذا العرض بحركة اهتزاز لا إرادية للعين تجعلها تبتعد ببطء عن موضعها المركزي لتعود بسرعة إليه، وهكذا دواليك. وتسبب الرأرأة درجة من الخلل في الرؤية” إلّا أنّه يمضي إلى رأرأة أخرى، أشدّ فتكاً، لا تكتفي بهذه الحالة السريرية العابرة التي يمكن علاجها لدى طبيب العيون، لأنّ هناك رأرأة أخرى يقشعرُّ لها بدن المرء وهي “كانت تلاحَظ لدى السوريين في سنوات حكم عائلة الأسد، خصوصاً زمن حكم الأب، حركة لا إرادية يقومون بها بعيونهم، وغالباً ما كانوا يتابعونها بكامل وجههم، حتى أصبحت كالعادة المكتسبة التي تميّزهم عن سائر البشر. وتتميّز هذه الحركة بانحراف كرة العين عن محورها لتتجّه نحو النوافذ أو الأبواب، في الحيّز الذي يجمعهم، فور نطقهم، أو نُطق أحد مُجالِسيهم بكلمة أو إشارة تنال من القائد أو الحزب أو أجهزة الأمن ومن ينتمي إليها”. إنّنا هنا، أمام حالة رعب يكاد يكون فريداً من نوعه. رعب يتحكم بلغة الناس، وحديثهم، إذ ثمّة ما هو ممنوع عليهم التكلم به، أو تناوله، أو الحديث عنه، إلّا في إطار المديح الملفق، بدءاً من اسم الدكتاتور الأول، وانتهاء باسم أصغر شرطي، ضمن دائرة متكاملة، يشكّل جميعها آلة الاستبداد”. يتابع اليوسف: “إذا كان د. حسّان عباس، قد رأى، أنّ للرأرأة أربعين حالة، قد يعاني المصاب بإحداها، أو أكثر من حالة رؤية وهمية أو نحوها، فإنّه ليشخص الحالة الحادية والأربعين التي لم يذكرها أحد قبله، ولم يتناولها حتى علم -طب العيون- وتكاد لا تشبه حالة أحد من المصابين بمرض الرأرأة سوى حالة من هو في ظل وطأة حكم ربيب آلة القهر -السفاح السوري، طبيب العيون- (في إشارة إلى بشار الأسد)، الذي لا تتجاوز تجربته الثقافية حتى مع اختصاصه الألفباء التي وضعها -الكحّالة- البدائي، قبل قرون، في التراث، ولعله لا يفقه “ما الرأرأة” أصلاً! هذه الحالة الإحدى والأربعون ولدت في ظل حكم باطش أسّسه الحزب الحاكم، وكان ذروة نتاجه -حالة النظام الحاكم- الذي أسّس لحالة طغيان دفع ثمنها السوريون جميعهم -موالاةً اضطرارية بسبب مصالحها أو انتهازيّتها أو جبنها- من جهة-، ومعارضة مشرذمة منقسمة على ذاتها بسبب اقتصاديات الحرب، وتمويلات سفك الدم، من جهة أخرى. هذه النظرية، وإن بدت جدُّ بسيطة في طرحها، إلّا أنّها تُقدّم صورة -طبق الأصل- عن حالة السوري المقموع، رصدها الكاتب بلغة أدبية، تتمايز عن لغة الكاتب الصحفي، كما أنّها تقدم ما هو فكري بلغة لا تصعب على مستسيغ لغة الصحافة، وفي هذا ما يميّز لغة كاتبنا التي يمكن تناولها في مبحث خاصّ”.
——————————
حسان عباس.. رحيلٌ آخر يثير مواجع السوريين
“قولوا لمن تحبونهم إنكم تحبونهم. لا تنتظروا رحيلهم لتكتبوا عنهم بعد فوات الأوان. كلمة حب أفضل من ألف قصيدة رثاء”.
غيّب الموت، أمس الأحد، كاتب تلك العبارة المؤثرة الباحث والأكاديمي السوري، حسان عباس، عن عمر ناهر الـ66 عاماً بعد مكابدة صامتة مع مرض سرطان الرئة، بعيداً عن دمشق التي كثيراً ما تمنّى الرجوع إليها محتفلاً بنيلها الحرية وبانتصار ثورة السوريين على طاغيتها.
أجمع كل من نعاه من أصدقائه ومعارفه السوريين وغير السوريين، عبر حساباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، على دماثة خلقه، وطيبته، وسمو أخلاقه، ومواقفه الإنسانية والسياسية النبيلة، ووطنيته المتأججة. ونادرون هم الذين يُجمع عليهم السوريون في وصفهم اليوم.
ولد عباس في الـ15 من نيسان 1955، في مدينة مصياف بريف حماة الغربي، وحصل على شهادة الدكتوراه في النقد الأدبي من جامعة السوربون الجديدة في فرنسا، عام 1992، ليعود بعدها إلى بلده سوريا ويعمل في “المعهد الفرنسي للشرق الأدنى” (IFPO) بدمشق.
خلال تلك المرحلة، أطلق نشاطًا ثقافيًا دوريًا تحت مسمى “منتدى الجمعة الثقافي” الذي استمر حتى عام 2006، قُدِّم خلاله ما يقرب من 400 فعالية بالتزامن مع إدارته ناديين للسينما ومساهمته في تأسيس وإدارة عدد من الجمعيات المدنية العاملة في مجالات الثقافة والمواطنة وحقوق الإنسان، فضلاً عن نشاطه الاستثنائي خلال حقبة “ربيع دمشق” التي أعقبت موت الأسد الأب.
وبالتزامن أيضاً مع عمله ضمن المعهد الفرنسي، عمل عباس أستاذاً في المعهد العالي للفنون المسرحية بجامعة دمشق، لنحو 10 سنوات، كما دُعي كمحاضر في عدد من الجامعات والمعاهد العربية والأوروبية.
وعن تلك المرحلة يقول صديقه الأكاديمي والأستاذ الجامعي، أحمد جاسم الحسين، في حديث لـ موقع تلفزيون سوريا: “عملت مع الدكتور حسان في تدريس اللغة العربية والثقافة السورية في المعهد الفرنسي لدراسات الشرق الأدنى، بالإضافة لمشاركته في إعداد النشاط الثقافي في المعهد”.
وأوضح الحسين أن عبّاس “عمل ضمن نظام التعاقد (الساعات) في المعهد العالي للفنون المسرحية التابع لوزارة الثقافة السورية، لكونه تقدّم للعمل كأستاذ جامعي في وزارة التعليم العالي، لكنه لم يُقبل، إذ اعتبرت رئاسة جامعة دمشق أن الشهادة التي يحملها لا تنسجم مع آليات التعيين الموجودة لديها، بحسب زعمها، فلم يكن أمامه سوى التعاقد مع المعهد العالي للفنون”.
ويضيف الحسين: “وللعمل في التدريس الجامعي ضمن التعليم العالي يجب أن يتقدّم الشخص بطلب لرئاسة الجامعة التي تراسل بدورها الجهات الحكومية والأمنية، ولا يمكن أن تمنح رئاسة الجامعة موافقتها إلا بعد الموافقات الأمنية وفرع حزب البعث التابع للجامعة. وهذا لا ينطبق فقط على المرحوم عباس، بل على جميع المتقدمين”.
وبعيداً عن مسألة العمل، يقول الحسين: “الدكتور عباس شخصية وطنية وقامة محترمة، تهمّه سوريته والجوانب المتعلقة بحقوق الإنسان وتعزيز قيم المواطنة، وهذا ما دفعه لتأسيس الرابطة السورية للمواطنة، كما عمل على مشروع جمع الذاكرة الشفوية السورية”.
ويتابع: “باختصار شديد، كان عباس إنساناً سورياً خالصاً، يشعر بالوجع السوري، إلا أنّ سوريته كانت مهضومة، بالرغم من علاقاته الاجتماعية الواسعة والمحبّبة مع كثير من الأطياف السورية ولم تقتصر على اليسار السوري الذي ينتمي إليه”.
عن نفسه
أما عباس، فيعرّف نفسه وهويته بكلمات بسيطة وراقية وغزيرة بمفاهيم المواطَنة، شبيهة بِسِماته التي وصفه أصدقاؤه بها، فيقول: “إنّ العناصر الطبيعية أو الأولية من هويتي، أي تلك العناصر التي لا يكون للفرد أيّ إرادة في اختيارها، إنما تُفرض عليه بصدفة الولادة، تجعل مني رجلًا من دون أن أصبح ذكوريًا، وعربيًا من دون أن أصبح عنصريًا، وعلويًا من دون أن أصبح طائفيًا”.
ويضيف: “أمّا العناصر الثانوية، وهي التي يختارها الفرد بوعيه وإرادته، فهي كثيرة جدًا، وأكثر ما أعتز به وأدافع عنه منها، تلك التي تجعل مني مقاومًا لشتى أنواع الاستبداد، ومناضلًا من أجل المواطنة”.
الثورة و”الرابطة السورية للمواطنة”
كان عباس من أوائل الثائرين ضد نظام الأسد بمجرد الإعلان عن وصول رياح الربيع العربي إلى سوريا. تجلّى ذلك عبر إنجازه الأهم وهو “الرابطة السورية للمواطنة” التي أسسها وأدارها، بالإضافة إلى تأسيس دار نشر “بيت المواطن” التي تبنّت مفاهيم الرابطة.
جاء تأسيس الرابطة كنتيجة ناجزة لـ “تقويض البعد المواطني للثورة” بحسب تعبير الراحل عباس خلال ندوة قدّمها لـ مركز حرمون في أيلول 2020. برز ذلك التقويض من خلال تطييف الثورة أولًا، ثم دفعها بالقوة نحو العسكرة.
وأمام ذلك الواقع، أعلن عباس عن تأسيس الرابطة السورية للمواطنة، في منتصف كانون الأول 2011، وذلك بعد تنظيم لقاءات مع مجموعات من الشباب، تناول فيها عباس مع مثقفين آخرين قضايا ملحّة مثل: مبادئ المواطنة والدستور والمساواة الجندرية ودور المرأة في الثورة وخطر الطائفية واللاعنف وتاريخ سوريا السياسي الحديث.. إلخ. إذ ارتأوا إنشاء جسم مدني يعمل بشكل منظم ومنهجي لمسائل المواطنة.
طرحت الرابطة، واستقبلت، برامج عديدة، وكل برنامج ضمّ عددًا من المشاريع، عمل بها مواطنون مقتنعون بأنّ المواطنة هي الحل الأمثل لما يعترض الوطن السوري من تصدّعات. فكان الهدف الأساس للرابطة نشر المعرفة بالمواطنة، وترسيخها في الحياة اليومية للمواطن.
أما دار “بيت المواطن” فكانت تجربة استثنائية على طريق نشر المعرفة بالمواطنة وبقضاياها، وقد كانت بمنزلة المنبر الذي تمكنت الرابطة من خلاله التعبير بشكل عملي عن القضايا المواطنية التي تعمل لها.
وأصدرت الدار التي توقف عملها في 2018، 52 كتابًا. منها 30 كتابًا في سلسلة “شهادات سورية” التي كانت بمنزلة محفظة لذاكرة الثورة بقلم ناشطيها، ومنها 10 كتب ضمن سلسلة “التربية المدنية” التي نُشر عبرها أبحاث تعريفية بالقضايا الأساسية في المواطنة، كالديمقراطية والمجتمع المدني والحرية والعلمانية والتنمية المستدامة وحقوق الطفل. وكل تلك المنشورات والكتب كانت توزّع بالمجان.
عنهُ ولهُ.. كتابان أفرحاه قبيل وفاته
لم يخطر ببال الراحل الخلوق أن يتشارك العديد من أصدقائه المحبين في إصدار كتاب عنه، حمل عنوان “حسان عباس بعيون معاصريه”، ولدى سماعه خبر إعداد الكتاب، عبّر عن سعادته الغامرة عبر منشور على حسابه الشخصي جاء فيه: ” شعوران متباينان انتاباني للخبر: شعور بالإحراج الشديد حيث كنت دائما أقول لمن يريد أن يخبر عني وعن عملي: من أنا لأحظى بهذا الشرف؟ فأنا أومن أن كثيرين من السوريات والسوريين يستحقون ذاك أكثر مني. وشعور بالامتنان العميق لهذه المبادرة التي أعتبرها، بعيدا عن اختياري موضوعا لها، فعلا مواطنيا حقيقيا إذ تلفت النظر إلى الجهود التي يبذلها مواطن كرس القسم الأعظم من حياته للمقاومة عبر الثقافة. وأتمنى أن تتكرر المبادرة للاحتفاء بالفاعلين في العمل الاجتماعي والثقافي، وخاصة أولئك الذين يؤثرون العمل بصمت بعيدا عن البعبعة والضجيج”.
وقبل وفاته بنحو 10 أيام، صدر الكتاب الذي جاء في 165 صفحة من القطع المتوسط، وأشرف على تحريره وقدّم له المعارض السوري فايز سارة، واحتوى بين دفتيه على مقالات وشهادات لعدد من أبرز كتّاب وشعراء سوريا ممن عرفوا الدكتور عباس أو تعرفوا على منجزه الإبداعي عبر منصّات النشر والإعلام الإلكتروني والصحافة.
وتمّ إهداء الكتاب، من قِبل محرّره، “إلى سوريات وسوريين قدموا الكثير من أجل مواطنيهم وبلدهم؛ إلى حسّان عباس واحداً من هؤلاء، ما قمنا به اعتراف وتقدير لبعض ما قمت به”.
جاء في الكتاب، من مقالة للروائي والصحفي الفلسطيني، علي الكردي، بعنوان “حسان عباس.. سوريا الحلم”: “كان يسقي بحنوّ شديد نبتة “صبّار” عطشى على شرفة منزله، حينما وخز شوكها إصبعه. سال دمه، وامتزج مع وريقاتها، لكنه لم يتوقف عن رعايتها. باختصار هذا هو حسان عباس: الإنسان.. الصديق.. المثقف.. الأكاديمي المتنوّر الذي سخّر جلّ وقته وحياته للدفاع عن حقوق الانسان، ونشر ثقافة المواطنة، التي اعتبرها حجر الأساس لفهم قضايا جوهرية يعاني منها مجتمعنا.
لم يتوقف حسان عباس عن الحلم بسوريا المستقبل، والعمل الدؤوب في أحلك الظروف من أجل أن تصبح وطناً حراً ديمقراطياً لكل أبنائها، بغض النظر عن هويتهم العرقية أو المذهبية.. الهدف: أن يتمتع الجميع بحق المواطنة المتساوية بالحقوق والواجبات دون أي تمييز. تلك هي الرؤية المستقبلية، التي ما برح حسان يعمل من أجلها، رغم إدراكه حجم الصعوبات، والأشواك الدامية على طريق تحقيق تلك الرؤية..”
في مطلع شهر آذار الجاري، أي قبل أقل من أسبوع على وفاته، جاءت فرحته الثانية حين صدر كتابه الذي انتظر صدوره طويلاً، “الجسد في رواية الحرب السورية”، عن “المعهد الفرنسي للشرق الأدنى/ IFPO” في العاصمة اللبنانية بيروت. درس فيه عباس كيف يتمثّل الجسد في 16 رواية سورية صدرت في سنوات الثورة.
كما تمكّن عباس من إتمام تصوير سلسة “دروب” المخصصة للموارد الثقافية اللامادية السورية، التي سيتم بثها قريباً عبر عشر حلقات قام الراحل بإعدادها وتقديمها. وتشمل السلسلة 7 موضوعات ترتبط بالموارد الثقافية في سوريا والتراث السوري اللامادي.
من السيرة الذاتية لعباس
1992: دكتوراه في الأدب الفرنسي الحديث (النقد الأدبي) من جامعة السوربون الجديدة (باريس الثالثة) – باريس.
1984: شهادة الدراسات المعمقة (النقد الأدبي) من جامعة السوربون الجديدة (باريس الثالثة) – باريس.
1982: شهادة الدبلوم (النقد الأدبي) من جامعة السوربون الجديدة (باريس الثالثة) – باريس.
1981: إجازة في الأدب الفرنسي من جامعة دمشق.
1974-1977: الحلقة الأولى من الدراسات الطبية- جامعة مونبلييه- فرنسا.
1977- 1978: سنة أولى في كلية الحقوق، الجامعة العربية، بيروت (توقف بسبب الحرب).
1977- 1978: سنة أولى في كلية الفلسفة، الجامعة اللبنانية، طرابلس (توقف بسبب الحرب).
1986- 1988: سنتان (مستمع حر) في قسم تاريخ الفنون، مدرسة اللوفر، باريس.
خبرات مهنية:
1986-1992: مراسل ثقافي من باريس لعدد من الصحف العربية.
1992 –2016: أستاذ في (المعهد الفرنسي للشرق الأدنى) في دمشق ثم بيروت.
1993-2006: مسؤول النشاطات الثقافية في (المعهد الفرنسي للشرق الأدنى) في دمشق.
1996-1998: أستاذ مادة الترجمة السياسية في (المركز الثقافي الفرنسي) (شهادة الترجمة بين العربي والفرنسي الملحقة بجامعة “ليون” الثانية DUTFA).
2001 -2009: أستاذ مادة “النقد الأدبي” في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق.
2003-2007: “باحث مقيم” في المعهد الفرنسي للدراسات العربية في دمشق: (دراسات حول “الثقافي والسياسي” في سورية المعاصرة). ثم “باحث مشارك” منذ 2007.
1999- حتى وفاته: محاضر في عدد من الجامعات العربية والأوروبية.
2017-حتى وفاته: باحث مشارك، ومدير برنامج “الثقافة كمقاومة” في (معهد الأصفري للمجتمع المدني والمواطنة) في الجامعة الأميركية في بيروت.
1997: باحث زائر في إطار برنامج (زائرو الاتحاد الأوروبي): موضوع البحث: “دور التبادل الثقافي في إحياء المجتمع المدني”.
2002: باحث زائر في “معهد الدراسات السياسية” IEP في باريس.
1995- حتى وفاته: مشارك في عشرات اللقاءات حول قضايا ثقافية مختلفة، وحول قضايا التبادل الثقافي الأوروبي المتوسطي، وقضايا المواطنة وحقوق الإنسان.
أنشطة أكاديمية:
2003: أستاذ زائر في (مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية) EHESS – باريس.
2004: تنظيم ندوة دولية حول الأطر الاجتماعية الثقافية لتشكيل الصورة النمطية: دراسة حالة سورية ولبنان بالاشتراك مع (المركز الثقافي الدنماركي) و(المركز الفرنسي للشرق الأدنى) في دمشق.
2005: تنظيم ندوة دولية عنوانها “المثقفون والإسلام والسلطة”، (المركز الفرنسي للشرق الأدنى) IFPO في دمشق.
2006: تنظيم ندوة دولية حول “الجسد والهوية، تمثلات الجسد في الثقافة العربية”، (المركز الفرنسي للشرق الأدنى) IFPO في دمشق.
2006-2007: الإشراف على القسم الخاصّ بسوريا من مشروع “أحوال البحث العلمي في العلوم الإنسانية في حوض المتوسط”، (معهد البحوث والتنمية) IRD في باريس.
-2007: تنظيم ندوة دولية حول “العلمانية والمواطنة” بالاشتراك مع المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه، (المركز الفرنسي للشرق الأدنى) IFPO في دمشق.
2009 –2010: المدير العلمي لمشروع “أطياف: بناء الخارطة الثقافية في سورية” لصالح (الأمانة السورية للتنمية).
2015: المشاركة في تنظيم مائدة مستديرة دولية حول “المواطنة والجندر في بناء الديمقراطية”، (الجامعة الأميركية) في بيروت، و(مركز الأصفري للمجتمع المدني والمواطنة)، بالمشاركة مع “المبادرة النسوية الأوروبية” و”الرابطة السورية للمواطنة”.
2016: أستاذ زائر في (مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية) EHESS في باريس.
2019: تنظيم ندوة حول (الفاعلية الثقافية السورية في لبنان).
أنشطة ثقافية:
– مؤسس ومسيّر عدد من النوادي السينمائية.
– مؤسس ومسيّر عدد من النوادي الأدبية، “المقهى الأدبي”، “نادي اقرأ كتابا تزدد شبابًا”.
– عضو في عدد من لجان التحكيم في مسابقات دولية (تصوير فوتوغرافي، أدب، فن تشكيلي).
– 2007: عضو متفرغ في مجلس إدارة احتفالية “دمشق عاصمة للثقافة العربية 2008”.
– مؤسس دار نشر “بيت المواطن”، ومديرها.
أنشطة مدنية:
1994-2006: مؤسس ومشرف على “منتدى الجمعة الثقافي” في (المعهد الفرنسي للدراسات العربية)، دمشق، حتى إغلاقه.
1999- 2004: عضو مؤسس ومشرف على “منتدى الحوار الثقافي” في منطقة مشروع دمر، دمشق، حتى إغلاقه.
– عضو مؤسس، أو عضو إداري في عدد من الجمعيات الثقافية أو المدنية “جمعية حقوق الإنسان في سورية HRAS”، “جمعية النهضة الفنية”، “المنتدى الأوروبي المتوسطي للتبادل الثقافي FEMEC”، “مركز دمشق لدراسات حقوق الإنسان”، “رابطة أصدقاء الكتاب في سورية”، مؤسس “الرابطة السورية للمواطنة” ورئيسها حتى وفاته.
– 2011- حتى وفاته: مدرّب خبير في قضايا المواطنة والثقافة والمجتمع المدني
كتبه:
“أنا، أنت، هم”، كتاب جماعي عن المواطنة، 2002.
“دليل المواطنة”، 2004.
“رحلة مع الهايكو”، دمشق 2008.
“سورية: رؤية من السماء”، 2009.
“الخارطة الثقافية لمنطقة وادي النصارى في سورية”، 2010.
“لا تغمض عينيك”، دار “بيت المواطن”، دمشق 2016.
“الموسيقا التقليدية في سوريا”، 2018.
“الجسد في رواية الحرب السورية” 2021.
كتب ترجمة:
“حكاية أصبوعة الصغيرة”، قصة للأطفال تأليف: هانس أندرسن، تونس.
“ماكينة الإبصار”، تأليف بول فيريليو، دار المدى، دمشق.
“المفكرون الجدد في الإسلام”، تأليف رشيد بن زين- تونس 2009.
تلفزيون سوريا
——————————-
رابطة الكتاب السوريين تنعي الكاتب السوري “حسان عباس“
نعت رابطة الكتاب السوريين الكاتب والمثقف السوري “د. حسان عباس” أحد أبرز وجوه الثقافة السورية الذي وافته المنية في مدينة دبي أمس الأحد بعد صراع صامت مع مرض عضال.
وأشار بيان للرابطة إلى أن سوريا خسرت بوفاة “عباس” مثقفاً رصيناً عمل في الحقل الأكاديمي، وفي النشاط المدني السوري، حيث حفل تاريخه الشخصي بالمساهمات الفذة في نشاط المجتمع المدني السوري قبل الثورة السورية.
وتابع البيان أن المثقف الراحل شارك بتأسيس “الرابطة السورية للمواطنة”، وقد توج الراحل فعاليته الدؤوبة عبر الانتماء إلى صفوف السوريين المنتفضين منذ الأيام الأولى للثورة، فكان ناطقاً باسم الشباب السوري الثائر، ومعبراً عن طموحاتهم في السياق الإعلامي الغربي.
وأشار البيان أيضاً إلى دور “عباس” في صقل توجهات المثقفين منهم عبر مشروعه (بيت المواطن) الذي نقل إلى السوريين عشرات من التجارب الإبداعية التي أشرف على إصدارها في سلسلة “شهادات سورية”، وقد عمل الراحل على مشاريع خاصة بحفظ التراث الشفوي والمادي السوريين، إضافة إلى فعاليته النقدية.
وختم البيان أن رحيل “حسان عباس”، يترك في نفوس أصدقائه وزملائه الأسى العميق، لكنه يلهم الكتاب السوريين أن يستمروا، في درب السوريين نحو حريتهم.
ود. “حسان عباس” من مواليد مدينة “مصياف” عام 1955 حصل على شهادة الدكتوراه في النقد الأدبي من جامعة “سوربون” الثالثة عام 1992 وعاد إلى سوريا ليعمل أستاذاً في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى، كما عمل لعدة سنوات أستاذا للنقد الأدبي في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق.
شارك في تأسيس “جمعية حقوق الإنسان في سوريا”، وفي العديد من الجمعيات الأخرى المهتمة بقضايا حقوق الإنسان، ومُنع بأمر من منظمة الجامعة لحزب البعث، من التعليم في الجامعات السورية بالقرار رقم 3924/م تاريخ 17 أيلول سبتمبر/2001، كما مُنع مراراً من مغادرة سوريا، من أعماله المطبوعة كتاب “أنا، أنت، هم”، بالمشاركة مع فريق من الباحثين والفنانين وكتاب “سورية من الجو”، بالمشاركة مع المصور “هشام زعويط” وكتاب “دليل المواطنة”، بالمشاركة مع الفنان “أحمد معلا”.
وآخر مؤلفاته كتابه الهام “الجسد في رواية الحرب السورية” الذي صدر عن “المعهد الفرنسي للشرق الأدنى IFPO” بيروت منذ أيام كما ترجم عدداً من الكتب عن اللغة الفرنسية، من بينها: “ماكينة الإبصار” (2001) للكاتب الفرنسي “بول فيريليو”، و”المفكرون الجدد في الإسلام”، للباحث الفرنسي المغربي “رشيد بن زين” (2009).
وكان عدد من المثقفين السوريين والعرب قد رثوا المثقف الموسوعي الذي توزعت اهتماماته بين الفكر والأدب والفن والنقد.
وقال الصحفي “أيمن عبد النور” إن رحيل عباس يعتبر خسارة كبيرة للحرية السورية والثورة شعبنا العادلة والمواطنة والعدالة التي عمل الدكتور حسان عباس على توضيحهما طويلا.
ووصفت المعتقلة السابقة “أليس المفرج” رحيل “السوري الأصيل والصديق حسان عباس” بالموجع والمؤلم الذي يزيدنا عبئا ويثقل كاهلنا بالفراغ الذي سيخلفه هذا الغياب.
وخاطبت الكاتب الراحل: “لطالما كنت سوريًا حقيقيًا وجامعًا، وتعجز لغتنا التي كنا نحتفي بها بقلمك وصوتك عن رثائك الذي تستحق”.
وقال المهندس “عماد غليون” إن “عباس” قامة ثقافية فكرية وطنية لا يمكن تعويضها مع فيض من الصدق والنبالة والدماثة قل نظيرها واصفاً إياه بـ”حارس المواطنة”
—————————————
سلامُ حسان عباس وصلني إلى السجن..فبشَّرَني بحريتي/ فرج بيرقدار
في العام 1992 أيقظ نظام الأسد محكمة أمن الدولة العليا، من سُباتها الذي دام سنوات، وعلى ذلك استيقظ وضع مجموعتنا، وقررت السلطات نقلنا من تلك المملكة المرعبة والمجنونة، أعني مملكة سجن تدمر الرابضة على تخوم الصحراء، والتي كانت في ما مضى واحات وارفة ترعاها وتحرسها جدتنا الملكة زنوبيا.
في الواقع كان بعضنا يعتقد أن وجودنا في سجن تدمر هو مشروع تصفية متمهِّلة وبالتالي طويلة الأمد، لكن فجأة أخرجونا من المهجع ونقلونا إلى إحدى الساحات، حيث أعادوا تسجيل تفاصيل قيودنا من اسم وكنية وتاريخ ومكان ميلاد بالإضافة إلى اسم الأب والأم إلخ.
أتذكّر أن أحد رفاقنا نسي اسم أمه، وأن المساعد الذي يشرف على تسجيل قيودنا قرَّعه بشدة: هل يُعقَل أن ينسى أحد اسم أمه؟
كأن المساعد لا يعرف ما يكتنف هذا السجن من جمر ورماد يمكن أن ينسى معهما السجين أمّه وحليبها وأهله وماضيه وحتى مستقبله.
بعدها ساقونا إلى سيارة عسكرية ذات صندوق مغلق راحت تطارد الطريق لساعات إلى أن وصلنا إلى سجن صيدنايا القريب من دمشق.
بعد أيام على وصولنا إلى صيدنايا، بدأوا بأخذنا إلى محكمة أمن الدولة العليا في دمشق على دفعات، تضم كل واحدة منها حوالى دزينة. طريقة سوقنا إلى المحكمة وأيدينا المغلولة إلى جنزير طويل، كان يستحضر في ذهني ما قرأتُه من سِيَرة عبيد روما ومجتلداتها.
كان مضى على مجموعتنا سنوات ونحن في انقطاع تام عن العالم الخارجي، فلا زيارات ولا أخبار ولا آفاق يستريح البصر عليها.
بعد جلسات عديدة، سمحت المحكمة بلقاءات مباشرة بيننا وبين المحامين الذين غامروا وتطوعوا للدفاع عنا.
اقترب المحامي منير العبدالله من قفص المحكمة الذي نحن فيه وسأل: من بينكم فرج بيرقدار؟
أخيراً هناك من يسأل عني من خارج أجهزة المخابرات وإدارة السجن.
اقترب مني ليقول: سأخبرك بأمرين. الأول أن مرافعتك انتشرت في الخارج على نطاق واسع، والثاني أمانة من الدكتور حسان عباس بأن أنقل لك سلامَه. سألته إن كان الدكتور حسان عباس يعرفني شخصياً، لكنه قال: لاحقاً نتحدث، فرئيس المحكمة يطلب إخلاء القاعة الآن.
لي أصدقاء كثر كنيتهم “عباس”، غير أني لا أعرف أحداً منهم باسم حسان، لكن رغم عدم معرفتي به، بل ربما بسبب عدم معرفتي، فقد كان سلامُه نوعاً من التواصل مع العالم الخارجي وأشبه ببشارة حرية. نعم هي بشارة خروجي من ذلك الموت المعنوي. أن تكون مقطوعاً لسنوات عن العالم الخارجي هو موت معنوي. أن تكون منسياً هو موت معنوي. أما أن يصلك سلام من شخص يهتم بأمرك وأنت لا تعرفه، فذلك والله ينشر في النفس عرساً من الأجنحة، ويعوِّض عن أولئك الكُتّاب والمثقفين الذين باتوا يخشون من أي ذكر لعلاقتهم بي.
لاحقاً عرفت الكثير عن حسان عباس، ورسمت أحلاماً وأمنيات في أن ألتقيه إذا بقيت حياً وخرجت من السجن. لم يطل الانتظار كثيراً، فبعد ثماني سنوات من وصول سلامهِ إليَّ أُطلِق سراحي، وتواصل معي حسان ليدعوني إلى أمسية شعرية في المعهد الفرنسي للدراسات العربية، حيث كان أستاذاً فيه بعدما رفضت جامعة دمشق تعيينه فيها.
رجوته أن يغض النظر عن الأمسية فأنا لا أريد أن أورثه وجع رأس مع أجهزة المخابرات، وحين أبدى إصراره حدَّثته عن قناعتي في أن السلطات المعنية لن تعطي الموافقة على أمسية شعرية تتضمن اسمي، وبالتالي فإنه يغامر في أمر يعرِّضه للمتاعب ولا سبيل إلى تحقيقه. قال لي: لا عليك، فنشاطاتنا في المعهد لا تقتضي موافقة السلطات.
– حتى لو.. هو أمر سيُسجَّل عليك.
لم يكترث حسان لما قلت، لكنه أبلغني أن القاعة صغيرة، وأنه لن يبلغ بالأمسية سوى طلبة المعهد وبعض الأصدقاء المقرَّبين.
مع ذلك ورغم كل الاحتياطات فإن القاعة لم تستوعب أعداد من حضروا.
قال لي: لا عليك.. لدينا كراسيّ إضافية، ويمكن لأصدقاء المعهد أن يقفوا في الغرف القريبة من القاعة.
هكذا سقط السجن، وانتصبت الحرية في القاعة والغرف المجاورة.
قدمني حسان على نحو اقتضى مني الكثير من الضبط لكي لا تغدر بي دموعي.
كان يتحدث للجمهور عن عودتي من البعيد البعيد. كان كمن يقول ها أنذا أعلن عن إطلاق سراح روحك وشِعرك وأحاسيسك وليس جسدك فقط.
كان سلامه وأنا في السجن بشارة حرية لي، وها هو الآن يتوجّني أمام الملأ بمعنى الحرية العميق والمتسامي. كان يهمه أن يعرّفني إلى أكبر عدد ممكن من العاملين في المعهد. هل كان حسان يدرك أن من يمضون سنوات طويلة في السجن يصبحون أكثر حاجة للتواصل مع الآخرين، لعلهم يستعيدون أنفسهم أو يعيدون تأهيل ما أحرقته سنوات السجن في قيعانهم الداخلية العميقة؟
حسان عباس أحد الرموز الذين عبروا كل ما أحاط بالسوريين من حواجز ومراصد وأجهزة رقابة وقمع ومصادرة، إلى أن احتلَّ مكانه وصار واقعاً يصعب إلغاؤه كما يصعب تجاهله، وأيضاً يصعب وضعه عند حدوده التي تحاول السلطات فرضها كلما وأينما استطاعت.
كان حسان وما زال يشتغل على التأسيس وعلى الأسس بالمعنى المعرفي الثقافي والحقوقي والنقدي والمسرحي والغنائي والتراثي.
لم يغرق في التفاصيل، ولم يستطع أحد إغراءه بها أو إغراقه فيها.
ثقافته الموسوعية مأثرة تليق بحاملها، لكن المأثرة الأهم هي المصداقية في جمعه بين القول والفعل على نحو بالغ الاتساق والخصوبة، ولذلك لم يتردد في انحيازه الواضح لمطالب السوريين منذ بداية الثورة، كما في نقده للازدلافات والمنزلقات والكوارث التي استطاع النظام بقمعه الوحشي أساساً، وتكالب المصالح والأجندات الإقليمية والعالمية تالياً، جرّ الثورة إليها من عسكرة وتطييف وشرذمة وتبعية.
حين أتابع ما قام ويقوم به حسان، أشعر أنه ليس فرداً بل ورشة عمل في منتهى التفاعل والنشاط والأمل.
هو باختصار، كما عرفتُه وكما عرّف نفسه في المقابلة التي أجراها معه مركز حرمون للدراسات المعاصرة، (رجلٌ من دون أن يصبح ذكوريًا، وعربي من دون أن يصبح عنصريًا، وعلوي من دون أن يصبح طائفيًا).. وأضيف أنه جدير بالعلوّ بقدر تواضعه ونفوره من التعالي.
الدكتور حسان عباس.. هي مناسبة أتوسّل بها الآن لأعلن لك، وأمام الجميع، الكثير الكثير من الشكر والامتنان والمحبة على ما قمت وتقوم به من أجل الإنسان عموماً، ومن أجل شعبنا خصوصاً.
أشعر بالسعادة والإنصاف والفخر حين أتذكّر أن فرنسا منحتك وسام “السعفة الأكاديمية برتبة فارس” العام 2001، فأنت جدير بذلك وأكثر، وأشعر بالحزن والألم والمرارة حين أتذكّر أن حاضرنا السوري لم ينصفك واقعياً، وإن كان أنصفك وجدانياً لدى من يتقنون قراءة الأصول والأعماق ومكامن المجد والتضحيات، حيث لم تدّخر جهداً ولا حباً ولا عطاءً، ولكني على أمل أنَّ المستقبل، وإن تأخَّر، سينصف ويكرِّم مؤسسيه من أمثالك.
(*) هذه المقالة هي مشاركة الشاعر السوري فرج بيرقدار في كتاب “حسان عباس بعيون معاصرة” الذي حرره وأشرف عليه الكاتب فايز سارة، وشارك فيه عدد من معاصري حسان عباس والراغبين في إنصافه وتكريمه.
————————-
حواران لحسان عباس
حسان عباس: المواطنة أساس قيام دولة مدنية ديمقراطية في سوريا
“الرابطة السورية للمواطنة” تجمع مدني طوعي يؤمن بأن أي شكل ستنتهي إليه الأزمة السورية لن يقوى على بناء الدولة المدنية الديمقراطية ما لم يقم على أساس المواطنة. DWعربية التقت الناشط المدني حسان عباس للحديث عن هذه الرابطة.
DWعربية: ما هو عمل الرابطة السورية للمواطنة وما الذي يميزه؟
حسّان عباس: بداية أود القول إنه وعلى عكس كل التيارات الأخرى والمنظمات التي تتخذ المواطنة كأساس لعملها نختلف نحن عنها بأننا لا نفهم المواطنة كمفهوم سياسي وحسب كما يفعل الآخرون، بل ننطلق في عملنا من تعريف المواطنة على أنها وضع يتميز بعلاقات على ثلاثة مستويات: المواطن والدولة، المواطن والمواطن، المواطن والفضاء الذي يعيش فيه.
الآن سوريا تمر في مرحلة مخاض، وسينتهي هذا المخاض إلى شيء جديد. هذا الشيء الجديد ستكون المواطنة فيه ضرورة، لذا يتركز عملنا على المساهمة في تربية جيل من الشباب الذين سيحملون سوريا المستقبل على أكتافهم وتربيتهم على أصول المواطنة.
ما هي المشاريع التي تتصدر أولويات عملكم على الأرض؟
بدأنا أولا بمشروع المعرفة بسبب العوز في ثقافة المواطنة، والآن نحن بصدد نشر أولى أعمالنا، وقيد الطبع دليل عملي للمواطنة لنقل المفهوم من القيد النظري إلى القيد العملي وتدريب مدربين عليه ليتمكنوا من تدريب آخرين وهكذا.
عقدنا ندوات حين كنا في دمشق، وكان عدد المشاركين فيها يتراوح بين 8 إلى 150 شخصا، ولكن خطورة الوضع في دمشق فرضت مشاركة عدد صغير في الندوات. وهناك مشروع سينما عبارة عن نادي سينما هو استمرار للمشروع القديم مع الشهيد باسل شحادة.
برنامج مهم آخر مرتبط بالمستقبل هو برنامج التمكين للشباب وقد أقمنا ورشات عمل حول الدعم النفسي للعائلات والعدالة الانتقالية ورصد انتهاكات المواطنة. أما برنامج الإعلام فلدينا موقع على الانترنت سينطلق قريبا، في حين صفحة الرابطة على الفيسبوك متوقفة حالياً بسبب تعرض القائمين عليها للضغط من الأجهزة الأمنية في دمشق.
ولكن تزايد العنف وتزايد عدد النازحين فرض علينا أن ننقل همنا الأساسي نحو مساعدة الناس فاشتغلنا في قضايا الإغاثة. أخيراً هناك برنامج العدالة الانتقالية وهو برنامج لثلاث سنوات نتطلع خلالها لتدريب 200 شاب وشابة على أسس صناعة العدالة الانتقالية.
المواطنة هي الحل
شعاركم “المواطنة هي الحل”، ما مدى فعاليته وإلى أي مدى يمكن البناء عليه في سوريا اليوم؟ مع الأخذ بعين الاعتبار تزايد العنف وازدياد التوجهات الطائفية بين مكونات المجتمع؟
في الحقيقية تتأكد صحة هذا الشعار يوما بعد يوم، بسبب نشوء حالات لا يمكن أن تحل إلا بالمواطنة ومثالي على ذلك: في سوريا كنا نتحدث عن وحدة المجتمع، بمعنى أنه لا يوجد فرق بين الطوائف والأقوام وأننا كلنا سوريون.
وهذا كان صحيحاً إلى حد كبير ولكن وبنفس الوقت كانت هناك شروخ بين المكونات حتى وإن لم تكن عميقة، فحالات الزواج بين الطوائف عديدة، إلا أن عددا منها لم يستمر بسب الاختلاف الطائفي، وهذا ناتج عن حاسة بين الطوائف بسبب أحداث وقعت في القامشلي والسويداء وقرى مصايف.
المشكلة في سوريا هي أن الحكومة لم تقم بدراسة آلية إدارة التنوع باستثناء استخدام هذا التنوع لغايات سياسية للتغني بالتنوع الثقافي، وكل آليات إدارة التنوع كانت آليات أمنية أو آليات اعتباطية.
المواطنة ترفض المحاصصة الطائفية، ولكن نعرف أن المحاصصة كانت موجودة في سوريا. إضافة إلى أن المدرسة، والتي تعتبر مصنع المواطنة الأول، لم تقم بذلك الدور بسبب مادتين هما التربية الدينية والتربية القومية، فالتربية الدينية تفصل بين الطلاب المنتمين لأديان مختلفة وبالتالي يصبح الآخر المجهول عدوا.
أما مادة القومية الاشتراكية فتتعامل على أن كل السوريين عربا، وبالتالي غيبت القوميات الأخرى الموجودة في سوريا كالأكراد والأرمن والجركس.
هل لازال المجتمع المدني في سوريا موجود بالزخم الذي بدأ فيه بالعمل منذ اندلاع الاحتجاجات في عام 2011 من حيث نشوء منظمات غير حكومية في مجالات متعددة وهل ما زال قادرا على العمل بفعالية اليوم؟
المجتمع المدني في سوريا المعاصرة مرّ بأربعة أجيال: الأول ممتد بين 1970 – 2000 وهو جيل “تبعيث” المجتمع المدني. فحافظ الأسد لم يلغ المجتمع المدني وإنما بعّث المجتمع إلى مجتمع يدافع عن السطلة ضد المجتمع في حين وجب أن يكون العكس هو الصحيح.
والجيل الثاني ممتد بين 2000 – 2011 والذي ظهر فيه أشكال جديدة من التنظيمات والتي كان أبرزها منظمات السيدة الأولى أو بمعنى آخر “المنظمات الحكومية غير الحكومية” إضافة لهامش من الحرية لعمل بعض منظمات المجتمع المدني في قضايا كالبيئة والثقافة والمرأة.أما الطور الثالث فهو الذي نشأ مع بداية الانتفاضة في 2011 والذي تشكل تلقائياً وبشكل حقيقي للمجتمع المدني.
لكن عنف السلطة وتحول الانتفاضة إلى صراع بين ميليشات ذات طابع ديني حال دون تطوره ولم يبق له مكان في هذا الصراع، فالجيل الثالث ظهر بشكل كبير وتطور إلا أنه أخذ ينحسر أو يهاجر دون التخلي عن واجبه السوري.
الآن المجتمع المدني في طوره الرابع الآخذ في التفكير بالمستقبل، فرابطة المواطنة السورية تنتمي للجيل الثالث، ولكن عملنا الأساسي ينتمي للجيل الرابع.
حسان عباس: “شبابنا يفقد مستقبله والأقل شباباً يفقدون تاريخهم”
هذا يقودنا للقول إن المجتمع المدني لا يستطيع أن يعمل بشكل طبيعي فهو تحول بشكله وأهدافه بكثير من الأحيان بسبب الصعوبات التي يواجهها ليس فقط من الأجهزة الأمنية وقرارات الدولة التي كانت تمنعه وتخنقه، وبات يواجه خطراً آخر أيضاً وهو أن القوى التي تسيطر على كثير من المناطق هي قوى لا تريد وجود المجتمع المدني، إنها قوى ذات مشروع ديني مركزي وشديد السلطوية ولا يختلف عن الاستبداد الذي قمنا ضده، ربما يختلف عنه في المضمون لكن في الشكل هو استبداد.
والمجتمع المدني يعرف أنه لم يقم بثورته ضد الاستبداد المؤسس لاستبداله باستبداد همجي أو استبداد رجعي أو فوضوي بل قام بانتفاضته من أجل الحرية.
فصل الدين عن الدولة
نفهم من كلامك أن المجتمع المدني بناشطيه ومشاريعه ومنظماته في سوريا في انحسار بسبب القمع أو الهجرة، هل يمكن أن يؤدي هذا إلى أن يخسر المجتمع المدني من شعبيته لعدم مواكبته الأحداث من داخل البلد بسبب الهجرة للخارج؟
أتفق مع هذا الكلام إلى حد كبير وأؤكد أن المجتمع المدني خسر من خيرة شبابه الكثيرين سواء من استشهد منهم أو من يعيشون في السجون ولا أستطيع هنا إلا أن أذكر الصحفي مازن درويش.
ولكن هذه التلقائية في بناء المجتمع بعد بداية الانتفاضة وحتى الهجرة لخارج البلد كانت نافعة وليست ضارة بسبب الاحتكاك مع المنظمات العالمية والمجتمعات الغربية التي تعيش فيها فكرة المدنية والمواطنة.حسان عباس:
حسب رأيك فإن شرط تحقيق المواطنة هو وجود دولة علمانية، لذا يغضبك استخدام المعارضة السورية لكلمة دولة مدنية عوضاّ عن دولة علمانية، ألا تعتقد أن هذا الطرح هو محاولة لإيجاد حل وسط مع الطرف الآخر الديني المعارض؟
العلمانية فكر وممارسة، العلمانية كفكر هي العلمانية الموروثة من الثقافة الفرنسية بمعنى أنها شكل من أشكال التفكير حول العالم. هذه العلمانية غير مهم أن تكون أو لا تكون في سوريا المهم أن تكون العلمانية الأخرى هي الموجودة أي العلمانية الممارسة وهي العلمانية الموروثة من الثقافة الإنجليزية والتي تعني الفصل بين الدين والدولة.
كما أنه ليس صحيحاً أن سوريا خاضعة للهيمنة الدينية وإنما تخضع لهيمنة الثقافة العلمانية، ومثال على ذلك الحرية الاجتماعية التي تتمتع بها النساء في سوريا وهي ليست موجودة ضمن هيمنة ثقافة دينية، وكذلك حرية التعامل بين الجنسين وحرية التعامل مع الدين والمعتقدات.
طبعاً القيادات الدينية تستخدم تعبير الدولة المدنية لأن ذلك يرضي العلمانيين ويسمح للتيارات الدينية في حال وصلت للسلطة مستقبلاً أن تشتري سكوت العلمانيين بمصطلح مشترك. وشاهدنا ما حصل بمصر، لكن في الحقيقة لا الإخوان المسلمين ولا التيارات الدينية في سوريا ترى في المدنية علمانية الدولة ولا ترى التيارات العلمانية في المدنية ما يراه الإخوان المسلمين.
كيف يمكن إذن أن يتوفر مجتمع مدني فعّال في سوريا بعد سقوط النظام؟
الحرية أولاً، وأعني هنا الحرية المدنية في العقد الاجتماعي أي الحرية باستخدام الحقوق التي يمنحها القانون. هذا هو المطلب الأول لكي يعيش المجتمع المدني ليكون له حرية التعبير وحرية التجمع والتظاهر والعمل والمساواة في القانون، خاصة أن القانون السوري جائر.
إضافة لوجود شكل من أشكال الحرية الاقتصادية، فالمجتمع المدني لا يمكن أن يتطور بدون هذه الحرية الاقتصادية، كالحق في الحصول على تمويل وتشكيل صناديق دعم لبعض قطاعات الحياة كالثقافة مثلاً.
تدويل الصراع
ما هي نقاط القوة المتبقية في المجتمع المدني السوري حتى الآن والتي يمكن البناء عليها مستقبلا؟
أنا لازلت أراهن على إخلاص السوريين لوطنهم، ولا يمكنني أن أصدق أن هؤلاء الذين يخربون سوريا اليوم يفعلون ذلك بإرادتهم أو كمشروع مستقبلي لتقسيم البلد، أظن أن خراب سوريا اليوم بسبب تحول الصراع من صراع وطني سلمي إلى صراع دولي.
السوري يؤمن بانتمائه وبإمكانية بناء سوريا وهذا أول مقوّم إيجابي. ثانياً التاريخ السوري هو تاريخ متصالح: لم نعرف حركات تطرفية في تاريخ سوريا، حتى أن أئمة الإسلام المتطرفين لم يستطيعوا العيش في سوريا لذلك ذهبوا لدول أخرى وأسسوا المذاهب المتشددة. سوريا بموقعها الجغرافي وتكونها الحضاري وتنوعها الثقافي لا تستطيع إلا أن تكون بلداً منفتحاً.
هل أنت متشائم مما يحصل اليوم في سوريا؟
الوضع الذي وصلنا إليه اليوم وضع محزن ولا أريد أن أرش فوق الموت سكراً، نحن نفقد أصدقاءنا وبيتنا وأرضنا، وشبابنا يفقد مستقبله والأقل شباباً يفقدون تاريخهم. أنا كشخص حين أجد أن كل شيء يدفع للتشاؤم أسأل نفسي مامعنى وجودي في الحياة إذا كنت أرى كل الأشياء سوداء فالأفضل أن أموت، ولكن لاأريد أن أموت إذ، لابد من بناء الأمل. التشاؤم برأي أمر طبيعي ولكن التفاؤل أمر إرادي، ولكنني رغم تشاؤمي قليلاً إلا أنني مواطن يصنع التفاؤل.
أجرت الحوار: رولا أسد، هولندا
———————————–
حسان عباس: الموسيقى فعل مقاوم للاستبداد
أوس يعقوب
في كتابه الجديد «الموسيقى التقليدية في سوريا»، الصادر مؤخراً عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، باريس 2018، يفتح الباحث والكاتب السوري الدكتور حسان عباس أفق أسئلة الموسيقى التقليدية السورية، راصداً حال الموسيقى المسيحية من سريانية، وبيزنطية، وأرمنية، وكذلك الموسيقى الإسلامية، فالموسيقى الإثنية من عربية، وكردية، وإيزيدية، وشركسية.. في سوريا اليوم، والتي تشهد منذ نيف وسبع سنوات حرباً ضارية ألحقت أضراراً فادحة بالتراث الثقافي والتاريخي السوري الغني، بشقيه المادي واللامادي.
“رمان” التقت صاحب «سورية، رؤية من السماء»، لمعرفة تفاصيل أكثر حول موضوعة الموسيقى في بلاده، والتي تعود تجلياتها الأولى إلى حضارة ماري في الألف الثالث قبل الميلاد، ليمتد تاريخها إلى حاضر سوريا السياسي والإجتماعي الآني. فكان هذا الحوار..
بداية، كيف تفضّل التعريف بنفسك؟
أنا إنسان قضيت عمري بالتعلّم ولا أزال طالب علم، عدا ذلك، أعمل موزّعاً طاقتي بين ميادين ثلاثة: البحث والتعليم والعمل المدني. غايتي من البحث هي المساهمة في معرفة من نحن كبشر من هذه المنطقة، ولماذا صار حالنا إلى ما هو عليه من تأخر وفوات. غايتي من التعليم هي أن أنقل ما أتحصّل عليه من علم إلى أوسع شريحة من شباب بلدي أما غايتي من العمل المدني فهي نشر ثقافة المواطنة بما تتطلبه من ديمقراطية وعلمانية وفكر نقدي.
صدر لك حديثاً، كتاب بعنوان «الموسيقى التقليدية في سوريا»، كيف ولدت فكرة العمل لديك؟ وهل يُمكنك وصفه لقراء “رمان”؟
ولدت فكرة هذا الكتاب من خلفية اهتمامي بالتراث الثقافي في المنطقة، سوريا تحديداً، بشقيه المادي واللامادي، فأنا باحث في هذا التراث منذ أكثر من عشرين سنة. وقد قمت بوضع عدّة دراسات عن الموضوع أهمها بناء الخارطة الثقافية لمنطقة “وادي النصارى” في سوريا عام 2010.
أما فكرة هذا الكتاب تحديداً فجاءت بعد اطلاعي على برنامج “الصون العاجل للتراث الثقافي السوري” الذي ترعاه منظمة (اليونسكو)، وحواري مع مديرته المثقفة الشغوفة الدكتورة كريستينا مينيغاتزي حول ضرورة تدوين هذا التراث، بكل أوجهه، صونا له من الخراب الذي يصيب سوريا. كان تجاوبها علمياً ومنطقياً واتفقنا على العمل على وجه من أوجه هذا التراث وهو التراث الموسيقي، وعلى استشارة أهل الخبرة فيه حول ما يجب عمله. وكُلّفت بالتحضير ليوم عمل حول الموضوع في مقر المنظمة في باريس. وقد تم ذلك بالفعل في شهر أيار/ مايو 2015 بحضور كل من: نوري اسكندر، عابد عازرية، إبراهيم كيفو، خالد الجرماني، فواز باقر، غني ميرزو، لينا شامميان، مع عدد من مسؤولي قسم التراث اللامادي في (اليونسكو). وقد خرجت مجموعة من التوصيات عن اللقاء أهمها ضرورة التعريف بهذا التراث كخطوة أولى نحو توثيقه وحفظه. ثمّ قامت السيدة مينيغاتزي بتكليفي بهذا العمل البحثي وأنا بالمناسبة لست موسيقياً، لكن لا ضير في ذلك فالكتاب هو بحث في الأنتربولوجيا الثقافية، أي أنّه بحث (عن) الموسيقى وليس (في) الموسيقى.
حدثنا عن مناخات كتابته، وعن الدوافع، والخلفيات، وأين تكمن أهميته بالدرجة الأولى؟
عندما تعمل على بحث علمي تحبه يصبح الموضوع هاجسك الأكبر، فيتملك ذهنك وتشغل أسئلته المستمرة تفكيرك. وقد صادفت فترة عملي في البحث أنني كنت بلا عمل رسمي حيث كنت قد استقلت لتوّي من وظيفتي كباحث وأستاذ في “المعهد الفرنسي للشرق الأدنى” مما وفر المناخ العملي للتفرغ له. أما الدوافع لإنجازه فيمكنني تلخيصها بنقطتين: أولهما قناعتي بأنّ النظام التعليمي السوري قد فرّغ المؤسسة التعليمية من الاهتمام بالتراث الثقافي السوري بشكل عام، وبتراث بعض المكونات الثقافية السورية بشكل خاص، وقد أردت التذكير بهذا التراث وبغناه من خلال وجه من أوجهه العديدة؛ الدافع الثاني هو قناعتي بأنّ الثقافة السورية بتنوعها وتكاملها يمكن أن تكون أرضية مناسبة لبناء تماسك اجتماعي فقدته سوريا بفعل سوء إدارة التنوع أولاً، وبفعل الحرب ثانياً.
أما أهمية الكتاب فتكمن في كونه، على حد معرفتي، أول كتاب في الثقافة السورية يبتعد عن الانغلاق القومي أو الديني في تناول وجه من أوجه الثقافة في سوريا، هنا الموسيقى، لينظر إليها بشكل مواطني أي بكل اختلافاتها ودون أي تمييز تفاضلي بينها.
هل استطعت فعلاً أن تضيف جديداً في مجال تأريخ الموسيقى المعاصرة والحديثة في بلدك؟
لا أستطيع أن أجيب عن هذا السؤال لأني لست مؤرخاً موسيقياً، واسمح لي أن أذكّر أنّ الكتاب لا يقيم اهتماماً خاصاً بالموسيقى المعاصرة والحديثة.
إن كانت قد واجهتك مصاعب أو تحديات أثناء إنجاز العمل، فما هي؟
الصعوبة القصوى كانت في عدم إمكانية العمل الميداني، ودراسة التراث الثقافي يحتاج بالدرجة الأولى إلى حوار مباشر مع الناس وخاصة حافظي هذا التراث وممارسيه. كما واجهت صعوبة في الحصول على ما يكفي من مراجع لبعض أنواع الموسيقى التقليدية في سوريا كالموسيقى الأرمنية مثلاً.
“الموسيقى التقليدية في سوريا”، أسألك عن ما ذهبت إليه وجاء في عنوان الكتاب (موسيقى تقليدية) كمفهوم/ مصطلح، إذا ما استحضرنا سلسلة الحضارات الإنسانية التي مرّت على سوريا؟
عنوان الكتاب هو “الموسيقى التقليدية في سوريا” وهذا التفصيل مهم لأنّه يعيدنا إلى مفهوم الموسيقى التقليدية كما يمكن تعريفه اعتماداً على ما ورد في اتفاقية 2003 لمنظمة (اليونسكو) بشأن حماية التراث الثقافي غير المادي. فالموسيقى التقليدية حسب هذه الاتفاقية هي تراث لا مادي: 1- تعتبرها جماعات أو مجموعات (قومية، دينية، جهوية، مهنية…) جزءًا من تراثها الثقافي. 2- تنتقل عبر الأجيال. 3- موسيقى حيّة لا يزال أصحابها يبدعون فيها. 4- تنمي الإحساس بالهوية الثقافية وتحترم التنوع الثقافي.
وبالتالي انطلقتُ في البحث من الجماعات المكوّنة للنسيج السوري وثبت موسيقاها الخاصة. تتعايش في سوريا ثقافات كثيرة فهناك ثقافات قومية مختلفة، بعضها أصيل في المنطقة، وبعضها يعود في أصله إلى خارجها وهاجر إليها بفعل مجريات التاريخ واستقر فيها؛ وهناك عدد كبير من الثقافات الدينية والطائفية والمذهبية؛ وعدد من الثقافات الجهوية التي شكّلت في أكثر من منطقة مجموعة متجانسة ثقافياً، إلخ. وهذه كلها مارست موسيقاها التقليدية الخاصة بها، وتطلّعت في بحثي إلى التذكير بها وإلى تقديم ما أمكنني من معلومات عنها.
تطرّقت في الكتاب إلى العديد من القضايا السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية الراهنة، عند معالجتك موضوعة الموسيقى والغناء والرقص. هل لك أن تضيء على هذه النقطة؟
هذا عائد إلى المنهج المعتمد في البحث، وكما قلت في البداية هذا البحث ليس في الموسيقى وإنما عنها، أي بوجه من الأوجه: كيف تحيا هذه الموسيقى وما هي الشروط التي تجعلها على هذا الشكل من الحياة، وهي بطبيعة الحال شروط متعددة سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية. وباعتقادي أنّ هذه الإضاءات هي ما يعطي للبحث أهميته لأنها تساعد في معرفة حال الموسيقى التقليدية وتشير إلى أسباب هذه الحال وتبيّن الإجراءات الواجب اتّخاذها للحفاظ على الموسيقى وتطويرها.
كيف هو السبيل لحماية التراث الثقافي والفني السوري عامة، والموسيقي على وجه الخصوص، وصونه من أعمال الدمار المستمرة والخسائر المتزايدة التي تطاله حتى يومنا هذا؟
أعتقد أنّ أول ما يجب عمله هو جمع هذا التراث وتدوينه. إننا نفقد باستمرار ألحاناً لموشحات وقصائد حفظها موسيقيون أو أشخاص عاديون ورفضوا تدوينها أو تعليمها لذريعة أو أخرى. وعندما أقول جمع التراث وتدوينه لا أقصد بذلك مطلقاً أن يوضع في متحف أو يرتّب في مكتبة لتصلّى عليه صلاة الجنازة، وإنما جمعه لإتاحة تعلمه لأكبر عدد من المهتمين به.. وهنا أريد التحذير من آلية في التعامل مع التراث، وهي تنطلق من نية حسنة ربما لكنها تقود إلى تحنيط التراث بشكل معقّم بليد، إنها آلية “الفلكلرة” folklorisation التي تحوّل التراث إلى فولكلور منقطع عن شرطه الحياتي الإنساني الاجتماعي ليصبح “فقرة” معروضة على خشبة مسرح في حفلات موسمية، انظر مثلاً ماذا حل بـ”رقصة السماح”.
أسألك عن حال الموسيقى المسيحية من سريانية، وبيزنطية، وأرمنية في سوريا الغنية بفسيفساء اجتماعية مبدعة وخلاقة؟
الموسيقى السريانية هي الموسيقى الأقدم التي لا تزال تمارس حتى اليوم. وقد تطورت وتلوّنت وتلقحت من غيرها من الموسيقات. وفي كثير من الأحيان يتغنى السوريون، وغيرهم من سكان المنطقة، اليوم بألحان شعبية هي سريانية أصيلة لكنهم يجهلون ذلك، والسبب برأيي هو هذا الفكر السياسي الذي يسعى إلى توحيد كل الثقافات المعاشة في سورية في زي موحد عروبي بذريعة التجانس، وهي ذريعة فوقية استبدادية بامتياز.
أتوقف معك عند تصنيفك الآتي: “الموسيقى الإثنية في سوريا”، لسؤالك عنه في ظلّ سياسات التحريم والمنع من مستبد سياسي وآخر ديني؟
الاستبداد، بشكليه السياسي والديني، عدو الإبداع. وفي منطقتنا عرفنا هذين الاستبدادين لكننا عرفنا أيضاً أشكالاً وطرقاً لمقاومتهما في كل الأزمان والظروف. إنّ الحرية هي جوهر الإنسان ولهذا كان دائماً يقاوم الاستبداد، وكانت الموسيقى، إلى جانب الإبداعات الثقافية الأخرى، واحدة من وسائل ممارسة هذه الحرية.
ماذا عن الموسيقى الإسلامية في سوريا؟
الموسيقى الإسلامية مكون من المكونات الموسيقية التقليدية في سوريا، وقد تمت معالجتها في الكتاب بما أتيح لي معرفته. لكن ليس بكل ما تستحقه هذه الموسيقى لأنّ ثمّة بحراً من العلم الموسيقي الإسلامي الذي يحتاج إلى جهود عديد من الباحثين، لجمع هذه الموسيقى وتدوينها وتوثيقها وتعليمها، بكل ما يضيفه الواقع من تفصيلات معقدِّة لهذا المصطلح العام، إذ أنّ هناك موسيقات إسلامية في سوريا ولا توجد دلالة واحدة جامعة للمصطلح. والأمر نفسه بالنسبة لأي موسيقى دينية أخرى.
برأيك هل يمكن قراءة سوريا والمنطقة العربية من خلال موسيقاها؟
لا أعتقد، الموسيقى نتاج إنساني ثقافي يعبر عن تجارب الشعوب وأحزانها وآمالها لكنه يبقى نتاجاً له أدواته الجمالية والحضارية الخاصة فهو يسمح بقراءة إبداع الشعوب في هذا المجال الخاص فقط وليس قراءتها بالمطلق.
الموسيقى رسالة إنسانية – جمالية قبل كل شيء، فهل تراها بقيت كذلك في ظلّ ما يمرّ على عالمنا العربي من كوارث ومآسي وحروب، وهل للموسيقى أن تبني ما هدمته الحروب؟
الإنسان هو من يقوم بالحروب وهو وحده من يبني ما هدمته الحروب، وفي الحالين يستعين على عمله بثقافة وموسيقى، فلا الثقافة ولا الموسيقى ولا أي نوع من أنواع الفنون حيادي. لذا السؤال الأول هو عن الإنسان فإن كان مؤمناً بالخير والجمال والسلام ستكون موسيقاه مثله، وإن كان ظلامياً دموياً هدّاماً كانت موسيقاه مثله أيضاً.
ماذا بعد كتاب «الموسيقى التقليدية في سوريا»؟
حلمي القديم الكبير هو وضع “الخارطة الثقافية لسوريا”، لكن الواقع السياسي والعملي، وربما العمر أيضاً، لا يتركوا لي أملاً كبيراً في تحقيق حلمي، لذا أواسي نفسي بوضع بعض الدراسات عن أسئلة ثقافية مختلفة.
يُشار إلى أنّ حسان عباس (من مواليد مصياف- سورية 1955). حائز على شهادة الدكتوراه في الآداب- النقد الأدبي من جامعة السوربون الجديدة. عمل ما بين عامي (1992 – 2016)، أستاذاً وباحثاً في “المعهد الفرنسي للشرق الأدنى” في دمشق ثمّ في بيروت. وعمل إلى جانب ذلك أيضاً مسؤولاً للنشاطات الثقافية في هذا المعهد من 1992 حتى 2006، إلى أن استقال مطلع عام 2017.
عمل، بموازاة ذلك، من 2000 حتى 2009 أستاذاً في “المعهد العالي للفنون المسرحية” في دمشق. ويعمل حالياً كباحث مشارك (مدير برنامج “الثقافة كمقاومة”) في “معهد الأصفري للمجتمع المدني والمواطنة” في الجامعة الأمريكية في بيروت. وكان أن شارك في تأسيس العديد من الجمعيات العاملة في الثقافة وحقوق الإنسان والمواطنة. أدار عدداً من النوادي السينمائية والأدبية، مؤسس ورئيس “الرابطة السورية للمواطنة”.
له عدد من الكتب منها: «دليل المواطنة»؛ مع الفنان أحمد معلا، «الخارطة الثقافية لمنطقة وادي النصارى»، «سورية، رؤية من السماء»؛ مع المصور الفوتوغرافي هشام زعويط، و«رحلة مع الهايكو”؛ “لا تغمض عينيك!». ومن ترجماته: «ماكينة الإبصار»، و«المفكرون الجدد في الإسلام». إضافة إلى عدد من الدراسات في مجالات الثقافة، والمواطنة، والمجتمع المدني.
مجلة رمان
———————————
===============
مقالات حسان عباس
———————
“حرّاس الذاكرة”/ حسان عباس
(إلى مازن درويش ورزان زيتونة)
قد يبدو صحيحاً أن الحرب “نار تجلو صدأ الشعوب”، وقد يبدو صحيحاً أنها “شرّ لا بدّ منه” لكي تنبعث الأمم من رمادها، لكن ليس صحيحاً أنها هذا فحسب، لأن الحرب هي أيضاً، وقبل كل شيء آخر، موت ودمار وخراب. قد تشقّ الحروب طريقاً لجديد آت، وقد تهيئ لقيامة ما، لكن لا هذه القيامة ولا ذاك الجديد يقدَّر لهما أن يكونا بدون الويلات التي تنثرها الحروب.
الحرب انتهاك للإنسانية وللإنسان، ونخصّ هنا الحرب التي تقوم بين أبناء البلد الواحد سواء أكانت حرباً داخلية (كما هي الحال في سوريا) أم حرباً أهلية. كل ما في الحرب فعلٌ جرمي. وكل من ينخرط فيها، شريك، بهذا القدر أو ذاك، في جريمة. من المفارقة المؤلمة أن الكثير، بل غالبية، أولئك الشركاء هم ضحايا. ليسوا ضحايا وقع عليهم الانتهاك فقُتِلوا أو جُرِحوا أو شوِّهوا فحسب، بل هم ضحايا لأنهم أُرغموا أو اضطروا أو أُجبِروا على المشاركة في القتل والجرح والتشويه. الذين تحولوا إلى أدوات قتل في يد نظام مستبدّ أحمق هم ضحاياه أولاً، والذين اضطروا لحمل السلاح دفاعاً عن انتفاضة كرامتهم هم ضحايا النظام مرتين: مرة لأنه اضطرهم إلى حمل السلاح ومشاركته في المقتلة ومرّة لأنه قتلهم حقاً، والذين تحولوا إلى مرتزقة وأدوات قتل في يد إرهاب ديني أعمى مموّل هم ضحايا أمراء الحرب وسدنة الجهل والظلامية. الحرب آلة حمقاء تصَنِّع ضحايا ليقوموا بدورهم بصُنع ضحاياهم لدى الطرف الآخر. وفي الحرب الداخلية، الكلّ هو الآخر. حيث لا منطق يبيح لطرف أن يكون ال(نحن) المطلقة التي تتجسّد فيها روح الوطن فتنال شرعية القتال باسمه.
الحرب الداخلية مصنع للضحايا يديره مجرمون. وهؤلاء الأخيرون قلّما ينالهم العقاب الذي يستحقونه. يُخطَف الناس ويعذّبون ويقتلون بأمر منهم، وهم يقبعون في دشماتهم ومراكز قياداتهم يتابعون على الخرائط الباردة حركة البيادق المرمية في الميدان. فإن انتصر طرف منهم أرّخ لما كان بالشكل الذي يريد، بينما تغيب الضحايا في جبّ النسيان. وتُنسى أسماؤها وأسماء قاتليها.
من هنا كانت فكرة توثيق الانتهاكات في زمن الحرب فكرة عظيمة، لأنها، من جهة، تحفظ للضحايا ذكراهم، ومن جهة أخرى تقيم الحجة على الشركاء في الجرم بدءا من الذي خطط، إلى الذي أعطى الأمر بالتنفيذ، إلى الذي نفّذ. وتكون الانتهاكات المسجّلة وثيقة لا بدّ منها لكل بناء لسيرورة عدالة انتقالية. من هنا يلد حقد المسؤولين عن الإجرام على النشطاء الحقوقيين، وعلى كل مؤسسة مدنية تعمل في مجال توثيق الانتهاكات. والأمثلة على ما عاناه ويعانيه النشطاء في مجال حقوق الإنسان وتوثيق انتهاكات هذه الحقوق في سوريا لا تعدّ ولا تحصى. ففي بداية الانتفاضة ضد نظام الاستبداد لاحقت الأجهزة الأمنية هؤلاء النشطاء وحبستهم. ومنهم الصحافي مازن درويش، رئيس المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، الذي انهى يوم الاثنين 16 كانون الأول، 22 شهراً على وجوده في المعتقل. أما بعد انحراف الثورة وسقوط غالبية المناطق الخارجة عن سلطة النظام تحت سطوة الإرهاب الإسلامي الظلامي فقد عاد الوضع شبيهاً بما كان عليه قبل الانتفاضة، بل وبشكل أكثر بشاعة. لكن هذا لم يمنع النشطاء، رغم كل الصعوبات، من الاستمرار بتوثيق الانتهاكات التي تمارسها القوى المتسلطة الجديدة. وبالطبع لم يرق هذا لأمراء الحرب الملتحين فبدؤوا بعملية كمّ أفواه النشطاء مثل رزان زيتونة ورفاقها الذين تمّ اختطافهم على أيدي “ملثمين”.
في سوريا، وبين الاستبداد السياسي الذي يقتل باسم قوّة من الأرض والإرهاب الديني الذي يقتل باسم قوّة من السماء يسقط ضحايا أبرياء يتهدّد النسيان أسماءهم وأشكالهم ولون وجوههم. لكنهم لن يُنسوا مادام هناك ناشطون وناشطات يوثقون للانتهاكات ويقفون حرّاساً للذاكرة.
—————————-
نيران ليلة رأس السنة/ حسان عباس
كانت سنة 2012 تلفظ أنفاسها الأخيرة. سكون شامل وثقيل يخيّم على دمشق. لا دويّ انفجارات ولا هدير طائرات ولا صوت اشتباكات بالسلاح الخفيف. والسوريون باتوا بالمناسبة خبراء بأصوات المقذوفات فحتى الصِبية يخبرونك إن كان الصوت الذي غضّن عضلة من عضلات وجهك تنبّهاً أو التفاتا نحو مصدره هو صوت طلقة مدفع أو دبابة أو صوت صاروخ مطلق من طائرة أو من راجمة صواريخ، أو صوت رشاش.. كل هذه الأصوات كانت غائبة قبيل نهاية السنة. هل كان المتقاتلون قد عقدوا هدنة سرية للسماح للناس بالاحتفال برأس السنة الجديدة كما اعتادوا على ذلك لسنوات طويلة خلت؟ هل قبعوا خلف متاريسهم أو في مخابئهم يستذكرون في هذا اليوم الخاص من السنة الأحباب الذين أبعدهم القتال عنهم أو الأصحاب الذين فقدوهم؟ هل جاءت التعليمات من قادتهم بأن يتركوا في هذه الليلة للسماء سكونها وللأرض رومانسيتها؟
وفجأة، وكمطر مضيء صاعد من الأرض صوب السماء، انطلقت نيران آلاف الأسلحة الخفيفة من بنادق ورشاشات وما شابهها. وبقيت سيمفونية النيران الأوتوماتيكية هذه قرابة نصف ساعة، أطلقت خلالها مئات، آلاف، عشرات آلاف الطلقات وكأن جبهة مواجهةٍ مع السماء قد فُتحت بتوقيت مضبوط. لكن الحق يقال إن هذه الحفلة لم تكن عامة وإنما بقيت منحصرة في الأحياء الموالية، أو تلك البعيدة عن مراكز القيادات ولا تزال تسمى بالأحياء الهادئة.
قد يرى كثيرون أن ليس ثمّة ما يستحق التوقف عنده في هذا الأمر. فالنار وألعابها كانت ولا تزال عنصرا أصيلا في ثقافة الاحتفال لدى شعوب الأرض قاطبة. ولئن كانت هناك تحليلات وتفسيرات عديدة لمركزية النار في الاحتفالات الجمعية عبر التاريخ، تبقى فكرة التطهّر والتطهير هي الأكثر رسوخا في هذا المجال، وغالبا ما تقترن هذه الفكرة بسياق انقلابي ما: بداية السنة في بعض التقاويم (النيروز …)، التحول من الضلالة إلى الإيمان في بعض الديانات (عيد المصابيح في كوريا احتفالا بدخول البوذية إليها….)، التجدد والانبعاث (عيد الفصح الذي تشعل فيه الشموع بنار جديدة احتفالا بقيامة المسيح…..)، وهي جميعها سياقات يعيش فيها الإنسان لحظة انتهاءٍ من حال وانتقالٍ إلى حال جديد، ويرفقها برغبة التخلص من الأدران المحمولة من الحال البدئية والدخول بطهارة وعذرية إلى الحال الجديد. وما من شك أن الألعاب النارية المرافقة لاحتفالات رأس السنة، والتي تتباهى بها المدن عبر العالم وتتنافس للحصول على صِيغ أفْعُلِ التفضيل فيها (الأجمل، الأكبر، الأكثر تكلفة،…..) هي احتفالية موروثة من الطقوس النارية الممارسَة في تلك السياقات. وبالتالي لم تكن نيران ليلة رأس السنة سوى الشكل المحلي لتلك الألعاب النارية الاحتفالية حول العالم.
لا شك أن هذا التفسير صحيح في الجوهر، فالإنسان واحد في العالم وثقافات البشرية تتماثل في غاياتها كما تتشابه في أصولها، غير أن انحصار تلك الاحتفالات في الفضاءات التي ذكرناها يدعونا إلى الشك في التفسير وإلى البحث عن أمر آخر. وهذا يقودنا إلى الاحتمالين التاليين: إما أن قوات النظام قد قامت باحتفاليتها تلك في الأحياء تلك لتذكّر سكانها بأن النار الهائلة التي افتتحت بها سنتهم الجديدة ستكون لهم بالمرصاد فيما لو حاولوا أن يلتحقوا هم أيضا بالثورة؛ وإما أن الجنود في هذه القوات قد تحرّكت فيهم ثقافاتهم الكامنة فأشعلوا السماء ناراً منذرة بانقلاب الحال الذي يسود في البلاد والانتقال إلى حال جديد يحلم به السوريون، وأنهم برصاصاتهم تلك كانوا يتطهرون من العنف الفظيع الذي ميّز أفعالهم في السنة الفائتة، ليعودوا بشرا سويين.
لا يحمل هذان الاحتمالان تفسيراً افتراضياً لما حصل تلك الليلة فقط، بل يقدمان صورةً مسبقة لما يمكن أن تكون عليه الأوضاع في سورية في عام 2013.
———————-
عصيان طائفي/ حسان عباس
في كلمته التي ألقاها أمام اجتماع أصدقاء سورية في مراكش، طالب السيد الشيخ أحمد معاذ الخطيب العلويين في سورية بعصيان مدني. وقال: “أوجه رسالة مباشرة إلى الأخوة العلويين ونقول بكل صراحة إن الثورة السورية تمدّ يديها لكم فمدّوا أيديكم لها وابدؤوا العصيان المدني ضد النظام فقد ظلمكم كما ظلمنا”.
ليس في الواقع ما لا يبرّر توجه أيّ إنسان عادي إلى أهل طائفة بعينها، ابتليت بإثم تاريخي، حمّلها إياه النظام عندما نصّب نفسه حاميا لوجودها ونجح في وضعها في حالة من الرُهاب الوجودي من عنف قاتل سيلحق بها إن سقط، وأقنعها أن الحل الوحيد لعلاجها من الرهاب هذا هو أن تستبق العنف بعنف أكبر منه، على قاعدة: اقتل اليوم من قد يقتلك غدا. وهذه بالمناسبة قاعدة لا تختلف بشيء عن مبدأ الحرب الوقائية الذي يستخدمه الأمريكيون والإسرائيليون في عدوانهم على الشعوب.
وليس ثمة ما لا يبرّر دعوة شيخ، والشيخ داعية سلم وتسامح وإنسانية بالضرورة، كالشيخ الخطيب، أخوة من أبناء شعبه إلى اتخاذ موقف عقلاني للوقوف ضد ظالم لم يرحم شعبه، وكان لسوء خبرته في إدارة أزمة لها دوافعها المحقة، سببا في موت عشرات الآلاف من السوريين، بصرف النظر عن الطائفة التي ينتمون إليها، أو المدينة التي جاؤوا منها، أو الجنة أو ال(جهنم) التي سينتهون إليها. نظام ألحق الخراب والدمار في البلاد وأرجعها إلى المستوى الذي كانت فيه قبل أربعين عاما.
وليس من حرج في أن يوجه شخص يعمل في معارضة سياسية، وخاصة إن كانت له مكانة قيادية في هذه المعارضة، نداء تحريضيا إلى المواطنين، من أيّ انتماء قومي أو إتني أو جنسي كانوا، يدعوهم فيه إلى عصيان مدني كرمى لحقٍّ مغتصب أو لحرّية حجبتها سلطة عنهم. فالعصيان المدني هو الشكل الأرفع والأسمى من أشكال النضال السلمي التي يمكن للمواطنين اللجوء إليها في كفاحهم من أجل استعادة ما سلب منهم من حريات أو حقوق.
القضية ليست في كل هذه الأشكال من المبادرات المواطنية المشروعة دستورا وعرفا. القضية هي في أن ينطلق صاحب مبادرة مدنية كهذه من رؤية جماعوية للمجتمع في الدعوة إليها. قد تكون المسألة مسألة زلّة لسان أو قلم، لكنها، رغم ذلك، تستوجب الوقوف عندها من منطلق يفرضه الإلتزام بالمواطنة ولا يثيره أي موقع سياسي ما، لا ندّعي الانتماء إليه أو الدفاع عنه. فالعصيان المدني، مدني قبل كل أمر آخر. أي أن مجال فعاليته هو المجتمع المدني الذي لا يرضى بأي صفة أخرى له تحت طائلة نفيه لذاته. وأهم سمات هذا المجتمع هي وحدة أعضائه ومساواتهم أمام الدولة والقانون. والمساواة ليست في أن القانون ينفّذ على الجميع دون تمييز، وإنما المساواة في المواطنة تعني أنه لا يوجد ولا يجوز أن يكون هناك تمييز أصلا في المجتمع الذي سيطبّق عليه القانون. لذا فكل ما يحمل صفة المدنية هذه يخصّ كل المجتمع ولا يجوز أن يحمل تمييزا يفاضل بين جماعاته أو أفراده. هذه المساواة المواطنية هي التي تفرض وجود (سجل مدني) يتعرف من خلاله المواطنون. أيمكننا أن نتصور وجود دوائر سجلات خاصة بالطوائف أو القوميات في بلد يحكمه قانون واحد مُوحّد؟ للأسف هناك من لا يستبعد هذا الاحتمال.
إن ما يخيف في دعوة “الأخوة العلويين” إلى العصيان المدني دون سائر المواطنين في المجتمع (المدني) المشترك، هو أن يكون العقل الداعي إلى هذه المبادرة ينظر إلى السوريين كجماعات منغلقة على أفرادها وليس كمواطنين معنيين بشكل متساوٍ بقضايا مجتمعهم.
————————–
الوحش فينا/ حسان عباس
المشهد الأول: رجلان يحتلّان كرسيين من المقعد العريض في مؤخّر حافلة متجهة من مدينة ساحلية إلى دمشق. الرجلان في العقد الثالث، أو الرابع من العمر. ثيابهما مدنيّة، عمليّة، لا تنمّ عن سعة حال، ولا عن فقر. يحمل وجهاهما تعابير متناقضة ومتداخلة: شيء من الفخر المبالغ به، بل ربما من الغطرسة، شيء من العنفوان، شيء من الوحشية، وكثير من الخوف المقنّع.
الرجلان يلهوان بهاتفيهما المحمولين، يقلّبان صوراً محفوظة فيهما، ويتبادلانهما ليرى كل منهما ما يظهره الآخر له. يتكلّمان بصوت عالٍ يُسمع حتى ثلاثة صفوف من المقاعد الخلفية.
– انظر! هذا من الاقتحام الأخير لقرية… هل ترى جثث “الخنازير” الخمسة هذه. لقد قتلتها بيدي. وانظر في هذه الصورة كيف أشعل بها النار… وانظر أيضاً ما بقي منها… فحم… كتلة فحم. والله الذي لا إله إلا هو، لولا العميد الذي أمرنا بالتوقّف، لحرقت كل أهل القرية بهذا الشكل.
– خُذْ!، قلِّبْ في هذه الصور… تجد ثلاث عشرة صورة لقحبات اغتصبتهنّ حتى الآن. لقد نذرت أن يصلن إلى الخمسين، ربي لا تموّتني قبل أن أفي بنذري.
المشهد الثاني: في بيت بضاحية من ضواحي العاصمة. عدد من الأشخاص يشربون الشاي جلوساً على الأرض. يشكّل الجميع دائرة تناثر حولها بعض الأطفال. وهناك بعض النساء المنزويات في ركن من الغرفة يصغين بانتباه. البيت، رغم ضيقه، يستضيف أسرتين نازحتين.
ثمة بين الجالسين زائر من أهل البلدة يلقّب بأبي أحمد، كان سجيناً بتهمة تهريب قبل سنتين وخرج بعد أن شمله العفو الرئاسي.
يقول أبو أحمد: لقد قمنا بحفر حُفرٍ في البساتين. كلما أمسكنا بواحد منهم نذبحه ذبح النعاج ونلقيه في هذه الحفرة لتأتي الوحوش أو الكلاب الشاردة وتأكله. كان هذا في البداية، لأننا كنا رحماء معهم. أما اليوم فقسما بالله يا شباب! نشدّ أيديهم خلف ظهرهم ونقيّدهم ونرميهم في الحفرة لتأكلهم الكلاب وهم أحياء. منذ يومين مرّ أخ لنا قرب حفرةٍ عند الفجر وسمع أحدهم يصرخ ألماً وقد نهشته الكلاب ولم تقضِ عليه. اقترب منه، فشرع الآخر يستغيث، وأخذت الرأفة بقلب أخينا. فأهال التراب فوقه حتى امتلأت الحفرة. ثم قرأ الفاتحة على روحه وتابع مسيره.
لا يمضي يوم دون أن تسمع روايات من هذا النوع يتناقلها الناس، بانبهار لدى بعضهم، لكن باشمئزاز وقرف لدى الغالبية. لكنّ التساؤلات ذاتها تنطلق لدى الجميع: أين كنّا وأين صرنا؟ كيف أصبحنا هكذا؟ من أين ظهر هذا الوحش؟
يطرح السوريّون أسئلتهم وكأن أولئك المروي عنهم من طبيعة أخرى غير طبيعة هؤلاء الراوين أو المنصتين للرواية. فالوحش، ليس عند السوريين فحسب بل لدى البشرية جمعاء، ليس منّا.
الوحش كائن له معالمه الخاصة وله عالمه الخاص. قد يشبه الإنسان أحياناً لكنّه غالباً ما يكون ذا سحنة قميئة، ويعيش في عوالم غير تلك التي اعتادها الإنسان. الوحش يحتجب عن الأعين، أو يختفي أغلب الأوقات، إذ ليس بمقدوره احتمال عالم البشر ذوي العقل والإدراك، والذين يعجزون عن فهم طبيعة الوحوش. الوحوش تقتل، وتقطّع، وتغتصب، وتأكل الأطفال، وتحرق، وتدمّر، وتشرب الدماء. إنّها تنتمي إلى عالم خيالي لم يعرف الحضارة ولم يعش فيه إنسان. هذا العالم نراه ربما في السينما أو نسمع عنه في حكايات الجدّات.
الفنّ والأدب والحضارة والثقافة تجعل الوحش نقيضاً للإنسان، والوحشية نقيضاً للإنسانية. إنها تنظّف الإنسان، تطهّره، تجعله كائناً يشبه الملائكة. فإن حاد عن صورته البرّاقة هذه، طردته من فردوسها الخيالي ورمته في خانة الوحوش.
ينصت السوريون اليوم إلى روايات العنف المتناثرة في فضاء بلادهم ويتساءلون: من أين جاءنا هذا الوحش؟ أم تراه كان فينا؟
—————————–
السيدة مريم/ حسان عباس
جلست السيدة مريم، أم غسان، في صدر الغرفة تتلقّى العزاء بابنها الشهيد ذي الستة وعشرين ربيعاً. البيت لشقيقها المعارض الذي ترك البلاد تحت تهديد الاعتقال، وقد نزحت إليه منذ اشتدّ القصف على حيّها وانهار العديد من عماراته. كان ابنها الطبيب آخر العنقود ويفصله عن شقيقه عقد وسنتين. والقصة أن العائلة كلها، رغم ابتعاد السنين، أرادت طفلة تكون مهوى حنان أبيها وسَكينة لأخوتها الذكور. لكن احتمالات الحياة لم تأتِ كما اشتهت العائلة. وكان “أيهم”.
يدهشك في ما تراه له من صورٍ، أو في ما تحتفظ عنه في مخيلتك من ذكريات، دوامُ ابتسامته. كأن الحزن لم يدلف يوماً إلى روحه، أو كأن هاتفاً قدرياً كان ينبّئه بكم سيترك من أسى في العالم فطالبه بالتعويض مُقدّماً بدوام الابتسام.
زارني بعيد خروجه من سجنه الأول وآثار التعذيب لا تزال ماثلة على مشيته وفي بطء حركته. وقتها، أحرجتْ ابتسامته غضبي، وأخجلتْ سكينته انفعالي. قال لي رفيقه: ستة وثمانون يوماً وهو كما ترى، كأنه ليس في سجن. فكّرت: هُوَذا أخيراً من يدحض أسطورة (الثعالبي) حين قال: “إن الله لمّا عجن طينة آدم أمطر عليها سحائب الهموم والحزن أربعين سنة ثم أمطر عليها السرور والفرح سنة واحدة فلذلك صار الهمّ أكثر من الفرح والحزن أكثر من السرور” ( )، وغبطته، ليس لصعوبة إنكار الأسطورة وإنما لقدرته على الاحتفاظ بابتسامه، وعلى المكابرة أمام الأحزان. وتشوّقت لأعرف سرّ تلك المكابرة وأكشف مصدرها.
في بيت العزاء جلست السيدة مريم كسنديانة جبلية، تعصف الريح بأوراقها اليانعة وتعجز عن هزّ الأغصان. نساء ورجال، شباب وصبايا يدخلون ويخرجون، تستقبلهم بوجه صافٍ، صامتٍ، صابر يداري روحاً كليمة خشية أن تفيض بحزنها فتُغرق الحاضرين.
أي بلاغة تقدر على نقل حزنِ أمٍ ثكلى بابنها؟ تباً للغة ما أضعفها أمام “دمعة أجمل الأمهات ووردتها”.
شباب وشابات ملؤوا المكان، ذهبوا هناك آملين أن يمنح تواجدُهم أمَ رفيقهم الشهيد القوة على تحمل المصاب، فأكرمتهم بعنفوانها ومنحتهم نفحات من عمق إنسانيتها. قالت شابة اختارت العمل الميداني سبيلاً لثورتها: “كنت بحاجة لأن أراك قبل نزوحي إلى الميدان. من كان يريد جرعة معنويات وصلابة وتماسك، فليمسك بيد أمّنا، والدة أيهم”. وقالت أختها الناشطة في الإغاثة: “خجلنا من دموعنا. قالت لنا: يجب أن تكملوا ما بدأتم به، ليس من أجله بل من أجلكم”. وقالت ثالثة: “ابتسامة أم أيهم اليوم جعلتني أهزم إحباطي، وأحيت فيّ التفاؤل” ( ).
هنا يكمن سرّ الابتسامة الدائمة إذن، إنها ابتسامة موروثة من هذه المرأة التي تعرف أنها تهزّ العالم بيسارها، ليس بالعنف والدعوة إلى القتل والانتقام، بل بفيض الإنسانية وحكمة الألم. ألم الأمهات، كل الأمهات السوريات اللواتي يفقدن أولادهن في مقتلة يتناسل فيها العنف من العنف والجريمة من الجريمة.
تصدر كل يوم إحصاءات جديدة تتزايد فيها أرقام عدّاد الخسائر البشرية، إحصاءات عن عدد الشهداء: شهداء الثورة من جهة، وشهداء الجيش النظامي من جهة أخرى؛ عدد القتلى من النساء ومن الأطفال، عدد المفقودين، عدد المعتقلين، عدد الجرحى… وإذا جمعنا الأعداد في كل هذه الإحصاءات وصلنا إلى محصلة تشير إلى رقم واحد: عدد الأمّهات الكليمات. قد تنتهي الأزمة المسلّحة بانتصار أحد الأطراف المتحاربة، لكن الخاسر في جميع الأحوال هي الأمّ السورية، هي السيدة مريم.
———————————
ثمة رأس كان هنا/ حسان عباس
قد ينطق بهذه الجملة باحث في علم الآثار يعاين تمثالاً قديماً ضاع رأسه في حِدثان الدهر، فلا تحيل سوى إلى حقيقة أن التمثال لم يجد المنقبون رأسه. غير أن سياقا آخر، كالسياق السوري الراهن يحمّل الجملة ذاتها دلالات متعددة.
في صورة أولى نرى ثلاثة رجال مصابين بالدهشة، يرفع أحدهم بين يديه إلى مستوى نظره جسداً لطفلة ترتدي ثوباً أزرق. كل ما في الصورة عادي لولا أن جسد الطفلة بلا رأس. كان له رأس، لكن قذيفة أطلقها عنصر من القوى المدافعة عن النظام عقابا لمواطني بلدة “كفر عويد” محتْ الرأس وتركت أشلاء من لحم ودم تشير إلى أنه كان هنا.
الصورة ليست عادية. وليست فريدة أو مثيرة. إنها لا تحتمل أي توصيف لأنها نفي الصورة، اللاصورة.
منطقياً، وُجدت الصور كدليل على وجود موضوعها. وإن أظهَرَت فإنّما تُظهر شيئاً موجوداً، موضوعاً، يبئّر نظرات المشاهدين، يجمعها في نقطة محرق ويردّها إدراكاً ينطبع في العقل، ويطلق آليات معينة من آليات التفكير والتذكر والتصنيف…
لكن صورتنا هذه نفي للصورة لأنّها تجهد لإظهار الغائب، اللاموجود، الذي كان موجوداً، فتبئر نظرات المشاهدين في الخواء.
أمام صورة طفلة “كفر عويد” تحيل جملة “ثمة رأس كان هنا” إلى شوهة استثنائية لم يسبق لها أن سجلّت في مصنف التوحّش البشري.
في صورة ثانية وثالثة وعاشرة…. وتاسعة وتسعين، نرى جثثاً ملقاة على الأرض. نقرأ في النص المكتوب المرافق، أو نسمع في الشريط المصاحب، أن بعض هذه الجثث كانت قد حُزّت عنها رؤوسها. تختلف نبرات النصوص المقروءة أو المسموعة، بعضها يستثمر الموضوع لإظهار وحشية المتهم بإتيان هذه الفعلة النكراء، والذي يكون مرّة “النظام الوحشي”، ومرّة أخرى “العصابات الإرهابية”. وبعض النبرات يستثمر الصورة لتجييش الأنصار، ورفع معنوياتهم فتصبح الجثث مرةً “لفطايس جرى دعسها”، وتصبح مرة أخرى “لعملاء جرت تصفيتهم”. وقد حدث أكثر من مرة أن جمعت الصورة ذاتها بين كل هذه المواقف مجتمعة.
في صورة أخرى، من سياق آخر، نرى تمثالاً نصفيا للشاعر الفيلسوف “أبي العلاء المعري”، في بلدته المعرّة، وقد أطيح برأسه. ونقرأ على جانب الصورة أن جماعة قامت بقطع رأس التمثال لأن صاحبه كان زنديقاً، بينما نقرأ في مكان آخر وللصورة ذاتها أن جماعة قطعت رأس التمثال لأنه صنم، ويجب أن ينتهي، في سورية، زمن الأصنام.
شتان ما بين وحشية حزّ رأس آدمي، خاصةً إن كان طفلاً، وقطع رأس تمثال. بل لا تجوز المقارنة بالمطلق بين الفعلين، (حتى لو كان قطع رأس التمثال فعلا مجازياً يرمز إلى حزّ رأس الزنادقة، والملحدين، والماأدريين، والعلمانيين…). لكن ثمّة قاسم مشترك بينهما، لا يمكننا إنكار وجوده، إنه الهمجية بكل ما تعنيه من وحشية ودموية وقساوة وجهل.
مثلت عملية قطع الرأس في بعض الحضارات سمة من سمات التطور الأخلاقي لأنها اعتُبرت عملية إعدام رحيم مقارنة مع الموت البطيء الذي كان يسببه الإعدام شنقا. بل كانت بعض السلطات تخصصه لإعدام النبلاء في حين تخصص الشنق لإعدام الرعاع. وقد بقيت “المقصلة” وسيلة إعدام المدنيين الوحيدة في فرنسا حتى إلغاء حكم الإعدام نهائيا عام 1981.
أما في هذه المنطقة من العالم فيعجّ التاريخ بحكايات قطع الرأس بدءا من يوحنا المعمدان والقديس بولس وشهداء كربلاء وانتقامات العباسيين حتى أحكام الإعدام في السعودية.
ولم تعرف سورية، على ما يبدو، هذه العملية البربرية، أقلّه خلال القرن الماضي، لكن ثمة رؤوس كثيرة تسقط هذه الأيام وثمة من يصعد المنابر حاملا سيفا ليسترجع قول الحجاج: إني أرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها، متوعدا بحفلات قطع رؤوس جماعية…
أتراها فقدت سورية عقلها ؟؟
—————————-
جدران الوهم/ حسان عباس
يرفع الإنسان جدراناً منذ خرج من كهفه الطبيعي ليخطو خطوته الأولى على طريق الحضارة. لكن من الجدران ما يصبح سجناً لمن رأى فيها أسواراً تحميه، أو قبراً لمن اعتقد أنها تمنحه أماناً كان يرتجيه. تلكم هي جدران الوهم.
من الممكن أن تختلف وظيفة الجدار حسب الزاوية التي يُنظر إليه منها. فقد يكون جداراً يمنع الخارج، الـ (هناك)، من العبور إلى الداخل، الـ (هنا)، كما يمكنه أن يكون جداراً يمنع الداخل، الـ (هنا)، من الفرار إلى الخارج، الـ (هناك). يمثل سور الصين العظيم النموذج الأكثر إبهاراً، ويمثل جدار الفصل العنصري النموذج الأكثر قبحاً لجدران الحالة الأولى؛ بينما يمثّل جدار برلين النموذج الأكثر شهرة، وتمثل أسوار السجون المثال الأكثر انتشاراً لجدران الحالة الثانية. لكن في الحالتين يبقى الجدار سيفاً يقطع التواصل بين الناس، وسدّاً يغلق الفضاء.
ولئن كانت الجدران والأسوار حقيقة مادّية ملموسة، وثقيلة، فثمّة جدران غير مرئيّة حتى نظن أنها بنات وهمٍ، لكنها لا تقلّ فعّالية وقوة عن جدران من الفولاذ. قد نجد هذه الجدران في الطبيعة كتلك التي يحددها برائحته الخاصة ذكر بعض أصناف الحيوانات لتمنع اقتراب ذكور أخرى من “بيت حريمه”. غير أن المجتمعات البشرية ملأى بها. منها ما يرفعه الأفراد لمرض أو لمزاج خاصّ بهم، ومنها ما تنصبه الجماعات لإيمان أو عقيدة أو خوف.
التقيت مؤخّراً شابّة قادمة من بلدة وسط سورية معروفة بجمال طبيعتها، وبانفتاح أهلها واختلاطهم، رغم اختلافاتهم المذهبية بفعل انتمائهم إلى أربع طوائف. وكان في البلدة طريق يدعى “الكورنيش” يعطي صورة مصغّرة عن مجتمع البلد، فعند أصيل كل يوم دافئ، تخرج صبايا البلدة وشبابها للتنزه فيه ناشدين الحياة، غير عابئين بما يحملونه من انتماءات أو ثقافات أو أحلام. سألت الشابّة عن أحوال الحياة في البلدة، وعن “المشوار” على “الكورنيش”، فنظرتْ إليّ بحزن وقالت: منذ سنة وأكثر ما عدنا نذهب إلى هناك. سألتها لماذا؟ قالت: لأنه يقع في حيّهم فنحن نتجنّب الذهاب عندهم وهم لا يأتون عندنا، طبعاً الضمائر المتصلة (هم) و(نا) تعود إلى الطائفتين الكبريين في البلدة.
ومن مدينة ساحلية تنقسم أحياؤها إلى مجموعة شمالية يقطنها بشكل خاصّ القادمون من القرى الجبليّة الساحلية، ومجموعة جنوبية يقطنها بشكل خاص أهل المدينة الأصليّون، هتف لي صديق ليخبرني أن البحر صار بحرين وأن “الكورنيش البحري” انقسم إلى نصفين، كلّ نصف يتبع مجموعة أحيائه، أي لأتباع “طائفته”. بل وأضاف أنّ السوق التاريخيّ الموجود في المدينة القديمة لم يعد على حيويته الممتدّة إلى قرون خلت، لأن الوافدين من القرى فتحوا سوقاً خاصة بهم في أحيائهم، وأن عدداً من المقاهي والمطاعم ظهرت في شمال المدينة تستقبل الزبائن الذين هجروا الأماكن العامة في المدينة القديمة، لأنها تقع في أحياء (الآخرين).
لا جدران في هذين المثالين سوى جدران الوهم التي يرفعها الخوف. الخوف من الآخر. وهو خوفٌ استنبته فشلُ النظام في إدارة التنوّع في البلاد، ورعته خياراتُه السيّئة في إدارة الأزمة، وجاءت القوى الجهادية الإسلامية وخطاباتها التكفيرية لتزيد في الطين بلّة، ولتُنضج الخوف وتثمره.
لا يمرّ يوم إلا وتنتشرُ الأخبار عن إجراء جديد، أو مجزرة جديدة، أو غزوة جديدة تدفع الناس إلى وضع حجر جديد في جدران الخوف، فيرفعونها أكثر فأكثر عساها تحميهم من خطر يتصوّرون قدومه. لكنهم، بفعلهم هذا، يسجنون أنفسهم أيضاً في “غيتويات” محكومة بالاختناق والموت. ففي بلاد شرق المتوسط، وبسبب التاريخ السحيق للاختلاف والتنوّع والتشابك، لا يمكن للمكوّنات المجتمعية البقاء إلا إذا انفتحت على بعضها البعض، وكلّ محاولة لخنق الآخر ليست في الحقيقة سوى عملية انتحار.
——————————
أشياء السيد س التافهة/ حسان عباس
إلى عمر عزيز
السيد س إنسان عادي يعيش في سورية. يقولون عنه إنه مثقف. هو لا يدّعي هذه القيمة، الآخرون يلبسونه إياها. وليس كل رداء بجميل، أو على الأقل حسب الزاوية التي ترى منها الأشياء.
مثقف! تكاد الصفة أن تصبح سُبّةً أو شتيمة، أو وصمة عار. المثقفون يفكرون. وهي لعمري مصيبة وكارثة في زمن يهيمن عليه أولئك الذين توحّد فكرهم بسيفهم. زمن الأبطال.
الأبطال في الثورات من جوهر واحد. صفتهم النووية واحدة: مُلكية الحقيقة. أما المثقف فهو حشرة متكوّرة تحت مظلة عقلها. هو كائن هلامي، لأنه يؤمن بنسبية الحقيقة بينما الحقيقة واضحة وضوح الأنا. ومن يملك الحقيقة يضرب بسيفها. ومن ليس معي في حقيقتي هو بالضرورة ضدي، وسيفي سيعالج في هيجان الثورة صداع رأسه.
للأبطال في الثورات، وإن اتحدّوا في الجوهر، أشكال مختلفة.
هم أصحاب العضلات المفتولة التي ترجف الغلمان، وتخفق قلوب العذارى، لمرآها. والعضلات، أيقونة القوّة، بطاقة هويةٍ تُعرَض عن بُعد، لكي تعطي لعُصارة الخوف متسعاً من الوقت للتمدّد في جسد الآخر، ولنشر القشعريرة في خلاياه. والآخر هو الإنسان العادي، المواطن، اللابطل. والوضعية الأفضل للعرض أو الاستعراض تكون مع سلاح ما، لا يهمّ نوعه أو حجمه. قد يكون سكّيناً أو دبابة، المهم أن يظهر البطل مع سلاحه في الصورة.
هم أصحاب اللحى الطويلة التي تمنح لمنظرهم سلطة على عبيد الله الفقراء. هؤلاء الذين يرون في اللحى كواسح ألغام الخطايا التي يزيّنها لهم الشيطان، وفاتحة دروبهم إلى الحوريات الموعودات. فيصبح ما يقوله الملتحون هو الدستور، وتتوقّف الحقيقة عن أن تكون في ما يقوله هؤلاء ليصبح ما يقولونه هو الحقيقة.
هم مثقفون محترفون، تتعاظم أنَواتهم ليصبح ما يقولونه نبراس الهدى للضعفاء الحائرين في فهم تعقيدات الأزمة التي يعيشها البلد. والويل لأمثال السيد س، حتى لو كان يشاركهم بصفة “مثقف” الملعونة، إن وطئ حقل سلطتهم المعنوية ليدلو بدلوه في أمر من أمور الثورة. فقد يرى الأمر بحساسيته الخاصة التي لا تتفق تماماً مع ظلّ حساسيتهم على اللغة فيصبح مارقاً، متخاذلاً، مجهّلاً… إلى ما هنالك من صفات تحمل أكثر بكثير مما تقول.
هم أصحاب الأصوات العالية على الفضائيات، الذين يقصفون المواطنين بقنابل صوتية وبنصائح تكتيكية، وبتحليلات مرعبة، وبرذاذ تفتفاتهم المتطاير عبر الأثير.
السيد س ليس بطلاً. بل هو يعاني من حالة نفسية تجعله ينكمش أمام صور الأبطال من كل الأشكال، يتقوقع على نفسه ويتابع أشياءه التافهة ومنها: مساعدة عائلة منكوبة تبحث عن جثة ابنها الشهيد في مشرحة مشفى؛ إيصال صندوقي حليب لأطفال مهجرين في حيّ بعيد؛ إيصال مساعدة مالية لسيدة وجدت نفسها فجأة جارة لعدة عائلات مهجّرة؛ مساعدة مجموعة من الشباب يريدون تنظيم نشاطهم المدني ولا يعرفون كيف؛ كتابة ورقة توصية لطالب يريد أن يتابع دراسته في الخارج؛ إنهاء دراسة علمية لمركز أبحاث يستشيره كخبير؛ البحث عن إمكانية الحصول على منحة لطالبة تستحق السفر للدراسة لكن لا يسعفها الحال؛ الاستعداد للقاء شخص من عائلة شاب استشهد لإبلاغه بالخبر الفظيع؛ مراجعة نصّ كتبه صديق ويخشى ألا يكون قد أحسن التعبير عن أفكاره؛ كتابة مقدمة لمجموعة قصصية طلبها منه مبدع شاب؛ محاولة مساعدة ناشط في الحصول على تأشيرة سفر من سفارة ما؛ لقاء بعض الشباب المحبطين ليحاول بعث الأمل فيهم وبثورتهم من جديد؛ لقاء مجموعة من الشباب يطالبونه بالإجابة على تساؤلات تؤرّقهم…
السيد س هو اللابطل… أيامه مليئة بالأشياء التافهة، وفي ما يتبقى له من وقت، يحاول أن ينهي نصه الأسبوعي للجريدة التي تستكتبه قبل أن يعتقله جهاز ما أو تنفجر به سيارة ملغومة أو تنال منه رصاصة قادمة من عالم الغيب.
—————————-
المدرسة السورية… الآن/ حسان عباس
“المدرسة هي مصنع المواطنة”، هكذا تقول كل أدبيات المواطنة، حتى تلك التي تنتقد ما تسمّيه “المفهوم التقليدي” للمواطنة وتطالب بالاعتراف بالحقوق الثقافية للجماعات ضمن الوحدة السياسية للبلد. ولا يختلف اثنان بأن المدرسة السورية لم تكن نموذجاً للمدرسة المواطنية خلال العقود الماضية. ويعود ذاك إلى سببين أساسيين: الأول هو الفكر الشعبوي الذي يرى في المدرسة جهازاً تعبوياً وظيفته تنشئة أجيال مشبعة بالفكر الأحادي الذي نصب نفسه قائداً للدولة والمجتمع؛ الثاني، وهو منبثق عن الأول، البرامج التعليمية التي لم يتم وضعها ضمن منظور يتطلّع إلى تربية المواطن وصناعته فعمّقت من التصدعات الطبيعية في المجتمع وأنشأت أجيالاً من السوريين غير المدركين لحقيقة الاختلاف التي يتصف بها مجتمعهم. وهذا ما كان من نتائجه تشكل صور نمطية عن الآخر، تُلقى عليه من خارج كينونته، ولا تَفهَمه من داخل تشكّلِه. هل يعرف السوريون العربُ السوريين الكردَ حقاً؟ هل يعرف المسلمون المسيحيين حقاً؟ بل حتى داخل الإسلام ذاته، هل يعرف أهل طائفةٍ الخصائص المميزة للطوائف الأخرى؟
عملت المدرسة السورية على طمس الاختلافات المتشكلة تاريخياً وثقافياً، وحين كانت غيرَ قادرة على طمسها رفعت الجدران بينها. وهكذا نشأت أجيال لا يعرف أولادها الآخرين، يجهلونهم، والإنسان عدوٌ لما يجهل. وقد شكّل هذا الجهل، أرضية خصبة للاستقطاب الطائفي الذي دفع إليه النظام كواحدةٍ من أدوات حلّه الأمني العسكري من جهة، وللتشدّد القومي لدى المكوّنات القومية المغبونة حقوقها من جهة أخرى.
على المستوى المادي العمراني، أدّى الحل الأمني إلى تدمير عدد هائل من المدارس وصل إلى أربعة آلاف مدرسة حسب بعض التقديرات، ناهيك عن أن عدداً من المدارس بات يستخدم كمراكز إيواء للعائلات المهجّرة، وأن عدداً آخر لا تمكن الاستفادة منه لصعوبة وصول التلاميذ والأساتذة إليه. حتى في الأماكن الآمنة نسبياً كالعاصمة وضواحيها، يتردّد الأهالي كثيراً في إرسال أولادهم إلى المدرسة خوفاً عليهم من مفاجآت القصف العشوائي.
لا مجال للمجادلة بأن هذه الخسارة الجسيمة في البنية التحتية للمؤسسات التعليمية، أضف إلى ذلك تآكل الدولة ومؤسساتها، وبالدرجة الأولى المؤسسات الهشّة كالمؤسسة التعليمية، في مساحات واسعة من البلاد بعد أن انهارت فيها آليات الضبط والنظام، تخلق مشاكل جديدة في مجال التعليم لن تستطيع سورية تجنب مفاعيلها السيئة. مشكلة إعادة إعمار البنية التحتية بالدرجة الأولى؛ ومشكلة “الفجوة التعليمية” ثانياً، ليس بين المهارات ومتطلبات سوق العمل فقط وإنما في العدالة التعليمية بين الجنسين، وبين مختلف المناطق، إذ أن ثمة مناطق كثيرة لم ينل تلاميذها أي قسط من التعليم خلال سنتين…
لكن يجب ألا يمنع ظهور هذه المشاكل الخطيرة من طرح مسألة التربية على المواطنة في المدرسة على بساط البحث، واعتبارها قضية لا تقلّ في جديتها عن المشاكل الأخرى، مادام الثوار مقتنعين بأن دولة المدنية والمواطنة لا تزال هدفاً للثورة.
لقد انتشرت مؤخراً أخبار متسربة من مخيمات اللاجئين السوريين في تركيا مفادها أن ثمة صفوفاً افتتحت داخل المخيمات لتعليم الأولاد. لكن تعليمَ المناهج السورية ممنوعٌ فيها، وإنما يتم تعليم مادتين فقط في تلك الصفوف الإغاثية: اللغة التركية والتربية الدينية.
وبات من المعروف أن بعض المناطق ذات الأغلبية الكردية افتتحت مدارس تعلّم الأطفال منهجاً متكاملاً، منقولاً من مدارس كردستان العراق، باللغة الكردية.
وتجوب فضاء وسائل الاتصال الاجتماعية صورة من ريف إدلب لتلاميذ صغار في غرفة تخدم كصف مدرسة. في طرف من الغرفة تلاميذ يقرؤون، وفي الطرف الآخر يقف تلاميذ يؤدون الصلاة.
وسنرى الكثير من الأمثلة الأخرى التي إن دلّت على شيء فإنما تدل على إعادة إنتاج المدرسة التعبوية ليس على مستوى الوطن ككل هذه المرة وإنما على مستوى المكونات المجتمعية الدينية والقومية. مما يعني أكثر فأكثر من التصدعات وأقل فأقل من المواطنة.
لذلك وجب التساؤل: المدرسة السورية، إلى أين؟
—————————
التمثال والذاكرة الجمعية/ حسان عباس
تمثل المشيدات مطرحاً من أكثر مطارح الذاكرة الجمعية رسوخاً. وسواء أكانت تلك المشيدات دينية أم تاريخية أم ثقافية أم سياسية، وسواء أكانت تحظى بهوى في نفوس غالبية الأفراد أم بعضهم فقط، يصعب على المنتمين إلى الجماعة التي تحتلّ المشيدات حيزا من فضائها المشترك أن يحرّروا أذهانهم من ذكراها.
وتشكل التماثيل والنصب التي تقام في الأماكن العامة من ساحات وحدائق وطرقات نموذجا لما يمكن أن تحظى به المشيدات من حضور وتأثير في حياة الجماعة وفي شكل العلاقة التي يبنيها الناس مع تاريخهم وحاضرهم ومستقبلهم. حين تجتمع الحشود في ساحة الجمهورية في باريس للاحتفال بمناسبة سياسية ما فلأن ثمّة رابطة وجدانية تربطها برمز “ماريان” التي يتوسط تمثالها الساحة. وكذلك عندما يقوم جمهور بهدم تمثالٍ لحاكمهم فهم يقلبون، رمزيا، صفحة من تاريخهم.
يتبع انتشار التماثيل والنصب التذكارية في فضاء الجماعة، كما يتبع عددها، وكثافتها، وخارطة توزعها، إلى طبيعة السلطة المسؤولة عن تنظيم أمور الجماعة وأمور حياتها. فهي تعبر عن حاجة السلطة لوجود ذاكرة جمعية تؤلِف بين الناس وتعزز انتماءهم إلى الجماعة من خلال تذكيرهم الدائم بالمشترك بينهم. أما في حال سلطة الاستبداد فهي تعبر عن رغبة السلطان في اصطناع ذاكرة جمعية مستلَبة، مسكونة بصورته دون أي شيء آخر. في ختام جولة التحقيق مع “وينستون”، الشخصية الأساسية في رواية “1984”، يقول الجلاد أوبريان: “لن يكون بمقدورك بعد اليوم أن تعرف المشاعر الإنسانية العادية. كل ما فيك سيفنى. […]. ستكون خاويا. سنعصرك حتى تصبح خاويا ثم نملؤك من ذاتنا”. ولبلوغ ذاك الهدف يجب إغراق المواطن بحضور السلطان، ليصبح حاضرا حتى في ذاته. هكذا تصبح تماثيل السلطان، والجداريات التي تتضمن صورته، عنصرا بصريا طاغيا في الفضاء العام. ويغدو من المستحيل أن تجد مدينة كبيرة أو بلدة صغيرة لا تفرد أفسح ساحاتها لها. ويصبح من المستحيل أن تجد صرحا حكوميا على طول البلاد وعرضها لا يُفرد في مدخله أو في ردهة استقباله تمثالا نصفيا أو بالقامة الكاملة للسلطان، الذي يتحول في أنظمة الاستبداد إلى “قائد خالد”. ولعله ليس من المصادفة أن برامج تعليم اللغات، في وزارة التربية السورية على سبيل المثال، تعتمد لترجمة صفة “الخالد” في العبارات المنقولة من خطابات الرئيس كلمة (omniprésent) التي تعني حرفيا “كليّ الوجود”، أو “الموجود في كل مكان”. وكأن الصفة العربية التي ترخي بظل القائد على الزمان تستكمِل في الصفة الفرنسية هيمنته على المكان لتحقق طموح الألوهية على إحداثيات الوجود.
للنصب والتماثيل والجداريات تأثير نفسي مباشر على المواطنين لأنها تحوّل فكرة الوجود الكلّي للسلطان إلى أمر ماثل في الواقع. تنقلها من مستوى المتخيّل إلى مستوى المحسوس المادي. وعندما تملأ تماثيل السلطان ونصبه الفضاء المحيط بالمواطن، ترتسم أيضا كصورة مهيمنة على فضائه الداخلي، تملؤه، تحتل خياله، وتصيب روحه بالتخمة، فتحيله إلى إنسان مسكون بشخص السلطان، ويصبح جاهزا ليحقق النظام سيطرته الخفيّة عليه.
لم تكن عملية إسقاط التمثال في الرقة إلا عملية أخرى، ولن تكون الأخيرة، في سلسلة عمليات مشابهة تقوم بها الجموع الثائرة منذ الأيام الأولى لاندلاع انتفاضة الكرامة في سورية. مما دفع عددا من البلديات إلى رفع التماثيل وركنها في مواضع آمنة. ولم تكن الجموع في دأبها هذا تفرغ شحنة حقدها على النظام الذي ثارت ضده فحسب، بل كانت أيضا تقوم بعملية “تهوية” لذاكرتها الجمعية. فالذاكرة مختنقة بصورة السلطان، وفي الحياة صور كثيرة أخرى من حق الناس أن يتعلقوا بها ويركنوا إليها.
————————–
تحوّلات في ثقافة الخوف/ حسان عباس
سنتا الثورة هما سنتان من الحَراك الاجتماعي اليومي المستمر. حَراك هادر، كأنهار الربيع، لا يهدأ ماؤه ليستريح، بل ليستجمع قواه لدفق أقوى. لقد أتاح طول مدة الحراك تشكّل منظومات مختلفة من العلاقات بين الناس، ترسّخت في أكثر من مكان، وتحوّلت إلى قوى لا مادية، فاعلة ومؤثّرة على جماعات دون أخرى، أو على المجتمع ككل. أي، بمعنى آخر، إلى ثقافات.
بعض هذه الثقافات كان راسخاً في المجتمع، وبعضها الآخر، كان كامناً فيه ينتظر انثقاب الغشاء الساتر لينفجر وينثر مخزونه، وبعضها الثالث وجد في الحراك وديناميكياته فرصة لينغرس في تربة تبيّن أنها أكثر خصوبة لتلقيه مما كان يُظنُ أو يشتهى.
في النمط الأول من هذه الثقافات تبرز ثقافة الخوف كثقافة راسخة في حياة السوريين منذ عقود طويلة. ثقافة الخوف هي الملاط الذي تستخدمه أجهزة القمع لتثبيت العلاقات بين العناصر في بنية النظام الاستبدادي، وتأبيدها كشرط من شروط وجوده واستدامته.
يعرف القاصي والداني أن الخوف بات ثقافة حقيقية لها قواعدها السارية في الحياة اليومية، وفي شكل التعامل مع السلطة ورموزها وممثليها. وبلغت هذه الثقافة مستوى الهيمنة بفعل آليات التسلط والرقابة والوشاية والتعسف… الخ. التي ارتبطت جميعها بأجهزة القمع السلطوية القوية العديدة. لقد استبطن المواطنون الخوف حتى سكن في وجدان كلٍّ مواطن منهم شرطي غير مرئي يهديه إلى درب الستر والسلامة.
مع ربيع دمشق، بدأت تباشير خلخلة تلك الثقافة مع ظهور المنتديات، ومع البيانات وأخطرها، لأسبقيته على غيره، بيان ال99. وحاولت الأجهزة استعادة الهيمنة لكن الوتد كان قد انغرس، وساهمت وسائل الاتصال الجديدة بتحويل أشكال عديدة من آليات الرقابة إلى أضحوكة، لكن الخوف بقي، رغم ذلك، صفة مستقرة في المجتمع. إلى أن انطلق الحراك قبل سنتين وخرجت المظاهرات كتحدٍ سافر للأحرف الأولى في أبجدية القمع. وشيئا فشيئا، قويت شكيمة المواطنين، وتنامت طرداً مع تنامي العنف السلطوي ووحشيته. لم يحسن النظام قراءة الصور التي كانت تنقلها له كاميراته وعيون عسسه، أو ربما كانت الكاميرات مصابة هي أيضا بجرثومة الخوف. لم ير الأمل الذي كان يلمع في عيون المتظاهرين، لم ير الفرح الطفولي يخفق في أجسادهم، لم ير عضلات وجوههم المشدودة تصميما وإصرارا، لم يسمع نبض قلوبهم يضبط أغانيهم. لم يفهم ببساطة أن عنصر الأمن القابع في صدورهم كان يضمر ويضمر، وأن شجاعة السوريين تتحول إلى أمثولة قل نظيرها في تاريخ الشعوب. لكنه كان يشعر بقوة أنه بات مثالا عن أبشع أنظمة الكون بينما يتحول شعبه إلى أجمل شعوبه.
هنا كان لا بد للنظام من أن يستعيد ثقافة الخوف، وكان ذلك يتطلّب استحداث آليات جديدة غير تلك التي هشّمتها الثورة. القمع المنكشف، العاري، المطلق كان أول الآليات الجديدة. أساليب جديدة لا يعرفها قاموس العنف ظهرت، وعُمّمت في صور “مسرّبة” تقول إن الخيال الجهنمي يبقى قاصرا أمام حقيقة جهنم(نا) الخاصة.
ثم جاءت فزاعة العصابات الإرهابية المسلحة. جاءت باكرة جدا، واستُخدمت بكثافة. بل أصبحت مادة للمطرقة الإعلامية الرسمية، لترتعد أوصال المحايدين، والمترددين، والمتفرجين، وأهل الحاضنات الاجتماعية من كل الأطياف، وأهل الطوائف الصغيرة… كانت الفزّاعة تعمل بحرية تثير ريبة المراقبين وتطرح أسئلة على المنطق لا يقدر المنطق على حلها، إلا إذا أقام رابطا بينها وبين خطاب التفزيع.
لكن، إن كان ذئب الحكاية يأتي حين نذكره، فإن ذئب الواقع كان هنا حقا. كان يُسمّن ويقوّى في حقول مجاورة، وهي حقول متربصة بخِممة البلاد وطيورها. وهاهو يرخي بظله فوق الأرض والناس. وها هي الأخبار تتواتر من المناطق الواقعة تحت سيطرته لتؤسس لثقافة الخوف من جديد، الخوف من استبداد قادم لن يُحسَدَ الشعب عليه.
لكن يبقى الأمل بأن شعبا كسر خوفا متراكما من عقود لن يصعب عليه صدّ خوف تتراءى طلائعه برايتها السوداء.
—————————
عن اغتيال البوطي/ حسان عباس
للشيخ البوطي مكانة في عالم الفكر الديني الإسلامي لا يمكن لأحد المجادلة فيها. وهي مكانة، سواء وافق المرء على آراء البوطي أم أنكرها، تنال حظها من التقدير، ليس في سورية فحسب، بل على امتداد العالم الإسلامي. وللشيخ أيضاً موقع في آليات السيطرة التي ركّبها ثم مأسسها النظام السوري لا يمكن لأحد تجاهل قوّته وحساسيته في الوقت ذاته. لكن لعل إحدى أخطر المفارقات التي نواجهها عند محاولة فهم آليات السيطرة تلك تكمن، تماماً، في معرفة كيف قٌيّض للبوطي أن يتبوّأ ذاك الموقع لدى نظام ذي لبوس حداثي، يعتبر العلمانية واليسارية والقومية والتحرّر الاجتماعي من أسس تكوينه الفكري والإيديولوجي والثقافي، بينما هو (البوطي) لم يمتنع البتة عن التصريح جهاراً نهاراً بعدائه للعلمانية واليسارية والقومية والتحرر الاجتماعي.
تضطرنا محاولة فهم المفارقة إلى قراءة علاقة البوطي مع النظام في سياق التحولات التاريخية التي واجهها هذا الأخير في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الفائت. فمن المعروف أن نظام البعث كان قبل ذاك الوقت قد حجّم دار الإفتاء، الواجهة الدينية الرسمية للدولة، وحوّلها إلى واجهة شكلية مكتفية بوظيفة بروتوكولية، وبالتالي خفتت مصداقيتها لدى جموع المسلمين وفقدت قدرتها التدخلية في ضبط الشارع المتدّين الناقم. من جهة ثانية، لم تكن الجماعات الفاعلة في القضايا التربوية والدعوية، وأهمها جماعة زيد في دمشق، تحظى بالرضا التام من المؤسسة الأمنية التي كانت تنظر إليها بعين الريبة وترى فيها الحاضنة المولّدة للشباب المنخرطين في النزاع المسلح مع الطليعة المقاتلة ثم مع الإخوان بشكل عام. من جهة ثالثة لم تكن الأخويات الصوفية النازعة بطبيعتها وبإيمانها نحو إرضاء وليّ الأمر لتلقى قبولاً لدى الشارع الناقم الذي يغمز من قناة تبعيتها للنظام. وبطبيعة الحال لم يكن لدى مشايخ الإخوان المنهكين في الصراع والذين فرّ معظمهم خارج البلاد، إن لم يكونوا قد اعتقلوا أو قتلوا، من يرضى النظام بتحميله مسؤولية ضبط العلاقة بين السلطة والشارع المتدين. هذه المعطيات أوجدت فراغا أراد النظام ملأه بشخصية قادرة على جمع شروط يمثل اجتماعها في شخص واحد معادلة بالغة التعقيد. كان على تلك الشخصية أن تكون: 1- محترمة في حقل العمل الديني على مستوى العالم الإسلامي 2- ذات شعبية ولها مريدوها في سورية وخارجها 3- مستقلة عن النظام (ممثلا بدار الإفتاء) 4- قريبة من جماعات العلماء دون أن تكون فيها 5- واضحة الخصومة مع الإخوان المسلمين 6- غير معادية للأخويات الصوفية دون أن تكون في واحدة منها 7- ومقتنعة بقدسية الولاء لأولي الأمر أيا كانت الظروف. ولم يكن هناك غير الشيخ البوطي من يجمع بشخصه كل هذه الشروط.
من هنا بدأت إذن علاقة البوطي مع النظام. لم يكن موظفا (رسميا) لديه، لكنه كان صاحب وظيفة خطيرة في آليات سيطرته، ونجاحه فيها هو ما أوجد له موقعه الاستثنائي. كان البوطي حلقة الوصل بين النظام وجمهور واسع من الرعية المتدينة. فمن طرف، كان يتدخل لدى النظام لتصحيح أمر يرى فيه إساءة لما يبدو له أنه من قيم الإسلام (ومن مواقفه المعروفة في هذا المجال اعتراضه في رسالة وقعها عشرات العلماء، ويقال إن البوطي كاتبها، على قرار إلغاء الحلقة الإعدادية من المدارس الشرعية، وانتقاده اللاذع في خطبة له لاتفاقية “سيداو”، وانتقاده للمسلسل التلفزيوني: “ما ملكت ايمانكم”، وانتقاده لقرار فصل المعلمات المنقبات من سلك التعليم…..). ومن طرف آخر، كان يجهد في الدفاع عن النظام وفي وعظ مريديه وطلابه ليبقوا على ولائهم له. ومواقفه في هذا المجال أكثر من أن تحصى. ومنها انتقاده للمحتجّين الذين كانوا يجتمعون في المساجد قبل خروجهم في المظاهرات، واتهامهم بالخيانة والكفر، ووصفه للقسم الأكبر منهم بأنه “لا يعرف جبينه السجود أبدًا”، وهجومه المستمر على الثورة واستظهاره للخطاب الرسمي في انتقادها وفي توجيه الاتهامات إليها وإلى المشاركين فيها.
لم تكن وظيفة البوطي، ولا شخصيته، بسيطتين أبدا. ويزيد الوضع الذي تمرّ به سوريا اليوم من تعقيدهما، حتى ليبدو من الصعب على أي تحليل عقلاني أن يفهم الخيوط والتداخلات في تركيبهما. وفي وضع كهذا تغدو أي محاولة لفهم عملية اغتيال البوطي شكلا من أشكال الضرب في المندل. لكن ثمة حقيقة واحدة في تلك العملية، وهي أن من قام بها خبير معتّق بشؤون سورية ويعمل بحنكة وشيطانية على تخريبها، ويعرف تماما أن عملية من هذا النمط قد تكون الشرارة لحريق مجتمعي يرغب كثيرون بإشعاله لكنهم لم يتمكنوا حتى الآن، ورغم كل شيء، من ذلك. إن عملية اغتيال البوطي، أيا كان موقفنا الفكري والعاطفي من الشخص، هي دفع إلى درك أدنى في الجهنم التي تسقط فيها سورية.
—————————–
الحب في زمن الثورة/ حسان عباس
بين الحب والثورة قواسم مشتركة، منها أن كليهما ينهض على توقٍ لتجاوز حالِ قائم إلى حالٍ مُشتهى. الحب، أيا كانت طبيعته، طاقة جوّانية تشع من إنسان وتصبو إلى تماهٍ في آخر، أو حاجة لجوجة لا تنصرف حتى تجد إشباعها في الآخر. والثورة، أيا كانت طبيعتها، خروج على وضع لم يعد مقبولا، وفعلٌ يهدف إلى خلق وضع آخر.
ومنها أيضا، أن كليهما يحتاج إلى قدر من الجرأة والشجاعة والمجازفة. الحب بدءا من حركة التعبير الأولى يحتاج إلى التخلص من الخوف: “لا تجزعن فلست أول مغرم ….” (الشاب الظريف). فإن تجاوز المحب الجزع البدئي تابع في أمره حتى لو قاده إلى السقم: “تعجبين من سقمي، صحتي هي العجب” (أبو النواس)، أو التلف: “قلبي يحدثني بأنك متلفي”(ابن الفارض)، أو الانتحار “سمعنا أطعنا ثم متنا فبلغوا…” (الأصمعي)؛ وكذلك الثورة، يتردد المشارك بها في رفع قبضته وإطلاق الهتاف: حرية..أو الله أكبر.. لكن ما إن يفعل حتى تأخذه الحمية فيهدم حواجز الخوف ويندفع نحو المزيد من الانخراط الثوري الذي قد يجعل منه ضحيةَ أذيةٍ تبدأ غالبا بالعنف اللفظي، لكن سرعان ما تتطور إلى عنف جسدي ينتهي به إلى المعتقل حيث قد يكون الموت في انتظاره.
التشابه بين الحب والثورة يجعل من الأول ثورةً، على قياس الفرد الواقع فيه، ويجعل من الثانية حبا على قياس الجماعة المنخرطة فيها. وعليه لاشيء يمنع من الاستطراد حتى القول بأن الحب لا يكون حقيقيا إن لم يكن ثورة، ولا الثورة حقيقية إن لم تكن حبا.
في الانتفاضة السورية، وبينما كانت الثورة لا تزال في مرحلتها السلمية، تبرعم العديد من قصص الحب. كانت جرأة الحالة، حاضنة لجرأة العشاق. تقول صبية في نص كتبته كشهادة عن مشاركتها في الثورة “هاجمتنا قوات الأمن وقوى حفظ النظام، دخلت بعض الصبايا الأبواب المفتوحة القريبة، لكن طاقة داخلية كانت تدفعني للركض صوب الأزقة الجانبية. كان الشباب أسرع منا فسبقونا هناك. شعرت أن الأمن يدركني، في هذه اللحظة، هذه اللحظة بالذات، كانت يدك تسحبني كيد إله تسحب من اللجة غريقا. دفء يدك حينها، كان أول شعور حقيقي بأن الحرية التي أتظاهر من أجلها باتت قريبة”. وتقول أخرى: “كنت أتذرّع باشتياقي لأهلي فأذهب إلى مدينتي كل خميس. لكن غايتي كانت المشاركة بمظاهرات الجمعة، ليس لأنني مع الثورة كليا فقط، لكن لأنه كان ينتظرني، يمشي مع المجموعة التي تحمي النساء المشاركات في المظاهرة، لكنني كنت أعرف أنه كان هناك ليحميني. عشقته مرتين: لأنه هناك، ولأنه هناك ليحميني”.
مع التحولات التي طرأت على طبيعة الثورة، تحوّل المناخ الحاضن لقصص الحب، لم تعد الحرية على درجة الألق ذاته. في داريا، التي كانت جوهرة الثورة السلمية وزهرتها المتفتحة، خرجت جماعة سلفية ببيان يدعو “الحرائر” إلى الامتناع عن المشاركة في المظاهرات لأنهن بمشاركتهن الرجال يستجلبن غواية الشيطان. تقول ناشطة في إحدى بلدات الغوطة على صفحتها على الفيسبوك: “تحولك يذهلني، تشيح بوجهك عني حين تطلب مني أن ألزم البيت وقبل سنة كنت تختلق الذرائع لتلمس يدي في المظاهرة؟”.
بعض القصص هاجر مع أبطاله الذين هاجروا هربا من العنف المتصاعد والموت المحيط، بعضها مات باستشهاد أحد أبطاله، وبقيت منه شهادات على الفيسبوك تعصر الروح. وبعضها نشأ خفيا ولا يزال يحيا في عالم التواصل الافتراضي.
ومع محاولات تحويل الثورة عن الأهداف التي قامت من أجلها، تجهد قوى خفية للنيل من أخلاقيتها، فتنشر شريطا مصورا لمقاتلات في حرب الشيشان وتقول إنهن تونسيات جئن إلى سورية تلبية لجهاد المناكحة الذي أفتى به جاهل من السعودية، والذي لا يعدو كونه تشريعا لشكل من أشكال الدعارة.
خضعت الثورة لتحولات عميقة تهدد بأخطار جدية عليها وعلى سورية. لكن، وحتى في هذا التحول تبقى الثورة شبيهة بالحب، فهو أيضا “…أعزكم الله، أوله هزل وآخره جِد” (ابن حزم).
———————————-
تمهيداً للمحاصصة/ حسان عباس
المحاصصة هي اقتسام شيء أو أمر، بين فرقاء، حسب شروط تم الاتفاق عليها مسبقاً وثُبّتت في قانون أو عرف. وهي قد تكون عادلة كما في نظام اقتسام مياه الريّ الجارية حسب مساحات الأراضي المروية، وهو ما يسمّى في الريف بنظام “العدّان” (في القاموس: العدّان بفتح العين أو كسرها هو زمان الشيء)، وقد تفتقر إلى العدالة إذا كان الأمر المقتسم لا يقبل الاقتسام أصلا كالحقوق مثلاً. فحق الحياة أو حق التعبير أو حق الحماية الصحية… الخ، هي حقوق للأفراد، ولا يمكن أن تعطى مجموعة منهم حقاً في الحياة أكبر مما يعطى من هذا الحق لمجموعة أصغر. وأياً كان عدد أفراد المجموعات وأياً كان حجمها، يبقى لكل فرد نفس الحق لأن الحق لا يقتسم. وهذا هو جوهر المساواة في عُرف المواطنة.
في عالم السياسة تكون المحاصصة في الدولة أو بعض سلطاتها. حيث تُقتسم الرئاسات الثلاث، كما تقتسم المناصب أو عدد المقاعد البرلمانية، تبعاً لتكتيكات سلطةٍ استبدادية تتحكّم بكل آليات القيادة ومفاصلها، أو تبعاً لحجوم المكوّنات المجتمعية الطبيعية/ التحت وطنية، وليس تبعاً لمدى اقتناع المواطنين بصلاحية برنامج سياسي لحكم الدولة، وإدارة مؤسساتها. ولهذا الأمر عواقبه السيئة على نجاح الدولة في مهماتها، وعلى تمتع المواطنين بحقوقهم وخصوصاً حقهم في المشاركة في صياغة القوانين، وحقهم في اختيار شكل الحكم الذي يرغبون فيه.
وقد مورست المحاصصة السياسية في سوريا، خلال العقود الماضية، في شكل علني ومقونَن تارة، ومستتر واعتباطي تارة أخرى. ففي الشكل العلني نجد تلك المحاصصة في دستور الجبهة الوطنية التقدمية، وفي اقتسام مقاعد مجلس الشعب مثلا، بينما نجد المحاصصة المستترة في الآليات المتّبعة، وغير المعلنة، لاختيار الوزراء وأصحاب المناصب الرفيعة. لم يخف يوما على المواطنين أن هناك (كوتا) لكل مكوّن طائفي ولكل مكوّن قومي في توزيع المناصب ومواقع المسؤولية. بل حتى أن المكوّن الجنسي صارت له كوتا حيث يقرر سلفا كم عدد النساء اللواتي يجب أن يدخلن إلى مجلس الشعب أو إلى الوزارة.
واليوم، وفي خضم التخبطات التي تغرق فيها قوى المعارضات السياسية، هناك بعض القوى التي تؤسس لوضع سياسي يعتمد على المحاصصة في اقتسام كعكة السلطة في مرحلة ما بعد سقوط النظام. وهي، وإن كانت لا تعلن صراحة عن خيارها لمبدأ الاقتسام تبعاً لحجم المكونات الاجتماعية في شكل يؤدي مباشرة إلى سيادة مكون الأكثرية المجتمعية، فإنها تضع اليوم الخلفية النظرية التي ستؤول عملياً إلى الاقتسام المسبق، أي المحاصصة. وتتلخص هذه الخلفية في مقاربة المجتمع على أساس أنه تجمع لمكوّنات وليس تجمعاً لمواطنين. هذا ما نجده مثلاً في مقدمة “عهد وميثاق جماعة الإخوان المسلمين في سوريا” التي تعتبرها الجماعة “أساساً لعقد اجتماعي جديد يؤسس لعلاقة وطنية معاصرة وآمنة، بين مكونات المجتمع السوري….”. وتقرر الوثيقة مبدأ التوافق بين المكونات في منطلق الدستور وغاياته: “… دستور مدني….قائم على توافقية وطنية… يضمن التمثيل العادل لكل مكونات المجتمع”. وهذا ما يتناقض جذريا مع مبدأ المواطنة التي تعتبره الجماعة في الوثيقة ذاتها، أساسا من أسس عقدها الاجتماعي.
ليس من أهداف المواطنة مراعاة نسبة تمثيل هذا المكوّن الاجتماعي أو ذاك، إذ ما دامت الدولة تضمن مبدأ تكافؤ الفرص، والمساواة في القانون وأمامه، فحقوق المواطنين مصانة سواءٌ أكانوا من أكثرية عددية أو من أقلية.
إن من تعقيدات الوضع في سوريا أن مكوناته الاجتماعية هي، مكونات تحت وطنية (ما قبل الدولة) وعابرة للدولة في الآن نفسه، حيث كل مكوّن سوري يجد امتدادات له خارج البلاد، ما يعني أن المحاصصة تشرّع أبواب الدولة أمام تدخلات الخارج لحماية حصة طرفها السوري، وهو ما سيشكل انتهاكات لا تنقطع للسيادة الوطنية.
كما لا ننسى أن المواطن المعيّن في منصبه كرمى لانتمائه إلى أحد المكونات سيبذل جل جهده لخدمة هذا المكوّن أولا، وليس الوطن، ابتغاء لمرضاته، وأنه حين سيصل منصبه سيعمل على رد الجميل إلى مكونه وليس العمل من أجل الوطن.
المحاصصة مقتل المواطنة، وإن كانت جماعة الإخوان تمهّد الأرض المعرفية لها قبل المطالبة بتحقيقها فإن تيارات أخرى تجاهر من الآن بطلب حصتها من الكعكة.
المشكلة الآن، كما يقول الروائي ممدوح عزام “هي أن المحصول ما زال على البيدر والمحاصصون يريدون التهام البيدر ومن عليه”.
——————————–
البيت الموؤود/ حسان عباس
ليس البيت سقفاً وجدراناً تحمي من يعيشون في كنفها، وليس خزّاناً للذكريات المبعثرة على كل ذرة من حناياه، وليس عالماً تربط صاحبه علاقة خاصة مع أشيائه التافهة والثمينة… البيت هو كل هذه الأمور، وغيرها أمور أخرى أغنى وأجلّ. فالعلاقة بين الإنسان وبيته هي أكثر من علاقةٍ، هي حياة.
البيت هو روح صاحبه. روح يظهر بريقها فوق الذرات المتناثرة على امتداد شعاع شمس يتسلل عبر زجاج؛ روح تعشش في رائحة الفراش والكتب المغبرّة ونعناع الشرفة وكبش القرنفل، روح تتمايل غنجة على صوت المفتاح في الباب وتغمر الضيف ما أن يطل.
والإنسان هو روح بيته أيضاً، روح تتجسد في الأغراض، في طريقة ترتيبها، في لون الجدران، في ورود المزهرية، في درجة اتساع زاوية فتح النوافذ، وفي الأسرار المخبأة في الزوايا والدروج وتحت أغطية الفراش.
إنها روح واحدة في جسدين: جسد البيت وجسد الإنسان صاحبه، لذا، إن مات أحدهما مات الآخر.
أعمار البيوت أطول، عادة، من أعمار أصحابها، وقد تُراكم أرواحَ أجيال من العائلة الواحدة، وهذه البيوت هي أكثرها سعادة. وبعضها يشيخ وتحفر التجاعيد وجوهه الأربعة، وتُشقّق عوامل الزمن سقفه. غير أن بعض البيوت يموت دون إنذار مسبق، كتلك التي يقلبها زلزال مدمّر أو تقتلعها كارثة طبيعية جارفة. وبعضها يقتل غيلة، يستشهد.
في سورية اليوم تجاوز عدد الشهداء المئة ألف، لكن عدد البيوت الشهيدة صار أكبر بكثير. اليوم تقتل البيوت بصاروخ، بقذيفة، بانفجار، وإن كانت أجسادها لا تنزف دما، فإن منظرها وقد تحوّلت إلى ركام لا يقل مأساوية عن منظر إنسان قتيل.
الشهيد في الثقافة السائدة لا يغَسَّل، لأن لجراح الشهيد ودمائه عطر يعرّف به يوم الحساب، ومحمّد “لم يغسّل حنظلة الراهب”، كما يقول الأثر. لكنّ الشهيد “يكفّن في ثياب صالحة للكفن”. والبيوت الشهيدة لا تنظّف ولا تغسل ولا تكفّن، بل تبقى أشلاؤها المتقطعة تحت رحمة عيون الغرباء. وقد تصبح “معرضا لسائح يهوى جمع الصور”. صور تزداد “قيمتها” بقدر ما تكشف من الأشياء التي تحمل بقايا من أرواح أصحابها: لعبة طفل، فردة حذاء، إصيص ورد، مرايا مهشّمة…
لكن، إضافة إلى هذا النمط من البيوت الشهيدة، ثمّة نمط آخر يحمّل صاحبه أحزانا مضاعفة. إنها البيوت الموؤودة.
البيت الموؤود هو ذاك الذي تدفع الظروف بصاحبه إلى هجره، فيقطع بيده حبل السرّة الواصل بين روحه وروح بيته، ويتركه تحت رحمة المجهول. إنه بيتٌ شهيدٌ مع وقف التنفيذ. لكنه شهيد يُغَسّل ويُكفّن. قد يبدو هذا التميّز نعمةً، لكنها نعمة مجبولة بحرقة وغمٍ لا قرار لهما.
عندما يقوم صاحب البيت بتكفين روحه، ذكرياته، أثار شيطنة أولاده، رائحة الألفة العائلية، ودرجة الضوء الخاصة التي نمت فيها عرائش حياته… عندما، قبل لفّ الأغراض وتثبيت الثوب الصالح للكفن فوق ثناياها، يعتذر منها لأنه لا يستطيع حملها معه. عندما يلقي النظرة الأخيرة على كل غرفة قبل أن يغلق بابها كمن يضع “الشطيحة” فوق جسد الميت المكفن في قبره. يشعر صاحب البيت بأنه يقوم بعملية انتحار بالتقسيط. كل حركة في مسار تكفين البيت الموءود طعنة سكين في روح صاحبه. طعنة لا سبيل لعلاجها لأنها خطوة في سلسلة من الطعنات التي عليها أن تستمر لتصل إلى الهدف المحتوم.
وأخيراً، عندما يغلق صاحب البيت الباب الخارجي ويدير المفتاح في القفل، يتوقف للحظة قبل سحب المفتاح، لحظة قصيرة قصر لحظة الموت، وطويلة طول الحياة التي تركها خلفه. لحظة لا يتساءل خلالها إن كان قد نسي غرضا ما ليعود ويأخذه، وإنما ليتساءل إن كان قد نسي أن يقول لبيته جملة الوداع المناسبة.
تخطر في هذه اللحظة أمام صاحب البيت صورة الأب الذي يئد ابنه حيا فينتبه أنه نسي أن يقول الجملة الوحيدة المناسبة لهذا المقام: يا بيتي سامحني!
—————————-
صناعة التفاؤل/ حسان عباس
المهم أخيراً.. هل أنت متشائم أم متفائل؟
يكاد لا ينجو نقاش بين سورييَّن يلتقيان بعد غياب من هذا السؤال المفتوح على مزدوجة من حالين قصِيّين متناقضين: التشاؤم أو التفاؤل. ومن نافل القول إن المقصود من الحالين يخص حال البلد بالدرجة الأولى قبل حال أهلها.
يعرّف المصوّر الفرنسي بيكابيا المتشائمين بأنهم أولئك “الذين يرون النهار منحصراً بين ليلين”، أما المتفائلين فهم “الذين يرون الليل منحصراً بين نهارين”. فإن ترجمنا هذه المعادلة بدلالة الوضع السوري نجد أن المتشائم هو من يقول بأن القادم لن يختلف في طبيعته عن الراحل، وأن الاستبداد سيستبدل بآخر، رغم استثنائية اللحظة الثورية التي تعرفها البلاد. أما المتفائل فهو المقتنع بأن البلاد كانت بهيّة وستعود أكثر بهاءً بعد انتهاء هذه اللحظة المأساوية.
يحق للسوريين أن يتشاءموا، فالمصاب عميم، والكارثة لم تترك عائلة بلا أذى. والفرق بين عائلة وأخرى هو في حجم الأذية التي لحقت بها وليس في مدى نجاتها منها. ويحق لهم أن يتشاءموا لأن الأيام تتوالى شحيحة بالأخبار السعيدة، أو حتى بما يدعو إلى ترقّب السعادة. بل تبدو نهاراتهم القادمة حبلى بعذابات قد تكون العذابات المعاشة في ليلهم القاتم اليوم رفاهية مقارنةً بها. وكأن تطور الشأن السوري تظهير لمقولة المسرحي جان راسين: “ربّ ليلٍ أكثر بهاء من بعض النهارات”.
وحدهم تجار الحروب لا يتشاءمون. تشاؤمهم يعني أن القتل ماضٍ إلى انحسار. وإن حصل ذلك فإنهم مستعدون لصب زيتهم على خامد النيران ليعود التهابها، ويعود تفاؤلهم بغنائم موعودة. يُروى عن السياسي والمؤرخ الفرنسي فرانسوا غيزو قوله: ” العالم مِلكٌ للمتفائلين، أما المتشائمين فليسوا أكثر من متفرجين”. ولم يكن المتفائلون في عقيدة غيزو غير الأثرياء العاملين على تكديس الثروات أيا كانت الوسيلة إلى ذلك. أما المتشائمين فكانوا برأيه أهل باريس الذين قاموا بثورة شباط 1848 والذين اقترح على الملك لوي فيليب أن يبيدهم هم ومتاريسهم.
هل ينسجم التشاؤم حقا مع الثورة؟ إن لم يكن التشاؤم حالة مرضية تسحق روح صاحبها فهو لا ينسجم مع الثورة فحسب بل ضروري لها. التشاؤم في هذا المعنى وضع خلاّق يحمي أنصار الثورة والفاعلين فيها من التراخي أمام وردية الأحلام، وينجيهم من الاستسلام إلى حتمية تحقيق المشتهى. هو ناقوس يقرع رأس أهل الثورة لكي لا يتوقفوا عن معاينة حالها ودراسة واقعها المتبدل معاينة صارمة، صادقة، مستديمة تساعدهم على تملّك القدرة على فهم تغيرات الواقع وعلى تفكيك تعقيداته. التشاؤم طاقة ذهنية وروحية تبقي على أهداف الثورة ماثلة في عقول أهلها، وتنبههم إلى انحراف مساراتهم ليقوّموها، وإلى تراخي هممهم ليوقظوها.
في هذا السياق، تصبح صناعة التفاؤل أهم وظيفة للتشاؤم. ليس في الأمر أي تناقض بل هو أمر تعلمنا إياه الطبيعة، إنه استخراج الترياق من السم، أو استخدام الميكروبات المسببة لمرض ما في صناعة لقاح يحمي من هذا المرض. ولا تبتعد هذه الفكرة عن القاعدة النضالية الغرامشية: “تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة”. فتشاؤم العقل هنا ليس نقيضا لتفاؤل الإرادة وإنما هو المحفّز المستمر لهذه الإرادة لكي لا تتوقف عن صناعة التفاؤل.
إن من ينظر إلى الواقع السوري اليوم، وإلى الوجهات التي تحولت إليها الثورة، وإلى المآلات التي يقود إليها تطور الأوضاع يحق له أن يتشاءم. لكنه إن بقي في حال التشاؤم ذاك وقع في سوداوية مرضية لا تُخرج من الحمأة التي نحن فيها ولا تنجي من جهنم التي تنتظرنا. ثمة مهمات جسيمة ترخي بأثقالها على أكتافنا، وإن لم نشحن إرادتنا لإزاحتها ستسحق بلدنا وتسحقنا حتى لا يبقى له ولنا وجود.
قد لا يكون غدنا نحن السوريين مشرقا، لكن علينا فعل المستحيل لنثبت الشمس في كبد السماء.
—————————–
لا تغمض عينيك!/ حسان عباس
هل شاهدتم صورَهم؟ كثيرون حاولوا ألا يشاهدوها. أشاحوا بوجوههم عن الشاشات التي تتناقلها أو امتنعوا عن فتح أي موقع يحملها. ألِسَأمهم من صور القتل، ورائحة الدم التي تفوح منها؟ ألرغبتهم في ألا يكون الأمر حقيقة أم لجبنهم في رؤية الحقيقة؟ كل الاحتمالات ممكنة، وفي جميع الأحوال إن كان من لم يشاهدها بعد فليفعل، ليضع إنسانيته وأخلاقياته وإيمانه وحساسيته ورهافته ورقّته وامتعاضه وقرفه و.. و.. في الثلاجة للحظات ويشاهد تلك الصور: صور مجزرة قرية البيضا.
شيء ما يقول للمشاهد إن ثمّة في ما يراه كذبةً ما، غشّاً، تلاعباً، ليس لأن الصور مفبركة أو مصطنعة وإنما لأن ما تنقله لا يستطيع عقل بشري سويّ أن يصدقه. وكذلك لا يستطيع أن يصدق أفلام الفيديو التي تنقل ابتهاج منفذي المجزرة بفعلتهم. من أي خامة صنع هؤلاء الناس الذين يتباهون بعملهم؟ أي عُصارة شيطانية أضيفت إلى طين خلقهم؟
صور مجزرة البيضا لا يمكن للمشاهد أن يراها ويتوقف عندها ليحللها. لكن لا بأس أن نحاول ذلك في محاولة للبحث عما يبهرنا في تلك الصور، وعن مصدر قوتها. في مستوى أوّل، أي مستوى الصورة كمنتَجٍ فوتوغرافي، تتمثل تلك القوة في تحقيق هذه الصور لمعادلة توزيع عناصرها المركزية على نقاط تقاطع شبكة خطوط القوة، كما يقول نقّاد التصوير الفوتوغرافي المتخصصون. أو من انتشار تلك العناصر على مسار لولبي خاص يذكّر بلوالب “الواسطي” في منمنماته ثنائية الأبعاد. وفي مستوى ثان أعمق من مستوى النظرة الفنية، هو مستوى الإدراك والفهم، تنبثق قوة الصورة من “استحالتها”، “لا إمكانيتها”، “لا معقوليتها”. كيف يمكن أن تتحول قدما طفل رضيع إلى ما يشبه خشبتين محروقتين كما لو كانتا قشّتي كبريت؟ كيف يمكن لوجه امرأة أن يصبح نصف وجه كما لو أن ذئباً هائلاً اقتلعه بأنيابه؟ كيف يمكن لعنق صبي أن يُحزّ كما لو كان حَمَلاً معَدّاً للسلخ؟ هذه موضوعات لم يعتد المشاهدون رؤيتها في صورة منقولة عن الواقع. قد نلقى ما يشبهها في الإبداعات الفنية المتخيلة، في لوحة من لوحات غويا في مرحلته السوداوية مثلاً، أو في بعض مشاهد فيلم “سالو” لبازوليني، أو في بعض مقاطع رواية “سفر نحو أعماق الليل” للفرنسي سيلين، لكن ربما لم يسبق أن رأينا مثيلاً لها في صور الحياة الحقيقية. أما في المستوى الثالث وهو مستوى الوثيقة، أو المستوى التاريخي، فتأتي قوة الصورة من حيث هي شاهد ودليل إثبات على ما يرتكبه هذا النظام من جرائم بحق شعبه. وهي بهذا المعنى ستوضَع غداً، أو بعد غد، بين أيدي القضاة في المحاكم الدولية المختصة لمقاضاة جميع المسؤولين عن المجازر التي ترتكب اليوم بحق الشعب السوري، وستشهر أمام من يشكلون “هرم المسؤولية” عنها. وهو الهرم الذي يبدأ من أعلى: من الشخص الذي اختار سياسة العنف المتوحّش وأمر بتطبيقها، ثم يتدرج نزولاً إلى من وضع خططها ثم إلى من أمر بتنفيذها لتصل إلى من نفذها. هذا من شروط العدالة التي لن يرضى الشعب بأقل منها ليبدأ بالخطو نحو المصالحة الوطنية، وهي عدالة انتقالية وليست انتقامية.
في غرف المصورين الفوتوغرافيين ما قبل الديجيتال، حيث كان استخدام نور الفلاش القوي ضرورياً لنجاح الصورة، كان المصوّر يقول للطفل الفرح بوعد الحصول على أول اعتراف مادي بشخصيته: لا تغمض عينيك، حتى لا تظهر في الصورة نائماً! كان يعرف أن الضوء القوي الآتي من الفلاش سيبهر عيني الطفل ويدفعهما إلى الإغماض. وكان على الطفل أن يقاوم الانبهار ويحتمل شدة الضوء فهو الشرط للحصول على صورة ناجحة، تبرز حقيقته، وتشكل وثيقة عن مرحلة من حياته ينظر إليها في غده ليرى كيف تطوّر وصار إنساناً.
أمام صور مذبحة قرية البيضا، تدفعنا الرغبة إلى القول لكل سوري، ولكل من شارك في هذه المجزرة وفي غيرها، لكل الأطفال الذين يقضي آباؤهم، ومن يقود آباءهم، على مستقبلهم؛ يدفعنا الغضب للصراخ في وجه العالم المطعون في إنسانيته: لا تغمض عينيك!
—————————-
سوريا لا أمّ لها/ حسان عباس
غدا احتمال تقسيم سورية إلى دولتين أو أكثر، تأسيساً على التصدّعات الاتنية و/أو المذهبية الكامنة في المجتمع، واحداً من السيناريوهات الشائعة التداول على صفحات الإعلام أو في نقاشات الحياة اليومية. إن السهولة التي باتت تطرح بها مسألة بالغة الخطورة كمسألة تقسيم البلاد تعيد إلى الأذهان السؤال العميق والخطير عن الشكل النهائي للوطن السوري، وتسترجع مخاوف راسخة في الذاكرة الجمعية السورية حول هذا الموضوع. لقد جنّد النظام الدولةَ وأجهزتها الإيديولوجية المختلفة لتقوم بأدوتة بعض هذه المخاوف كقضايا صراع يستطيع التلاعب بها بما ينسجم مع مصالحه السياسية والجيوسياسية المتغيرة. لكنه، في الوقت نفسه، وضع كل طاقاته لكتم أي صوت يذكّر ببعضها الآخر، كما لو كان يريد أن يمحوها من ذاكرة الناس، لغاية ليست في نفس يعقوب وإنما طي الوثائق السرية التي قد تنكشف أمام الأجيال القادمة، أو تغرق في غياهب النسيان.
الذاكرة الجمعية السورية عن الوطن كمكان جامع لمواطنيه حبلى بندوب البتر والاستئصال والاقتطاع.
بدأت أولى عمليات تقسيم المنطقة عام 1916 عندما قررت حكومتا فرنسا وبريطانيا تقسيم بلاد الشام والعراق إلى دويلات صغيرة حسب اتفاقية سايكس بيكو. وبعد سنة من تلك الاتفاقية، أصدرت الحكومة البريطانية عام 1917 الرسالة التي صارت تُعرف في ما بعد باسم “وعد بلفور” والتي تعهّدت فيها بالمساعدة على إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وكان كما يعرف الجميع أساس تأسيس دولة إسرائيل بعد ثلاثة عقود من صدوره.
في اليوم الأول من تشرين الأول عام 1918، دخلت قوات الثورة العربية مدينة دمشق، وفي الشهر نفسه احتلت فرنسا الساحل السوري تطبيقا لاتفاقية سايكس- بيكو. وقد رفض المؤتمر السوري العام الذي انعقد في حزيران 1919 في دمشق الاتفاقية والوعد والانتداب، وطالب باستقلال سورية الطبيعية (بما فيها لبنان وفلسطين) والعراق. لكن رئيسي الوزراء البريطاني “لويد جورج” والفرنسي “جورج كليمنصو” عقدا اتفاقا في أيلول من العام نفسه أكّدا فيه على الاتفاقية مع تعديل بسيط يعطي لفرنسا الساحل السوري مقابل منح الموصل لإنكلترا. وبناء على ذلك الاتفاق دخلت قوات الانتداب الفرنسية سورية يوم 20 تموز 1920، وبعد أربعين يوما (31 آب) أصدر غورو قراراً بضم الأقضية الأربعة (بعلبك والبقاع وحاصبيا وراشيا) والساحل إلى جبل لبنان لإنشاء دولة لبنان الكبير .
عام 1921 عقدت فرنسا اتفاقية أنقرة الأولى التي منحت بموجبها لتركيا منطقة (جنوب الأناضول) التي تضم (كليكيا وأضنة والرها وحرّان وماردين وديار بكر..)، وفي 23 حزيران 1939 عقدت اتفاقية أنقرة الثانية التي نصّت على ضم لواء إسكندرون نهائيا إلى تركيا لاستمالتها في الحرب العالمية الأولى ضد ألمانيا.
وفي حرب حزيران 1967 “النكسة”، قامت إسرائيل باحتلال الجولان، لتقوم من بعد ذلك بضمه رغم أنف الشرعية الدولية المطالبة بعودة الأمور إلى ما كانت عليه يوم 4 حزيران.
سلسلة من الاتفاقيات والمعاهدات المعلنة أو المخفية انتهت بالوطن السوري إلى الشكل الذي هو عليه الآن، وربما يجدر بالسوريين أن يستذكروها الآن، ليس إحياءً لمفاصل أليمة في حياة وطنهم فحسب، بل إذكاء ليقظة واجبة ومشتهاة قبل أن “يقع الفاس بالراس”، حسب المثل السائر.
يروي العهد القديم في سفر الملوك (3، 16-28) حكاية عن حكمة النبي سليمان حين مثلت أمامه امرأتان تدعيان أمومة طفل واحد، فأمر بقطع الطفل نصفين ومنح كل امرأة من المدعيّتين نصفه. لكنّ الأم الحقيقية ترفض التجربة وتتنازل عن حقها إشفاقا على طفلها. وقد اعتمد المسرحي الألماني “برتولد بريخت” على هذه الحكاية في كتابة مسرحيته “دائرة الطباشير القوقازية” عام 1945. وفي هذه المسرحية يأمر القاضي “أزداك” بوضع الطفل المتنازع عليه ضمن دائرة، ثم تقوم المرأتان بشده وتلك التي تقدر على سحبه خارج الدائرة تفوز به، وهنا أيضا تتنازل الأم التي تحب الطفل أكثر، رغم أنها الأم (غير الحقيقية)، عن حقها خوفا على الطفل من الأذية.
لقد كان التاريخ المعاصر ظالما بحق سورية التي تجاذبتها قوى قطعت أوصالها. واليوم، وأمام التساهل في الحديث عن تقسيم البلاد، أخشى ما نخشاه أن يتحول الهزل إلى جد. إذ لا يبدو أن ثمة ما يمنع تكرار مآسي التاريخ، وسورية، كما تثبت الوقائع كل يوم، لا أم لها تحميها.
————————————-
رؤوس التبن/ حسان عباس
من العبارات المستخدمة بكثرة في المدارس السورية عبارة: “رؤوسكم محشوّة تِبناً”. أساتذة المدارس السورية أدمنوا هذه العبارة. كانوا يستخدمونها ليسخروا من ضعف قدرة التلاميذ على فهم تعاليمهم المقدسة. وهي مقدسة بنظرهم لأن بيت الشعر الذي يماهي بين المعلم والنبي، هو من أوائل ما كانوا يجبرون التلاميذ على حفظه (قمْ للمعلّم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا)! أساتذة المدرسة، الذين يلقنون التلاميذ كيف يتعاملون معهم بالتبجيل الذي يستحقونه، كانوا يعلمونهم أيضاً كيف ينقعون أدمغتهم بروح الملح لإزالة الشوائب والقاذورات العالقة بعقلهم. وإذ كان من طبيعة التلاميذ المراهقين أّلا يأبهوا لنصائحهم كان الأساتذة يتحولون من النصح إلى العنف سبيلاً للإقناع القسري. وكان ذاك العنف يأخذ أشكالا صريحة، تتراوح بين الصفعة الخلاّقة والفلق المبدع. وكان لهاتين الصفتين ما يبرّرهما في عقلية الأساتذة “بناة الأجيال”. فالصفعة كانت خلاقة لأنها تحوّل التبن إلى كهرباء تنير مصابيح الفهم في ظلمة رأس التلميذ، أما الفلق فكان يحرك الدم من قفا القدمين صُعدا في كل الخلايا محوّلاً رأس التبن إلى مصنع للأفكار.
عندما كانت البلاد “تتطوّر” في ظل الشعار الجهور: “لا حياة في هذا البلد إلا للتقدم والاشتراكية”، بقيت رؤوسنا، نحن من كنا نعيش مراهقتنا آنذاك، محشوّة تبناً. لكن أحداً منا ما كان ليشك بالتطور الماثلة آياته في كل مكان.
من تلك الآيات صدور قرار يمنع الضرب في المدارس، استبدل معه المدرسون ثياب القداسة التي كانوا يرفلون فيها بثياب المناضلين من أجل بناء “المجتمع العربي الاشتراكي الموّحد”. تبدلت صفات الواحد منهم من نبي إلى معماريّ يساهم في بناء مجد الوطن، وتبدلت بالتالي طبيعة محاولات الإقناع وتنظيف العقول من الشوائب الرجعية ومن الميول نحو الثقافات المعادية للفكر القومي الاشتراكي بصيغته البعثوية. صار العنف خفياً لا تمكن رؤيته، ألبسوه قفازاً مخملياً، لكن مفاعيله بقيت تدل على وجوده.
ذات يوم كان أحد بناة الحضارة هؤلاء يحاول إفهام طلابه كيف يسير المجتمع على درب بناء الاشتراكية وأن القصور الفارهة التي تبزغ بين عشية وضحاها في بقع الحراج التي احترقت آخر الصيف ليست سوى الحد الأدنى مما يجب على الوطن تقديمه لأولئك الذين ضحوا بكل ما عندهم كرمى لعين الاشتراكية.
وقف يومها صديقنا صباح الذي كنا نسخر من اسمه ذي الرنّة الأنثوية فنناديه صبّوحة وسأل المعلم: وماذا قدم فلان وفلان؟
لم يغضب المعلّم لكن، في صباح اليوم التالي وكل الصباحات التالية لم يأت صباح إلى المدرسة. عرفنا بعد ذلك أنهم أرسلوه إلى مشغل لتنظيف الرؤوس؟
ومن آيات التطور أيضاً، تغيير السياسة التربوية لتتماشى مع سياسة قولبة الأدمغة حسب مقاسات السلطة الاستبدادية الشمولية، فانتفت من تقنيات التعليم مساحات التفكير النقدي الحر، وطغت آليات التلقين. واختزلت تلاوين التاريخ إلى ثنائيات الأبيض والأسود، التقدمي والرجعي، العربي والعجمي، الوطني والعميل، الإمبريالي والاشتراكي.. وأُزيحت من المناهج مادة التربية الوطنية لتفسح في المجال لمادة “التربية القومية الاشتراكية”.. ودخلت العسكرة إلى المدارس، وأُدرجت عبادة القائد الخالد في قيم التربية التي يجدد الجميع، كل صباح، قسَمَ انضوائهم تحت راياتها.
تطوّرٌ تقدمي استبدل الشُحَّار بالتبن القديم.
حُوِّلَ الشعب قطيعاً، والمواطنون رعايا. وصارت الابتهاجات الشعبية والمسيرات المليونية مناسبات لتصيّد العصِيين على القولبة. ومن هؤلاء جماعات من النخب الثقافية والسياسية.
عندما انطلقت انتفاضة الكرامة والحرية من عامين، كانت تحمل بذور الثورة على العقلية التي ترى في رؤوس المواطنين أكياساً محشوة تبناً أو أوعية تُملأ بالشُحَّار. لكن ما جرى خلال السنتين الماضيتين، بكل ما فيهما من مظاهر عنف، وتعصب، وتطرف، ورفض للآخر، واستعداد للاستزلام، وأنانية مثقفين، وغطرسة سياسيين… تظهر مدى تصلّب البنية الفكرية التي رسّخها النظام ونظم تعليمه البلهاء، وهذا كلّه يحتاج إلى ثورة مواطنية، لا تبدو الثورة المحتدمة اليوم سوى حلقتها الأولى.
—————————
وإذا نزل النبي…/ حسان عباس
الطفل “محمد القطاع” تلفّظ، في لحظة حنق، بعبارة لم يقبل بها بعض من ينصبون أنفسهم حراساً على الحياة. فاقتادوه إلى جحر يقررون فيه أحكامهم، ثم ارتأوا أن يجعلوا منه عبرة لأهل الحي فقاموا بإعدامه، أمام عيونهم، رمياً بالرصاص.
على الرغم من هول الجرائم التي ترتكب كل يوم في سوريا. لا يجدر بنا اعتبار القضية عادية والسكوت عنها امتثالاً لدعوات بعضهم بعدم جواز انتقاد الثورة، أو رضوخاً للذريعة المكررة بأن الثورات لا يقوم بها الملائكة وأن الأخطاء الفردية فيها لا تستحق أن نعيرها اهتماماً زائداً. فالقضية مركّبة وتحمل مستويات عدة يحتاج كل منها الوقوف عنده والتفكير فيه.
ففي مستوى أول هناك عصابة من ثلاثة أشخاص حاولت ممارسة سلطة على الطفل بائع الشاي ليقدم لها سلعة تريد الحصول عليها دون مقابل. لم يمنح أي اتفاق، أو حتى مساومة، هذه العصابة الحق في ممارسة أي سلطة اجتماعية. وحده السلاح الأعمى هو الذي حوّل أعضاء العصابة إلى متنفذين متوهمين أنهم أصحاب سطوة من دون العالَمين.
وهناك في مستوى ثان عملية اعتقال اعتباطية لطفل لمجرد تلفظه بجملة لا يمكن أن تفسّر إلا كردة فعلِ مراهقٍ استنجد بإرثه الثقافي دفاعا عن الكرامة كما يفهمها الشباب في هذه المرحلة العمرية. “إذا ينزل النبي ما بدينك”، تركيب الجملة لا يترك مكانا للشك في أن الطفل كان قد أسقط في يده برفضه الرضوخ لطلب العصابة فلجأ إلى استحضار المقدس (نزول النبي) كوسيلة للحماية.
وهناك في مستوى ثالث سلطة شرعية نصّبت نفسها بنفسها، لم تنل صلاحياتها من أي مصدر مجتمعي أو مواطني أو سياسي أو إداري. سلطة، لا حق أصلاً في وجودها، تمنح نفسها الحق في محاكمة الناس، ضاربة عرض الحائط بأصول المحاكمات، حتى كما يفترضها الشرع الذي يتظللون بعباءته. وهناك في مستوى رابع إطلاق حكم بالإعدام، والأنكى من ذلك، على طفل، والأنكى من ذلك لأمر ظنوا أنه جرم، أو بدا لهم كذلك. ولنفترض أن ما فعله كان جرما. هل ثمة في الشريعة كلمة تستحق أن يجازى ناطقها بالقتل؟ ألا بئس هذه الشريعة إذن. ليس قتل “محمد القطاع” أمرا عاديا. إنه جريمة كبيرة، وربما لا يشبهها في السنتين الماضيتين سوى جريمة قتل الطفل “حمزة الخطيب” في بداية انطلاق الثورة. فهما، “الجريمتان” تشتركان بأكثر من نقطة.
فكلا الطفلين، “القطاع” و”الخطيب”، مراهق نطق كلاما يعبّر فيه عن عنفوان المراهقين ورفضهم لما يعتبرونه امتهانا لكرامتهم. لقد انطلقت الثورة بكاملها انتصارا لكرامة الناس، وليس لاستبدال استبداد مؤسس باستبداد همجي. وكلا الطفلين ضحية لعنف أعمى، لا يردعه عقل، ولا تقوده سوى الرغبة في بسط السلطة والغطرسة المتباهية بالقوة. وكلا الطفلين استخدم قاتلوهما جريمتهم لتمكين سيطرتهم على المجتمع، فقتلهما لم يكن بهدف التخلص منهما فحسب وإنما في أدواة الجريمة، أي تحويلها إلى أداة ترهيب ترسّخ الخوف في المحيط الاجتماعي الذي تم تنفيذها فيه.
تمثل جريمتا قتل الخطيب والقطاع لحظتين مفصليتين في تاريخ الثورة السورية. صحيح أن جريمة قتل الخطيب لم تكن الشرارة التي أطلقت الثورة، لكنها كانت الحدث الذي حرّك قسماً من الكتلة الصامتة من السوريين ضد النظام، أما جريمة قتل القطاع فإنها مؤهلة بامتياز لتكون الحدث الذي سيحرّك قسماً من الكتلة المعارضة لصالح تقويم مسار الثورة؟
وأخيراً، لقد قال محمد القطاع لعصابة القتلة باسم الغيرة على الدين ورموزه: “إذا ينزل النبي، ما بدينك”، وبودنا أن نقول لهم: “وإذا ينزل النبي لن نسامحكم”، ثم ليته ينزل النبي ليرى ما تفعلون، ولا شك أنه عندها سيأتي بمعجزة تخلص سوريا، والإنسانية، منكم ومن شروركم المرتكبة، زوراً وبهتاناً، باسم النبي وهو منكم براء.
—————————–
المجتمع المدني المقبل/ حسان عباس
يُحدِث الصراع الدائر في سوريا تغييراتٍ كبيرةً في المجتمع المدني فيها. وهي، أياً كان الشكل الذي ستنتهي إليه الأمور، تؤسس لأشكال جديدة من العمل المدني، ولآليات تنسجم مع الحاجات التي سيفرزها شكل الدولة المقبلة، وطبيعة العلاقات التي ستحدد حال المواطنة، وهي حال لم يسبق لسوريا أن عرفتها في تاريخها المعاصر أو الحديث.
في عودة سريعة لتاريخ المجتمع المدني السوري منذ بدايات النظام الحالي، أي من مطالع السبعينيات، نستطيع القول إنه قد مرّ بثلاث حِقبات أساسية: الحقبة الأولى (1970 – 2000)، الحقبة الثانية (2000- 2011)، أما الحقبة الثالثة فهي التي بدأت مع انطلاقة انتفاضة الكرامة ولا تزال مستمرة باستمرار الوضع القائم.
عندما استولى حزب البعث على السلطة في انقلاب 1963 لم يكن المجتمع السوري خاوياً، بل كان لا يزال موّاراً بالحياة المدنية المتمثلة بالجمعيات والنقابات والصحافة الحرة والأحزاب السياسية (إذا اتفقنا على اعتبارها جزءاً من الحيز المدني ما دامت لم تصل إلى السلطة بعد). في تلك اللحظة بدأت إرهاصات الاستبداد مع إجراءات التفرّد بالسلطة المتمثلة، بشكل خاص، بالمراسيم الصادرة عن مجلس قيادة الثورة صبيحة يوم الثامن من آذار.
في العام 1970، وبعيد إحكام قبضته على مقاليد الحكم، شرع الأسد الأب بوضع أسس نظام الاستبداد الذي وجد التعبير النموذجي له في المادة الثامنة، السيئة الصيت، من الدستور. في هذه الحِقبة أصبحت المؤسسات المدنية من منظمات واتحادات ونقابات… بل وحتى الأندية الرياضية، جزءاً حيوياً من “المجتمع المضاد”، وتحوّلت من أجهزة وسيطة تحمي المجتمع من عسف السلطة إلى أجهزة وسيطة تنقل ذاك العسف إلى المجتمع.
مع تولّي الأسد الابن للسلطة، استبشر الناس خيراً بالوعود الإصلاحية التي أشاعتها أجهزة النظام الدعائية والاستخباراتية في البلاد. غير أن عشر سنوات في السلطة لم تشهد على مستوى المجتمع المدني الإصلاح المنشود وإنما شهدت احتيالاً معلناً كانت عناوينه الرئيسة تشكيل “منظمات حكومية غير حكومية” أو ما يعرف عالمياً باسم (الغونغوز Go,Ngo’s)، وهي منظمات تعمل في الحيز العام لكنها شديدة الارتباط بالبلاط وبطانته، وتتميز منها “منظمات السيدات الأوْلَيات (الفلنغوز Fl,Ngos). تتمتع هذه المنظمات، على غرار “الأمانة السورية للتنمية Trust “، بحمايةٍ وحريّة حركةٍ وتمويلٍ وسلطات تدخلٍ لا حدود لها، مما يحولها إلى ما يشبه “ثقباً أسود” يجذب كل الطاقات المتحفزّة للعمل المدني، وخاصة الشباب، بفعل المغريات المادية والمعنوية التي توفّرها لها. على هامش هذه المنظمات المتعملقة باستمرار، سُمح لبعض الجمعيات الجديدة، كجمعيات حماية البيئة، بالوجود لتجميل المنظر العام، لكن الرقابة لم تبارح كل هذه التكوينات، إذ كان يكفي شيء من غضب المتنفذين للتراجع عن قرار التسامح، كما حدث مع جمعية المبادرة الاجتماعية مثلاً.
لقد كانت الثورة السورية في بدايتها انتفاضة حرية وكرامة، قام بها مجتمع مدني غير منظم. لكن سرعان ما تبينت أمام الناشطين الحاجة إلى التنظيم المجتمعي، فبدأت تتأطر مجموعات ضمن لجان تقوم بإدارة الحَراك، ثم أخذت هذه اللجان تتلاقى في تجمعات أكبر لتنظيم العمل على مستوى أعمّ من مستوى مجاميع الأصدقاء، أو الشلّة، واضعة علامة فارقة على خطى بناء مجتمع مدني جديد ينطلق من حرية الأفراد ويتطلع إلى حرية المجتمع. ثم أدى تطور الأزمة وما سببه تصاعد العنف السلطوي من تشريد وتهجير وتدمير إلى نشوء جماعات جديدة تعمل على تقديم الإغاثة والمساعدة على استمرار الحياة، في مجالات عديدة (الصحة، التعليم، الدعم النفسي، الإيواء…) واستطاع الناشطون المدنيون، ومن الشباب خاصة، تملك خبرة واسعة في زمن قصير.
لا يبدو الوضع السوري القائم اليوم مبشراً باستقرار قريب، اللّهم إلا الاستقرار في العنف. لكن، لا بد من وقت تنتهي فيه الأمور إلى صورة ما. وأيا كانت هذه الصورة سيكون للمجتمع المدني اليد العليا في إظهارها وتكوين إحداثياتها. إن قضايا من قبيل المصالحة الوطنية والسلم الأهلي، والعدالة الانتقالية، ومراقبة الانتخابات، وحماية الإرث الثقافي… كلها ميادين ستطرح نفسها بقوة على المجتمع (إن لم يكن بعضها قد فعل)، ولا يفيدنا بأي حال انتظار الغد للتفكير بما يجب عمله. علينا التفكير، اليوم وليس غداً، ببناء المجتمع المدني المقبل.
——————————
بين الخَيار والاختيار/ حسان عباس
تُظهِر معاينة المسار الذي اتخذته الأحداث في سورية منذ اندلاع انتفاضة الكرامة عدداً من المفترقات التي ارتسمت أمام النشطاء المدنيين المنخرطين فيها، ووضعتهم أمام خيارات تبدو للمراقب الخارجي وكأنها خيارات حرّة، وبالتالي يظهر الناشط وكأنه كامل الحرية في اعتماد هذا الخيار أو ذاك. لكن الواقع أن تطورات الأحداث كانت غالباً ما تأخذ النشطاء في دروب أو تضعهم في مواقف، ما كانوا ليتخذوها، أو يناصروها، لو كانوا يمتلكون حقاً حرية الاختيار.
لا نقصد من هذه المقدمة البناء على جبرية تقول بأن كل ما قام به أولئك النشطاء كان قَدَراً محتوماً وجدوا أنفسهم أمامه مسيّرين وليسوا مخَيّرين. لا بل، على العكس تماماً، يجب علينا التأكيد على أن في الكثير من أحداث المرحلة الأولى من الثورة: مرحلة الاحتجاجات السلمية والمظاهرات والاعتصامات والإضرابات… أقدم النشطاء على اختيارات قائمة على الوعي والإدراك النابعَين من إحساس عال بالولاء للوطن ومن قناعة راسخة بحقهم المطلق في المشاركة في مصيرهم ومصير بلدهم وفي حقهم بالعيش الكريم على أرضه. لقد وضعوا بأيديهم وبإراداتهم المبادرات والخطط والمشاريع التي فتحت عيون الناس، وحركت ضمائرهم، وكان لهم قصب السبق في إطلاق مارد الثورة من قمقم الخوف المحكم.
أحد المفترقات المفصلية التي واجهت النشطاء باكراً كان ذاك الذي ارتسم حول موضوع اللجوء إلى العنف. هل يجب البقاء على سلمية الحراك أم الانخراط في المواجهة المسلحة التي كان النظام يدفع الانتفاضة إليها بكل ما أوتي من عنف ووحشية؟ في البدء، لم يكن لخيار العنف مناصروه، وإن بدا هذا القول اليوم رومانسياً فإنه لم يكن وقتها كذلك. فالنشطاء كانوا مستعدّين لمواجهة عنف النظام بالوعي وبالرواقية وبمعرفة التكلفة التي يفترضها خيار اللاعنف المدني؛ واستعادة شريط الأحداث في الأشهر الأولى يثبت ذلك بلا التباس. لكن سياسة “العنف بلا حدود” التي مارستها أجهزة السلطة القمعية تحت شعار “الأسد أو نحرق البلد” استدرجت حق الدفاع عن النفس، على المستويين الفردي والجمعي، وانزلق الحراك قسراً في المواجهة التي وقع عبئها على كاهل الجنود الذين واجهوا في ذواتهم، وفي عمق وعيهم، الصراع الأزلي بين الواجب العسكري والواجب الأخلاقي.
لقد كان أمام الحَراك الخيار بين الانزلاق إلى المواجهة المسلحة والبقاء على السلمية، لكن أهله لم يكن في يدهم حق الاختيار خصوصاً بعدما أصبح البلد ملعباً للمقامرين في اقتصاديات الحرب، وللمتآمرين على المنطقة، وللمغامرين على دروب النِعم الفردوسية المتوّهَمة.
واليوم، يرتسم أمام الناشطين مفترق جديد، قد يكون الأخطر بين كل ما واجهوه حتى الآن: هل يجب تقبّل الضربة العسكرية الغربية أم يجب رفضها؟ العقل يقول إن النشطاء المنخرطين في الحراك منذ بدايته لا يمكن أن يتقبلوا الضربة. فهم في كل ما فعلوه كان خير الوطن ومصلحته وعزته السمت الذي مضوا فيه نحو أهدافهم، فكيف لهم أن يوافقوا الغرب على فعلِ ما ينتقدون النظام على فعله، أعني تدمير البلاد؟ لكن العقل يقول أيضاً إن الأحوال التي وصلنا إليها تدفع بالناشطين إلى “قبول تدخّل الشيطان” إن كان لهذا التدخل أن يخرجنا من دوامة العنف التي جُرّت البلاد إليها بالقوة. خصوصاً بعدما بات من الواضح الجليّ أن الأمل ضعيف في قيام حوار سياسي عقلاني. حوار مسؤول ينظر إلى خلاص البلاد، وليس حواراً قصير النظر لا يتطلع إلا إلى خلاص أفراد من جانب وإلى مكاسب أطراف من الجانب الآخر.
مرة أخرى إذن، يقف الناشطون أمام مفترق ترتسم فيه الخيارات لكنهم هذه المرة، وأكثر من أي وقت مضى، يشعرون بالعجز عن ممارسة حقهم بالاختيار لأن الأمر بكل بساطة خرج من أيديهم، بل خرج من يد سوريا بكاملها.
في مكان ما من “الجريمة والعقاب” يقول دوستويفسكي ما معناه: ليس المهم أن تضع أمام الإنسان خيارات، وإنما أن تمنحه الحق في الاختيار.
—————————-
ثم يأتي “العبث”/ حسان عباس
مرت الأحداث التي عرفتها سورية منذ آذار 2011 عبر منعرجات ومنعطفات عديدة نقلت البلاد من حالة الاستبداد السياسي الشمولي الذي تمارسه دولة مستقرة بقوة الأمن والقمع، إلى حالة تنذر باستبداد ثقافي شامل في ظل دولة فاشلة يتحكم بها أمراء حرب ناشئون، من جهة، وبقايا مافيات موروثة، من جهة أخرى.
تشكّل هذه الأحداث مادة فريدة للباحثين الذين درسوها أو سيدرسونها، كل حسب اختصاصه الفكري والعلمي وحسب المناهج والنظريات والأدوات التي سيستثمرها في بحثه. ولا شك أن رفوف المكتبات ستحمل، وهي قد بدأت فعلاً بذلك، كمّاً من الأعمال التي ستعكس بتنوعها الطبيعة المعقدة أصلاً للأحداث.
وإذا ما قامت تلك الأعمال بمقاربة ما يجري في سورية من منظور أدبي يعتمد على نظرية الأجناس، فأغلب الظن أنها ستتوقف عند عتبات ثلاث، تشرِف منها على ثلاث مراحل متتابعة من الحكاية السورية منذ نقطة بدايتها وحتى ما آلت إليه اليوم.
1- العتبة الأولى تطلّ على مرحلة يمكن وصفها بالمرحلة الملحمية. تتمثل هذه المرحلة بالشجاعة الفريدة التي أبدتها جموع من السوريين كسرت قمقم الخوف، وقامت بمظاهرات واعتصامات للمطالبة بالحرية، متحدية آلة القتل المسلطة عليها من كل صوب. في المشهد الملحمي تبرز بطولة الأفراد وهم يحققون أعمالاً تُسبغ عليها صفات العظمة والإعجاز، كما تبرز المبالغات الرقمية التي تُضخّم أعداد المشاركين بالفعل الملحمي لتخلق لدى المتلقي مشاعر الإعجاب والانبهار.
في هذه المرحلة تحوّلت الانتفاضة إلى ثورة شعبية لها، من جهة، سماتها المشتركة مع أي ثورة في العالم، ولها، من جهة أخرى، سماتها الخاصة التي فرضتها ظروف سورية والإقليم والشرط التاريخي.
2- العتبة الثانية هي التي تنظر إلى المرحلة التي يمكن وصفها بالمرحلة التراجيدية. تميّز هذه المرحلة بشكل خاص ديناميكية مأزقية دخلت فيها الثورة، من حيث لا ترغب، في حرب داخلية. في هذه المرحلة تعسكرت الثورة بسبب الخيار الأمني للنظام من جهة، وبسبب انفتاح الأرض السورية أمام وباء التطرف الجهادي من جهة ثانية. في المشهد التراجيدي، يبدو الوضع الذي وُجِد فيه الحراك وضعاً بدون مخرج. وتبدو الشخصيات المشاركة في الفعل التراجيدي بمثابة أبطال يؤدون واجبهم وهم مرغمون على التعايش مع فكرة الموت المحتمل. في هذا السياق، تظهر الصفات الثلاث التي تميز البطل التراجيدي: الشجاعة والإقدام أولاً، التضحية والفداء كرمى القيم السامية ثانياً، والنقاء الأخلاقي الذي يدفع به إلى خوض حرب يعرف بكامل وعيه أنها حرب بلا مخرج ثالثاً.
3- العتبة الثالثة هي التي تنفتح على مشهد الخراب والموت والحزن العميم، إنها المرحلة المأساوية بامتياز. في هذه المرحلة تتلاشى البنية التراجيدية التي تضع الفاعلين أمام مصير لا يطمحون إليه لكن لا مفر منه. ويتحول الأفراد إلى شخصيات تقوم بحربها بقناعاتها وبكامل حريتها ووعيها. الموت في هذه المرحلة ليس احتمالاً غير مستحب بل يصبح فعلاً مطلوباً، يصبح قتلاً تسمو دلالته طرداً مع درجة الوحشية المتبعة في تطبيقه. والقيم الأخلاقية تتلاشى لصالح حسابات الحرب. هنا، لا ينتهي مصير بطل المأساة إلى القدر الذي كتبته عليه قوة ذات إرادة خارجة عن إرادته، بل يصبح هو فاعلاً ومشاركاً وصانعاً لقدره وقدر الأرض التي يحارب عليها. ويمثل هذه المرحلة في الواقع تواجد كتائب، موزعة بين أطراف الصراع، مقاتلة مرتزقة استؤجرت، أو دُعيت، أو أُرسلت، أو نُقلت… لا تهم تسمية الفعل بل ما يهم هو الفعل نفسه: كتائب موجودة على أرض الوطن لوضع اللمسات الأخيرة على المأساة.
في مرحلة قادمة، وبعد أن ينجزوا المأساة، سيجلس المتقاتلون منهكين متسولين للحل المجهز سلفاً. عندها، إن بقي لدى بعضهم شيء من الضمير، سينظرون إلى أرض الخراب ويتساءلون في قرارة أنفسهم: لم فعلنا كل ذلك؟ عندها تبدأ مرحلة العبث.
————————-
صورته في المرآة/ حسان عباس
رجل الأعمال السوري الذي وجد صباحاً زجاج سيارته الفاخرة مهشّماً ومصابيحها مكسورة لا يقتنع بإمكانية حدوث أشياء كهذه صدفةً. سؤاله الذي يردده أمام أصدقائه يشير بوضوح إلى مقاصده: لماذا وحدها سيارتي ذات اللوحة السورية هي التي أصيبت؟ لماذا لم تصِب الصدفة ذاتها السيارات اللبنانية المركونة حولها؟
البَيض الذي “هطل” ليلاً على السيارات ذات اللوحات السورية في الضاحية الجبلية من بيروت لم يكن من فعل عمال محطات غسيل السيارات الذين حُرموا هذا الصيف أيضا من إكراميات السائحين العرب الأثرياء فظنوا أنهم بفعلتهم هذه سيرغمون المصطافين السوريين على غسيل سياراتهم ذاك اليوم.
السيدة التي كانت تفسّح كلبها صباح الأحد لم تشح بوجهها وتبتعد مبرطمة لأن كلب الصبية الرشيقة التي كانت تقوم بالواجب الصباحي ذاته يقل نظافة أو أدبا عن كلبها وإنما لأنها حين حذرتها من “السوريين الذين أصبحوا في كل مكان والذين سمعت أنهم يغتصبون الفتيات” قالت لها الرشيقة صاحبة الكلب إنها هي أيضا سورية.
هي أمثلة ثلاثة من عشرات الحكايات التي يعيشها السوريون الميسورون الذين لا يقيمون في لبنان عالة على “المعتّرين” اللبنانيين، كما كانت تقول سيدة على أثير إذاعة صباحية، بل يساهمون، ليس تكرّما ولا جزية، من خلال الأموال التي نقلوها إلى لبنان في تعويض جزء من خسارته بسبب غياب الموسم السياحي.
وهي أمثلة ثلاثة من مناطق تسكنها شرائح ميسورة من المجتمع اللبناني. هم في الغالب من أصحاب المهن الحرة الذين يستخدمون جيشا من العمال السوريين “المعترين” حقا. ليس لأنهم فرّوا خارج وطنهم هربا من الموت فحسب، بل لأنهم يعملون في شروط من غياب الحد الأدنى من الضمان والحماية.
أصيب “أبو علي” ناطور البناء بذبحة قلبية، فأسعغه جاره إلى المشفى القريب، ولدى سؤاله عما إذا كان مسجلا في الضمان قال: من هذا “المعلم” الذي سيرضى بأن يسجّل عاملا سوريا في التأمينات ويتكلّف عليه مادام يستطيع أن يجد آلاف العمال ممن يرضون بالعمل مقابل السكن فحسب؟
في جلسة في بيت من غرفتين يسكنهما ستة عمال يعملون جميعا في ورشة بناء، دار الحديث عن ظروف الحياة، وكانت لدى كل منهم حكاية عن مفاجأة يوم القبض حيث لا يحصل أي منهم على كامل المبلغ المستحق لساعات أو أيام عمله.
وحول طاولات المقاهي تتناثر الحكايات عن أصحاب الشقق الذين يرفعون قيمة الإيجارات، العالية أصلا والخيالية أحيانا، لمجرد معرفة أن طالب الإيجار سوري.
من نافل القول إن الحقبة السورية من التاريخ اللبناني المعاصر حملت الكثير من الظلم على لبنان، لكن من يجرؤ على إنكار أن مصدر الظلم كان واحدا في البلدين، وأن معاناة السوريين منه لم تكن أرحم، وليس فقط لأن “ظلم ذوي القربى أشد مضاضة”.
من نافل القول أيضا إن الصراع الدائر في سورية قد قذف بمئات الآلاف من السكان إلى الخارج، منهم ما يزيد عن المليون في لبنان وحده. وهذا يشكل عبئا صعب التحمّل في بلد يعاني أصلا من ضائقة اقتصادية ومن مشاكل إدارية وسياسية. لكن ما العمل إذا كانت الحياة غالية والحق فيها مقدسا. وما العمل إذا كانت الجغرافيات الطبيعية والبشرية والسياسية قد أوجدت تداخلات بين المواطنين من الدولتين تجعل من البديهي لجوء بعضهم عند بعض وقت الشدة. ألم يفعل اللبنانيون ذلك أكثر من مرة، وخلال سنوات طوال؟
يمثّل الوجود السوري في لبنان، دون أي شك، مشكلة كبيرة، لكن يبدو أنها أقل بكثير مما يضخمها الإعلام. لكن هذا الوجود يشكل أيضا صورة إضافية عن تخاذل المجتمع الدولي وكذبه ونفاقه، إذ أن هذا المجتمع هو المسؤول عن هذه المشكلة: مسؤول عن عدم إيجاد حل للوضع السوري، مسؤول عن السماح للنظام بإيصال البلد وأهله إلى هذه الحال ومسؤول أخيرا عن إغاثة اللاجئين ومساعدة الدول المضيفة وأولها لبنان على تحمل أعباء استضافتهم.
لكن أيضا، ورغم قناعتنا بموضوعية تذمر بعض المواطنين، لا نستطيع إلا أن نقول لصاحب الزي الرسمي الذي كان ينهال ضربا على (معتّرٍ) سوري على النقطة الحدودية ويشتمه بالتسلسل التالي: يا كلب، يا حقير، يا سوري… لا نستطيع إلا أن نقول له، وبعيدا عن الكلام في حقوق الإنسان، أن يعود إلى تاريخه الخاص ليجد أن الروابط العضوية بينه وبين ضحيته تجعله، شاء أم أبى، صورة مطابقة له، حتى ليكاد يكون صورته في المرآة.
—————————
الرأرأة السورية/ حسان عباس
يدل مصطلح الرأرأة في لغة الطب على عَرَضٍ سريري يشير إلى خلل في الأجهزة التي تتحكم بحركة العين ويعود إلى إصابات مرضية مختلفة. ويتصف هذا العرض بحركة اهتزاز لا إرادية للعين تجعلها تبتعد ببطء عن موضعها المركزي لتعود بسرعة إليه، وهكذا دواليك. وتسبب الرأرأة درجة من الخلل في الرؤية.
بعيداً من الطب، كانت تلاحَظ لدى السوريين في سنوات حكم عائلة الأسد، خصوصاً زمن حكم الأب، حركة لا إرادية يقومون بها بعيونهم، وغالباً ما كانوا يتابعونها بكامل وجههم، حتى أصبحت كالعادة المكتسبة التي تميزهم عن سائر البشر. وتتميز هذه الحركة بانحراف كرة العين عن محورها لتتجه نحو النوافذ أو الأبواب، في الحيز الذي يجمعهم، فور نطقهم، أو نُطق أحد مُجالِسيهم بكلمة أو إشارة تنال من القائد أو الحزب أو أجهزة الأمن ومن ينتمي إليها.
لم تكن هذه الحركة تعبيراً عن خلل في أجهزة التحكم بعضلات العين بقدر ما كانت تعبيراً عن قوّة أجهزة التحكم في حياة المواطن السوري وشدة التصاقها به، ويقظتها في مراقبة درجة انقياده للضوابط التي وضعتها له. لقد بلغت قوة تلك الأجهزة، ونعني الأجهزة الأمنية طبعاً، درجة من التغلغل في حياة المواطنين حد أنه بات يتخيل أن ثمّة شبحاً يقف خلف كل مَنفذ في جدار ليترصّد الكلام، ويتصيّد الهفوات وزلاّت اللسان. بل كان ذاك الشبح يقترب بعض الأحيان ليسكن في الزاوية الوحشية من العين، فما أن ينطق المرء بكلمة قد لا تتفق مع الضوابط حتى تنحرف العين نحو ذاك الشبح مسترضية، مسترجية، خائفة.
مع بدء الانتفاضة، وطوال مرحلة تحولها إلى ثورة، حافظ قسم من المواطنين على شبحهم خوفاً من شعوره بالضياع بعد أن صار مَعْلم ارتكازه في الوجود؛ وشحذ قسم آخر سكينه واستنفر للدفاع عنه لأنه اعتقد أن وجود الشبح ضمانة لبقائه. لكن القسم الأكبر، أي أولئك الذين انخرطوا عملياً أو فكرياً أو ميدانياً أو عاطفياً في الثورة، أو ناصروها، فقد تحرروا من طغيان الأشباح الجاثمة على نواصي حيواتهم وأرغموها على التلاشي، فتلاشت، بالمعنى الحقيقي لفعل تلاشى: أي أصبحت رويداً رويداً لاشيء.
غير أن أشباحاً جديدة بدأت تظهر وتتغلغل في ثنايا الأنفس، بالتوازي مع انفلاش ساحة الصراع على العنف العاري الذي تشترك في ممارسته قوات الاستبداد الرسمي، مع قوات الإرهاب الديني. أشباح تنطلق من الكثير مما يتسرّب خلسة، والأكثر مما يُعرَض علناً، عن وحشية القوى ذات الرايات السود التي تسعى للهيمنة على المجتمع بأفكارها المنحدرة من لحظات غير مجيدة في تاريخ المنطقة.
تحتكر داعش (دولة الإرهاب في العراق والشام) حصة الأسد من الأخبار المطلقة لأشباح الخوف. تنطلق هذه الأشباح من صور أبطالها المتباهين بالرؤوس المقطوعة يرفعونها بأيديهم، ومن فيديوهات إعدام طفل رفض أن ينصاع لأمر أحد رجالاتهم؛ وتنطلق من فتاوى شيوخهم المغرقة في ابتذالها حول شكل اللباس والتدخين والرقابة على ما قد يتلفظ به اللسان، ومن حكايات تصرفاتهم المنسوخة عن تصرفات المطاوعين السعوديين التي لم يسبق للمجتمع السوري أن عرفها حتى في أكثر أيامه ظلماً وكبتاً.
هذه الأمور وغيرها تشكّل عملية إعادة بناء لثقافة الخوف التي استطاع النظام تشريبها للسوريين قبل أن يستفيقوا وينتفضوا. لن يفيدنا الآن أن نناقش إن كان الخوف هو ذاته أو أن بعضه يفضل بعضه الآخر. ما يهم هو أنه في الحالتين يخسر المواطن السوري روحه، ويضيّع حقوقه، ويفقد القدرة على الرؤية الصحيحة ويتحوّل إلى كائن خائف تسبق حركة عينه نحو النوافذ والأبواب والأشخاص الغرباء حركة لسانه. وتعود الرأرأة كسمة ملازمة لشخصيته.
يقول الباحثون في طب العيون إن ثمة أربعين نوعاً من الرأرأة، ربما يجب اليوم إضافة نوع جديد: الرأرأة السورية.
—————————-
عدوّ عدوّي…/ حسان عباس
كان يبدو واضحاً في الأشهر الأولى لقيام الانتفاضة السورية أن موازين القوى الفاعلة على الأرض تميل يوماً بعد يوم إلى جانب الحراك المدني، رغم الغياب المطلق لأي تناسب بين القوة العسكرية، المعدومة آنذاك ولوقت ليس بالقصير، لهذا الحراك والقوة اللا متناهية للمنظومات العسكرية وشبه العسكرية العاملة تحت إمرة النظام. لكن ثمة سلاحاً افتقده النظام وامتلكه الحراك وكان بمثابة عامل التثقيل الذي جعل كفة هذا الأخير راجحة باضطراد: إنه سلاح الحق بكل ما يحمله من أبعاد أخلاقية، أو معنوية أو رمزية. فالانتفاضة كانت ضد الاستبداد وما ينتجه من إذلال مستمر للمواطن وهذا ما جعلها انتفاضة للحرية. والانتفاضة كانت ضد الفساد وما يسببه من تهتك في أخلاق وهذا ما جعلها انتفاضة للكرامة.
هذا السلاح هو ما كان يحرك ملايين المواطنين في المظاهرات والاعتصامات رغم العنف المتصاعد للنظام وأجهزته. وهو ما كان يدفع بالعسكريين الرافضين للامتثال للأوامر بمواجهة المظاهرات بالرصاص إلى الانشقاق، وهو ما كان يجمع رأياً عالمياً مناصراً للانتفاضة ورافضاً للنظام ولآلياته القمعية، وهو ما كان يقض مضجع النظام لأنه يعلم، ليس لذكائه وإنما لأنها من بديهيات السياسة ومن تعاليم التاريخ، أن السلاح لا يقوى على احتواء روح المقاومة عندما تتملك الشعب.
والحال هذه، كان لا مفر أمام النظام من العمل على أمرين: سحب الحراك من أرض النضال السلمي إلى أرض الصراع المسلح، من جهة، واختلاق عدو على شاكلته، يشبهه في توحشه وتغوّله، من جهة أخرى.
تكفّل العنف العاري الموجّه إلى المتظاهرين والمعتصمين، وإلى حاضنتهم الشعبية، وإلى الناشطين السلميين، بإنجاز الأمر الأول تبعاً لمتوالية ردود الفعل التصاعدية. ولم تقصّر قوى خارجية، ومنها قوى سورية تعيش في الخارج، في سكب الزيت على النار لمآرب وغايات لم تكن مبيّتة بل مُعلنةً في وضح النهار.
أما الأمر الثاني فقد كان العدو جاهزاً في الحقيقة، وخلال سنوات طوال لم يكن النظام بعيداً عن المساهمة في تغذيته وتشغيله، لكن كأداة يتلاعب بها ويوظفها في سياسة تصدير العنف. وهي السياسة التي سعى من خلالها إلى زعزعة استقرار الإقليم المحيط لاكتساب مظهر النظام المستقر (لطالما قرعت أبواق النظام “الأكاديمية” آذاننا بأن سورية من أكثر الدول أماناً في العالم، دون أن تشير البتة إلى السياسات الخارجية والداخلية التي كانت تحقق ذاك الأمان الصوَري؟؟). والشواهد على الأمر ليست بقليلة بدءاً من دور أجهزة النظام في لبنان وانتهاء بعمليات تسهيل عبور “المجاهدين” إلى العراق، مروراً برعاية حزب العمال الكردستاني، والقائمة تطول.
ومع بداية الانتفاضة قام النظام بالإفراج عن عشرات آلاف المعتقلين (باعتراف الأسد) كانوا في غالبيتهم العظمى من المتورطين بجرائم تهريب السلاح والمخدرات الذين سرعان ما عادوا إلى نشاطهم التهريبي الذي يصعب على المرء تصديق ازدهاره وتضخمه بدون مشاركة من الأجهزة المسؤولة عن مراقبته وضبطه. وكان من بين المُطلق سراحهم جهاديون من وهابيين وغير وهابيين، سرعان ما وجدوا الطرق اللازمة لتشكيل بنى جهادية مقاتلة، مستفيدين من رعاية تنظيم القاعدة وتفرعاته، ومن رغبة الحكومات المتصارعة مع الجهاديين بالتخلص منهم في بلادها، ومن تمويل عدد من شيوخ النفط السلفيين، ومن تساهل الرقابة الحكومية، كي لا نقول تواطؤها، في تواجد هذه البنى.
ساهمت هذه العوامل مشتركة في ظهور الوحش الجديد الذي لن تكون فائدته في محاربة النظام أكبر منها في منح هذا النظام شكلا من أشكال الشرعية الدولية المتمترسة وراء الخوف من انتشار الإسلام الجهادي. وهكذا صار لدى النظام عدو الشعب عدوا صنوا له، لا يقل عنه شراسة، بل وتتفوق أفعاله في وحشيتها على وحشيته. عدو لا يوقف خراب البلد بل يزيد من خرابه ناهيك عن أنه يمنح النظام المبرر لحرقه.
أمام حلبة المصارعة بين هذين العدوين، يقف الشعب السوري المنتفض من أجل كرامته، الرافض للاستبداد وللإرهاب، المنهك مما أصابه من مآس وشرور، المحبط لمشهد الأفق المظلم، يقف ليقول: ليس صحيحا أن عدو عدوي هو صديقي، إن عدو عدوي هو اليوم عدوّي أيضا.
————————–
حرّاس الذاكرة/ حسان عباس
إلى مازن درويش ورزان زيتونة
قد يبدو صحيحاً أن الحرب “نار تجلو صدأ الشعوب”، وقد يبدو صحيحاً أنها “شرّ لا بدّ منه” لكي تنبعث الأمم من رمادها، لكن ليس صحيحاً أنها هذا فحسب، لأن الحرب هي أيضاً، وقبل كل شيء آخر، موت ودمار وخراب. قد تشقّ الحروب طريقاً لجديد آت، وقد تهيئ لقيامة ما، لكن لا هذه القيامة ولا ذاك الجديد يقدَّر لهما أن يكونا بدون الويلات التي تنثرها الحروب.
الحرب انتهاك للإنسانية وللإنسان، ونخصّ هنا الحرب التي تقوم بين أبناء البلد الواحد سواء أكانت حرباً داخلية (كما هي الحال في سوريا) أم حرباً أهلية. كل ما في الحرب فعلٌ جرمي. وكل من ينخرط فيها، شريك، بهذا القدر أو ذاك، في جريمة. من المفارقة المؤلمة أن الكثير، بل غالبية، أولئك الشركاء هم ضحايا. ليسوا ضحايا وقع عليهم الانتهاك فقُتِلوا أو جُرِحوا أو شوِّهوا فحسب، بل هم ضحايا لأنهم أُرغموا أو اضطروا أو أُجبِروا على المشاركة في القتل والجرح والتشويه. الذين تحولوا إلى أدوات قتل في يد نظام مستبدّ أحمق هم ضحاياه أولاً، والذين اضطروا لحمل السلاح دفاعاً عن انتفاضة كرامتهم هم ضحايا النظام مرتين: مرة لأنه اضطرهم إلى حمل السلاح ومشاركته في المقتلة ومرّة لأنه قتلهم حقاً، والذين تحولوا إلى مرتزقة وأدوات قتل في يد إرهاب ديني أعمى مموّل هم ضحايا أمراء الحرب وسدنة الجهل والظلامية. الحرب آلة حمقاء تصَنِّع ضحايا ليقوموا بدورهم بصُنع ضحاياهم لدى الطرف الآخر. وفي الحرب الداخلية، الكلّ هو الآخر. حيث لا منطق يبيح لطرف أن يكون ال(نحن) المطلقة التي تتجسّد فيها روح الوطن فتنال شرعية القتال باسمه.
الحرب الداخلية مصنع للضحايا يديره مجرمون. وهؤلاء الأخيرون قلّما ينالهم العقاب الذي يستحقونه. يُخطَف الناس ويعذّبون ويقتلون بأمر منهم، وهم يقبعون في دشماتهم ومراكز قياداتهم يتابعون على الخرائط الباردة حركة البيادق المرمية في الميدان. فإن انتصر طرف منهم أرّخ لما كان بالشكل الذي يريد، بينما تغيب الضحايا في جبّ النسيان. وتُنسى أسماؤها وأسماء قاتليها.
من هنا كانت فكرة توثيق الانتهاكات في زمن الحرب فكرة عظيمة، لأنها، من جهة، تحفظ للضحايا ذكراهم، ومن جهة أخرى تقيم الحجة على الشركاء في الجرم بدءا من الذي خطط، إلى الذي أعطى الأمر بالتنفيذ، إلى الذي نفّذ. وتكون الانتهاكات المسجّلة وثيقة لا بدّ منها لكل بناء لسيرورة عدالة انتقالية. من هنا يلد حقد المسؤولين عن الإجرام على النشطاء الحقوقيين، وعلى كل مؤسسة مدنية تعمل في مجال توثيق الانتهاكات. والأمثلة على ما عاناه ويعانيه النشطاء في مجال حقوق الإنسان وتوثيق انتهاكات هذه الحقوق في سوريا لا تعدّ ولا تحصى. ففي بداية الانتفاضة ضد نظام الاستبداد لاحقت الأجهزة الأمنية هؤلاء النشطاء وحبستهم. ومنهم الصحافي مازن درويش، رئيس المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، الذي انهى يوم الاثنين 16 كانون الأول، 22 شهراً على وجوده في المعتقل. أما بعد انحراف الثورة وسقوط غالبية المناطق الخارجة عن سلطة النظام تحت سطوة الإرهاب الإسلامي الظلامي فقد عاد الوضع شبيهاً بما كان عليه قبل الانتفاضة، بل وبشكل أكثر بشاعة. لكن هذا لم يمنع النشطاء، رغم كل الصعوبات، من الاستمرار بتوثيق الانتهاكات التي تمارسها القوى المتسلطة الجديدة. وبالطبع لم يرق هذا لأمراء الحرب الملتحين فبدؤوا بعملية كمّ أفواه النشطاء مثل رزان زيتونة ورفاقها الذين تمّ اختطافهم على أيدي “ملثمين”.
في سوريا، وبين الاستبداد السياسي الذي يقتل باسم قوّة من الأرض والإرهاب الديني الذي يقتل باسم قوّة من السماء يسقط ضحايا أبرياء يتهدّد النسيان أسماءهم وأشكالهم ولون وجوههم. لكنهم لن يُنسوا مادام هناك ناشطون وناشطات يوثقون للانتهاكات ويقفون حرّاساً للذاكرة.
—————————–
ومع ذلك.. فهي تثور/ حسان عباس
تدخل سوريا عامها الرابع ثورة. “العمر كله” كما نقول احتفاءً بميلاد مجيد. في البدء تماحكنا وتناظرنا وتعاركنا حول شرعية التسمية. أهي ثورة؟ أم انتفاضة؟ أم حراك ثوري؟ أم حرب أهلية؟ أم مؤامرة كونية؟ إلى ما هنالك من تسميات أطلقها بعضنا، ونحن منهم، تأسيساً على إرادوية تمتنع عن إسقاط المشتهى على أحداث لا تشي بحضوره، وأطلقها بعضنا الآخر تبخيساً لفعل تغيير مذهل لم يدخل ضمن تخوم خيالاته وتصوّراته، وأطلقها بعضنا الثالث تهرّباً من ضريبة ما كان لها إلا أن تُستحق طال الزمان أو قصر، وأطلقها آخر رابع تخوّفاً من اهتزاز بنية نفعية تشرنق فيها وبات كل من يشير إليها بالنقد خائناً وعميلاً و”برغياً” في آلة المؤامرة المحاكة على وطن تقزّم حتى تطابق مع جسد نظام مشوّه خارج التاريخ..
تعددت الأحكام والواقع واحد.
والواقع هو أن ما كان انتهى، وأن شيئاً جديدا أتٍ لا محالة.
انتهت حقبة جعلت من السوريين كائنات خائفة ترتجف إن حلمت بحرية. انتهى زمن تختزل فيه مواطنية المواطن إلى التصفيق والرقص والتهريج احتفاءً بشعاراتٍ مقعّرة فُرّغت من كل محتوى وغدت إشارة حسّية لإطلاق منعكس الثغاء الجمعي الجدير بقطيع. انتهى عهد الفرجة، حيث بات المواطن متفرّجاً على الفساد باسم القانون، وعلى التسلّط باسم الدستور، وعلى القمع باسم حماية الأمن، وعلى الخراب باسم التطوير والتحديث.
انتهى ذاك الزمن ودخلت البلاد في مخاض التغيير. ويا له من مخاض عزّ نظيره في حكايات الشعوب الحبلى بالشوق إلى الحرية والمسكونة برجاء القيامة. يا لها من جلجلة يقف إزاءها التاريخ مشدوهاً، منقطع الأنفاس. يا لها من ملحمة تقف البشرية دونها خجلة من نفسها، مسربلة بالعار.
لم يكن المخاض كرنفالاً يحتفي بفرح الشعوب الطفلي وهي تتلبّس الجديد. ولم يكن تنويعاً، بنسخة سورية، لسردية انتفاضة لشعب مقهور يستيقظ نحو خلاصه. لكنه كان النموذج الفريد لأمرين اثنين: شيطانية النظام ومأساة الشعب.
تمثّلت شيطانية النظام في إصراره على حفر هاوية بلا قرار تجذب، كثقب أسود، كل ما يتفاعل في المحيط، بما في ذلك النظام أيضاً. كأن لسان حاله يقول: لن أسقط وحدي، بل سأسقِط الكل معي. إن كانت النهاية فلا أحد سينجو. وإن كان ثمة ناجون، ولو محطّمين، فسأكون بينهم، محطّماً مثلهم، أو ربما أقلّ. شيطانية اختزلها شعار “الأسد أو لا أحد”.
وتمثلت مأساة الشعب في ما لحقه من خراب روحي واجتماعي وحضاري، لكن أيضاً في حَيرته أمام ما انتهت إليه شيطانية النظام. وثمة عناوين كثيرة لهذه الحيرة: من أين جاءت تلك الوحشية التي عصفت بكل ما كان يميزنا من رحمة وكياسة؟ كيف لنا أن نعيد بناء نسيج وجودنا المشترك؟ أين المخرج ونحن نرفض ظلم النظام ولا نريد ظلامية التشدّد الديني؟ ثم من نحن في نهاية المطاف؟ هل سنعود مواطنين في بلد له اسم وهوية وتاريخ أم سنستفيق على حال نكتشف فيه أن كل ما ظنناه لم يكن سوى وهم، وأننا أسرى لأوهام؟
ربما تكمن عبقرية المخاض هنا تحديداً، أي في طرحه لأسئلة لا حلّ لها في بقاء الحال القديم، وفي وعده القاطع بجديد لا يترك مجالاً لشك
بقدومه، حتى لو لم يرسم ملامح هذا القادم الجديد. في هذه السيرورة من القديم المنتهي نحو القادم المبتدئ ترتسم حياة الثورة.
سمّوها ما شئتم، انتقدوها كما أحببتم، اخدعوها، راودوها، تحايلوا عليها، احفروا الأرض تحت أقدامها، لوّنوها، العنوها، افعلوا ما شئتم.. فهي، وبمحاكاة لما قاله غاليليو غاليليه لمرهبيه: ومع ذلك فهي تثور. هي باقية، وهي أصلاً لم تبدأ إلا لتبقى حتى تصل إلى ما يريده أهلها: حياة كريمة بلا ظلم ولا ظلامية.
سوريا تدخل عامها الرابع ثورة.. كل عام وأنت بخير يا وطني.
—————————-
مقاربتان بصريتان للنزوح السوري/ حسان عباس
ذكر الموقع الرسمي للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة (يوم الجمعة 14 آذار 2014) أن عدد النازحين قسراً عن منازلهم في سوريا تخطّى التسعة ملايين نازح، أي ما يقارب40% من عدد سكان البلاد، مما يجعل من سوريا أكثر دول العالم شهوداً للنزوح القسري. وتقدر نسبة المهجّرين (أي النازحين خارج الحدود) من هؤلاء بحوالي الربع تقريبا.
بعيدا عن الأرقام المخيفة لجيوش النازحين والمهجرين هذه، ثمّة حكايات وقصص عديدةٌ عددَ الناس المتشاركين بصفات نازح، لاجئ، مهجّر، مطرود… لكل إنسان اسمه، وإحداثياته الخاصة، وحكايته الحميمة. وأخطر ما في دنيا الإعلام المهتم بقضايا المصائب والويلات الجمعية أنه يغيّب هذه الحكايات تحت أنقاض الأرقام وخلف وهم الصورة المثيرة. ومن حين لآخر، تظهر بعض الأعمال التي يبحث فيها محترفون أو فنانون أو ناشطون عن تلك الحكايات الخاصة ليخرجوها من قيعان الأرقام الرمادية ويضعوها أمام مجاهرهم الفنية كشهادات عن الحقيقة التائهة في تدافع الأحداث.
نتوقف في هذا النص أمام عملين من بين هذه الأعمال: الأول هو “نحنا مو هيك” للمخرجة اللبنانية “كارول منصور” وقد عرض لأول مرة في السابع من شهر تشرين الأول الفائت، في صالة أمبير صوفيل في بيروت، أما الثاني فهو فيلم “آهات الحرية” الذي أغفل اسم مخرجه وأسماء الفريق التقني أثناء عرضه على قناة الجزيرة، وكان عرضه الأول يوم 12 آذار.
الفيلمان يتشاركان في توجههما الإنساني. حيث ينتخب المخرجان نماذج من المهجّرين ممن يمكن القول إنهم ينتمون إلى شرائح متنوعة من ذاك المجموع الهلامي من المجتمع الذي يطلق عليه عادة اسم الطبقة الوسطى. تحدد “منصور” نماذجها من النساء في حين ينتقيها مخرج الفيلم الثاني من الجنسين دون تمييز. لكن النماذج في الفيلمين تشترك في كونها ذوات حكاية. ويكاد مخرجا الفيلمين يتشاركان في الأسئلة المفتاحية ذاتها لفتح أبواب الحكاية: سؤال الماضي/ ما قبل الثورة، وسؤال الخروج، وسؤال الراهن أو المنفى. لكن ثمة اختلافا كبيرا بين الفيلمين في بنيتهما مما يبرز التباين بينهما رغم التماثل، لدرجة التطابق تقريبا، في الموضوع وفي استنطاق الحكاية.
“نحنا مو هيك”
تعتمد “منصور” بنية هندسية صارمة لعملها تتميز أولا بتمركز الأطر المحيطة بالحكاية. فالعمل ينفتح بداية على مقدمة عامة محكية بصوت خارجي ومدعومة بصور فوتوغرافية ثابتة من أرشيف المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، ثم تنتقل إلى إطار أصغر لتحكي عن مأساة النزوح السوري مع لقطات عامة عن المخيمات، ثم تنتقل إلى إطار أصغر أيضا تقدم فيه الشخصية صاحبة الحكاية لتستقر أخيرا على الحكاية ذاتها مروية بصوت صاحبتها. وتتميز ثانيا بالتقطيع الزمني لمدة الفيلم إلى خمسة حصص تكاد تتساوى في مددها. كل حصة مهداة إلى واحدة من الشخصيات لتروي فيها قصتها، “دراماها” الخاصة، متكاملة، مما يتيح لها قوة الحضور ويتيح للمشاهد وقتا كافيا لتشبع الحكاية.
وتتميز ثالثا باستخدام كاميرا حيادية، باردة، تتلاشى أمام الشخصية حتى تكاد أن تذوب.
أما مخرج “آهات الحرية” فقد اعتمد بنية أكثر قلقاً لفيلمه. حيث لم يضع أي إطار للحكايات، لأن فيلمه هو الحكاية، وما الأشخاص الذين استنطقهم (وكاتب هذا النص واحد منهم) إلا أدوات للفيلم وليس الفيلم أداة لهم كما عند “منصور”. الحكاية في الفيلم هي حكاية المنفى. والمنفى حكاية الجميع فلا حاجة لمن يقدّم لها أو يؤطّرها. هكذا ينفتح الفيلم على الكلام وينتهي بالكلام بلا تمهيد أو استخلاص. فالمخرج لا يبحث عن نماذج تعيش حالة المنفى وإنما يبحث عن المنفى كما يتمثل في الإنسان. والمنفى تشتت، وقلق، واضطراب لذلك جاءت بنية الفيلم مثل ثوب الرقع (باتشوورك) لكل قطعة لونها وحجمها وأصلها، وهي حين تتراصف مع بعضها فلأن المخرج الذي يلهو بها، كطفل يلهو بقطع من نسيج تكوّمت أمامه، أراد لها هذا النسق من المونتاج. أما الكاميرا فهي لعوب هي الأخرى، فتُقدم وتتراجع وتواجه وتخاتل لتثبت وجودها كحكواتي بصري يروي لنا قصة المنفى.
في “نحنا موهيك” الشخصية هي الحكاية، أما في “آهات الحرية” فالمنفى هو الحكاية، وفي الحالتين نجح المخرجان، كل من وجهة نظره، وكل حسب حساسيته، في مقاربتهما البصرية لمأساة النزوح السوري.
—————————–
سخرية الرئاسة السوداء/ حسان عباس
موسم الرئاسات العربية المتجدّدة يقدم مشهداً مصبوغاً بالسخرية السوداء الفريدة في عالم السياسة. فالصورة المنقولة لهذه الرئاسات تبعث على الضحك لكنه ضحك قاس ومرير ويائس لأن مصدره أمر خطير في حياة البلاد وأهلها. ومن هذا التناقض بين خطورة الحقيقة وبلاهة الصورة تنبثق السخرية السوداء كشكل من أشكال دفاع الناس العاديين عن أنفسهم، وكشكل من أشكال التماسك الذاتي أمام عبثية الأقدار السياسية لهذه البلاد.
فمن صورة زعيم يعيد تنخيب نفسه ويعجز عن إكمال خطابه الرئاسي وهو على كرسيه المتحرّك، إلى زعيم يبدأ تمهيده للانتخابات بأحكام إعدام لمئات المعارضين وتعمل أجهزته على تحويل صورته من عسكري إلى “معبود جماهير” حتى لتظنّ وأنت تسمع خطبه أنك أمام فيلم رومانسي مصري من الخمسينات، إلى رئيس شبح لا ترتسم ملامحه فيفرّغ المقام من صاحبه لغايات حزبية تضع مصالح الجماعات فوق مصالح الوطن، إلى رئيس مستبدٍ يبالغ في مسرحة إعادة انتخابه ليصبح كل إجراء تتّخذه أجهزة دولته التسلّطية مصدراً لسخرية سوداء مضافة.
كل هذه الأمثلة الغرائبية تشهد على الحالة العبثية التي آلت إليها أوضاع الرئاسة في هذا العالم العربي، لكن يبقى المثال السوري، وهو المثال الأخير بين المذكورة أعلاه، أكثر تلك الأمثلة مبعثاً على السخرية السوداء. بدءا من قرارات مجلس الشعب الذي يعتقد نفسه ممثلاً لشعب أين منه هؤلاء الدمى الذين يليق بهم قول معروف الرصافي: “في كلّ كرسي تسنّد نائب متكتف أعمى أصم أخرس”. إلى مهزلة الترشيح والتعدّدية التي انتهى إخراجها إلى تسمية ثلاثة مرشحين على مبدأ “العروض الثلاثة” الذي تشترطه المؤسسات لكل مناقصة معروفة نتائجها قبل أن تُفَضَّ مغلفاتها. إلى الرقابة على الانتخابات التي أبدى المجلس الأعلى للبرلمان الروسي موافقته على المشاركة فيها بناء على دعوة من رئيس مجلس الشعب السوري في مبادرة تذكّرنا بالمثل الشعبي “شهّد القط ذنبه”. إلى حملة الأسد الانتخابية، وهنا الطامة الكبرى، التي اختيرت لها كلمة (سوا) كشعار يريدونه توافقيا على كلا الصعيدين الداخلي والدولي، على الأقل كما تحاول أن تظهره الماكينة الإعلامية الرسمية وتردده كتابات المحللين الموالين للنظام، وخاصة في بعض الصحف اللبنانية.
إن الوطن النازف من الوريد إلى الوريد قد يتوافق على أي أمر اليوم إلا على اعتبار بشار الأسد رئيسا توافقيا لجموع المواطنين. ففي أي عقل وحسب أي منطق يمكن أن تستقيم هذه اللفظة التوافقية مع شعار “الأسد أو لا أحد” الذي رفعه النظام منذ الأسابيع الأولى لانتفاضة الكرامة؟ وفي أي عقل أو منطق يمكن أن ينسجم هذا الشعار التوافقي مع شعار “الأسد أو نحرق البلد” الذي رفعه النظام قبل ظهور أي قطعة سلاح في مواجهة بطشه المبكّر، ثم حققه عمليا بتدمير البلاد؟ كيف يمكن فهم توافقية الشعار حيث ينزح 9500 سوري كل يوم بمعدل عائلة واحدة كل دقيقة حسب التقرير الذي أصدره مؤخرا مركز رصد النزوح التابع للمجلس النرويجي لشؤون اللاجئين؟
وأخيرا وليس آخرا كيف تستقيم هذه “السوا” بينما كان قد سبق للرئيس أن أعلن نفسه رئيسا لجزء فقط من المواطنين في خطاب له يوم 3 حزيران 2012 حيث قال: “وأنا أقول كي أكون دقيقا إن الرئيس هو لكل من يقف تحت سقف الوطن والدستور والقانون وإلا ساويت بين العميل والوطني وبين الضحية والجلاد وبين الفاسد والشريف وبين من يخرب ومن يبني ..”، ولسنا بحاجة إلى محللين لغوين لنعرف من المقصود في تلك التصنيفات الرئاسية.
لقد بدأت حملة الانتخابات بما تفرزه كل المناسبات “الوطنية” في عهد الحداثة الأسدية. وأبرزها مواكب السيارات الشبيحة الحاملة لمواطنين شبيحة فرحين بانتخاباتهم الشبحية، وهي عراضات تجعلنا نفكّر كم كان “جوناتان سويفت” محقا عندما قال: “المتسكع اليقظ لا يخفى عليه أن أكثر الوجوه انشراحا نجدها دائما في سيارات دفن الموتى”. يا لها من سخرية سوداء.
———————————
من أين جاؤوا؟/ حسان عباس
باتت الأحاديث عن العنف الذي تمارسه جماعات إسلامية متشددة في المنطقة محطة مركزية لكل لقاء بين مواطنين حتى لو كان لقاء عابراً بين متحادثين لا تمتد معرفة بعضهم ببعض لأبعد من لحظة تصادف وجودهم في ذات المكان. وقد لا يخلو حديث منها من التساؤل المفتوح على الاستغراب أو الاستهجان أو صعوبة التصديق: من أين جاء هؤلاء التكفيريون الذين يتباهون بالرؤوس المقطوعة وبأعداد من ينفذون فيهم فعل القتل؟؟ تساؤل يضمر غالبا إجابة مشتهاة يتوسّلها المتحدث. إجابة تنفي عن الجماعة التي يشعر بالانتماء إليها أي قرابة، أو ارتباط، أو معرفة بهم.
الشيخ المسلم يقول هؤلاء لا يمثلون الدين الحنيف. الموالي للنظام يقول إنهم غزاة من بلدان أخرى. الرئيس الأميركي ينعتهم بالسرطان في ما يمكن اعتباره إشارة منه إلى كونهم، مثل هذا المرض، مجهولي الأصل…. الجميع يتبرأون من اللوثة، وإن كانوا (السياسيون منهم) في الحقيقة يتلمّظون، خلف أقنعتهم التطهريّة، استساغةً للحلوى التي ترميها هذه الجماعات العنيفة فوق أطباق مصالحهم.
لكن، إن كان كل هؤلاء يتبرأون من ظاهرة العنف فمن أين جاءت هذه إذن؟ أتراها انبثقت من العدم كما انبثقت أثينا من عقل زيوس أم هي ثمرة طبيعية لمعطيات تشارك متبرّئو اليوم في صنعها أمس؟
في البدء هناك الأرضية الثقافية التي تحمل بذور العنف. فالدين، وهنا الدين الإسلامي خاصة الذي يشكل المكوّن الثقافي الأكثر تأثيرا وحضورا، لا ينفي العنف والغلبة والشدة. وربما بالقدر ذاته الذي لا ينفي فيه التسامح والسلم والمحبة. فالنص القرآني لا يخلو من الدعوات إلى القتل “اقتلوهم حيث ثقفتموهم”، والتعذيب “ضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدّوا الوثاق”، والتمثيل “أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف”…. أما التاريخ الإسلامي فحكايات العنف فيه، بدءا من السيرة النبوية وحتى نهاية الخلافة الإسلامية في مطالع القرن العشرين، تتجاور مع حكايات التسامح، بل وتزيد عليها أحيانا.
إن وجود العنف في المرجعيات المؤسِسة للثقافة الدينية يشرعنه حتما، ولا يعارض بالتالي ممارسته إذا ما وُجد المناخ المؤاتي لذلك. وفي هنا تقوم الرابطة بين ما هو ديني في العقيدة وما هو دنيوي في السياسة. العقيدة ترمي البذار والسياسة توفّر لها ظروف الإنتاش. فنظام الاستبداد لم يقم بما يسمح بتحييد الثقافة الدينية، بل على العكس قوّاها ومكّنها، مراءاةً أو تدليساً وربما غباءً. لن نكرر هنا ما صار معروفا من غزل النظام للثقافة الإسلامية بشتى طبقاتها حتى الجهادية التي جعل لها موقعا متقدما في البلاد تنشر منه وتنتشر. لكن هذه لم تكن “الخدمة” الوحيدة التي يقدمها النظام للتشدد. فهو باستخدامه المفرط، بل قل الأسطوري، للعنفِ أيقظ العنفَ المرَوّض في نفوس المتدينين ودفعهم دفعا إلى تفعيله في ما أصبح، في نظرهم، بمثابة صراع للدفاع عن الوجود.
رد الفعل هذا على عنف النظام لا يختلف، في جوهره وفي آليات بروزه، عن ارتكاس المتدينين والأصوليين على ممارسات الغربيين في بعض القضايا ذات التأثير العميق في حياتهم. فالظلم الذي عانته ولا تزال تعانيه بعض الشعوب ذات الأغلبية المسلمة من أفغانستان إلى العراق وبشكل خاص في فلسطين حيث تنتهك إسرائيل حقوق الإنسان نهارا جهارا بلا حسيب ولا رقيب، لا يمكنها إلا أن تثير حفيظة المتدينين وتدفعهم إلى الميل نحو الطرف العنيف من مرجعياتهم الثقافية.
إن الثقافة الدينية ليست عنيفة بالمطلق، ولا رحيمة بالمطلق. لكنها إن حظيت بسياسة دنيوية ديمقراطية رحيمة وعاقلة، صارت رحيمة وتعقّلت، وإن تعثّرت بسياسات استبدادية واستكبارية صارت استبدادية وأطلقت العنف الكامن فيها. لذا فالسؤال الصحيح أمام ظاهرة التكفيريين المجرمين ليس: “مِن أين جاؤوا؟” وإنما “مَن جدّ واجتهد حتى يظهروا؟”
—————————-
=====================