هل ستقتل العلوم العصبية الرواية؟/ أوستن آلن
ترجمة: لطفية الدليمي
كلّ الأعمال الروائية تتعامل في جوهرها العميق مع لغز الشخصية/ Character. دعونا نتخيّلْ ما الذي سيحدث لو أنّ العلم فكّك ـ أو على الاقلّ شارك في تفكيك ـ مغاليق هذا اللغز؟
كتبت فيرجينيا وولف مرّة: “عانت الشخصية الانسانية تغيّرًا جوهريًا في ديسمبر/ كانون أوّل عام 1910، أو قرابة ذلك التأريخ”. إنها ملاحظة لا تخلو من الغموض المقصود؛ لكنّ وولف كانت تشيرُ على نحو عام يخلو من التخصيص إلى موجة من الحداثة الثقافية التي سئمت العالَم المستكين ـ المكتفي بنفسه ـ الذي ساد أوروبا أواخر القرن التاسع عشر ـ ذلك العالَمُ الذي لاحت أولى تباشير تشظّيه إلى عالم متصدّع قريبًا من التأريخ الذي حدّدته وولف. كانت العناوين الرئيسية لهذا العالم الجديد: فرويد، آينشتاين، بيكاسو، الحرب العالمية الأولى(1).
تفكّرتُ مليًا في عبارة وولف في شهر ديسمبر الماضي (الحديث يجري في عام 2011، المترجمة) عندما قرأتُ مقالة في صحيفة نيويورك تايمز بشأن مسعى أحد علماء الأعصاب لوضع خريطة عصبية للدماغ البشري بكلّ ارتباطاته الشبكيّة المعقّدة. هذا السعي ليس سوى أحد الجهود المثابرة الأخيرة في ثورة علمية ترمي لفهم الذات/ The Self، ومن المقدّر لهذه الثورة الجديدة أن تدفع الثورة الأدبية التي أحدثها فرويد أشواطًا إلى الخلف لتبقيها مركونة هناك في ذاكرة التاريخ المنسيّة. أتساءل بعدما يقاربُ القرن من تصريح وولف التاريخي: هل بتنا نشهدُ بوادر ثورة ثقافية أعظم من الثورة التي أحدثها فرويد ومعاصروه من مفجّري الثورة الحداثية؟
الآثار المترتّبة على الثورة الثقافية الجديدة التي لم تزل في أطوار النشأة الأولى صارت تلقي بظلالها الكثيفة على العقل، أو في أقلّ تقدير ـ وعلى نحو أكثر تحديدًا ـ صارت تمارسُ سلطتها الطاغية على الفص الجبهي/ Frontal Lobe من الدماغ البشري. بات من البديهي أن نتساءل ونحنُ في خضمّ اللجّة العالية لهذه الثورة: كيف يمكنُ لأدبيات عصبية خاصة بالدوافع البشرية ومحكومة بالحتمية المسبّبة أن تغيّر آراءنا الجوهرية بشأن (الذنب/ Guilt)/ أو (البراءة/ Innocence) أمام القانون؟ كيف يمكنُ للفهم الدقيق على المستوى الجزيئي لما يحصل في خلايانا الدماغية (ما يسمّى البيولوجيا العصبية/Neurobiology) أثناء الانجذاب العاطفي لشخصٍ ما أن يعيد تشكيل أنماط الارتباط البشري؟ (أظنُّ أنّ هذا الفهم الدقيق سيشعلُ ما يشبه سباق تسلّح بين الشركات المصنّعة للعقاقير). ربما السؤال الأكثر جوهرية وأهمية من منظور رؤية وولف: كيف يمكن للمعرفة العلمية الدقيقة بكيفية عمل أدمغتنا أن تغيّر ذائقتنا الأدبية وطريقة تعاطينا مع ممارسة الأدب؟
كلّ الأعمال الروائية تتأسّسُ في جوهرها العميق على الطبيعة الملغّزة للشخصية البشرية. تتجلّى متعة الكتابة الروائية (التخييلية) في أعاليها القصية في ثلاث مهمّات: الأولى هي تحليلُ الكيفية التي يحصل بموجبها السلوك الانساني. الثانية هي التأمّلُ في جذور الدافعية المسبّبة لهذه الأنماط من السلوك؛ أما الثالثة والأعلى مقامًا بين كلّ المهمّات الثلاث فهي مساءلة واستكشاف الأفعال البشرية. هنا من البديهي أن نتساءل في هذا الطور من الارتقاء البشري: ما الذي سيحصلُ لعالم الأدب (الكتابة الروائية بالتخصيص) لو أنّ العلم ساهم بشكل رئيسي في الكشف عن طبيعة المهمّتين الأوليّتيْن، وقلّل من مشروعية المهمّة الثالثة (بمعنى أنّ الأفعال البشرية صارت تعزى بكليتها إلى تفاعلات كيميائية دماغية تنتج أفعالًا منقادة للحتمية البيولوجية؛ الأمر الذي ينسفُ فكرة الارادة الحرّة، المترجمة).
في مقالته الموسومة “نشأة الرواية العصبية/ Rise of the Neuronovel” والمنشورة في مطبوعة (n + 1) وصف ماركو روث/ Marco Roth العلوم العصبية بأنها “الوحش…. الذي يطاردُ الرواية المعاصرة”. يمضي روث أبعد في مقالته عندما يحدّدُ تضاريس ذلك المدّ الذي استمرّ لعقديْن من تضمين المرجعيات المستمدّة من الأدبيات العصبية في أعمال روائيين أمثال: جونثان ليثيم/ Jonathan Lethem، ريتشارد باورز/ Richard Powers، إيان ماكيوان/ Ian McEwan. هذا التوجّه قدّم لنا عددًا ليس بالقليل من روايات تطفح بشخصيات تعاني إعتلالات عصبية مشخّصة (متلازمات/ Syndromes في غالب الأحوال)؛ بل حتى أنّ الراوي الرئيسي في رواية ماكيوان المسمّاة “سبت/ Saturday/ هو اختصاصي طبي يمتهن الجراحة العصبية.
يجادلُ روث في مقالته السابقة، وبطريقة شديدة المهارة، أن الرواية العصبية حلّت محلّ الرواية النفسية (السيكولوجية): الشخصيات الروائية (ومن خلفها مؤلّفوها) التي اعتادت التفكير من قبلُ في سياق مفردات فرويدية مثل العصاب/ Neuroses، والطاقات الجنسية/ Libidos باتت الآن تتحدث عن الخلايا الدبقية الدماغية Glial Cells، والوصلات العصبية Synapses، ومستويات السيروتونين الدماغية. الدكتور بيروني/ Dr. Perowne في رواية “سبت” هو النظير الحديث للمعالج النفسي دك دايفر/ Dick Diver في رواية “رقيقٌ هو الليل/ Tender Is the Night2)”: الاثنان يُقَدَّمان لنا كسفراء ممثلين للكشوفات الأكثر حداثة في العلم وقت كتابتهما؛ ولكن بالرغم من هذه الحداثة المشتركة فإنّ المنحى الفرويدي في التفكير والمقاربة الإنسانية حمل دومًا نفحة أسطورية، وفي المقابل فإنّ العلوم العصبية فاقت الفكر الفرويدي مرّات عديدة من حيث التعقيد والدقّة. خَلُصَ روث إلى أنّنا نواجه في وقتنا الحاضر “فقدان الذات”، وأنّ “الرواية العصبية ـ التي تبدو للوهلة الاولى وكأنها توسعةٌ لتخوم المملكة الأدبية ـ إنما هي في حقيقتها علامة إضافية على النطاقات المتراجعة للصنعة الروائية (التقليدية)”. تبدو هذه العبارات المستلّة من مقالة روث جيّاشة بالمشاعر؛ لكنّي مع هذا أظنُّ أنها تبالغُ في تعظيم الانقلاب الحاصل في الممارسة الروائية. الرواية ستبقى كما كانت في شكلها الأوّلي على الرغم من أنّ بعضًا من المفردات النقدية والميتافيزيقية في القاموس الروائي ستعاني إنزياحات مفاهيمية كبرى لن تخفى على العقل المتبصّر.
ساهم علم النفس الارتقائي في الكشف عن بعض جوانب الغموض في لغز الشخصية الإنسانية مستعينًا بالطبيعة البشرية الجمعية، وبهذا الفعل فقد ساهم علم النفس هذا في المساعدة على بيان الأسباب الكامنة وراء ظواهر عديدة، منها مثلًا: لماذا يميلُ البشر غريزيًا لتكوين مجتمعاتٍ تتسمُ بتراتبية بيّنة؟ أو لماذا تختلف ميول النساء والرجال في طبيعة توجهاتهم الجنسية؟ عِلْمُ النفس العصبي سيساهم بالتأكيد في الكشف عن بعض جوانب هذه الظواهر الجمعية الملغّزة مستعينًا بالشخصية الإنسانية المفردة. عندما يتحسّنُ فهمنا لهذه الظواهر فإنّ رؤيتنا لها ستتقدّمُ هي الأخرى، ولن تبقى ماكثة في الأطر القديمة. أعتقدُ بصورة متعاظمة أنّ الأمر سيغدو أكثر مشقّة في أن نقرن صفة (الشرير) ـ ولو بالمعنى الميتافيزيقي ـ بِـ جاسون كومبسون/ Jason Compson، بطل رواية فوكنر المعروفة. سنكفُّ عن النظر إلى جاسون كومبسون باعتباره هوية غاضبة تملّكها الإحباط الشامل حدّ اليأس، أو أداة من أدوات النظام الأبوي (البطريركي) القمعي؛ بل سنميلُ للقناعة بأنّ سلوك كومبسون ليس أكثر من عطب ما في القشرة الدماغية الجبهية الأمامية. دعونا لا نغفل أنّ التوصيف الأخير يُسمّي الأشياء بمسمّياتها العلمية الدقيقة؛ في حين أنّ التوصيفات الأولى جنحت إلى شكل من أشكال الاستعارة/ Metaphor.
في الوقت ذاته الذي نحكي فيه عن انزياحات محسوبة في الرواية، أعتقدُ أنّ الذاتية/ Subjectivity ستظلُّ دومًا الخصيصة الأولى المميزة لكلّ منشط فني أو أدبي. إيضاحُ حالةٍ شخصيةٍ ليس أمرًا مكافئًا للتعبير عن تلك الحالة. قد يستطيعُ عالِمُ أعصاب أن يخبرك على وجه الدقّة ما الذي يحصل في دماغه عندما يحدّقُ في أوراق خريفية؛ لكنّه على الأغلب سيعجز عن وصفها بالأوراق “الصفراء، والسوداء، والشاحبة، وتلك المصطبغة بحمرة مشتعلة” كما فعل بيرسي شيللي. ثمة أمرٌ آخر: أن يفهم أحد الأشخاص ما يجري بدماغه على نحوٍ من التفصيل الدقيق لا يعني بالضرورة امتلاك هذا الشخص للوسائل، أو الإرادة، لتغيير رؤيته، أو سلوكه. هذا يعني أنّ المأساة والملهاة البشرية لن تختفيا في أيّ وقت قريب (وكذلك لن تختفي المفارقة الساخرة/ Irony). هل ثمّة من يتملّكه الشكّ في أنّ معرفتنا بعمل الدماغ البشري كلّما تعاظمت فلن نُعْدَمَ اختلاق طرق غبية غير متوقّعة البتّة في استخدامها؟
عانى الأدب العصبي تبعاتِ مأساة كبرى في الحياة الحقيقية قبل ثلاث سنوات (أي عام 2008، المترجمة)، عندما ارتكب ديفيد فوستر والاس/David Foster Wallace فعل الانتحار الناجم عن معاناة اكتئابية طويلة. المعروفُ عن والاس أنه استكشف في أعماله المنشورة الدماغ البشري مستعينًا بأفضل وأحدث المفردات العلمية المتاحة حينها، وأظنُّ انتحار والاس سيبقى تذكرة مُرّة لنا بأنْ لا نحنُ، ولاعقاقيرنا النفسية، نعرف كلّ شيء بشأن الدماغ، وطالما ظلت منطقة المجهول الدماغي حقيقة ماثلة أمامنا فلن تخفت مكانة الرواية في عالمنا. مَنْ ذا الذي يمكنه معرفة الأشكال الجديدة التي ستتقمّصها الرواية في السنوات القادمة؟
هوامش المترجمة:
1 ـ في وسع القارئ الشغوف الرجوع إلى كتابي المترجم “تطوّر الرواية الحديثة” لمؤلفه البروفيسور جيسي ماتز ، والمنشور عن دار المدى عام 2015، للحصول على رؤية شاملة بشأن بواكير الحداثة الأدبية، ومساهمة فيرجينيا وولف فيها. الفصل الأول من الكتاب وعنوانه (أية حداثة؟) يتناول رؤى طائفة من الروائيات والروائيين للحداثة الروائية ومساهماتهم فيها.
2 ـ رواية “رقيقٌ هو الليل” للروائي سكوت فيتزجيرالد نشرها عام 1934، وقد نشرتها دار المدى مترجمة إلى العربية بعنوان “… والليل رقيق”.
أوستن آلن/ Austin Allen: يعمل محررًا لمشروع Poetry Genius، كما عمل محرّرًا سابقًا في موقع Big Think. حصل على شهادة الماجستير في الفنون الجميلة MFA في الشعر من جامعة جونز هوبكنز، حيث سبق له العمل فيها محاضرًا في مادة الكتابة الإبداعية. يقيم في مدينة نيويورك.
نشر آلن موضوعه المترجم أعلاه في موقع Big Think بتاريخ 17 نوفمبر/ تشرين ثاني 2011 بعنوان:
Will Neuroscience Kill the Novel
رابط المادة:
https://bigthink.com/surprising-science/will-neuroscience-kill-the-novel/
المترجم: لطفية الدليمي