في نقد المنظمات غير الحكومية/ باسل. ف. صالح
ينحو العالم بأكمله إلى مقاربات، ومنطق، وطابع منهجيات عمل المنظمات غير الحكومية. الأمر لم يعد محكوماً بمؤسسةٍ من هنا أو منظمات من هناك. بل إن أرفع الحملات السياسية، وأعتى الحروب العسكرية، بات يديرها مثل هذا العقل. كما وأن أشدّ المنافسات الانتخابية إيغالاً في السياسة، في مغرب الأرض ومشرقها، باتت أنموذجاً مكثّفاً عن عملية إعادة تدوير العالم في منظور ومصانع المنظمات غير الحكومية، وفق علبها التصويرية التي تهيمن على كيفية إدراك وتلقف عالم اليوم، وصولاً إلى مصادرتها لإمكانات القول في العالم. فكأن العالم بأكمله بات منظمة غير حكومية كبيرة تنقسم كل آليات التمويل وحركة إعادة إنتاج الأنظمة في معاملها. بحيث لم تعد حركة المال، بجزئها الأكبر، إلا نتيجة مصادر تمويلاتٍ متعدّدةٍ متخطية للحدود، لهذا النوع من المؤسسات ولهذا النوع من الوظائفية المجتمعية والسياسية، ليس على المستويات الإعلامية فحسب، ولا بهدف المحاولات المستمرّة لتسطيح القضايا المحلية والإصلاحية والتغييرية أيضاً، بل حتى في المستويات السياسية والاجتماعية العامة، وعلى مستوى القضايا الأكثر إلحاحاً داخل الدول وخارجها، وصولاً إلى العلاقات الخارجية والدولية المتمثلة بالعلاقات بين المنظمات غير الحكومية، والعلاقات بين الأحزاب والحكومات والوزارات أيضاً، إلخ.
ليس عمل المنظمات غير الحكومية مجرّد جزء ضئيل تُمارَس فيه هذه الوجهات الوظائفية أو تلك، بل هي رؤى ومناهج وآليات عمل تتخطى الاسترزاق وإنتاج المال وتحصيل القوت اليومي، كذلك فإنها باتت وجهة نظر تهيمن على جميع وجهات النظر الأخرى، وجهة تعمل على قولبة كل شيء وكل موضوع.
لا يقتصر الأمر على هذا الحد، بل إن التشييء والتسليع والتجزيء منهجيات لم تعد مجرّد انعكاس لآليات محض عملانية، كذلك لم تعد مجرّد سلوكيات تجاه الآخرين والأشياء والقضايا، وتجاه الطبيعة والحدث السياسي، بل أيديولوجيّة تهيمن على جزءٍ غير يسير من العمل السياسي، ومن تموضعات طبقية تهيمن على الانخراط في مستويات الصراع الاجتماعي والسياسي والأيديولوجي داخل الدول وخارجها. فتُحاول المنظمات غير الحكومية، بكل طاقاتها، إثبات أن الصراع ليس صراعاً اجتماعياً سياسياً، بعد أن تنزعه من المقاربات السياسية الطبقية لتبقيه قشرة خارجية مجرّدة تخفي كل مصانع ومعامل الصراعات الكامنة في قلب المجتمع، وهذا أخطر أنواع الأدلجة التي يمكن أن يصادفها المرء، أو يمكن أن تصادفها أية مجموعة ناشطة سياسياً.
إلا أن كل ما ذُكر أعلاه لا يبرر ذهاب بعضهم في غلوّه إلى التعامل مع المنظمات غير الحكومية بوصفها طبقة من خارج المجتمع، طبقة مُسقَطة على المجتمع من خارج آليات إعادة إنتاجه وتدويره ودينامياته. كأن المنظمات غير الحكومية جماعة بشرية معيارها الوحيد كسب المال بمعزل عن مقاربة القضايا ذاتها. وكأنها جماعة تشكّل كياناً وسياقاً خاصاً بذاته يأتي من الفضاء الخارجي، أو من كوكبٍ آخر غريب ومنعزل عن كل قضايا الاشتباك، ما يصوّر المنظمات غير حكومية كجماعة وشريحة بشرية مجرّدة تطل وفق منطق المناسبات التمويلية على المجتمعات، ولا تعمل على مصادرة وجهات النظر التي تفكّر في هذه المجتمعات. بل تصل أحياناً إلى تصويرها وكأنها وجهة نظر منفصلة قائمة بذاتها تهيم فوق المجتمع والسياسة، وفوق كل معمل من معامل الشأن العام، حيث تتبلور في سلوكيات تسقط كيفما وأينما كان وعلى مختلف القضايا والسياقات.
باختصار، ينظر هؤلاء إلى المنظمات غير الحكومية وكأنها مجموعة لها سلوك واحد ومنفصل بشكل مستمرّ بالنظر إلى القضايا، أو بالأحرى، ينظر بعضهم إليها وكأنها سلوكٌ تحوّل ليصبح قضية ومعياراً محصوراً فقط بكيفية الحصول على التمويل من دون إلحاح القضايا وراهنيتها.
أزمة وجهة النظر هذه أنها تختزل الصراع الاجتماعي مع هذه المنظمات بالمجمل، وتقلّل من حدته. وقد تصل إلى حد تبرئة تلك المنظمات، وإنْ بغير قصد، وإن كان الهدف اتهامها. لذلك، يحكم هذه النظرة تصوّر قاصر بدوره، تصوّر ناتج من افتقاد تعيين حدود الاشتباك اليومي مع النظام ومؤسّساته، وعن اختزال الصراع مع السلطة لتنطلق من أرضية نظامها السلطوية ومن مصادرة الواقع ونمط علاقات القوّة التي تشكّله. لأن النظر بهذه المنهجية فوق التاريخية، والجوهرانية بالنظر إلى المنظمات غير الحكومية، هي نظرة إلى تلك المنظمات من منطلقاتها الجوهرانية نفسها، من أرضيّتها، والتفكير فيها بمفرداتها وبنمط علاقاتها ذاته.
لذلك، تحكم هذا النوع من النقد لتلك المنظمات نظرة كميّة لتلك المنظمات، لكنها تلتزم مقاربتها الكيفية للواقع بوصفه آلية اختزان إمكانات هائلة محصورة بالحصول على تمويل، من دون العمل على الكشف عن دورها كمنظمات ليس في مصادرة النظر إلى الواقع فحسب، بل في إعادة إنتاجه من داخله أيضاً، ومن دون العمل على فضح دورها في إعادة تثبيت بنية الواقع من داخل لعبة النظام نفسها، أي من داخل إمكانات الطبقات الحاكمة ومعاملها على المستويين المحلي والعالمي.
القصور في النظر إلى تلك المنظمات من موقع المختلف طبقياً وسياسياً واقتصادياً، من أرضية وأفق مختلفين، ينبع من قصور ما في التموضع. لأن نقد هذه المنظمات لن يكون علمياً مجدياً إلا انطلاقاً من نقد موقعها داخل النظامين، العالمي والمحلي، ومن تموضعها فيهما. هو القصور عن الاشتباك معها بكل ما للكلمة من معنى، وهذا الارتباك في التموضع تقودُه منهجيات لا تاريخية وفوق سياسية لا تفترق كثيراً عن نظرة المنظمات غير الحكومية ذاتها، تلك التي تقتصر على التفكير في كيفية الخرق من دون إحداث أي تغيير، ومن دون رسم أي مشروع لكل إمكانات وضروريات وأبعاد القفز خارج البنى الهشّة والعفنة والمدمَّرة السائدة.