عبد الله حنا: مفتاح التاريخ هو فهم التوزيع العادل للثروة
رائد وحش
للحديث مع المؤرخ السوري عبد الله حنا نكهته الخاصة، لا سيما في لحظة التيه التي نعيشها، فبصيرته التاريخية تتوقّد في فهمها السياقي، وتُمكّننا من تشكيل صورة عن المقدمات المنطقية التي أوصلتنا إلى هذه المتاهة.
هو شاهد أصيل عايش العديد من الأحداث التاريخية السورية منذ استقلالها وحتى يومنا هذا، بما تتضمنه هذه المساحة الزمنية الواسعة من آمال وأحلام وخيبات ومآسٍ.
أتاحت له الحياة فرصة بناء منظور طوليّ، نتيجة معايشة عقود التغيير السياسي والاجتماعي في سوريا، ما سمح له بتتبع مختلف الاتجاهات طويلة المدى، ورصد التحولات في بعديها الجماعي والفردي، وبسبب هذا كله تجيب كتبه على الكثير من الأسئلة حول وقائع البلاد وتحولات أهلها، حول الأرض والبشر، حول البيت وساكنيه.
عبد الله حنا من مواليد بلدة دير عطية عام 1932، نال شهادة الدكتوراه في التاريخ من جامعة لايبزغ عام 1965، عمل في حقل التدريس الثانوي بعدما سدّت الجامعات السورية أبوابها في وجهه بسبب توجهاته اليسارية. وقد تخصص هذا الكاتب بتاريخ الفلاحين وحركات العمال في سورية،
من كتبه العديدة: “الحركة العمالية في سورية ولبنان”، و”دراسات ميدانية عن حياة الفلاحين ونضالهم خلال النصف الأول من القرن العشرين”، و” عبد الرحمن الشهبندر”، و”العامية والانتفاضات الفلاحية في جبل حوران”، و”المرشدية في محيطها العلوي وأجواؤها السياسية والاجتماعية”، و”صور من حياة مجتمعات سورية القرن العشرين (جمعها الدارسون في المعهد النقابي بدمشق)”، و”صفحات من تاريخ الأحزاب السياسية في سورية القرن العشرين وأجواؤها الاجتماعية”.
كيف بدأ اهتمامك بالتاريخ؟ ما شكل البدايات الأولى؟
أنا فلاح ابن فلاح. بلدتي هي دير عطية في ريف دمشق. ودير عطية ذات ملكيات صغيرة، يعمل أهلها في الزراعة المروية والبعلية وتربية الأغنام والماعز في البراري الواسعة والممتدة شرقًا إلى البادية. حياة “الفلوحية” جزء لا يتجزأ من حياتي حتى تَخَرّجِي عام 1958 من الجامعة السورية أيام عزها. ومعنى ذلك أنّ اهتمامي بالتاريخ الاجتماعي وبخاصة الفلاحي لا يقتصر على البحث الأكاديمي فحسب، بل هو نابع من حياة الطفولة والشباب الفلاحية من جهة، وأجواء الفكر السياسي المتنوع، الذي عرفته دير عطية في عهد مُبكرّ، وهذا ما تناولته في كتابي عن تاريخها الصادر بعنوان: “ديرعطية التاريخ والعمران”. ولهذا تناولت بدايات كتابتي ما يمكن أن نسميه “الأرضية الاقتصادية الاجتماعية” وبنيتها الفوقية بتجلياتها الثقافية وحياتها السياسية.
عبد الله حنا: اهتمامي بالتاريخ الاجتماعي لا يقتصر على البحث الأكاديمي فحسب، بل هو نابع من حياة الطفولة والشباب الفلاحية وأجواء الفكر السياسي المتنوع الذي عرفته في عهد مُبكرّ
بدأتَ منذ مدة بكتابة مراجعة لمحطات من حياتك، لكنك توقفت فجأة. لماذا لم تكملها؟ ولمَ لمْ تطرح ما كتبته كسيرة الذاتية؟
هذه المراجعة، كما أحببت أن تسميها، هي ليست سيرة ذاتية بل هي تصوير مقتضب لأزهى مرحلة من مراحل تاريخ سوريا الحديث. ففي منتصف القرن العشرين بلغت الحركة الوطنية العربية قمة النهوض التنويري ولامست إحدى ذرى الثورة الاجتماعية نتيجة ما جرى من إصلاحات زراعية في كل من مصر وسوريا والعراق زعزعت أعمدة الإقطاعية، ورفعت بالحركة الفلاحية إلى مستوى المساواة الاجتماعية في كثير من الأرياف العربية. وعلينا ألا ننسى تأميم الرأسمال، الكبير نسبيًّا، دون أن تكون هناك ضرورة اقتصادية للتأميم. وكان هدف التأميم سياسيًّا لتسديد السهام للبورجوازية، التي لم تكن آنذاك حجر عثرة أمام التقدم، والعكس هو الصحيح.
عدم الاستمرار في كتابة مراحل حياتي مردّه إلى كسل الشيخوخة أولًا، وعدم أهمية المراحل اللاحقة بالنسبة لي وربما للقارئ.
وصلت عمر التسعين، ما يعني أنك عشت معظم فصول التاريخ السوري الحديث، فهل كانت لديك توقعات أو هواجس حول انهيار مشابه للذي وصلنا إليه الآن؟
في سن الشباب والأحلام الثورية كان التصور السائد أن الوحدة العربية بمضامينها الديمقراطية تدق أبواب العديد من المجتمعات العربية. ولكن صلف الفكر القومي الشوفيني المتعجرف أجهض التطور النهضوي للمجتمعات العرية السائرة نحو التحضّر، وعرقل عملية السير نحو وحدة عربية ديمقراطية. وعدم تحقيق أحلام إقامة مجتمع عربي ديمقراطي ترفرف في سمائه رايات الاشتراكية، لا تزال تعكّر صفو ساعات الاختلاء مع نفسي.
ما سر اهتمامك الكبير بعد الرحمن الشهبندر؟
كان الشهبندر علمًا نهضويًّا بارزًا في دمشق وبلاد الشام، وشخصية ثقافية علمانية لها مكانتها في مجتمع سعى الشهبندر للنهوض به وتقليص دور الخرافات السائدة بين العامة. ولهذا سددت له القوى الظلامية في حزيران 1941 رصاصة الغدر للخلاص من شخصية تحمل علم الأنوار لتبديد ظلمات العصور العثمانية والمملوكية المهيمنة على عقول العامة. وقد قمت بعرض أعمال الشهبندر وتتبعت سيرة حياته وثمرة جهوده في كتاب صدر في دمشق بعنوان “عبد الرحمن الشهبندر علم نهضوي ورجل الوطنية والتحرر الفكري”. وجاء إهداء الكتاب على النحو التالي :”إلى زوجتي سكريد ينسن، التي حملتني للكتابة عن الشهبندر دفاعًا عن حرية الفكر”. نحتاج أن نخصص مساحة خاصة حول الشهبندر ودوره الوطني والنهضوي في النصف الأول من القرن العشرين. وأتمنى أن يكون رمزًا من رموز النهوض العربي المقبل.
هل يمكنك مشاركة بعض التحديات التي واجهتها أثناء إجراء المقابلات الميدانية مع الفلاحين؟ كيف تخطيت الحواجز الثقافية واللغوية أثناء بحثك؟ ولا ننسى طبعًا المأساة التي حدثت لكتابك حول المسألة الزراعية وتاريخ الفلاحين في سوريا.
من أبرز مراحل حياتي الثقافية تدوين الحركة الفلاحية في بلاد الشام ابتداءً من الحكم العثماني بداية القرن السادس عشر إلى يومنا الحالي. فبتاريخ 11 – 7 – 1984 بدأت جولاتنا الميدانية من محافظة دير الزور، مرورًا بجميع المحافظات السورية، وانتهت في محافظة القنيطرة أواخر أيلول 1985. وقد أسهم الاتحاد العام للفلاحين في سوريا بتقديم سيارة وسائق وخبير مثقف بالأرياف السورية، هو إسماعيل عيسى، الذي كان له دور في نجاح الجولات الميدانية، التي استمرت سنة ونصف. بلغ عدد الأشخاص الذين التقينا بهم 303 أشخاص قدموا لنا معلومات عن 245 قرية عاشوا فيها، كما زودونا بمعلومات عن عدد آخر من القرى، التي عاشوا فيها ردحًا من الزمن.
وقد اعتمدت خطتنا العامة في الجولات الميدانية على التنويع والتعرف على أوضاع الفلاحين، ابتداءً من قرى الملكيات الكبيرة، وانتهاء بالقرى ذات الملكيات الصغيرة المحدودة. كما توخيّنا قدر الإمكان التنويع الجغرافي والتوزّع السكاني وأخذ عيّنات من مختلف التجمعات السكانية.
كان الخط العام المتبع أثناء الجولات، الاستماع بالدرجة الأولى إلى أحاديث الفلاحين المسنين، الذين عاشوا مع الأحداث ولا يزالون يتمتعون بذاكرة جيدة وذهن متوقد. وفي كثير من الأحيان استمعنا إلى فلاحين شباب رَووا ما سمعوه عن “الشيّاب”، أي المسنين من أقربائهم.
وكان المنهج المتبع للحصول على المعلومات من الفلاحين المسنين يعتمد على الخطوط التالية:
– الاطلاع من الفلاح المتحدث على حياة جده وغيره من المسنين الذين عاشوا في زمنه، وعلى هذا الأساس تمكنا من معرفة حياة القرية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
– الاطلاع من الفلاح المتحدث على عمل والده ومن في عمره. وهكذا كان بإمكاننا معرفة أوضاع القرية في أواخر القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين.
– تقصّي حياة الفلاح المتحدث منذ بلغ سن الوعي وبخاصة معرفة وضعه عندما “تعرّف على أم العيال” أي زوجته، وهو في عمر يقارب العشرين. والسؤال عن “أم العيال” كان يفتح قلب المتحدث لإعطاء أية معلومة يختزنها في ذاكرته.
– متابعة التكاثر السكاني في الريف عن طريق معرفة عدد الأطفال الذين أنجبهم جد المتحدث وعمل كل منهم. ثمّ تسجيل عدد الأطفال، الذين أنجبهم والد المتحدث وعمل كل منهم، وأخيرًا معرفة عدد الأطفال الأحياء، الذين أنجبهم المتحدث وأين يعملون وكيف. وعلى هذا النحو أمكننا التعرف على حياة وتكاثر أربعة أجيال، بدءًا بجد المتحدث ومرورًا بأبيه وبه وانتهاء بأولاده.
– ومع الأسف لم نبدأ بلقاء الفلاحات المسنّات إلّا في المراحل الأخيرة من الجولة الميدانية. وكنا نلاحظ أن المرأة أكثر حذرًا من الرجل في إعطاء المعلومات، ولكنها أفضل منه في تقديم المعلومات الدقيقة المتعلقة بالحياة المنزلية.
وكانت أصعب مهمة أثناء الكتابة فيما بعد هي كيفية نقل الكلام المروي إلى نص مكتوب متبعًا ما يلي: لم أسجل اللقاء على آلة تسجيل “كاسيت”. فقد تبيّن لي أن المتحدث عندما يرى آلة التسجيل تتغير مواقفه من البوح بكل ما يعرف، ويحاول التصنّع أحيانًا والتفكير بماذا يتكلم.
قدر الإمكان سعيت أن ألتقي بالمتحدث منفردًا لوحده. إذ أن وجود مستمعين كثيرًا ما يدفعه لعدم الحديث عن كل شيء أمام أقاربه أو أصدقائه الحاضرين.
اعتمدت على تسجيل “كتابة” ما يقوله المتحدث على دفتر أدون عليه ما أرى أنه هام للبحث.
غالبا ما دوّنت على دفتري ما تحدث به المتكلم بلغته العامية وتعابيره.
ولهذا فإن لغة نصوص المرويات هي لغة مزيج بين اللهجات العامية التي كنت أنقلها عن المتحدث واللغة المفصّحة، التي استخدمتها كي يبقى النص قريبًا من روحية كلام المتحدث. وبمعنى آخر فإن لغة النص هي في معظمها لغتي المتحركة تحت سقف محتوى كلام المتحدث وما أراد البوح به. كما حرصت حرصًا شديدًا على استخدام كلمات المتحدث، وأحيانًا تعابيره، أثناء الصياغة.
ونؤكد أن المحتوى العام للقاء مستمد من أفكار المتحدث والإضافات التوضيحية مني. وهي كما ذكرت حصيلة مصادر مكتوبة أو معارف جمعتها خلال عمري الطويل في البحث والدراسات الميدانية.
علاوة على ذلك أنا ابن فلاح، كما قلت بداية، وعشت جزءًا من حياتي مع الفلاحين وسكان الريف. وقد وظّفت معرفتي وخبرتي في توجيه الأسئلة إلى المتحدث، وفي صياغة حصيلة أو خلاصة اللقاء معه، وتوضيح ما هو ضروري كي يفهم القارئ محتوى الحديث. وكثيرًا ما قدمت توضيحًا عن حياة الفلاح المتحدث مستمدًا من الانطباعات التي كونتها عنه أثناء اللقاء به.
كثيرًا ما كتبت اللقاء، أو جزءًا منه، بما يعرف بـ”العامي المفصّح”. ومن هنا جاءت اللغة المكتوبة وكأن فيها خللًا نتيجة الكتابة بهذه الطريقة من جهة، وحرصي على نقل الكلمات والألفاظ واللغة التي استخدمها المتحدث من جهة أخرى. وأحيانًا استخدمت اللغة الفصحى البعيدة عن لغة المتحدث عندما يتعلق الأمر بالتوضيح والشرح والتحليل لأفكار المتحدث.
غالبًا ما قمت بتوضيح ظروف المنطقة، التي عاش فيها الفلاح المتحدث، وعرض بعض جوانب تاريخها لتسهيل فهم ما رواه الفلاح المتحدث.
لمَ غاب الاهتمام بحياة وتاريخ مدن ومجتمعات سوريا إلى درجة تجعل من معرفة ذلك شديدة الصعوبة؟ هل كان السوريون بحاجة إلى ثورة وحرب كي يعرفوا بلدهم؟
لا أعتقد أن رأيك صائب في غياب الحديث عن التاريخ المحلي للمدن السورية. فالمكتبة العربية تزخر بدراسات متنوعة حول التاريخ المحلي للمدن السورية وبعض أريافها. والداعي عبد الله حنا نشر في هذا الميدان الكتب والمخطوطات التالية ذات الارتباط بالتاريخ المحلي، وهي: ” تحركات العامة الدمشقية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر” طُبع ورقيًّا في دمشق 1995، و”تحركات العامة الحلبية” وهو لا يزال مخطوطًا، ولكنني نشرت معظمه كدراسات. و”العامية والانتفاضات الفلاحية في جبل حوران” المعروف بجبل الدروز وعاصمته السويداء. وكتاب “دير عطية التاريخ والعمران، من الوقف الذري إلى المجتمع المدني” من إصدار المعهد الفرنسي بدمشق 2002، وهناك كتاب صدر 1936 ليوسف خنشت أفاض في شرح تاريخ النبك القلمون وقامت وزارة الثقافة بطبعه ثانية، بتحقيقي وتقديمي.
لماذا لم تكن كتابة التاريخ المحلي واسعة الانتشار في سوريا كما هو الحال في بلدان عربية أخرى؟
ليس لديّ معطيات لتأكيد أو نفي رأيك. وما أعرفه أن كثيرين تناولوا التاريخ المحلي. واللافت أن عددًا من شيوخ العشائر موّلوا بعض الكتَبَة للإشادة بهم وبعشائرهم. ويستطيع المؤرخ الاستناد بحذر على هذه المؤلفات.
تتمتع سوريا بتاريخ غني، وتنوع عرقي وديني وطائفي؛ كيف تتعامل مع مهمة تمثيل هذا التنوع في بحوثك وكتاباتك؟ وهل ساهمت أعمالك في فهم أفضل لمعاناة وتجارب المجتمعات السورية المهمشة؟
التنوع العرقي والديني والطائفي ظاهرة بارزة في الوضع السوري ولنقل بلاد الشام. ولكن هذه الظواهر كانت تطفو على السطح في معظم الأحيان وتخبُ أحيانًا أخرى وبخاصة في منتصف القرن العشرين حيث ساد شعار: ” الدين لله والوطن للجميع “.
وقد أولتْ أبحاثي اهتمامًا خاصًا لنمو الوعي الوطني في منتصف القرن العشرين، والتأكيد على البنية الاقتصادية – الاجتماعية للمجتمعات العربية التي يهملها الكثيرون، وإلقاء الأضواء على الإرهاصات الرأسمالية المحلية، التي حملت بذور التوحيد الوطني.
ولا أدري مدى تأثير ما ألّفته، وفي تقديري لم يكن واسعًا، لأن الأيدلوجيات ما قبل الوطنية وكذلك اليمينية وقفت حائلًا دون الانتشار الواسع للتحليل الماركسي، الذي نهجته، وهو في نظري حجر الزاوية لفهم مجريات الأمور.
كيف يمكن للبحث التاريخي أن يساعد في تعزيز فهم مشترك لماضي بلد ما بما يقود للمصالحة بين فئاته المختلفة؟
البحث التاريخي ليس موحدًا لفهم الماضي وتحليله. فثمة مناهج متنوعة ومتضاربة في كثير من الأحيان. ونال السائر على المنهج الماركسي عبد الله حنا مقاومة ضارية من التيارات الظلامية واليمينية، ولهذا، كما أظن كان انتشار ما دوّنه ليس واسعًا. أما سؤالك حول ما أسميته “تحقيق المصالحة” فهذا موضوع بحاجة إلى دراسة خاصة. ولكن لا بدّ من الإشارة إلى أنّ المصالحة المجتمعية تبقى وهمًا، إذا لم يجر توزيع عادل للثروة وفق مبدأ: من كل حسب عمله ولك حسب إنتاجه. وأؤكد إلى أن مفتاح فهم التاريخ مرتبط ارتباطًا وثيقًا بمسألة التوزيع العادل للثروة.
عبد الله حنا: تاريخ سوريا مرّ بمراحل متنوعة، وتدوينه عليه أن يكون أمينًا في نقل ما جرى بعجره وبجره. وعلى المؤرخ أن يقوم بالتحليل وكشف خلفيات الأحداث التاريخية
هل تعتقد أن توثيق وكتابة تاريخ سوريا يمكن أن يساهم في تعزيز الوحدة والتفاهم بين مكوناتها المتنوعة؟ وكيف يمكن للبحوث التاريخية أن تُفيد في المناقشات الاجتماعية والسياسية الحالية.
تاريخ سوريا مرّ بمراحل متنوعة، وتدوينه عليه أن يكون أمينًا في نقل ما جرى بعجره وبجره. ومن ثمّ على المؤرخ أن يقوم بالتحليل وكشف خلفيات الأحداث التاريخية. وهنا تبدأ الصعوبة في كيفية تحليل الأحداث وبعضها ليس في صالح الوحدة الوطنية، التي تعنيها ولا تخدم التفاهم والوئام. وبعبارة ثانية هل علينا أن نزوّر التاريخ في سبيل هدف نبيل، أم نعرضه كما جرى، ثمّ نقوم بنقده في سبيل الغاية المنشودة. فالتاريخ سلاح ذو حدين ويتوقف على المؤرخ كيفية التعاطي في استخدام التاريخ للسير في طريق الوحدة الوطنية.
هل توجد أنساق معينة لقراءة المجتمع السوري الذي بات الآن مجتمعات، بحكم تمزّقه المكاني والهوياتي؟
طبعًا توجد مناهج متعددة وأحيانًا متناقضة في تناول الأحداث التاريخية، وكل يغني على ليلاه وما يحمله من إيديولوجيات تتحكم بمعالجته للقضايا المتنوعة. والحديث عن سوريا الممزقة والمستباحة حديث مأسوي لا أريد الدخول في دهاليزه كي لا أنكأ جروحي مما جرى من مآسٍ.
كيف تشكلت الدولة الأمنية في سوريا، كونك كنت شاهدًا، بل وضحية مباشرة منذ مرحلة المكتب الثاني وحتى يومنا؟
مرت الدولة السورية المستقلة بمراحل مختلفة، إلى أن أطبقت عليها الخناق حبال الدولة الأمنية في سبعينيات القرن العشرين وما تلاها. وفي رأينا أن عوامل عديدة أسهمت في قيام الدولة الأمنية وانتعاشها، نشير هنا إلى واحدة منها وهي الاقتصاد الريعي، ودوره في صعود كلٍ من الإسلام السياسي والدولة الأمنية. إن ظاهرتي: صعود تيارات الإسلام السياسي وتحكم الدولة الأمنية بمصائر البلاد والعباد يعود في حيّز كبير منه، كما نرى، إلى هيمنة الاقتصاد الريعي على معظم الأقطار العربية.
وجرى الأمر نفسه بالنسبة لأكثرية المثقفين، الذين تحوّلوا إلى مثقفي السلطان (أو فقهاء السلطان) يتغنون بفضائله. أما ما تبقى من المثقفين فكان مصيره كما كتب عام 1909في جريدة المقتبس النهضوي الدمشقي صلاح الدين القاسمي: “لم يبق أمام العلماء إلا الصمت أو مغادرة البلاد”.
هكذا خسر اليسار القاعدة الشعبية التي كان يستند إليها مما دفع بعض قيادات تلك الحركة إلى السير في ركاب من بيدهم الجاه والسلطان والمال. ومَنْ احتجّ ورفع الصوت عاليًا فكان مصيره معروفًا وزبانية الدولة الأمنية يستضيفونه في فنادقهم المجهزة بكل وسائل “الإقناع”.
بكلمة مختصرة أسهم “القطاع العام”، قطاع الدولة، بدور كبير في ترسيخ دعائم الدولة الأمنية وفي سحب البساط من تحت أقدام اليسار، الذي أُلقيت على كواهله مسؤولية فشل القطاع العام.
كمؤرخ سوري كيف تقرأ تجربة حزب البعث في حكم سوريا؟
سعى البعث منذ نشأته للتوغل في صفوف الضباط، وسار زعيم البعث الثاني أكرم الحوراني على النهج نفسه، ومن هنا جاءت العلاقة بين حزب البعث العربي الاشتراكي والعسكر أو قسم منهم. وهنا لا بدّ من توطئة في دور العساكر وركوبهم قطار “البعث” في انقلاب 8 آذار 1963.
بدأ الحكم العسكري في سوريا مع انقلاب حسني الزعيم في آذار 1949 مُنْهِيًا الحكم الوطني والبرلماني برئاسة شكري القوتلي. وبعد انقلاب الزعيم جرى انقلابان عسكريان آخران تخللهما وأعقبهما حكم برلماني شارك فيه عدة أحزاب من اليمين واليسار. وجاء الانقلاب العسكري في أيلول 1961 لينهي عهد الجمهورية العربية المتحدة ويأتي إلى الحكم بالأحزاب، التي تواجدت قبل قيام الوحدة. أما انقلاب 8 آذار 1963 العسكري، الذي أطاح بحكم الأحزاب فإنه اتخذ من حزب البعث مظلة لتغطية الحكم العسكري، الذي رسّخ دعائم الدولة الأمنية الممتدة جذورها إلى أيام الوحدة بين سوريا ومصر عام 1959
وبعد فشل العسكر في التحرير حلّ محلهم ” لتحرير فلسطين ” زعماء الأصوليات الدينية وفقهائها مستفيدين من جملة عوامل داخلية وخارجية لكسب جماهير واسعة مستاءة من حكم العسكر وتهفوا بأبصارها إلى من يوصلها إلى قارب النجاة. ويتساوى زعماء الأصوليات الدينية هؤلاء مع العسكر باستخدام وسائل الضغط والإكراه والتضييق على الحريات وهم يبزون العساكر في تغيِبهم للعقل والتدخل في كل صغيرة وكبيرة من شؤون البشر. وكأن قدر العالم العربي الانتقال من استبداد العساكر إلى استبداد الأصوليات الدينية، وتذهب هباء منثورًا جهود دعاة النهضة العربية والتنوير الإسلامي.
واللافت أن مجموعة العساكر البعثية (أو التي ادعت أنها بعثية) بنواتها المتكتلة أثناء نفيها إلى مصر وتسمت بـ”اللجنة العسكرية” تعاونت مع كل من القيادة القومية (عفلق) باتجاهها اليميني والقطريين باتجاههم اليساري الصاخب في بعض مراحله. وشيئًا فشيئًا قلّص العساكر من نفوذ كل من البعث القومي والبعث القطري وكسبوا إلى جانبهم عناصر مدنية دخلت في خدمة العسكر، ولهذا أطلق بعضهم عليهم اسم “حمير العسكر”. ولم يكن قادة العسكر متحدين بل كانوا يُصفّون بعضهم بعضًا بالانقلاب حينًا، وبالاغتيال أحيانًا. ولم يتوان بعض قادة العسكر من استخدام أسلحة الطائفية والعشائرية والعائلية والمناطقية لكسب الأنصار وهزم المنافسين أو المعارضين
وفي خضمّ هذه الصراعات وما يحيط بها من أوضاع دولية اتصفت بازدياد شعبية الاشتراكية وصعود مكانة الاتحاد السوفيتي. كسب اليسار جولة فكرية في المؤتمر القومي السادس 1956 لحزب البعث بتوجيه من الماركسي ياسين الحافظ، وأهم ما في منطلقات المؤتمر السادس الدعوة للسير في “الطريق العربي إلى الاشتراكية “. وجاءت حركة 23 شباط 1966 العسكرية لتزيح البعث القومي نهائيًّا من السلطة وتسير خطوات متسارعة على أنغام موسيقى اليسار وألحان العداء للإمبريالية وربيبتها الصهيونية.
عبد الله حنا: الهزيمة العسكرية التي مُني بها الجيش السوري في حرب حزيران/يونيو 1967 واحتلال اسرائيل للجولان إضافة إلى الضفة الغربية وسيناء أسهمت في إضعاف اليسار البعثي
ظنّ القائد الفعلي للحكم البعثي اليساري صلاح جديد أن حزب البعث، الذي أولاه اهتمامًا خاصًا وعقد عليه الآمال، سيحميه من منافسه قائد القوى الجوية ووزير الدفاع بالوكالة حافظ الأسد. ولكن أكثرية أعضاء الحزب الموالية لصلاح جديد وخطّه (في الاعتماد على قوى الحزب المدنية) سرعان ما تراجعت عندما تبيّن لها انحياز معظم قادة القطعات العسكرية إلى حافظ الأسد حيث جرى الانقلاب العسكري دون إراقة دماء. وأطلق أنصار حافظ الأسد على حركته اسم “الحركة التصحيحية”. وأخذ من سار مع الأسد قناعة أو من انضمّ إليه انتهازية بسبب نجاحه في انقلابه العسكري، يسبّحون بحمد “الحركة التصحيحية التي قادها الرفيق المناضل حافظ الأسد” وهم يتغنون “بعطاءاتها”، دون الإشارة إلى مصدر هذه العطاءات المالي وهو الدولار النفطي المتدفق من السعودية ودول الخليج لدعم حكم الأسد “قاهر اليسار” والمرضي عنه أمريكيًّا. لم يسر جميع أعضاء حزب البعث مع النظام الجديد. فالمخلصون لمبادئهم لم يرفعوا راية الاستسلام وكان نصيبهم الاعتقال والسجن دون محاكمة لمدد وصل بعضها إلى أكثر من خمس عشرة سنة.
ونذكر هنا على سبيل المثال رئيس الدولة قبل انقلاب تشرين، نور الدين الأتاسي، الذي ذاق مرارة سجن تدمر وهو طالب جامعي أيام حكم أديب الشيشكلي عام 1953 ولهذا لم ترهبه السجون منسجمًا مع قناعاته رافضًا الاستقالة من منصبه. ولم ينكس نور الدين الأتاسي راية النضال التي اعتنقها وتوفي في السجن بعد أن أمضى فيه ردحًا طويلًا. والمصير نفسه، أي الموت في السجن دون محاكمة لاقاه صلاح جديد، الذي كما سمعت من كثيرين أنه أراد بناء حزب مبدئي انضباطي ولم يستخدم نفوذه للحصول على أيّ امتياز بعكس كثير من ضباط الجيش من أقرانه.
وهكذا نرى بأن يساريي البعث ما كادوا يلتقطون أنفاسهم بعد إزاحتهم للبعث القومي وعساكره في 23 شباط 1966 وهم يحلمون ببناء مجتمع عربي اشتراكي موحد حتى عاجلتهم حركة حافظ الأسد العسكرية في تشرين 1970. وقد كانت وراء نجاح حركة حافظ الأسد عوامل كثيرة أهمها: استياء البورجوازية التجارية وخوفها من سياسة يساريي البعث وضجيجهم ودعوتهم لحرق المراحل وإقامة “الاشتراكية”. ولهذا فعندما نجح انقلاب حافظ الأسد رفع تجار سوق الحميدية اللافتات المؤيدة للانقلاب، الذي سُمِي “الحركة التصحيحية”. وأذكر منها نص اللافتة التالية: “طلبنا من الله المدد فأرسل لنا حافظ الأسد”. ويمكن القول إن الكتل السنية الميسورة سارت مع الأسد آملة في تحقيق أمرين: كسر شوكة العلمانية التي اتبعها البعث والخلاص من “الاشتراكية”، التي سار عليها الحكم المزاح من الأسد.
وعدم ارتياح الاتحاد السوفييتي من ضجيج اليسار البعثي وما يمكن أن يجلبه من مشكلات وإحراجات لسياسته وتعقيداتها الدولية. والدول العربية وبخاصة النفطية منها، التي نظرت بعين القلق إلى السياسة اليسارية البعثية وأصبح لها مصلحة في الخلاص منها. ولهذا أغدقت الأموال لمساعدة النظام بما يتناسب مع مصالحها.
ليست لدينا معطيات عن موقف الولايات المتحدة من نظام الأسد الجديد. ولكن المعروف أن قسمًا من كوادر النظام وحواشيه كان يرنو بأبصاره إلى عواصم الدول الغربية وأفئدته تحلق في سماء شوارعها وهو يودِع أرصدته في البنوك الأوروبية والأمريكية، دون أن ينسى الصراخ الأجوف بمعاداة الامبريالية والصهيونية.
الهزيمة العسكرية التي مُني بها الجيش السوري في حرب حزيران/يونيو 1967 واحتلال إسرائيل للجولان إضافة إلى الضفة الغربية وسيناء أسهمت في إضعاف اليسار البعثي.
لكن لا بد من القول إن السنوات الأولى من حكم البعث تميّزت بإجراء سلسلة من التأميمات للرأسمال الكبير (والأمر نسبي) وإصدار قوانين الإصلاح الزراعي وتوزيع أراضي كبار الملاك على الفلاحين.
فبعد تأميم البنوك في عام 1963 جرت سلسلة من التأميمات في سنتي 1964 و1965 تناولت القطاعات الصناعية الرئيسية. وهكذا أصبح القطاع العام، القطاع الرئيسي في الصناعة. كما ظهرت عام 1965 إلى الوجود شركة للاستيراد والتصدير (سيمكس)، التي خلّصت البلاد من احتكار التجار الكبار.
وأول قانون للإصلاح الزراعي صدر عام 1958 في عهد الوحدة. وجاء برلمان “الانفصال”، الذي حجّم قانون 1958، وحاول إعادة بعض الأراضي الموزّعة. ولكنّ الضغط الجماهيري الفلاحي أعاد بالمرسوم رقم 2 العمل بقانون عام 1958.
بعد استلام حزب البعث العربي الاشتراكي للسلطة صدر عام 1963 المرسوم رقم 88 مخفضًّا سقف الملكية الزراعية. وتلاه مرسوم آخر صدر عام 1966 سرّع في عملية الاستيلاء على أراضي المشمولين بالإصلاح الزراعي، أي الإقطاعيين، وسهّل عملية توزيعها على الفلاحين المنتفعين، مما أسهم في بداية زوال ملاك الأرض الإقطاعيين، الذين لعبوا أدوارًا بارزةً في الأحزاب السابقة كالكتلة الوطنية والحزب الوطني وحزب الشعب. فبعد ضرب المواقع الرئيسية للبرجوازية الكبيرة (نسبيًا) وتحجيم طبقة ملاك الأرض بفضل قوانين الإصلاح الزراعي تعاظم دور الفئات الوسطى في المدينة والريف، التي رفدتها في الستينات وأوائل السبعينات أعداد تقل أو تكثر من الفئات الدنيا، التي احتلت أيضًا مواقع في أجهزة السلطة.
هكذا تمتعت “البرجوازية الصغيرة” في ستينات القرن العشرين بمواقع اقتصادية واجتماعية وفكرية وسياسية هامة.
اتصفت حركة انقلاب السادس عشر من تشرين الثاني لعام 1970 باستمراريتها وتشيِّدها للهياكل الأساسية للبنى التحتية الضرورية للتنمية وأهمها: شبكة طرق متطورة وواسعة وصلت إلى أقاصي المعمورة، وشبكة كهرباء امتدت إلى أعماق الريف، واتساع العمران في المدن والأرياف، وإشادة أبنية التعليم بمختلف مراحله من الابتدائي حتى الجامعي، وإقامة السدود وشبكات الري واتساع رقعة الأرض المروية، وازدياد عدد المستشفيات والأسرّة وتحسن الوضع الصحي للمواطنين، وتطور قطاع الصناعات الاستخراجية والتحويلية، وبروز دور القطاع العام في بناء الاقتصاد الوطني، مع دور واضح للقطاعين الخاص والتعاوني.
عبد الله حنا: أسهم “القطاع العام”، قطاع الدولة، بدور كبير في ترسيخ دعائم الدولة الأمنية وفي سحب البساط من تحت أقدام اليسار، الذي أُلقيت على كواهله مسؤولية فشل القطاع العام
ولكن السؤال المطروح هو: هل واكب أو أعقب وضع أسس هذه البنية التحتية الضرورية للتنمية ظهور بنى فوقية بإمكانها السير في طريق التنمية؟ وهل ظهرت أجيال بإمكانها أن تشق الطريق إلى نهضة عربية جديدة تتخذ من العقلانية ديدنًا لها؟
هذان السؤالان وغيرهما نترك الإجابة عليهما إلى مؤرخي المستقبل. هذا مع العلم أن مشاهداتي الشخصية لم تر تغيّرًا عميقًا وظهور بنى فوقية جديدة.
في أوقات الصراع، يجري التلاعب بالروايات التاريخية من أجل خدمة أجندات معينة. كيف تضمن أن يظل عملك موضوعيًا ويعمل كجسر لتعزيز السلم الأهلي؟
مع الأسف أن عملي التأريخي متواضع، وليس له التأثير المطلوب، رغم أنه حاز اهتمام الكثيرين من المتطلعين إلى بناء مجتمع جديد. فتزوير التاريخ وطمس حقائقه هو ديدن قسم كبير من المهيمنين على التاريخ العربي. وعلى الرغم من هذه الهيمنة اليمينية، فإن أضواء عدد من المؤرخين كشفت الظلمة وأنارت واقع حقب من التاريخ العربي والإسلامي، التي نعتزّ بها.
ألا تخشى من أن يُكتب تاريخ طائفيّ لسوريا على خلفية التشظي الحالي؟
الخشية في محلها. فثمة مؤلفات كثيرة مكتوبة بروح المذهبية أو الطائفية، وبعضها يجعل من القبلية والعشائرية محور الأحداث، التي شهدها التاريخ العربي والاسلامي وهما مترابطين ترابطًا ملحوظًا.
كيف تتعامل مع الكتابة التاريخية لإنصاف تجارب ووجهات نظر من عانوا؟
قدر المستطاع فإمكاناتي محدودة ولست حاكمًا يصول ويجول. ولكن أملي بالمستقبل كبير، الذي لا بدّ أن ينصف المظلومين
الترا صوت