البلوط العتيق”… فقراء سوريا وبريطانيا متشابهون/ كفاح زيني
“
22.02.2024
فيلم “البلوط العتيق”، يطرح القضية السورية بارتباط سياسي محلي أوروبي، وهي المحاولات النادرة في السينما التي تتناول سوريا أو تنتمي إليها منذ 2011، والأمر الأكثر إثارة للإعجاب في الفيلم هو قدرته على إعطاء كرامة متساوية للقضيتين.
عقب انتهاء جائحة كورونا عام 2022، سافرت ممثلات سوريات عدة إلى بريطانيا لتقديم تجربة أداء لفيلم المخرج كين لوتش الجديد، حينها لم يعرف أحد من الممثلين أو النقاد شيئاً عن قصة الفيلم أو عنوانه، لكنهم قالوا إنه فيلم عن “السوريين”.
حتى لحظة عرض الفيلم، بقي الجمهور مترصداً الصورة التي سيظهر بها السوريون، بخاصة أنها ستكون من صناعة مخرج أوروبي بعيار كين لوتش.
الرهان كان على أن أفلاماً بهذا الثقل، لن تقدم أنماطاً ثقافية مكرسة، وستتجاوز السرد الدعائي للحكاية السورية الى ما هو أكثر تعقيداً في ما يشمل قضايا الهجرة والاندماج.
لم تنجح الممثلات المقيمات في سوريا اللواتي شاركن في تجارب الأداء بإقناع لوتش بالمشاركة في فيلمه، وعوضاً عنهن اختار مجموعة من اللاجئين السوريين الحقيقيين لأداء شخصيات الفيلم، في محاولة للاقتراب من الصورة التوثيقية قدر الإمكان –وهذا ليس غريباً عنه- فاستقرّ على الممثلة إيبلا مرعي، السورية المقيمة في الجولان، لأداء دور البطولة، علماً أنها تدخل عالم السينما للمرة الأولى في حياتها.
ثلاثية سينمائية لمواجهة اليمين البريطاني
قبل صدور الفيلم، أثيرت شائعات كثيرة باعتباره المحطة الأخيرة في مسيرة لوتش البالغ 87 عاماً، بشكل مشابه لما حدث قبل عقد من الزمن عندما كثرت الأقاويل عن اعتزاله الإخراج.
ظهرت هذه الأقاويل مع سلسلة جديدة من رؤساء الوزراء الجدد المحافظين في بريطانيا – كان كل منهم أكثر مراوغة ووسطية من سابقه- قرر لوتش اليساري حينها أن لديه المزيد ليقوله، فأنتج بالشراكة مع الكاتب بول لافيرتي فيلمين حول قضايا محلية بريطانية، لا نجدها عادة في شريط الأخبار، ليثبت مجدداً أنه صانع أفلام تخصّ المهمشين، وأن السينما بإمكانها التدخل فعلياً في العالم السياسي.
بدأت عودته مع فيلم “أنا دانيال بليك” عام 2016، الذي تحدى فيه نظام الرعاية الاجتماعي القاسي التي تنتهجه حكومة المحافظين، وبالفعل تمت مناقشة الفيلم في البرلمان البريطاني، وتم إحضار لوتش إلى برامج المناقشة السياسية المتلفزة.
أعاد الكرّة عام 2019 في فيلم “آسف… لقد افتقدناك”، الذي يعالج قضية انعدام الأمن في الوظائف المؤقتة، ويعتبر الكثير من النقاد حالياً فيلم “البلوط القديم” استكمالاً لثلاثيته في مواجهة اليمين البريطاني، إذ إنه ليس فيلماً معنياً بالعنصرية والمأساة السورية بشكل مباشر وبكائي، بل يطرح ملف اللجوء السوري ضمن سياق الأزمة الاقتصادية التي تعيشها مدن شمال شرقي إنكلترا ومرحلة ما بعد الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، ليبحث في جذور الأزمة السياسية البريطانية.
لا يقرأ لوتش قضية اللجوء السورية من بوابة صراع الثقافات والصورة النمطية للعربي المسلم، فسؤال الهوية ليس مفصلاً أساسياً في طرحه، وعوضاً عن ذلك يشرح أزمة كراهية اللاجئين من منظور اقتصادي ورؤية اشتراكية، ليقول إن ما يجمع فقراء سوريا وبريطانيا هو أكثر متانة وصدق مما يجمع الفقراء والأغنياء البريطانيين.
التجربة المأساوية تخلق التضامن
يفتتح الفيلم مشاهده بوصول حافلة تقل عدداً من العائلات السورية في بلدة شمال شرقي إنكلترا (كما يتبين في اللهجة)، يصطف في انتظارها سكان البلدة ليقذفوا اللاجئين بوابل من الشتائم فور نزولهم، ويصل الأمر الى اعتداء أحد سكان البلدة –يرتدي قميص نادي نيوكاسل يونايتد- على (يارا- إيبلا مرعي) المصورة الفوتوغرافية اللاجئة، كاسراً الكاميرا الخاصة بها.
يشهد الحادثة (تي جي-ديف تورنر) صاحب الحانة الوحيدة في القرية والمتعاطف مع اللاجئين، ليقدم كاميرته إلى يارا عوضاً عن تلك التي تحطمت.
تنشأ صداقة بين الاثنين على أساس تاريخ مأساوي مشترك؛ يارا الهاربة من الحرب السورية، التي تركت أباها مختفياً داخل سجون النظام، و(تي جي) الأرمل سليل التراث النقابي العمالي، الذي يعاني من مقاطعة ابنه له.
يدفع الوعي المأساوي الشخصيتين الى التعاون معاً لإعادة بعث مفهوم التضامن مجدداً في البلدة، وتبدأ بذرة المشروع خلال زيارة (يارا) لحانة (تي جي) ودخولها الغرفة الخلفية للحانة، والتي كانت أشبه بمركز للعمال النقابيين سابقاً.
ترى يارا على الجدران مجموعة صور فوتوغرافية توثق احتجاجات عمال مناجم الفحم في أوائل الثمانينات ضد قوانين حكومة مارغريت تاتشر، التي نصت على إغلاق المناجم وتسريح العمال، وبالفعل تولد نوستالجيا التضامن لدى (تي جي) الذي يجد سبباً للحياة بعدما كان على حافة الانتحار.
الاضطهاد يفسد الضحايا
يواجه (تي جي) أهالي البلدة الناقمين على السوريين الذين يعتاشون على نفقات الحكومة البريطانية، علماً أنهم يعانون من أزمة مالية خانقة بسبب انهيار أسعار المنازل في البلدة بعدما اشترتها بعض المؤسسات التجارية وأجّرتها للحكومة لإسكان اللاجئين.
يحاول لوتش رسم أسباب العنصرية التي يمارسها المُضطهِد على المُضطهَد، فتراه يحلل السياق الاقتصادي المتداعي للطبقة الدنيا بعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بل ويعود إلى جذر انهيار الطبقة المسحوقة الناقمة في الثمانينات، إبان قوانين حكومة تاتشر بإغلاق مناجم الفحم وحل النقابات وترك مدن تعدين الفحم من دون صناعات بديلة ورميها في مستنقع الفقر.
بطل الفيلم يرى أن الحل كان في استمرار تضامن العمال أثناء الاحتجاج الذي تفكك لاحقاً، ومن هنا يبدو التضامن هو الحل أيضاً في أزمة اللجوء.
يوجه (تي جي توجيه) نداء من ركام الأزمة لأجل التضامن، وهذه المرة ليس بين العمال البريطانيين فقط، بل بينهم وبين اللاجئين السوريين أيضاً، فهو لا يهاجم “البائسين” العنصريين من الطبقة العاملة البيضاء، على العكس تماماً، إنه يفكر عالمياً ويتصرف محلياً، ويعاملهم بتعاطف هم نفس ضحاياهم. وقد وضعتهم قوى السوق والمصالح الجيوسياسية في نفس موقف الوافدين السوريين البائسين الذين تم تشجيعهم على كرههم حتى يشعروا بالرضا عن أنفسهم. فمثلما تم سحق العمال يتم سحق المهاجرين حالياً.
تصبح لحظة التضامن هي النقطة العالية والنقطة المنخفضة، إنها اللحظة المهمة سياسياً وعاطفياً، ويجب أن تنتهي بنصر حالم على عكس ما جرى في الثمانينات. وهي دعوة جديدة إلى تضامن بين الثقافات والطبقات.
خطة التضامن لدى يارا و(تي جي) تبدأ من فكرة بسيطة مفادها: “لنأكل سوياً”، هذه الصورة الشعرية خطرت على بالهم عندما رأت يارا صوراً للعمال المحتجين يأكلون سوياً في الحانة أثناء الاحتجاجات. وبالفعل، يبدأ المشروع بهدف جمع السوريين والبريطانيين الفقراء سوياً وتقديم الطعام لهم على مائدة واحدة في الصالة الخلفية للحانة.
لا تروق هذه المبادرة لأهالي القرية وزوار الحانة، الذين طلبوا من (تي جي) أن يؤجرهم الصالة الخلفية لكي يعقدوا اجتماعاتهم بهدف مواجهة السوريين. لكن (تي جي) يتخلى عنهم لأجل أن ينضم إلى قضيتهم، وهنا المفارقة.
آخر فرسان السينما السياسيّة
يستخدم الفيلم استعارات ناعمة على رغم تناول السرد مآسيَ كبيرة، ولكنها لا تقدم باستعارات فاقعة ومدوية، فالتنمر الذي يمارسه سكان القرية على اللاجئين ليس قاسياً جداً أو استثنائياً، ولا يقارن بمقاطع الريلز العنصرية. إذ يحاول الفيلم قراءة السياسي أكثر من استدراج التعاطف، وهذا ما يميزه عن بقية الأفلام التي تناقش قضايا كهذه.
وعبر هذا المنظور، نرى بعض الحوارات تتحول الى خطاب سياسي، ويصبح لسان بعض الشخصيات هو لسان كين لوتش، ولكن على رغم ذلك يمدنا الفيلم بمشاهد جميلة جداً، وذات حرفية عالية، ولا يكتفي بالطرح المؤدلج والأسلوب التوثيقي.
يقدّم لحظتين كثيفتين جداً؛ الأولى عندما تقوم يارا بإسعاف فتاة بريطانية إلى منزلها إثر نوبة انخفاض في سكر الدم، لا نجد في المنزل سوى الأخ الصغير، لتقوم يارا بالبحث عن شيء ما تطعمه للفتاة لإنقاذها. وفي هذه الأثناء، تحضر الأم لتنصدم بوجود يارا وهي تفتش في المنزل فتقوم بطردها وتتهمها باللصوصية. وكثافة المعنى في المشهد هي أن ثلاجة العائلة كانت فارغة تماماً عندما فتّشتها يارا.
اللحظة الثانية نرى فيها الملحد (تي جي) والمسلمة (يارا) يزوران كاتدرائية دورهام، وما يمثله المبنى من الناحية اللاهوتية لا يتردد صداه لدى أي منهما، لكنهما متأثران بعظمته على رغم ذلك، لتحكي يارا عن المباني التاريخية في بلدها والتي تم تدميرها في الصراع.
لم يكن السرد في الفيلم معقداً، كما أن الشخصيات في معظمها كانت ثنائية الأبعاد، وحتى الرئيسية منها، فقد وصل رسم شخصية يارا إلى حد القداسة بابتسامتها الدائمة، وعينيها الدامعتين، وربما ميزتها التي جعلت منها الناطقة باسم اللاجئين هي إتقانها اللغة الإنكليزية. لكن في المقابل، كانت شخصية (تي جي) أكثر تعقيداً، إذ إننا أمام رجل ثوري لا يمتلك المفردات، ولا الثقة في التعبير عن مشاعره. وبعض اللحظات الأكثر تأثيراً في الفيلم كانت أثناء جلوسه عند عائلة يارا لتناول الطعام وصمته المحرج أمام الإيماءات اللطيفة. وفي الجهة المعاكسة أيضاً، صمته البركاني أمام أصدقائه في الحانة الذين يسخرون منه.
أثناء رحلة البطلين لتوحيد القرية، يضحيان بوسائل دفاعهما الوحيدة، يارا تستمر في لطفها المبالغ فيه على رغم فقدان كاميرتها، من دون أن تحقد على المجتمع، و(تي جي) يخسر كلبته، صديقته الوحيدة، التي تفترسها كلاب البيتبول التي تقودها مجموعة من مراهقي البلدة، وعلى رغم ذلك يستمر في مشروعه الذي ينجح في نهاية المطاف.
محاولة يارا وتي جي ليست جديدة تماماً، لكن نضالهما لتوحيد السكان، يكمن في قراءته ضمن سياق اشتعال الخطاب المناهض للهجرة في بريطانيا واستمرار تكاليف المعيشة في الارتفاع ونجاح اليمين المتطرف في شق طريقه إلى السلطة ودفع الناس إلى الكراهية.
القضية السورية في سياق أوروبي محلّي
فيلم البلوط العتيق، يطرح القضية السورية بارتباط سياسي محلي أوروبي، وهي المحاولات النادرة في السينما التي تتناول سوريا أو تنتمي إليها منذ 2011، والأمر الأكثر إثارة للإعجاب في الفيلم هو قدرته على إعطاء كرامة متساوية لكلتَي القضيتين، بحيث تمكن من التحدث بشكل مؤثر عن السيناريو السياسي للقضايا الحالية في بريطانيا والتنقيب في أسباب الصراع الكبير على إيواء اللاجئين وما يكتسبونه من مساعدات حكومية.
كين لوتش هو مخرج أفلام كان مدفوعاً منذ فترة طويلة بإحساسه بالسخط، يدفع غضبه الشديد في قصصه حول الهياكل الاجتماعية التي تتأرجح على حافة الخراب، والأشخاص الذين يكافحون لبناء حياة كريمة داخل تلك الشقوق، ما يضفي عليهم الإلحاح والتأثر والعزيمة الفولاذية.
كل فيلم من أفلامه بمثابة دعوة الى الاستيقاظ لجمهور معتاد على المرارة والكراهية. يدعوهم إلى الاهتمام والاستماع، وبهذا عزز مكانته عبر العقود باعتباره سلفاً للواقعية الاجتماعية. وستكون خسارة كبيرة لصناعة الأفلام إن كان “البلوط القديم” هو فيلمه الأخير، فنحن نفتقد مخرجين مثله بشدة في العصر الذي نعيشه. لكن ستكون لحظة شاعرية جداً لوداعه، إذ نسمع نداءه المتفائل والحالم في عالم افترسته الرأسمالية.
– كاتب ومسرحي سوري
درج