هل يوجد شعب سوري؟… قرِّروا/ منذر مصري
12 يناير 2024
سقط سهوًا
أذكر أنه، ما قبل 2011، نادرًا ما انصبت حواراتنا حول الشعب السوري، خصائصه وصفاته، أو حول دوره في الحياة السياسية السورية ما بعد الاستقلال، أو ما بعد انقلاب 8 آذار/ مارس 1963. وكأنه كان شيئًا معطى، بديهيًّا، لا يستحق أن نضيع الوقت الثمين في الحديث عنه، نحن الذين كنا نتكلم لساعات طويلة عمّا هبّ ودبّ! ربما لأن كلمة (شعب) عمومًا كان ينظر إليها كمفردة شعبوية أفرغها الاستهلاك الإعلامي الرسمي والسياسي من أي معنى حقيقي مهما كان مصدره. إلّا أنه يمكن رصد عدد من الآراء التي كانت تذكر في سياق النقاشات المتنوعة التي كانت تثار حينها، سأحاول إيرادها بتسلسل منطقي ما أمكنني: الشعب السوري عبارة عن جماعات شديدة التباين، متضاربة المصالح، ومتنابذة دينيًّا وطائفيًّا وقوميّا وطبقيًّا ومناطقيًّا، يجمعها كيان سياسي مختلق ومؤسس من قبل الاستعمار الفرنسي. السوريون يولدون ويعيشون ويموتون في بلد لا يعترف لهم بحق المواطنة، أي ليسوا مواطنين، بل رعايا وأتباع و… أفراد قطيع. الشعب السوري فاسد لأنه تربَّى في بلد قائم على الفساد. وصولًا إلى تلك الخلاصة القديمة أن الشعب السوري غير مهيأ للحصول على الحرية والديمقراطية، وأن القوة، السلطة المركزية القوية، هي الطريقة المثلى، إن لم تكن الطريقة الوحيدة، لحكمه. ثم عندما لاحت تباشير الربيع العربي، فإن الذين لم يصدقوا أن السوريين سوف يحذون حذو إخوتهم التونسيين والمصريين والليبيين، وينزلون إلى الشوارع! كانوا يجدون حجتهم بأن الشعب السوري يحيا ويقتات على الخوف، فلا يؤمل منه ولا يعول عليه في ثورة.
اقتسموا ثيابه مقترعين عليها
إلّا أنه في بداية 2011، جاء من نزع عن الحاكي هذه الأسطوانة المكسورة، وشغّل أخرى ذات أغان جديدة بكلمات وألحان لم يكن قد سمعها أحد من قبل. فصار ذلك الشعب اليتيم الهزيل المريض، الابن الذي يتنازع عليه ويشده من يديه ورجليه آباء وأمهات ومربيات وخادمات وخدم بالكاد يمكن إحصاؤهم، هذا إذا كان هناك سبيل لمعرفتهم جميعهم! نعم، الشعب الميؤوس منه، الذي ينطبق عليه المثل الذي كان يردّده قريب لي كان ضابطًا في الشرطة، ثم صار عامل مطعم في مالمو أقصى جنوب السويد: “عند العزايم أنطون نايم، وعند جلي الصحون قوم يا أنطون”، صار بغمضة عين: “أيها الشعب السوري العظيم”. يترنّم بها رئيس أهم تشكيل سياسي معارض 10 مرات متتالية في أوّل خطاب له موجه للشعب! كما راحت تعمّم صور بلاغية جديدة للشعب السوري، إنه خلال نصف قرن من العيش تحت قانون الطوارئ، والحزب الواحد، والقائد الواحد، أنجب صناعيين كبارًا، وفنانين تشكيليين بمستوى عالمي، وشعراء وروائيين مبرزين عربيًّا وعالميًّا، ومخرجين وممثّلين اكتسحوا المشهد الدرامي العربي بكل جدارة. كما أنجب، أخيرًا وليس آخرًا، الشباب الذين أزاحوا، بسواعدهم العزلاء، لحاف الخوف الذي كان يطبق على صدور جدودهم وآبائهم، فتظاهروا وهتفوا: “واحد واحد واحد الشعب السوري واحد”، “سنّية ومسيحية وعلوية الكل بدو حرية”، “لا للطائفية”، “سورية… منحبك”. دون أن أفوّت ذكر تلك العبارة التي كان يردّدها كنبوءة محتّمة العديدون ممّن حولي: “الشعب السوري هو من سيقرّر… الشعب السوري لن يرضى سوى…”، في الوقت الذي كان الإعلام الرسمي للسلطة بدوره يصف المطالب التي كان يهتف بها المتظاهرون بأنها مطالب شعبية محقّة، ويعد بتلبيتها. كما عمّت شوارع المدن السورية لافتات موالية خطّ عليها: “اللـه سورية وشعبي وبس”. و”نعم للشعب لا للعملاء”، “شعب واحد وطن واحد”. لاحظوا هنا لا يوجد فارق.
الشهيد والمشرّد والجائع والضائع
بعد هذا كله، إلى ماذا آل إليه الشعب السوري؟ بعد ذلك العرس الدامي، بعد أن تبيّن أن جزءًا من السوريين لا يجدون مصلحة لهم بهكذا تغيير، ولا بهكذا ثورة، بل يعدّونها تهديدًا لوجودهم. وبعد أن راح السوريون يقاتلون السوريين. وبتعبير أدق، راح السوريون يقتلون السوريين. وكل طرف منهم يدّعي أن الطرف الآخر هو من بدأ، وهو من اعتدى واستجرّ العنف! العنف الذي تبدّى في أبشع صوره لدى الأطراف السورية المتنازعة كلها، لا أحد قصّر، حتى صرنا مضرب المثل في وحشيتنا، مع أننا جميعنا نتبرأ منه! مات نصف مليون، وتهجر وتشرد عشرة ملايين! والستة عشر مليونًا من السوريين الباقين أحياء في الـ 60% من البلد تحت سيطرة النظام، فهم تحت خط الفقر في الوقت ذاته. كيف أتردّد في قول هذا ومتوسط دخل الفرد السوري هو الأدنى في العالم اليوم! ولولا المساعدات والإعانات التي تصلهم من أبنائهم وأخوتهم في الخارج لتضوروا جوعًا، وبالتأكيد نسبة كبيرة منهم الآن في هذه اللحظة جائعون! وبينما لم يتخل النظام السوري، رغم مروره بكل تلك الأزمات وفقدانه السيطرة على جزء كبير من جغرافيا البلد، وبالتالي خسارته كثيرًا من خيراتها، وربما جلّها، عن خطابه الإعلامي الرسمي منذ بداية الحدث لليوم، مهما كان تفسيرنا لهذا الخطاب وأسبابه، وبقي موالوه، رغم كل ما دفعوه من أثمان باهظة، مخلصين له ومتمسكين به ومستعدين، بغالبيتهم الساحقة، أن يتابعوا دفع مزيد ومزيد منها، راحت تتصدع جبهة المعارضين للنظام!
من دون أن أجمل معهم التنظيمات والجماعات المسلحة التي تسيطر على مساحات غير قليلة من الأراضي السورية مدعومة بقوى خارجية، فبعد اثنتي عشرة سنة من الهزائم والتراجعات والخيبات على الأصعدة كافة! كان من الصعب أن تحافظ المعارضة على تماسكها كهيئات ومجالس ومنابر، وأيضًا على تماسك خطابها السياسي والوطني. ليحلّ بدلًا عنه خطاب، أو قل خطابات تتأرجح على حبال اليأس والإحباط والضياع والتخلي وجلد الذات، يتخللها كلما وصل إلى مسامعهم صوت احتجاج أو تململ، مهما كانت صفته، ومهما كان مقداره، حتى إن كان مجرد شكوى، أمل. أمل أشبه بأمل ملاك بدخول جهنم والاستمتاع بدفئها!
كيف ينظر السوريون إلى بعضهم
أولًّا، ذلك الشرخ بين الداخل والخارج! الترصد وأخذ المواقف والتعامل بالريبة وسوء النية وتبادل الاتهامات والتخوين، لا أتكلم عن السوريين العاديين، الأهل والأخوة والأبناء، أينما كانوا، الذين أضعهم، وفي الواقع هم من وضعوا أنفسهم بكل استحقاق وجدارة، خارج وفوق كل نقد، بل عن الطيف الثقافي للمعارضة الذين أستطيع القول إنني أعرفهم جميعهم. الذين كانوا ولا يزالون يصولون ويجولون كأوصياء على الثورة السورية هنا وهناك وفي كل مكان، وإن، يا للأسف، بتواتر راح يخفّ ويتناقص مع السنين، حتى كاد يتلاشى كليًّا. قلت يا للأسف، لأنه يمكن تفسير تلاشيه بأنه قبول بما انتهت إليه الأمور، واعتراف بأنه ما عاد هنالك من نفع، أو نتيجة، للكلام، أو التظاهر، أو توقيع البيانات. فصاروا، ربما كما أفعل أنا، لا يجدون ما يكتبون عنه سوى الماضي، سوى الذكريات. وذلك بعد أن تبرّأ أكثرهم من الأهداف والشعارات التي رفعها المتظاهرون وهتفوا بها بداية الثورة، عادين أنها كانت عاطفية وانفعالية أكثر من كونها موضوعية وصحيحة، لا بل ساذجة وخاطئة! أقول هذا لمعرفتي بما يكتب من مقالات ومنشورات وتعليقات. وما كان أشدها سذاجة في رأيهم هو ذلك الشعار: “الشعب السوري واحد”، الذي مع بقية الشعارات الوطنية الجامعة ترك، كما تركت سورية مع كل شيء جميل فيها، للنظام ومواليه! ما أذكره وأنا أبتسم حزنًا الآن، ما قاله لي حكم البابا في آخر مرة التقيته بها قبل وفاته: “مشكلتي معك يا منذر أنك من جماعة الشعب السوري واحد”! فكان ردي: “صديقي… تستطيع وجميع السوريين الذين هنا في دبي، وهناك في برلين، ولندن، وكوناكري! أن ترفضوا هذا وتسخروا منه، إلّا أنه بالنسبة لي ولأمثالي الباقين داخل البلد، شرط أساسي للحياة”. واقعة أخرى شهدتها، تدلّ على نظرة السوريين لبعضهم، وكان بطلها أحد أعز أصدقائي وهو يوصلني بسيارته من الشارقة إلى دبي، فإذ بسيارة رانج سوداء خلفنا تطلق زعيقًا يصمّ الآذان، وعندما تصير بمحاذاتنا يمدّ رأسه سائقها ويصرخ بنا! لم أفهم لأي سبب. شرح صديقي كان: “لا ريب أنه سوري. لا يوجد غير السوريين يتصرّفون هكذا”! أمّا المنشور الذي سأختم به هذه الفقرة التي كان يمكنني الزج فيها بأمثلة وأدلّة من كل حدب وصوب، فهو لشخص يضع على بروفيله في فيسبوك علم الثورة الأخضر، يقول لا فضّ فوه: “شعب جاهل إذا ضربته بالصرماية الصرماية بتشكي!”. وبالتأكيد سيأتي من يقول لي: “إنه مجرّد شخص جاهل وكلامه هذا لا يعني شيئًا”، وسأوافقه!
اللغة العربية تنقذ الشعب السوري
رغبت، كي أنقل لكم تحديدًا معنى مصطلح (شعب)، أن أعود إلى كتاب (قاموس الفكر السياسي ـ 1993- وزارة الثقافة السورية) تأليف 116 مفكرًا من الاختصاصيين، ترجمة الراحل أنطون حمصي. ففوجئت أنه في كلا جزأيه الكبيرين لا يتضمّن مادة (الشعب)، بل (الشعبية)، وأحسب أنه كان يجب أن تكون (الشعبوية)، التي يعارضها النصّ بالنخبوية، ويربطها بالتوجه إلى الشعب. لكني وجدت ضالتي في موسوعة ويكيبيديا الإلكترونية، حيث تم شرح مصطلح (الشعب) بأنه: “مجموعة من الأفراد أو الأقوام يعيشون في إطار واحد من الثقافة والعادات والتقاليد ضمن مجتمع واحد وعلى أرض واحدة”. لكن اللافت في الصفحة ذاتها، فقرة (لغويًّا)، أن لفظة (شعب) باللغة العربية تفيد التفرق والتفريق كما تفيد الجمع، أي أنها تجمع الحالتين معًا، وبذلك فإن المثلبة التي تؤخذ على الشعب السوري بكونه ليس واحدًا لا تعود تضيره بشيء. بل بالعكس تفيده وتقويه، كما كنّا مصدّقين سابقًا، أنه في وطن حرّ محكوم بالدستور والقانون والعدل، تغدو هذه التعدّدية تنوّعًا ثقافيًّا وغنى إنسانيًّا للمجتمع!
وهكذا، فإن السؤال: “هل يوجد شعب سوري؟”، على إشكاليته العميقة والمعقّدة، يبدو وكأنه كان وما يزال وسوف يبقى عائدًا للسوريين أنفسهم. ما إذا كانوا يرغبون، وما إذا كانوا يستطيعون، أن يكونوا شعبًا أم لا؟ فلا يبقى عليهم سوى أن يقرروا… وقل اعملوا…
ضفة ثالثة