نصوص

الانكشاف السوري الكبير/ منذر مصري

2 فبراير 2024

1 ــ عود إلى بدء

لطالما شغلتني، أنا المتابع للحدث السوري، ومعايشه لحظة بلحظة، ليس باعتباري أحد أولئك الذين راحوا يدلون بدلائهم المثقوبة في جبّه، منذ بدايته، وربما قبلها بكثير، إلى اليوم، فحسب، بل لأني أحد الباقين، وأعتذر ممن لا يجدون في هذه الصفة أي مأثرة، بل ربما العكس، في الداخل السوري، والذين ما زالت مصائرهم الحياتية والاعتبارية مرتبطة بمصير بلدهم الذي ليس لديهم سواه ليسمّوه وطنهم، وناسهم الذين يقاسمونهم مرّ العيش وحلوه، المرّ الكثير والحلو القليل، ولا يجدون سواهم ليسمّوهم شعبهم. أقول شغلتني، وشغلت كثيرًا من المهتمين بالقضية السورية، من سوريين وعرب وغيرهم، فكرة الانكشاف السوري، التي يمكن صياغتها على شكل سؤال: ماذا تكشّف عنه الحدث السوري، الذي يختلف السوريون في تحديد كنهه، بعضهم يصدق أنه مؤامرة على النظام، أو مؤامرة على الشعب السوري، أو مؤامرة مركّبة على سورية كلها أرضًا وشعبًا ومصيرًا! وبعضهم يركب رأسه ويصرّ على أنها ثورة، ثورة شعبية، كانت وما زالت وستبقى، أعظم الثورات. غير أن أوان حصادها، لا أحد يعلم غير اللـه، متى؟

2 ــ انكشاف الشعب السوري

سبق أن كتبت في مقال يستطيع القارئ المهتم فتح رابطه أسفل هذه الصفحة (هل يوجد شعب سوري… قرّروا) ما يكفي ويزيد عن هذا الانكشاف، بحيث خلصت، إلى ما أظنه الأشد أهمية في هذا الخصوص، لذا أعود وأكرره، بأنه تبيّن أن هناك جزءًا من الشعب السوري، غير محصور كليًّا بمكون مذهبي أو قومي أو مناطقي محدد، لم يكن له مصلحة في الثورة! وكان خائفًا من أي تغيير سيأتي عن طريقها! ولم يكن ينفع معه أي منطق أخوي أو وطني ليتخطى خوفه هذا، ويرمي بنفسه في المجهول! وأحسب من الهبل، الهبل الثوري، أن تطلب من فئة ليس لها مصلحة، وترى، لأسباب أكثر من أن تحصى، في هذه الثورة تهديدًا لوجودها، أن تشارك بها، أو أن تقف على الحياد تجاهها. سمعتها من أناس كثيرين، منهم من حرصوا طوال حياتهم على أن يكونوا على مسافة من السلطة، ومن مغرياتها ومكاسبها، هذه العبارة الصريحة: “هذه حرب فرضت علينا”! منهم من كانوا قد انتموا لأحزاب معارضة ولوحقوا وسجنوا ولم يخرجوهم إلّا بعد انقضاء زهرة أعمارهم. أذكر ما روته صديقة لي عن أخيها، السجين السابق لما يزيد عن عقد ونيف من السنين، كيف أنها لاحظت بعد سماعها ما يقوله عن الأحداث تلك الأيام أنه يطابق بكلامه ما تذيعه نشرات الأخبار في قنوات التلفزيون الرسمية! فإذ به يجيبها: “بكل صراحة وصدق، أقول لك وللجميع أنني في هكذا ثورة أقف في صف النظام”. ما ختمت به كلامها هو أنها لم تستطع سوى الإشفاق عليه!

3 ــ انكشاف الفرد السوري

كثيرًا ما بات يردّد أن المجتمع السوري لم ينشأ في بيئة وطنية مثالية، الأفراد فيه رعايا، وليسوا مواطنين ذوي حقوق وواجبات ينصّ عليها الدستور! لذا فإن السوري يتصف بنزعة فردية حادة، ولا يكون في أفضل حالاته إذا وجد نفسه يعمل في مجموعة أو فريق! كونه، يحلو للبعض التفسير، لا يأمن ولا يثق لا بأخيه ولا بابن عمه، فما بالك بجاره؟ وإذا كان لديك ابن ذاهب إلى العمل في الخارج، فالنصيحة الجاهزة لتقدمها له هي أن يبتعد ما أمكنه عن السوريين! السوري لا يقبل بالسوري الآخر كصديق، أو كشريك، إلّا إذا كان بمثابة تابع له، يصادق أصدقاءه، ويعادي أعداءه. أي خلاف يحدث بين سوري وسوري، مهما كانت درجة صداقته، سرعان ما يؤدي إلى الخصام، وربما القطيعة الكاملة.

أحسب أن كثيرًا من السوريين قد عرفوا أمورًا كهذه وخبروها. لا أشطر من السوري في محو السوري، بغض النظر عمّا هو عليه من مكانة عامة، أو خاصة! لا كبير عند السوريين، الجميع قيد الشبهات، وتحت المحاكمات! من تجربتي، بدأت سلسلة خسارتي لأصدقائي، من دون أي احتكاك معهم. بسبب مقال، أو منشور على فيسبوك، أو صورة التقطت لي مع سوري محكوم سابق من قبلهم: “كل منا مسؤول عن صوره يا منذر” أي نعم. الحمد للـه أنك لا تعمل في المخابرات! قلت له! أو شيء آخر لا يمكن لي معرفته مهما حاولت. الجاهزية لتصغير السوري الآخر وتخوينه ونبذه، ماثلة أمام أعين الجميع، كتهديد وابتزاز وعقوبة دائمين!

4 ــ انكشاف المعارضة السورية

أليسوا هم من كانوا يردّدون أن النظام السوري قد صحّر الحياة السياسية في سورية. لذا فإن ما كان يؤمل منهم ليس أكثر من أن يكونوا نباتات طفيلية شائكة، يحيون في حالة قطيعة، تصل أحيانًا إلى حالة عداء، مع محيطهم، مع شعبهم! ما تبيّن لي، بعد أن عرفت بصورة شخصية كثيرًا منهم، بعضهم على مستوى القيادات، وحضرت عددً من مؤتمراتهم وندواتهم، أن العاملين في السياسة في سورية، أعني بالتحديد أعضاء الأحزاب السياسية المعارضة، ومن لفّ لفهم، لم يجدوا مكانًا ليعملوا فيه سياسة سوى في كواليس أحزابهم ورفاقهم وأنفسهم. ذلك أن المجتمع بمكوناته كافة كان خطًا أحمر محظورًا عليهم تجاوزه! لذا كنت أنظر إليهم كمناضلين أكثر منهم سياسيين. كنت أقول، ولم يكن ذلك يروق لهم، إن دخولهم السجون وقضائهم كل تلك السنين فيها كان عملًا نضاليًّا أكثر منه سياسيًّا.

إلّا أنهم، تصديقًا لكلامي، عندما بدأت الثورة، رفضوا أي طرح سياسي من أي طرف! بل خونوا من يتكلم بالسياسة، بحجة أننا الآن في وضع ثورة، ولا مكان لما يسمى سياسة! وأحسب أنه لا يوجد دليل أفضل على هذا من فشل هذه المعارضة في كل شيء تقريبًا، فلا هي نجحت في قيادة الثورة الشعبية، وذلك بإرشادها وتصويب أخطائها والوقوف ضد انحرافاتها، ولا هي نجحت بتقديم خطاب سياسي وطني جامع للشعب السوري! ولا في حمل القضية السورية وطرحها على العالم كقضية شعب يصبو للحرية والعدالة. وفي هذا السياق، أجدها فرصة مناسبة لأن أقول القليل الذي لدي حول رحيل الأمين الأول، وربما الأخير، لما كان الحزب الشيوعي السوري ــ المكتب السياسي، ثم صار حزب الشعب الديمقراطي السوري، المناضل رياض الترك (1930 ــ 1/ 1/ 2024)، الذي يبدو وكأن اللـه قد عوضه عن سجنه عشرين سنة بإطالة حياته إلى ما فوق التسعين، ودفنه، أين؟ في مقبرة على أطراف العاصمة الفرنسية! على بعد آلاف الكيلومترات عن حمص مسقط رأسه، ومدينته دمشق، ميدان معاركه النضالية كلها، الذي يعدّ واحدًا من أهم الشخصيات المعارضة في تاريخ سورية الحديثة، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، يؤسفني أن أقول إنه بدوره قد أخفق في أن يكون تلك الشخصية الوطنية الجامعة التي يفتقر لها الشعب السوري! والتي حاول المقربون منه أن يلبسوه إياها. لكنه كان في واد آخر تمامًا، ولم يحاول أدنى محاولة لأن يقترب من شيء كهذا. الأمر الذي جعلني أتساءل، مع إعجابي الشخصي به نتيجة لقائي معه مرتين أو ثلاثًا. الثالثة كانت في مجلس عام، عندما راحوا يشبهونه بنلسون مانديلا: “من أين له أن يكون كذلك؟”. وهو تساؤل جعلني احتجاج أصدقائي عليه أفكر أنه كان من الأفضل لو قلت: “من أين لنا أن يكون لدينا نلسون مانديلا؟”.

5 ــ انكشافات بالجملة

أذكر اعتراضي على بداية أحد مقالات حازم صاغية؛ يا للأسف، لا أذكر في أي صحيفة، أو أي تاريخ، لذا تعذر عليّ العودة إليه لآتي بالاقتباس صحيحًا مئة في المئة، علمًا بأني سألت الأستاذ حازم عنه ولم يستطع بدوره أن يتذكر، فالرجل الذي، رغم اختلافي معه في كثير من آرائه، أكن له قدرًا كبيرًا من التقدير والاحترام، ماكينة حقيقية لا تجارى في تسطير المقالات والكتب! فهو يقول، ليس حرفيًّا للسبب أعلاه: “على الرغم من هزيمة الثورة السورية، الأكثر مأساوية وكلفة من باقي ثورات الربيع العربي، فإنه يكفيها أنها كشفت ـ أو ربما استخدم كلمة نظفت ـ النظام المحلي والنظام العربي، اللذين كانا قائمين على ركام من الادعاءات والأكاذيب”! اعتراضي كان ينصب على نقطتين، الأولى: لا، لا يكفي الثورة الأكثر مأسوية وتكلفة إنسانية وصلت إلى موت نصف مليون سوري، وهدم وخسارة وطن، وتشتت وضياع شعب، وما زال الحبل على الجرار، أنها كشفت، أو نظفت، أي مخلّفات سيرك بالعالم.

فما بالك أنها كشفت النظام المحلي المكشوف للداني والقاصي منذ، أنت تعلم متى. وأي مصلحة لنا نحن السوريين المنكوبين بانكشاف النظام العربي؟ ولا أستطيع القول ليته لم ينكشف، لأنه لم يبق ورقة تين واحدة تغطي عورة هذا اللا نظام العربي! واسمح لي أن أزايد عليك وأقول انكشاف النظام العالمي، الذي تبين للسوريين، غير مصدقين، أنه لا هم له سوى مصالحه ودرء مخاوفه، فلا ينقصه الكذب ولا التدليس ولا الكيل بمكيالين ولا الغش بهما! والمثال على هذا ما كان يدعى أصدقاء الشعب السوري! أين هم والشعب السوري في قاع الفقر والجوع؟ ولكن، انتبه، فهم رغم انشغالهم بالحوثيين رماة إسرائيل بالمنجنيقات الصاروخية لا يمكنهم أن ينسوك، وها هم يتنادون إلى مزيد من العقوبات. نعم، تلك العقوبات إياها التي لا غاية منها، كما أحيانًا يعلنون صراحة، سوى أن تزيد من شقاء السوريين وفقرهم وانعدام أملهم بخلاص!

6 ــ الحقيقة

وصفت مرة انكشافنا، نحن السوريين، وانكشاف بلدنا، بأنه يشبه جسمًا سقط من علو شاهق، وتحطم، وتناثرت أجزاؤه، فبان سوء مواده وعيوب صنعه! ولكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن: ما إذا كان هذا الانكشاف الكبير ينفع السوريين في شيء؟ ليس بحثًا عن عزاء، أو تعويضًا عن خسارة يكاد لا يجد المحدّق فيها، بالمناظير المقرّبة والمبعّدة على حدّ سواء، أثرًا لمغنم على أي صعيد، بل لأن الحقيقة، معرفة الحقيقة، هي، كما يقولون، الفضيلة الأسمى! ولأن ثوريًّا كبيرًا، هو ف. أ. لينين، لا أدري مكانته لديكم، أوجّه كلامي هنا إلى الثوريين الذين راحوا يؤثرون الكذب المفيد على الحقيقة الضارة: “الحقيقة دائمًا الأكثر ثورية”. يزيد عليه المثال الصارخ لنقيضه، المهاتما غاندي بقوله: “الحقيقة هي السلاح الأشد مضاء من أسلحة التدمير الشامل” يا إلهي! إضافة إلى أنه، بالعودة لبعض المنطق، أنك لا تستطيع أن تبني على شيء، ما لم يكن حقيقة، ما لم يكن واقعًا! الأوهام، وفي حالتنا، الأهواء، ليست الأساس الأمثل لأي بناء نريد أن نقيم عليه مستقبلنا. هذا إذا ما يزال لدينا مستقبل ما! وما يزال لدينا إرادة ما لأن نبنيه! أمّا بالنسبة لي، كإنسان، كشاعر لا يستطيع مهما حاول إخفاء أناويته، فكما كتبت لابني في إحدى قصائدي:

[إلّا أن للحقيقة وجوهًا كثيرة

تضحك وتبكي تحت الأقنعة

جميعها على أهمّيتها

تأتي في الدرجة الثانية

بعد كلّ من يقف قبالتك

ناظرًا إليك

بهاتيك العينين الضارعتين].

اللاذقية (29/1/2024).

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى