جلالةُ الديكتاتور السوري: لن أعيشَ في جلباب أبي ../ عبير نصر
21 فبراير 2024
من فوق كومةٍ من الأنقاض تُدعى سورية، سرعان ما تأكّدت السردية المستندة إلى محصّلاتٍ تبسيطية مُفرطة، أنّ حافظ الأسد عرف كيف يجد شريان الحياة لنظامه، بينما عرف ابنُه كيف يجعل الكيان السوري مرهوناً بنهاية هذا النظام. ولئلا يبدو التساؤل المطروح تالياً ساذجاً: (ما الفرق “الجوهري” بين حافظ الأسد ووريثه المدلّل؟)، علينا أن نكون شفّافين كي لا يغدو الجوابُ ضرباً من فنون المديح السام ولا سطراً مجّانياً في أدبيات الخطاب الموهوم، خصوصاً وأنّ جيلاً كاملاً من السوريين وصل إلى مرحلة الشباب في السنوات اللاحقة لعام 2011 حاملاً أسئلته الكبيرة حول سورية عبثاً. بدايةً، علينا الاعتراف بأنه وباستثناء قلّةٍ من الباحثين الذين خَبِروا جيداً مملكة الصمت، أمثال ميشال سورا ودانييل لوغاك، فإنّ أغلب من عرف حافظ الأسد بدا مأخوذاً بذكائه وواقعيّته، ومن النادر أن تجدَ مسؤولين أوروبيين أو أميركيين لم يكيلوا له المديح، حتّى لو كان وجبة باردة على طاولة الديبلوماسية. في المقابل، تحوّلَ الأسد الابن، والذي بدا للجميع كشخصيةٍ عصريةٍ مثقفةٍ تعشق الموسيقى، من طبيبٍ خجولٍ إلى ديكتاتورٍ دموي يحتقره العالم، وأقلّ وصفٍ أُلصق به “جزّار دمشق”. حتّى “إسرائيل” نفسها نبذته، إذ نعته وزير الثقافة والرياضة الإسرائيلي بـ”المنافق” الذي يحاضر بالأخلاق! وعليه، يبرُز سؤالٌ موازٍ لا يقلّ أهمية يخدم سؤال البحث الأساسي: لماذا غدا بشار الأسد الديكتاتور الأكثر تلوثاً بالدماء من بين أقرانه الطغاة؟ ثمّة أدلة شافية وقطعية للإجابة المنطقية، لأنها تستند، في العمق، إلى مقولة الحتميات الفكرية والتاريخية، والأمر الذي له دلالة في السياق أنّ القرار السوري كان بيد شخصٍ مضطرب، منعدم الحصافة السياسية، ينجذب لكلّ ما هو ميّت ومتعفّن، استند إلى الوصفة الجاهزة (حماة 1982) ليعالج بها كلّ علة، محوّلاً مشهد الإبادة الجماعية لشعبه ممكنات تغييرٍ نحو خلاصِه الشخصي، وكنمطٍ من الذرائعية الصارخة تحجّج بمكافحة الإرهاب، تاركاً المقادير السورية تجري حسب أعنّتها ريثما ينتهي اللبس الكامن في المشهد السوري.
وفي الترجمة السياسية لكلّ ما تقدّم، تتّضح عقدة العظمة ولوثة السلطة وأوهام الدور الإقليمي الكامنة في العقول المريضة لزعماء سورية، من حسني الزعيم إلى حافظ الأسد، وبلغت هذه النقائص ذروتها عند بشّار الأسد الذي غفل عن جوهر “تكتيك الرعب المزمن” الذي ابتدعه والده كجزءٍ من بنيان استراتيجي عام، لتثبيت دعائم مملكة “الأبد الأسدي”، وعندما عجز عن إدراك المتغيّرات المحلية والإقليمية بداية الانتفاضة السورية خسر أهَم ركيزة من ركائز هيمنته، وهي ثيمة “الخوف”، فشرّع مخالبه وأنيابه عندما تملّكه الرعبُ من فكرة خسارة العرش المقدّس. على التوازي، يؤكد الصحافي الأميركي ريز إرليخ، مؤلف كتاب “داخل سورية”، أنّ بشّار إنسانٌ مرتاب ومتوجّس، يغطّي على شعوره بالدونية عبر تأكيده المتواصل شبه المَرَضيّ بأنّه محبوب ليس بحاجة للقيام بأيّ إجراءات تصحيحية. ولنزد من الشعر بيتاً… صديقٌ للعائلة أكّد أنّ الأسد كان يحلم بامتلاك شخصيةٍ مركبة: نصف منها يشابه الوالد “الذكي” والنصف الآخر يشابه باسل “الكاريزماتي”، مع هذا وبالنسبة لشخصٍ هشّ ومتردد، فقد أنجز الابن مهمةً مثالية في ترويع شعبه، مسرّباً عقده النفسية على هيئة سياسات رقابية وأمنية، حتّى صارت البلاد تتوجّس من الجدران ومن أهلها ومن نفسها. بالتالي أثبت خطأ الشائعات التي تفيد بأنه مجرّد محاكاة كاريكاتورية للديكتاتور. لقد اتضح أنه حاكمٌ سادي مثقل بالنرجسية يستقطر بداخله هذا الشعور العالي بالاستحقاق، يراقب، وبحيادٍ مستفزّ، تغوّلَ كلّ الأطراف التي أجرت على هامش التراجيديا السورية اختباراً واسعاً لقوتها، وما تبقى من “حظيرته الشخصية” فمجرد تفاصيل جزئية تنتظر الترتيبات الكبرى ليصار إلى إدراجها ضمن سياق مستلزمات الصفقة ومترتباتها.
ولعلّ المفارقة الأكثر سطوعاً في المشهد السوري الغاصّ بالمضحك المبكي أن يبدو الأسد بارعاً في صناعة أدوارٍ للحلفاء على حساب موت جمهوريته، فقد نُقل عنه شعوره بالفخر لأنّ دعم روسيا له حقّق مكاسب سياسية مهمة في تراتبية القوة الدولية، وبالنشوة لأنّ إيرانّ التي سلمها مفاتيح البلاد تستطيع أن تفاوض العالم اليوم من موقع قوة! حتّى أنه باع حلم الدور الإقليمي، ولعلّ أحد أبرز أخطائه التاريخية تخلّيه عن الترسانة الكيماوية، الموازن النسبي للترسانة النووية الإسرائيلية، مغيّراً البيئة الجيوسياسية للصراع السوري في الشرق الأوسط، والذي جهد والدُه كثيراً في ترسيخها. وما زاد الطين بلّة غياب نبرة التنديد والوعيد في خطابات ما عُرف بمحور “الممانعة والمقاومة” الذي تسيّده الأسد وتاجرَ بشعاراته، ليطأطئ الرأس أمام الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة، وأيضاً الضربات الأميركية، وجديدها ضرب مواقع فصائل مسلّحة موالية لإيران في العراق وسورية، ردّاً على مقتل جنودٍ أميركيين بواسطة مسيرّة استهدفت قاعدة أميركية في الأردن، إذ وبينما دانت الخارجية الإيرانية، كذلك المتحدث باسم القوات المسلحة العراقية “بشدة” هذه الهجمات، مررّت وزارة الدفاع السورية الخبر “على الناعم”، معتبرة أنّ الهجوم الأميركي لا مبرّر له سوى محاولة إضعاف قدرة الجيش السوري وحلفائه في مجال مكافحة الإرهاب!
لا عجب أنّ بشّار الأسد فاق كلّ التوقعات، لأنه لم يفهم أنّ السياسة فنّ الممكن فغدت سياساته العبثية أشبه بهرطقاتٍ أيديولوجية لم يعد بإمكان العالم استيعابها. نعم، لا بدّ لنا من الاعتراف: كلّ شيء يذهب بسرعة نحو الأسوأ، ويرجّح ألاّ تُحلّ الأزمة السورية المعلّقة إلا بدمارٍ شامل، لعدم اكتراث “جلالة” الديكتاتور السوري ولسطحيته السياسية بالتوازي مع وحشيته المفرطة، إذ أمضى المحلّلون سنوات طويلة على يقينٍ بأنه مجرّد واجهة، وأنّ أشخاصاً آخرين يقودون السفينة. واليوم من المؤكد أنه حاكمٌ مستبدّ ذو إرادة غير عادية تجاه القتل والتدمير يملكُ القرار، وهذا أسوأ ما في الأمر، فلو كان القرار بيد أشخاص أقوياء وشرّيرين لما دمّروا البلاد. فالطغاة ليسوا أشراراً بل أغبياء، لأنّ الشرّ يستلزم وجود عُمقٍ أخلاقي وقوة إرادة وذكاء، أما الغبي فيُذعن لغرائزه كأيّ حيوانٍ هلع يعيش في أرضٍ خربة تتصاعد منها رائحة الدماء والفضلات.
نافل القول.. لكلّ من “الأسديْن” طريقته الخاصة في التعبير عن “عبقريّته” الدموية، ما يعيدنا إلى الإجابة عن السؤال الذي بنيت عليه هذه القراءة، والذي سيوصلنا، بالضرورة، إلى رسم صورةٍ موضوعية للمآل السوري الراهن، على اعتبار أنّ الفرق “الجوهري” بين الأب والابن ينطوي على مفارقةٍ صادمة، أنَّ شخصية حافظ الأسد (القيادية)، ومنذ البداية، عكست سيرةً وحشية صريحة لعسكريّ ريفيّ طامع في الثراء والسلطة والمجد، لم يترك شيئاً للمصادفة، بل سخّر كلّ مفاصل الدولة والمجتمع لمصلحته ومصالح عائلته، أما بشّار الأسد فعاش حياته كإنسانٍ عادي جدّاً، لا تبدو عليه أيّ ملامح سريرية نفسية لافتة. وعندما غدت شخصيته (الكومبارس) رهن الظروف والمصادفات، وربما الأقدار السيئة، إثر تبوئها سدّة الحكم، خرجتْ من “جلباب” الوالد لتفوقه توحشاً وخطورة، ولا أحد كان ليتصوّر، على الإطلاق، أن تكون هذه الملامح مُكوّناً مدهشاً لشابٍّ غرّ نشأ في الظلّ بعيداً عن ضوضاء الرئاسة وفوضى البلاد، فتحوّل إلى ديكتاتورٍ منفلت من عقال المنطق، بعدما دفع التوحّش إلى أقصاه ومُنتهاه.
العربي الجديد