ملف عن “مارينا تسفيتايفا” -مقالات، أشعار ويوميات-
الشاعرة الروسية مارينا تسفيتيفا سيرة الحياة والشعر
ولدت الشاعرة والكاتبة المسرحية والناقدة والمترجمة الروسية ( مارينا تسفيتيفا) في موسكو، وهي واحدة من أعظم الشاعرات الروسيّات في القرن العشرين، عاشت كما كتبت عن نفسها ذات يوم ‘ كما يحب الله ولا يحب الأصدقاء’. وأنهت حياتها منتحرة في قرية روسية صغيرة عام 1941 وأما حياتها ونشأتها فقد نشأت في بيئة ثقافية فكرية متميزة، فقد كان والدها عالم لغة كلاسيكي متخصص باللغات وعلم الجمال، وكان من المثقفين ذوي المكانة، وعمل أستاذاً بجامعة موسكو وأسّس أحد أهم متاحف المدينة، متحف روميانتسيف للفنون الجميلة ، الذي صار اسمه فيما بعد متحف بوشكين ، وقد كتبت مارينا عنه كتاب ‘ أبي والمتحف ‘ ، أهدته له ، أما أمها فهي بنت إحدى النبيلات البولونيات ، وهي عازفة بيانو قديرة كانت تحلم بأن تصبح ابنتها موسيقية، وقد أصيبت أمها بالسل عندما كانت مارينا بالعاشرة من عمرها وأختها في الثامنة ، وبناءً على وصية أطبائها قامت الأم في عام 1902 بإخراج مارينا وشقيقتها من المدرسة وسافرت إلى إيطاليا بحثاً عن العلاج،فعاشت الأسرة ثلاث سنوات خارج روسيا ، انتقلت أولاً الى جنوا وخلال ذلك درست مارينا وأختها في مدرسة داخلية في لوزان ، بعد عودة ابيهما الى روسيا ، ثم انتقلت مع أمها وأختها الى الغابة السوداء وأمضين الصيف مع الأب ، وفي الشتاء درست مارينا وأختها في مدرسة داخلية في فرايبورغ، ثم عادت الأسرة بعد ذلك إلى روسيا في 1905، حيث توفيت الأم بعد عام من ذلك التاريخ.لقد التحقت مارينا بمدارس في كل من روسيا وباريس، حيث بدأت بكتابة الشعر والترجمة من الفرنسية، ونشرت ديوانا بعنوان ‘ألبوم المساء’ في سنة 1910 والذي لقي ترحيباً حاراً، وعلى الرغم مما تميزت به قصائدها من رومانسية وميل إلى العاطفة على نحو متوقع منها كفتاة مراهقة، إلا أنها حسبما قيل عنها أدخلت إلى الشعر الروسي نوعا جديداً وجريئا من الحميمية.تعرفت مارينا بـ ( سيريوجا ايفرون ) في المدرسة الصيفية سنة 1911 وتزوجته سنة 1912 ، وهو شاب من روسيا البيضاء من إحدى العائلات الروسية الشهيرة في مجال العمل السياسي الراديكالي، وكان يصغرها في السن بعام واحد ، وفي ذلك العام صدر ديوانها الثاني ‘المصباح السحري’ ورزقت بابنتها، اريادنا، وكانت النقود المرسلة إليها من العائلة قد أسهمت في إنعاش حالة الزوجين المادية فاشتريا منزلاً في موسكو، وأمضيا إجازاتهما في على ساحل القرم، غير أن زواجهما لم يكن موفقاً على الرغم من ذلك، وفي تلك الأثناء ارتبطت تسفيتيفا بعلاقات عاطفية مع الشاعرين صوفيا بارنوك وأوسيب ماندلستام. ومن رسائل الشاعرة الى روزانوف نعرف كيف رأت زوجها في تلك الأيام : ( عمره عشرون سنة ، فاتن الجمال شكلاً وروحاً، موهوب ، ذكي ، أحبه جداً والى أبد الدهر )، ولكن الحقيقة التي أثبتتها الأيام كانت مختلفة حيث أن مارينا دفعت ثمن هذا الوهم، وتبين أن أباها كان أبعد نظراً منها ، وهي تعترف بأن حبها عذّب أباها ، ويقول بعض الدارسين إنه كان فجيعة أبيها ، وفي إبريل 1917 أنجبت ابنتها الثانية،( آيرينا )، ومن جانبه أراد ( إيفرون ) أن ينقذ نفسه من المأزق العائلي المرتبك، فتطوع في القوات الملكية، وفي عام 1917 أيضاً وجدت تسفيتيفا نفسها وحيدة، شبه معدمة من دون أن يكون هناك ما يفي بحاجتها المعيشية مع ابنتيها الصغيرتين،حيث كانت تعيش على المساعدات التي كان يقدمها جيرانها الطيبون، وعلى بيع مقتنياتها الشخصية، وهنا وصف لحياتها البائسة في موسكو كما جاء في مجموعتها النثرية ‘ إيماءات دنيوية ‘ :أنهض.. النافذة العليا رمادية بالكادالبرد .. البرك الصغيرةالمنشار ..الغبار الدلاء ..الأباريق الخرق .. ملابس الأطفال وقمصانهم مبعثرة في كل مكانأقطع الخشب.. أشعل النار بالماء البارد كالثلج أغسل حبات البطاطا، التي أغليها في السماوروتضيف في المجموعة ذاتها مشيرة الى فقرها والى أنها لا تملك إلا ثوباً واحداً قائلة :إنني أحيا ليل نهار بثوب واحد بني من الفلانيل منكمش إلى حد مرعب تمت خياطته في الكساندروف في ربيع 1917 عندما لم أكن هناك، ثوب مليء كله بالثقوب الناجمة عن تساقط رماد الفحم والسجائر المشتعلة أكمامه التي كانت ذات يوم ملمومة بشريط مطاطي،صارت مطوية إلى الأعلى ومثبتة بدبوسوعندما ننظر للشعر الروسي في الثلث الأول من القرن الماضي ، فمن البديهي أن تكون أسماءً منها أوسيب ماندلستام، وأنا أخماتوفا، وبوريس باسترناك ، فلاديسلاف خادا سييفتش ، ألكسندر بلوك هي الأسماء المألوفة، وليس مارينا تسفيتيفا، مع أنها قد شغلت مع الشاعرة آنا أخماتوفا المكان الأبرز بين شعر النساء،ولكن بالنظر إلى صعوبة ترجمة أعمالها فإن هذه الأعمال قد أصبحت غير معروفة تقريباً بالنسبة للآخرين، وحتى في حال ترجمتها فإنها لا تترك انطباعاً قوياً لدى القارئ، وتبدو أنا تسفيتيفا غريبة ومستعصية على الفهم من خلال عباراتها الموجزة ولغتها المجازية المتشابكة على نحو غير عادي، ويتميز شعرها بقوة الكلمات والقدرة العالية على التعبير ، وإمكانياته الاستثنائية على نحت الكلمات وإكسابها معنىً جديداً كان يفتقد إليه كبار الشعراء في زمانها،ويقول الشاعر الأمريكي ( سي .كي. وليامس ) : (حقيقة أن شعرها يصعب ترجمته لنه مليء بالتلاعب بالكلمات . فهناك شعراء لا يجتازون حواجز اللغة وهي واحدة منهم ولكنها كاتبة مقالة موهوبة وتستطيع أن تلاحظ تألقها أكثر في المقالة)، وكما ترى د. ناديا خوست ( بعد عقود من موتها استطاعت عدالة النقد أن تكتشفها شاعرة مبدعة ، وناثرة متقدمة . معاصرة ، حتى في أيامنا ، بجملتها المتوترة المقتضبة المركزة، وبنائها الفني الفريد )،ولا شك أن العمل والتأمل قد أسهما بشكل كبير في إنضاجها كشاعرة مبدعة، وتكشف رسائلها الى باسترناك عن عبقريتها وأسلوبها المميز في النثر الذي تميز بخصوصية في التقطيع وعن روحها المثقفة الرقيقة والمتمردة ، وهي بلا شك مفكرة ذكية مثقفة وكاتبة خبيرة في عملها وإنسانة تواقة للصداقة والتفاهم الذي لم تكن تجده حولها ، ومما زاد من غربتها ومرارتها أنها كانت كاتبة في بلد غريب وكانت تحتاج النشر بلغتها في صحف ومجلات مغتربة ومصيبتها الأخرى كانت بأنها كانت محتاجة لتكريس نفسها لأن تعمل وتحمل بيتها وولديها على كتفهامما أسهم في سقوط أحلامها .أما تجربتها الشعرية والإبداعية ، فهي كما ذكرنا ليست شاعرة فقط وإنما مترجمة وكاتبة مسرحية وناقدة،بالاضافة الى مئات القصائد ، ولقد تميزت كتاباتها ببعض الصفات ، وعلى سبيل المثال لا الحصر،فإنها تشتق بعض موضوعاتها من الحكايات الخيالية، وهناك عدد لا بأس به من قصائدها يقترب في طوله من الملاحم الشعرية إلى جانب مجموعة لا بأس بها من الأعمال النثرية، بما في ذلك المذكرات، اليوميات، والرسائل، بالإضافة لعدد من المسرحيات الشعرية، وعلى الرغم من أن هذه الأعمال ليست كلها بالطبع أعمالاً مميزة، إلا أن الكثير منها يبدو كذلك وعلى سبيل المقارنة قد يتساءل المرء عما إذا كانت في مستوى شعراء مثل إليوت أو باوند والواقع أنها كذلك، وربما كانت لديها إمكانات أخرى لم تكتشف بعد. وفيما كان معاصروها شديدي الإعجاب بأعمالها الشعرية المبكرة، فإن الشيء ذاته لا يمكن قوله عن أعمالها الصادرة في العشرينيات، وعلى هذا النحو يصف ماندلستام قصائدها:’ إن أشد ما يؤسف له في موسكو زخرفة الهواة النثرية التي قالتها مارينا تسفيتيفا في مديح العذراء’ وفي معرض تذمره من الشعر النسوي بوجه عام، ومنها على وجه الخصوص، يمضي إلى القول (بأن شعرها ما هو إلا نوع من الجرح لكل من الأذن والمشاعر التاريخية ) ،ويوافقه ليون تروتسكي، في كتابه الشهير ‘الأدب والثورة (1923)’ مطلقاً على شعرها اسم: الشعر الضيق الأفق، مضيفاً أن صورة الشاعرة نفسها تجسد صورة الرجل المهذب الواثق من نفسه، الذي يرتدي قبعة سباق الخيل أو يحمل المهماز العسكري، وفي أوساط الأدباء المهاجرين كانت القصة ذاتها تتردد، وتشير جامي جامبريل على نحو مقتضب إلى المعوقات التي كانت تواجهها أثناء كتابتها المقدمة المختصرة المتسمة بالتبصر الشديد ( إيماءات دنيوية ) : إن قراءة تسفيتيفا ليست قراءة سهلة، حتى بالنسبة للمثقف الروسي نفسه، إنها تجعل القارئ يقف بمواجهة شيء مثل عبارات وأساليب جويس الثرية، المتراوحة بين مزية الخطاب المستوحى من الحكاية والإسهاب الذي تتميز به لغة الفلاحين إلى الأساليب الأدبية الراقية التي تعود بجذورها إلى الأساطير الإغريقية والرومانية، وإلى الكلاسيكية،و الرومانسية الألمانية، لقد استخدمت كل البحور الكلاسيكية الروسية، مضيفة إلى ذلك اختراعاتها الشخصية، كما أنها استفادت من على نحو حقيقي من الأوزان الفلكلورية الروسية إن موضوعها يتيح المجال لطرح أنواع مختلفة من المصادر الأدبية، والتاريخية، والفلكلورية، وكما قال ( فولوشين ) ذات يوم، إن عشرة شعراء يظهرون دفعة واحدة في تسفيتيفا. تلك الكثافة اللغوية التي تتميز بها أعمالها تمكن مقارنتها بتلك الموجودة لدى جيرالد مانلي هوبكنز، باستثناء تعددية الأصوات المعروفة بها قصائدها ، و في إحدى رسائلها إلى الشاعر الألماني الكبير ‘رينر ماريا ريلكه’، الذي تبادلت معه الرسائل حتى عام 1926، وأصرت على كتابة آخر رسالة له بعد وفاته،كتبت الشاعرة تقول :’ أنا لست شاعرة روسية كما أنني استغرب باستمرار من النظر إلي على هذا النحو، إن ما يحملني على أن أكون شاعرة هو السعي إلى ألا أكون فرنسية أو روسية، أو غير ذلك، لكي أكون كل شيء ‘ومع ذلك تقول في الرسالة نفسها: ‘على الرغم من ذلك فإن كل لغة لديها أشياء خاصة بها هي وحدها، وهي ذاتها’ ،وقد كانت ( تسفيتايفا ) معجبة بالشاعر ( ريلكه) شاعر الموت والحزن وقد كانت تخاف على مصيره ، لأنها وجدت مصيرها قد لا يختلف عن مصيره كثيراً ، وأما ريلكة فقد كان يشعر وهو يقرأ أشعارها بأن كلماتها تذوب فوقه وتتملكه تماماً كالسحر .أما جامبريل فتقول: ‘إن تسفيتيفا هي شاعرة تلك الذات على نحو شديد التمسك بالحرفية ، فالكلمة هي وسيلة الإبداع ؛ المولدة لكل من الموضوع والمشاعر، إنها بمثابة التجسيد للروح ‘.إن ما يعنيه السعي لأن يكون المرء شاعرا، يصغي لقصائده الآخرون، و يتسنى له تحويل الصوت إلى شئ أكثر أهمية من النظر، هو سعيه لأن يكون مفهوماً على نحو حقيقي، لكن أي من ترجماتها الشعرية التي أطلعت عليها – وهناك بالفعل الكثير منها – لم تكن متضمنة تلك القدرة اللغوية الهائلة، على الرغم من أن بعضها، كتلك التي ترجمها كل من نينا كوسمان و مايكل أم نيدان، تقترب منها إنهم يظهرونها في صورة بشعة غبية يرثى لها فيما هي ليست كذلك.من جانب آخر فإن ترجمة الشاعرة لنفسها إلى الفرنسية لم تنجح هي الأخرى في تحسين صورتها حيث بالمقارنة بمترجمين من أمثال: روبن كمبول، تبدو تسفيتيفا شديدة التحرر فيما يتعلق بتغيير وتحويل نبرة قصائدها، وقد عملت ذلك لا باللجوء إلى استخدام كلمات مختلفة، وإنما بتغيير الصور بهدف الإبقاء على الجوهر، مدعية أن على المترجم أن يكتب شيئاً جديداً في أثناء ترجمته إلى اللغات الأخرى، لكن على الرغم من أنها تبدو قاعدة ذهبية، إلا أن الأمر لم يكن مجدياً بالنسبة لها ومع ذلك، فمن وجهة نظري،أن التحرر هو الأسلوب الوحيد للاستمرار في ترجمة أعمالها.وترسم رسائلها لمحة عن تلك السنوات حيث أنها تقول : تدفأت بوقد الأثاث ، اشتغلت عدة أشهر ثم تركت العمل ، وتشير رسائلها الى أنها كانت تعاني من شعور دائم بالوحدة مع أن موسكو كانت ملأى بمن تعرفهم ومليئة بالمدارس الأدبية والاتجاهات الفنية، وقد كانت في تلك الفترة ترتاد مقهى الشعراء ، لكنها لم تكن تقدم شعرها لأن ( بروسوف ) الذي يترأس النشاط الأدبي لم يكن يتحملها ، وقد اضطرتها ظروفها المادية السيئة الى بيع كتبها الفرنسية كي تعيش بثمنها، ومع هذه الظروف القاسية فقد كانت تكتب، ونُشرت قصائدها في مجلة ‘ إرادة روسيا ‘ التي كانت تعبر عن أحد الأجنحة اليسارية للثوريين الاشتراكيين ، وتصدر في براغ بين 1922 – 1932. ومن مجموعاتها الشعرية في تلك الفترة، مجموعة ( بعد روسيا ). وتقول الدكتورة ناديا خوست عن مارينا تسفيتايفا ( كأن مارينا اختارت منذ البداية بحارها العاصفة ، هي التي لا تحب البحر ! اختارت مهنة الشاعر ، واختارت زوجاً قّدر أبوها أنه ليس أهلاً لها . اختارت الجانب المهزوم في الصراع في روسيا ، والوقت الصعب الذي قدّر لعودتها الى وطنها. وفي شعرها ونثرها اختارت مركبها الصعب . يتبين حتى قارىء رسائلها صياغتها الجديدة ، تقليمها وتنقيبها. أليس ذلك العمل في اللغة هو ما فهمته وقدّرته في زميلها الشاعر باسترناك ؟ مارينا بذلك كله ساحرة . وساحرة أيضاً بمصيرها. كالضحايا والشهداء الذين يواجهون عصرهم بالصدق والاندفاع ، فيسددون ثمن ما تقدموا فيه كي يتقدم الزمن ، فيكون أكثر عدلاً ، والأدب أكثر عمقاً ، واللغة أكثر صفاء، لكن مارينا سددت أيضاً ثمن أوهام من حولها . وضحى بها خوف زملائها. من يسند مهاجرة زوجها وأختها وبنتها سجناء ، في زمن مواجهات كبرى لا تتوقف عند مصائر الأفراد: حرب التدخل بعد ثورة أكتوبر، والحرب العالمية الثانية التي احتلت ألمانيا النازية في أولها جزءاً من الاتحاد السوفييتي ! ).ويرى الناقد والشاعر راشد عيسى في دراسة له عن الشاعرة بعنوان – رؤية في شعرية مارينا تسفيتايفا- ‘ أن الشاعرة عاشت في صراع دائم ، وهو صراع تقاسم الوجدان الجغرافي والنفسي بطولته، وأورثها روحاً مشظاة بالألم والقلق والمعاناة، فانعكس ذلك في شعرها انعكاساً فنياً جلياً . فلقد خافت رغبة أسرتها وتزوجت من فتى خيّب آمالها ، عاش مريضاً ومغترباً عنها في آن ، وصارعت مارينا طبيعة الأجواء العسكرية والسياسية في تلك الحقبة التي كانت فيها روسيا تغلي وتفور أحداثاً وحروباً وهجرات سكانية، في الوقت نفسه الذي تحاول فيه أن تؤمن لابنها وابنتيها لقمة العيش وحيدة من الزوج والصديق والأهل ، على الرغم من صداقاتها مع نخبة من الأدباء والفنانين في عصرها كباسترناك وبلوك وريلكه ، وماياكوفسكي وغوركي وغيرهم فلم تجد منهم عوناً ولا من الناشرين الذين لم يكونوا متبصرين بطبيعة شعرها المتميز ، فعاشت غربة الواقع كامرأة تبحث عن الأمن النفسي والحياة الزوجية المطمئنة ‘.إن حياة هذه المرأة، التي تناولتها العديد من كتب السيرة الصادرة خلال السنوات العشرين الأخيرة على نحو تفصيلي، تصلح لكتابة عمل قصصي غير عادي ومثير، إن الحياة المأساوية بلا ريب، لا تمكن مقارنتها بمدى ما تشتمل عليه من بشاعة، فحتى في الأوقات العادية لا يكون بوسع أحدنا التأكد من حجم الفوضى التي يحدثها الناس في حياتهم بسبب عيوبهم الشخصية وسوء الحظ، وحجم الفوضى التي تتسبب فيها الظروف التي يجدون أنفسهم فيها . ومما يروى عن ظروفها القاسية التي مرّت بها أنها وفي ذات مرة اقتحم شقتها أحد اللصوص فأصيب بالرعب من هول ما شاهده من الفاقة، وهي بدورها قد طلبت من اللص الجلوس فجلس لتتحدث إليه، وهو يهم بالخروج مد يده إليها ببعض النقود .وعلى الرغم من أن الحرمان لم يغادر حياتها مطلقاً، إلا أن تلك كانت مرحلة من حياتها تميزت بالإنتاج الغزير، في تلك المرحلة كتبت الدراما الشعرية الطويلة والعديد من القصائد القصيرة المغناة، كما امتلأت مذكراتها بما كانت تراه وتستمع إليه في أثناء تنقلها بين الأقاليم المختلفة سعياً وراء لقمة العيش، بعض هذه التعليقات يتضمنها ديوان ( إيماءات دنيوية )، وهو مجموعة من المختارات الرائعة من مذكراتها ومقالاتها التي ترجمتها عن الروسية ( جامي جامبريل )، هذه القصائد تلقي الضوء على المرحلة على نحو مشابه تقريباً لما أورده إسحاق بابل في قصصه القصيرة، وفي هذه الأعمال تبدو موهبة تسفيتيفا كناقلة للأحداث بارعة على الرغم مما قد يدعيه المؤرخون، عند وقوع الثورات، من أن السرقة تصبح أكثر أهمية من الفكر، ورغم ما يقوله زعماء تلك الثورات من أن الفقر، والجريمة، والنهب هي الحقائق الوحيدة التي يعرفها الضعفاء. والمؤكد أنه في الوقت الذي عاشت فيه حياة معذبة لم تفتقر للثقة والايمان بنفسها ، فمثلاً كتبت في مذكراتها في عام 1914 : أنا أدرك أنه لا توجد امرأة أكثر موهبة مني في عالم الشعر، وينبغي أن أضيف بأنه لا يوجد أنسان، ذلك ما أستحقه وما سأحققه خلال حياتي .أما مؤلفات تسفيتيفا في السيرة الذاتية والمقالة فمليئة بالصور المهمة واللغة الثرية الرائعة، وهي تقول في إحداها:’ القلب: إنه عضو موسيقي، أكثر من كونه شيئاً بدنيا.الموت لا يخيف إلا الجسد، فيما الروح لا يمكنها التفكير فيه، وبالتالي، فإن الجسد، هو البطل الوحيد في حالة الانتحار’.ومن الواضح أن آراءها في كل شيء من السلوك الإنساني إلى طبيعة الشعر هي في واقع الأمر عنيفة متميزة بالأصالة، غير أن شيئاً من تلك البصيرة الثاقبة لا يبدو واضحاً في حياتها الشخصية، وهي ترتكب الخطأ تلو الآخر وهي تقول في هذا الصدد : ‘إنني مصدر هرطقة لا تنضب، حيث لا يمكنني التعرف إلى أحدها، وإنما التنبؤ بها كلها، وربما كنت حتى من صنع تلك الهرطقة ‘ .ولقد كانت تؤمن بأن وظيفة الشعر، هي الوقوف إلى جانب المهزومين، ولاشك في أن شجاعتها واستقلاليتها كانت من الأمور الجديرة اللافتة للانتباه.لقد عاشت مارينا تسفيتايفا حياة زاخرة بالشعر والحب والأمومة والمآسي ، وأصدرت الكثير من المجموعات الشعرية ، التي كان أولها ما اعتبرته مارينا نفسها أشعار الطفولة ، حيث لم تكن قد بلغت بعد الثامنة عشرة من العمر، أما الديوان الثاني ( علامات ) فقد أصدرته وهي في العشرين من العمر ، وقد كانت دائماً غير خاضعة للاتجاهات الأدبية ولم تنضو تحت راية أي نظرية تسجن الأدب في قفص معين . ولقد كانت ( علامات ) مجموعة مذهلة حيث نجد الشاعر الكبير ( باسترناك ) يصف هذه المجموعة بقوله ( ما ان انتهيت من قراءة ديوان تسفيتايفا علامات حتى أحسست أن بئراً من القوة الشعرية والصفاء الدبي قد انفتح أمامي، فأنا لم أر شيئاً مثل تلك الإحاطة الشعرية الكبيرة التي كانت تتمتع بها هذه المرأة ) ، وهو ما بقي يردده فيما بعد حتى نهاية حياته .ولقد سارع باسترناك الى كتابة رسالة الى تسفيتايفا يوم 14/أيلول 1922 ليقول لها : ( اعذريني ، اعذريني ، وطلب الاعتذار هذا جاء لأني لم أطلع على ما كتبتيه من شعر بشكل مبكر جداً ، واعذريني لأني لم أطلع سابقاً على ديوانك – علامات الذي يمكن أن أصفه : بالمعيار الحقيقي للشعر الرائع الحديث، وفي الحقيقة يمكننا أن نؤكد أن شعرها قد أحدث انقلاباً فكرياً واضحاً لدى ( باسترناك ) لشدة تأثره بذلك العمل الأدبي . وهي بلا شك شاعرة كبيرة ، خذلتها حياتها العاصفة ، ففي عام 1917 التحق زوجها ( ايفرون ) بالجيش الأبيض للقتال في الثورة البلشفية، وغاب عنها لمدة خمس سنوات قاست بها وكتبت كثيراً وقد عاشت مارينا قبل الهجرة شروط الحرب الأهلية والمجاعة التي شهدها الاتحاد السوفييتي ، ولسوء حالها وتردي أوضاعها فقد اضطرت في عام 1919 أن تضع ابنتها ( ايرينا ) المولودة في عام 1917 في بيت الأطفال،حيث ماتت في أيام الجوع سنة 1920 وهي تشير الى ذلك في رسالة كتبتها في عام 1920 تذكر بها أنها استطاعت أن تنقذ ابنتها( إليا ) ، لكن ابنتها ( ايرينا ) ماتت من الجوع ، وقد ترك موت ابنتها في داخلها ألماً وجرحاً عميقاً وشعوراً بالتقصير لم يفارقها طوال حياتها ،ولقد اضطرت عام 1922 أن تسافر لتلتقي بزوجها بعد ظهوره في براغ،وتحول سفرها الى لجوء قادها الى برلين ثم براغ لينتهي بها المطاف في العاصمة الفرنسية باريس لتقيم هناك نحو 17 عاما، حيث غادرت هي وابنتها روسيا بهدف الالتحاق بزوجها الذي كان يعيش في براغ، ومع ذلك فقد وصل بها المطاف إلى برلين حيث أمضت فيها شهرين ، وهي المكان الذي وجدت فيه نفسها على علاقة مع رجل آخر، هو ناشر أعمالها في الوقت الذي كانت تنتظر فيه اجتماع الشمل مع زوجها، وقد أقامت أسرتها بإحدى القرى الواقعة على مشارف براغ وأمضت بها عامين ونصف، وفي 1925 ولد ابنها جورجي أو مور، كما أطلق عليه، في حين تميزت سنواتها في تشيكوسلوفاكيا بالسعادة النسبية،حيث كانت الحكومة تمنح الطلاب والمثقفين الروس المهاجرين مرتبات سخية، وكانت تكتب أيضاً بعض قصائدها، وربما في هذه الفترة كتبت أفضل قصائدها الطويلة وملاحمها الشعرية، وقد أصابها في غربتها الشقاء جراء بعدها عن شعبها وأنماطه الحياتية وعن مدينتها التي كانت تحبها، وزاد من شقائها زوجها الذي تصورت أنه عبقري يستحق التضحية فاكتشفت أنه خيبتها الكبرى وحملها الثقيل . وقد كتبت في تلك المرحلة، ‘الراعي’ و ‘الزمار الأرقط’، وهي موضوعات مقتبسة من الحكايات الخرافية، بالإضافة إلى اثنتين من أفضل قصائدها وهما ‘قصائد الجبل’ و’قصائد النهاية’ ، وفي رسالة كتبها زوجها في ذلك الوقت يقول واصفا الحياة معها:’ مارينا امرأة يفيض قلبها بالعاطفة الجياشة.. إن الغوص بشكل رأسي في أعاصيرها تحول إلى شيء أساسي في حياتها، إلى الهواء الذي تتنفسه، ولم يعد مهماً التعرف إلى من توقظه تلك البراكين، فدائماً تقريباً- أو باستمرار – يكون ذلك مبنياً على خداع الذات، حيث يدعى الرجل ليبدأ البركان، فإذا تكشفت عدم أهمية أو ضيق أفق موقظ البركان على نحو سريع، حينئذ تكشف مارينا عن بركان من اليأس، وهي حالة تعين على ظهور موقظ جديد غير أن الأهم هو ليس ماذا، وإنما كيف، ليس الجوهر ولا المصدر وإنما الإيقاع، الإيقاع المجنون اليوم قد يكون هناك يأس، وغداً – ابتهاج، وحب، انغماس تام في الملذات، ؛ وكل ذلك بذهن ثاقب، بارد.إن عوامل إيقاظها بالأمس كانت مضحكة وقاسية على نحو شديد الذكاء، كل شيء تدونه في كتابها كل شيء يسبك ويتحول ببرود، وكأنه معادلة رياضية إلى خلطة تطبخ على موقد ضخم، نيرانه تحتاج إلى حطب أكثر فأكثر، أما الرماد غير المرغوب فيه يتم التخلص منه، كما لا تهم نوعية الحطب؛ فالموقد يعمل بشكل جيد في الوقت الراهن ليتحول كل شيء إلى لهب، الحطب الرديء يحترق سريعاً، والجيد يستغرق وقتاً أطول، وغني عن البيان؛ انه قد مضى وقت طويل على الوقت الذي كنت فيه ذا فائدة في إيقاد النار ‘. أما ردها على هذه الرسالة فلا يبدو متناقضاً مع ما يقوله:’ لست مخلوقة لهذه الحياة، وبالنسبة لي فإن كل شيء يبدو حريقاً، بإمكاني التورط مع عشرة رجال في وقت واحد (كم هي علاقات رائعة تلك العلاقات)، ولكن لا يمكنني أن أتحمل الصد.. إنني ‘أشعر بالجرح’، ألا تفهم؟إنني إنسانة مجردة من السلاح، بينما أنتم مسلّحون كلكم يتوفر لكم الفن، القضايا الاجتماعية، الصداقة، التسلية واللهو، العائلات، العمل… فيما أنا، في أعماقي لا أملك شيئاً إن كل شيء يتساقط كالجلد وتحته يختفي الكائن الحي أو النار.. إنني روحانية لا انتمي لشكل معين، ولا حتى الشكل البسيط الذي يوجد في قصائدي’ وفي نوفمبر 1925 غادرت أسرتها إلى باريس على أمل أن يكون لتسفيتيفا هناك اتصال أكبر بغيرها من الكتّاب، أما مشاركتها الأولى في إحدى القراءات فهي شيء لم يتكرر مرة أخرى، فبعد ذلك الاستقبال الحار من الجالية الروسية، توطدت العلاقة بينهما على مدى السنين إما لدوافع أدبية أو سياسية، ورغم أن الأدب السوفييتي شيء بغيض بالنسبة لهؤلاء المهاجرين، إلا أنه لم يكن كذلك بالنسبة لها حيث كانت تمتدح علانية الشعراء الشيوعيين من أمثال ماياكوفيسكي، وفي تلك الأثناء كانت عائلتها تعاني من الفقر ولم يكن زوجها قد التحق بوظيفة، ولم تكن لديه الخبرة العملية في شيء ولم يكن حتى لديه نية السعي إلى ذلك، لم يكن يطربه غير السياسيين الروس. وفي هذا العام ذاته أي 1925 وعندما كانت تبحث عن ناشر ولم تجد كتبت تقول : على أي حال عندما أموت سينشر كل شيء.وفي الثلاثينيات تورّط زوجها في الانضمام إلى منظمة كانت تعرف باسم( اتحاد العائدون لروسيا )، كان يعتقد بتشكيلها جبهة للمخابرات السوفييتية وبعد تحوله إلى الستالينية؛ تعرضت تسفيتيفا المسئولة عن توفير احتياجات الأسرة المادية من الكتابة ومن المساعدات التي كانت تتلقاها من أصدقائها الأغنياء لحالة من العزلة المترتبة على نشاط زوجها السياسي، وكانت الأجواء المحيطة بها في ذلك الوقت شديدة التوتر وفي تلك الأثناء كان ( إيفرون ) يتحدث عن مغادرته إلى روسيا، وعن شعوره بالذنب تجاه مشاركته في القتال في الحرب الأهلية إلى جانب الجيش الأبيض، وبدورهم كان أبناؤهما يؤيدون وجهة النظر تلك، وفيما بدأت ابنتها بالعمل لدى إحدى المجلات الفرنسية اليسارية، وبالتورط في دائرة الولاء للسوفييت؛ بدأت تراودها بعض المخاوف بالنظر إلى أن تلك المرحلة كانت هي مرحلة ستالين المرعب الأكبر، وكانت العودة بالنسبة لها كابوساً رهيباً، وما قالته للآخرين هو أن زوجها كان يرى ما يحب أن يراه، ويغّض الطرف عما كان يجري في روسيا، وحتى بعد عودة ابنتها إلى موسكو في سنة 1937 ، ظلت مترددة في ذلك، غير أن الحياة في باريس كانت مستحيلة بالنسبة لها، في أعقاب خضوع زوجها للتحقيق على يد رجال الشرطة الفرنسية لعلاقته بجريمة قتل جاسوس سوفييتي كان يرفض العودة لروسيا.في سبتمبر 1937، وقبل إكمال التحقيق مع ( إيفرون )نجح في الفرار إلى الاتحاد السوفييتي، فيما أكدّت التحقيقات الأخيرة علاقته بالسلطات السوفييتية، وتورطّه في عدد من الاغتيالات بما في ذلك اغتيال ابن تروتسكي في تلك المرحلة، وبسبب عدم تصديق الآخرين أنها لا تعرف شيئاً عن نشاط زوجها الإستخباراتي؛فقد فقدت علاقتها بأصدقائها كما تعرضت للإقصاء من الأوساط الأدبية، ولم تكن قادرة على نشر أي من أعمالها، وظلت تعيش في تلك الفترة على الراتب البسيط الذي منحتها إياه في ذلك الوقت السفارة السوفييتية بانتظار السماح لها بالعودة إلى موسكو، وفي 12 يونيو 1939 غادرت هي وابنها، وفي خطابها الأخير لأحد الأصدقاء وهي تغادر بحراً من الهافر كتبت تقول:’ وداعاً! إن ما يأتي الآن لن يكون شاقا على الإطلاق، ما يأتي هو القدر’.وفي موسكو تناهى إلى علمها أن شقيقتها كانت تقيم بأحد المعسكرات ولم يمض على وصولها شهران؛ حتى القي القبض عليها حيث واجهت اتهاماً بالتجسّس لصالح حكومات غربّية، ليتم إلقاء القبض على زوجها بعد وقت قصير، وهناك احتمال بأن يكون ( إيفرون ) قد لقي مصرعه بعد ذلك بوقت قصير رمياً بالرصاص، فيما أمضت ابنتها سبعة عشر عاماً من الإقامة في المعسكرات، غير أنها لم تراهما بعد ذلك، وفي تلك الأثناء لم يكن لديها المال ولا الملجأ الذي تعيش فيه، حتى أن أصدقائها السابقين كانوا شديدي الحذر من مساعدة زوجة ‘عدو الشعب’ المهاجر السابق. وعندما عادت مارينا إلى موسكو من المهجر في سنة 1939 بعد غياب استمر سبعة عشر عاماً حدثت فيها تحولات جذرية في حياة بلادها ، فقد وجدت زوجها مريضاً يقيم في بيت صيفي في ضواحي موسكو، وفي السنة نفسها اعتقلت ابنتها وزوجها ، حيث كانت ابنتها ( أريادنا ) قد رجعت الى الاتحاد السوفييتي في عام 1937 مع والدها، وفي شتاء وربيع 1940 عاشت في بيت الكتاب في ضواحي موسكو ، وقد كتبت في هذه السنة في دفترها الشخصي ( لا اريد أن أموت ، أريد ألا أكون .هراء. ما زلت ضرورية . لكن يا إلهي ، كم أنا صغيرة لا أستطيع شيئاً ) وأضافت ( ربما أحببت أكثر من كل شيء في الحياة المأوى ، وهو ما هرب من حياتي دون عودة ) ، وفي عام 1941 كتبت مارينا في إحدى رسائلها عتاباً قاسياً تلوم موسكو التي منحها والدها متحف الفنون ومكتبته ومكتبة أبيه ومكتبة زوجته ، وهي التي بخلت على ابنته بغرفة تأويها حيث تقول ( نحن اهدينا موسكو، وهي رمتني ) .وعلى الرغم من اشتغالها بالترجمة ذات المردود المادي القليل، ورغم تقديمها للنشر مجموعة من الأعمال الشعرية، إلا أن الناشرين كانوا يرفضون نشر أعمالها بحجة عدم تضمنها ما تقوله للشعب السوفييتي، ورغم سعي باسترناك إلى مساعدتها إلا أن ذلك لم يكن مجدياً في أثناء غزو ألمانيا لروسيا في يونيو 1941 وإمطارها موسكو بالقنابل.وإبان شعورها المتزايد بالخوف نجحت في الفرار إلى ( إيليبوغا )،وهي قرية صغيرة على نهري تويما وكاما، واستأجرت منزلاً ثم توجهت إلى إحدى المدن الكبرى حيث كان يقيم عدد من الكتاب ، فيما استمرت جهودها في السعي إلى الاستقرار هناك، حتى أنها كانت تسعى للحصول على وظيفة غاسلة أطباق في الكافيتيريا التي كان يرتادها أولئك الكتاب، وعلى الرغم من الأمل الكبير بفوزها بتلك الوظيفة إلا أنها نفسها كانت قد وصلت إلى مرحلة شديدة من اليأس ففي 31 أغسطس، وفي أثناء غياب ابنها ومالكي المنزل الذي كانت تقيم فيه، علقت نفسها بمشنقة على مدخل غرفتها وكانت قد تركت ثلاث رسائل صغيرة، اثنتان منها تتوسل فيهما لأصدقائها من أجل رعاية ابنها فيما الأخيرة موجهة له :’ سامحني، لكن الأمور كانت ستصبح أكثر سوءا إنني مريضة حقاً، هذه ليست أنا، أحبك بجنون حاول أن تفهم أنني لم أعد أطيق العيش أكثر من ذلك، أخبر والدك وأختك – لو رأيتهما – أنني أحببتهما لآخر لحظة، وقل لهما أنني وصلت إلى طريق مسدودة’ وفي سنة 1941 أجليت مع ابنها مع سكان موسكو خشية الاحتلال النازي، وسجل مودعوها أنها كانت قلقة تبحث دائماً عن ابنها مع أنه قربها ، وفي طريقها الى ( ايليبوغا ) التي وصلتها في آب 1941 بعد رحلة شاقة وطويلة وعاشت فيها عشرة أيام فقط قبل أن تنتحر ، كتبت الى اتحاد الكتاب التتري رسالة تقول فيها ( أطلب أن تفيدو مني كمترجمة . لا آمل في الاقامة في ( ايليبوغا ) لأني لا أملك إلا مهنة الكاتب ، وفي ايليبوغا حصلت على مسكن عند رجل وامرأة وكان برفقتها ابنها وكان في حينه في السادسة عشرة من عمره، وكان غريباً عن الحياة في روسيا وغير واع لظروف الحرب ، فطلب من أمه طقماً جيداً وجوارب جيدة ، وماذا بوسع أمرأة مهاجرة محطمة فقيرة الحال أن تفعل من أجل تلبية طلب ابنها ، وعندها فقد اقترح عليها أن تغسل الصحون في مطعم ، فسافرت بعد أيام قاصدة الكاتب ( أسييّف )، لعله يستطيع أن يساعدها في الحصول على عمل في مجال الكتابة، وعادت بعد ثلاثة أيام محطمة حيث أن أخوتها الكتاب ، ومنهم أسييّف وفيدرين لم يساعدوها ، وربما لم يعدوها بمساعدة، فعادت من لقائها بهم يائسة ، وفي 31 آب في يوم العمل الطوعي ، وكان يوم أحد ، خرجت صاحبة البيت مع ابن مارينا ، وخرج زوج صاحبة البيت غلى السوق ، وبقيت مارينا في البيت طالبةً ألا يزعجها أحد ، كتبت رسالة الى ( أسييّف ) راجيةً أن يُعنى بابنها . وانتحرت . ولما عادت صاحبة البيت ورآت مارينا مشنوقة استدعت الشرطة التي أخذت بدورها الجثة الى المستشفى ومن ثم الى القبر ، ولم يشيعها أحد حتى ابنها فبقي مكان قبرها مجهولاً ، وفي مرتفع من المقبرة دفن مهجرو موسكو الموتى، وهناك وضعت فيما بعد أخت مارينا لوحة كتبت عليها في اختصار : في هذا الجانب من القبرة دفنت مارينا ايفانوفنا تسفيتايفا في 31 آب 1941. وهكذا تكون قد انتهت رحلة حياة هذه الشاعرة بشكل تراجيدي عن تراب وطن لم يتسع صدره للحرية، حيث لم تعد تجد لها موطىء قدم في بلاد أصبح الرعب يسيطر عليها ويحيل البشر فيها الى مجرد أوراق في مهب الريح. فيما أخذ مور إلى الخدمة العسكرية في سنة 1943 ليلقى حتفه في سنة 1944.وتقول فكتوريا سكويتزر إحدى كاتبات سيرة حياتها: عندما أبعدت عن المشنقة وأخذت إلى المشرحة، عثر الحانوتي في أحد جيوب الغطاء على مفكرة مراكشية زرقاء، ورغم وجود قلم رصاص رفيع جداً مرفق بها، إلا أن المفكرة كانت بالتأكيد صغيرة جداً لا يمكن تدوين أي شئ بداخلها، لكنه ظل محتفظا بها، ظل محتفظاً بها لأكثر من أربعين عاماً ومن فراش الموت طلب تسليمها إلى أقاربها وبداخلها، كانت هناك رسالة مكتوبة بخط يدها تبدو كما لو أنها من العالم الآخر مرسلة إلى ابنتها في مورودوفيا، الاسم الذي كان يطلق على الجمهورية السوفييتية الواقعة في الأورال، والتي أرسلت إليها ابنتها لتعيش في أحد معسكرات العمل بها..وبعد نصف عام على مقتلها اشتكى الكاتب الكبير بوريس باسترناك قائلاً : ‘ لو أنها صبرت شهراً فقط لكُّنا سافرنا انا وقسطنطين ألكسندر روفيتش ( فيدين ) ، ولضمنا لها نفس مقومات الحياة التي كانت متوفرة لنا ، لعملت كما نعمل ، ولشاركت في اجتماعاتنا الأدبية الدورية ، ولعاشت في تشيستابول ‘.والحقيقة أن الأمر الوحيد الذي كا يوثقها الى الحياة كان حبها لابنها، أما ما تبقى فقد أقصته، مور وحده كان بإمكانه أن يمسك بها ، كان عليه أن يجعلها تفهم أن وجودها ضروري له، وجودها هي بالذات وليس ما تكسبه، وليس إقامتها كذلك ، لكنه لم يفعل هذا ، وعليه فقد بدأت تدرك في شهر شباط ان النهاية قد حانت ، فكتبت شعراً حزينا يشير الى حتمية النهاية،وترى ( فيكتور ياشفيتسر ) في كتاب لها أصدرته عن الشاعرة بعنوان ( حياة وكينونة ) وقامت بترجمته للغة العربية الكتورة أميرة الحسيني بأن الشاعرة مع أنها كانت تفكر طيلة الوقت في الانتحار إلا أنها كانت تخافه ، فهو مشوه ومفزع ولكنها لجأت اليه حين لم تجد أمامها مخرجاً، ويتضح هذا من شعرها :.موسم نزع الكهرمان قد حانوحان وقت تغيير المفرداتوحانت، ساعة إطفاء القنديلالذي فوق الباب … المراجع:-1.جريد الاتحاد،جريدة يومية سياسية، الصحيفة المركزية للإتحاد الوطني الكردستاني، العدد 1561، تاريخ( 15/5/2007)،السنة الخامسة عشرة ، ثقافة وفن : تسفيتايفا باسترناك ريلكة : رسائل من القلب، ترجمة: سعد هادي سليمان عن lieraire الفرنسية .2.رؤية في شعرية مارينا تسفيتايفا ، راشد عيسى ، مجلة أفكار ، صفحة( 177- 180)،3.مارينا تسفيتايفا من رسائلها ، د. ناديا خوست ، مجلة الأداب الأجنبية مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق ، العدد 98 ربيع 1999.4.تسفيتيفا : ما يحملني على أن أصبح شاعرة هو عدم الرغبة بأن أكون فرنسية أو روسية، بقلم : مريم جمعة فرج ، مجلة البيان ، 9 مارس 2003 العدد 161.5.حياة وكينونة مارينا تسفيتايفا : مقدمة الجحيم،مجلة الشاهد ، العدد 161 (كانون الثاني 1999) تصدر عن شركة الشاهد للنشر والتوزيع نيقوسيا .6.أديبات منتحرات بصمات واضحة ما زالت داخل الثلج، إعداد: تيسير النجار،ملحق مشارف، جريدة العرب اليوم، صفحة 25، العدد 1163 السنة الرابعة ، الاثنين 24/7/2000 .7.مختارات من أشعار مارينا تسفيتايفا ، إختيار وترجمة : د. ثائر زين الدين ، مجلة الأداب الأجنبية ، مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق ، العدد 98 ربيع 1999.8.ضحية الأنظمة الشمولية ..عندما أموت سيُنشَر كل شيء ، مارينا تسفيتيفا روسيا ، ترجمة كريم المالكي : عن الهيرالد تريبيون، جريدة الراية ( 15/1/2007) .
مارينا تسفيتايفا: حياة ضاجّة وشعر متفرّد/ رباب هلال
كانت تسيفيتايفا رصينة في مواقفها السياسيّة، فلم تأبه بآراء أدباء المنفى الغاضبة، وكتبت مقالاً عن شاعر الثورة العظيم مايكوفسكي بعد انتحاره، ومجّدت بشعره، بعيداً عن اختلاف مواقفهما السياسيّة
بدأت حركة الترجمة من الروسية إلى العربيّة في منتصف القرن التاسع عشر في بلاد الشام ومصر والعراق، وعانت ما عانته في مسيرتها المتعرّجة، من انعدام الأمانة والدقّة أحياناً، ومن النقل عبر لغة وسيطة؛ الفرنسيّة أو الإنكليزيّة، أغلب الأحيان. وتبعاً لتأثير السياسي على الثقافة والآداب والفنون، فقد ازدهرت الترجمة خلال العهد السوفييتي لعلاقاته الطيبة مع العالم العربي عامّة. وبحكم سيطرة الدولة السوفييتيّة على الفكر والأدب والفن، وسعياً منها لتوطيد التبادل الثقافي بين الجهتين، فقد أنشأت في موسكو دوراً خاصة بترجمة إرثها الأدبي والمعرفي إلى العربيّة: دار التقدّم، رادوغا، ومير، التي نشرت روائع الأدب الكلاسيكي، كأعمال لديستويفسكي، بوشكن، غوغول، ليرمنتوف، تولستوي، تورغينييف، تشيخوف. إلى جانب أعمال الأدباء السوفييت حصراً، التي تخضع للمعايير الفنيّة والجمالية لتيّار”الواقعيّة الاشتراكيّة”، المذهب الرسمي للأدب آنذاك! فنشرت مؤلفات لغوركي، كوبرين، بريسوف، شولوخوف، أندرييف، ما يكوفسكي، إيتماتوف… لتفتقد المكتبة العربيّة مؤلفات الكتّاب المنشقّين عن البلاشفة، أو مؤيّدي الجيش الأبيض، سواء في المنفى أو في الداخل الروسي! غير أنّ الترجمة تراجعت إثر انهيار الاتحاد السوفييتي، لانكفاء الدولة عن دعمها، وتوقّف الدور المعنيّة بشؤونها، وللعجز الاقتصادي وقلّة حيلة المترجمين العرب. لكنّ عديداً منهم تولّوا بجهودهم الشخصيّة إثراء المكتبة العربيّة بمزيد من الترجمات. إذاً، لم يكتمل المشهد الأدبي الروسي عامّة، خلال القرن العشرين، إلّا مع انطلاق “البيروسترايكا” التي ألغت قانون النشر والمطبوعات والصحافة القمعي السوفييتي، من دون أن تتوانى هي الأخرى عن فرض قانونها القمعي! فانفكّ الحظر عن أعمال كتاب وفناني العهد المنصرم، بينهم أصوات عظيمة مؤثّرة. منهم أدباء ينتمون إلى “العصر الفضّي”، الذي امتدّ من أواخر القرن التاسع عشر حتّى نهاية عشرينات القرن العشرين. وفيه شهدت الثقافة الروسيّة عامّة ازدهاراً واسعاً، وبرز عدد من عمالقة الأدب والفن، ما لم يشمله أيّ عصر روسيّ آخر، حتّى في “العصر الذهبيّ”/ العصر البوشكيني. كما تميّز العصر الفضّيّ بتعدّد المذاهب الأدبيّة وتنوّع التيّارات الشعريّة المجدّدة والحداثيّة، وبروز شعراء كبار أمثال، بلوك، خليبينكوف، باسترناك، غوميلوف وزوجته آنا أخماتوفا، مايكوفسكي، ماندلشتام، بريسوف، ومارينا تسيفيتايفا. وقد صدر حديثاً، عن دار التكوين بدمشق، كتاب بعنوان” مارينا تسيفيتايفا.. بعض حياة وشعر”، (في 260 صفحة)، ترجمة الأديب والناقد القدير نوفل نيّوف. ولعلّه الكتاب الأوّل الذي يصدر باللغة العربية عن حياة الشاعرة وإرثها الأدبي. ولنوفل نيّوف إسهامات عديدة في ترجمة مؤلفات مهمة لأدباء ومنظّرين روس حديثين. كان لابدّ للمترجم من وضع مفردة (بعض) في العنوان، إذ أنّ حصر حياة شاسعة ثرّة كحياة تسفيتايفا الدراميّة في كتاب واحد ضربٌ من الاستحالة. وقد كتب الروس عن أدبها وسيرة حياتها كثيراً جدّاً من الكتب والدراسات، فاعتمد المترجم في ترجمة كتابه هذا وتوليفه، مصادر ثلاثة لسيرة الشاعرة: ممّا كتبته تسفيتايفا بنفسها، وما كتبته عنها شقيقتها أناستاسيّا، وما كتبه الناقد هنري تروّايا.
يبرز جهد المترجم وبراعته في تنسيق اختياراته في فصول شيّقة عميقة وشاملة، توجز مسار حياة تسيفيتايفا (1892- 194)، منذ طفولتها الآمنة، الغنيّة بالكتب والشعر والتمرّد. فقد كانت سيّدة الـ “لا” لكلّ “نعم” خائفة خانعة، برأيها! مروراً بما كابدته مع اندلاع ثورة أكتوبر العظيمة، من مآس وبؤس في وطنها وفي المنفى، وبمؤلّفاتها، وآراء الأدباء والنقاد في شعرها، وصولاً إلى وفاتها. وأدرج عديداً من قصائدها وفق تسلسلها الزمني، أردفها بملحقين، لمقتطفات من دفاتر يوميّاتها، ومن كتابها” معالم أرضيّة”، شذرات لا تقلّ أهمّية عن مضامين شعرها عمقاً وإدهاشاً، ثمّ قصّة لقائيها الوحيدين بالشاعرة آنّا آخماتوفا! في العام 1922، في عهد تروتسكي وستالين، رُحِّلَتْ مارينا من وطنها في سفينة أُطلق عليها اسم “سفينة الفلاسفة”، مع أدباء آخرين وغيرهم من أصحاب الأدمغة، المؤيّدين للجيش الأبيض، وذلك لنفيهم عوض قتلهم! رحلتْ تسيفيتايفا بقلب يمزّقه الألم هرباً من القمع الذي أخرس بمختلف الأساليب الذين اختاروا البقاء في الوطن، وللخلاص من شظف العيش والعوز بعد استيلاء البلاشفة على إرث أبيها ومستحقّاتها المصرفيّة الشهريّة، ثمّ من الإحساس القاتل بالغربة الذي لاحقها حتى آخر أنفاسها. قضت في المنفى سبعة عشر عاماً، كان أغلبها في باريس. كانت تسيفيتايفا رصينة في مواقفها السياسيّة، فلم تأبه بآراء أدباء المنفى الغاضبة، وكتبت مقالاً عن شاعر الثورة العظيم مايكوفسكي بعد انتحاره، ومجّدت بشعره، بعيداً عن اختلاف مواقفهما السياسيّة، لتبدو مغامرتها تلك، أشدّ مجازفة مما فعلته سابقاً مع النظام القيصري المؤازرة له، في تحميله مسؤوليّة موت الشاعر بوشكن، وذلك في دفعه إلى مبارزة لقتله، وسيلة القيصر المعهودة للتخلص ممّن يخالفه! يقول الناقد تروايّا:” إن حبّ كلمة الحق قتلَ في تسيفيتايفا حبَّ الكلام الصاخب”. في سنّها السابع عشر، نشرت أوّل كتبها “ألبوم المساء”. وقد جذب اهتمام شاعرين كبيرين؛ بريسوف مؤسس المدرسة الرمزيّة في الشعر، الذي كتب عنه:” بداية واعدة جدّاً…باذخة لكنّها قليلة الأهمّيّة…”. ثمّ الشاعر غوميلوف الذي كتب:” كثير هو الجديد في هذا الكتاب… فقد اكتشفت الشاعرة هنا غريزيّاً كلّ القوانين الأهمّ في الشعر…”. كانت تسفيتايفا شديدة الثقة بموهبتها، فلم تأبه بأيّ نقد يقلّل من شأنها، غير أنّها، في مناسبة أخرى، ستهجو بريسوف شعراً:” نسيْتُ أنّ قلبكَ ليس أكثر من سراج/ وليس نجمة/ أنّ شعركَ من الكتب/ ونقدكَ من الحسد/ أيّها العجوز باكراً، مرّة أخرى/ للحظة بدوتَ لي شاعراً عظيماً…/
“شعركَ من الكتب”! اتهامّ حسّاس وجرئ من شاعرة شابّة لشاعر كبير القدر! كانت مارينا تدرك أنّ شعرها مستقلٌّ ومتميّزٌ، فلم يكن من الكتب، ولا يتبع أي تيّار شعري، هي التي جاءت شاعرة إلى وسط حشد من عمالقة الشعر الروسي: بلوك، غوميلوف وزوجته آنا أخماتوفا، كوزمين، وبريسوف، وغيرهم! تقول في مذكراتها:” دائماً كنت أعرف كلّ شيء، وذلك منذ الطفولة. دائماً كان عندي معرفة فطريّة”. تؤمن بأن الإلهام يوحى به لها، وكأنّما يُملى عليها! كانت تمطر الشعر وتنزفه، آخّاذاً بغموضه، وحاملاً صرخات كلّ من لا يستطيع إخراج الصرخة بنفسه. أصدرت كتباً شعريّة عديدة. وكتبت المسرحيّات الغنائيّة، والنثر، لها رواية واحدة، النقد، والمقالات. ترجمت عن الفرنسيّة وإليها. وخلّفت دفاتر يوميّات كثيرة، ومراسلات هامّة تبادلتها مع أصدقائها الشعراء: بلوك، فولشن، ريلكه، وغيرهم. في إحدى حواراتهما حول دور الشعر في زمن الثورات، كتب لها باسترناك أنّه:” لا يعدّ الشعر الفعل الأنجع في زمن الحروب والثورات الذي يتطلب مؤرّخاً أو كاتباً ملحميّاً.” فكتبت مارينا له:” إنّي لا أفهم عزمك على هجر الشعر. فماذا بعد؟ هل تلقي بنفسك عن جسر في نهر موسكو؟ إن الشعر، يا صديقي الغالي، مثل الحبّ، يظلّ معك إلى أن يهجرك هو… فأنت عبد عند الشعر”. لم يهجرها الشعر أبداً، رغم المآسي والفجائع. ففي العام 1906 توفيت أمها شابّةً، وفي العام 1940 أُعدم زوجها الصحفي والسياسي إفرون، وبين العامين دام الموت يطوف حولها: وفاة أبيها، وفاة طفلتها إيرينا (3 سنوات) جوعاً في المأوى، ثمّ المنفى، انتحار يسينين ومايكوفسكي، إعدام ماندلشتام وغوميلوف، موت غوركي الإشكالي، وفاة بلوك بعد منعه من السفر للعلاج خارج البلاد، واعتقال شقيقتها الوحيدة أناستاسيّا وابنها. تلاه اعتقال ابنتها أرديانا ونفيها إلى معسكر الاعتقالات. باكراً عرفتْ تسفيتايفا أنّ:” الأرض ليست كلّ شيء”. وأنّ:” الحياة ليست كلّ شيء”. فأرادت كلّ شيء: الشعر، الحبّ، الصداقة، الوطن، الحياة والموت، أيضاً! في الثامنة عشرة من عمرها، كتبت:” آهٍ، قُدّر لي الموت، ما دامت الحياة/ مثل كتاب أمامي./ أنت حكيم، لن تقول لي بحدّة:/” اصبري، لم يأتِ أجلُكِ بعد”./ أنتَ من وهبتني الكثير الكثير!/ أتعطّش للطرق دفعة واحدة”. وكتب زوجها الصحفي والسياسي إفرون:” كانت تسعى إلى الموت. لقد انسحبت الأرض من تحت قدميها…”. عاشت غراميّات عاصفة، مع الرجال والنساء. كتبت للشاعر فولشن:” لسْتُ للحياة. كل شيء عندي – حريق! أستطيع أن أقيم عشر علاقات معاً. يا للـ “العلاقات”! وأن أؤكد لكلّ واحد منهم من أعمق أعماقي أنّه الوحيد”. وفي أواخر حياتها، كتبت:” كلّ ما في الأمر أن نحبّ، أن ينبض القلب فينا – لو تحطّم نثرات! إنني دائماً أتحطّم نثرات، وما أشعاري إلّا نثرات قلبي الفضيّة بالذات”. في 31- آب/ أغسطس- 1941، لم تعد تتحمّل، فشنقت نفسها بالحبل الذي أعطاها إياه باسترناك سنة (1939) في باريس لحزم أمتعتها حين عودتها إلى الوطن! ويا للعودة!
====================
من أشعارها
مارينا تسفيتاييفا: إلى التالية
القصيدة المختارة هنا مأخوذة من مختارات أعدها إبراهيم إستنبولي وصدرت ضمن سلسلة كتاب دبي 2013.
سواء كنتِ قديسة أم أشد الناس إثمًا،
مقبلة كنت على الحياة
أم خلفتها وراءك –
أحبيه فحسب! أحبيه بحنان أكثر،
هدهديه لينام كما الطفل
على صدرك.
لا تنسِ أن النوم أكثر ضرورة
من الغزل، فلا توقظيه فجأة
من النوم محتضنة إياه.
كوني معه للأبد
فليعلمك الإخلاص
شجنه ونظرته الحنون.
كوني معه للأبد
فالشكوك تضنيه.
المسيه بحركة ملائكة الرحمة
وإذا ما راحت أحلام الطهارة
تبعث الملل كوني قادرة
على إضرام نار الشعلة الهائلة!
لا تبادلي أحدة إيماءة
من الرأس بجسارة،
دعي أحزان ما مضى
ترقد في أعماقك.
كوني له تلك التي
لم أتجرأ أن أكون
لا تهلكي أحلامه توجسًا؟
كوني له تلك التي
لم أستطع أن أكون
أحبيه بلا حدود
أحبيه حتى النهاية!
—————————
تمشي وتبدو مثلي.. مارينا تسفتيفيا
ترجمة د. عبير الفقي
____________________
تمشي وتبدو مثلي،
بعينيك المتجهتين إلى أسفل.
أنا أيضا أعتدت إخفاض عيني!
أيها العابر بالجوار، توقف!
اِقرأ – عندما تتجمع حولك باقات الفراشات وزهور الخشاش-
أنني كنت أُدعى مارينا
وهكذا كان عمري.
لا تفكر في أن هذا قبراً
وأنني سوف أظهر لك منه، بشكل مخيف..
لقد كنت أحب الضحك كثيرًا
عندما لم يكن ينبغي عليّ فعل ذلك!
كانت الدماء تعود إلى وجهي
ويتموج شعري..
أيها العابر بالجوار،
لقد كنت أيضاذات مرة عابرة مثلك!
———————–
قصائد/ مارينا تسفيتايفا
ترجمة: د. جمال حسين –
ليس ذنبي إن كان ذلك كله يفضي
إلى كتابة قصائد.
* * *
لم أرسلك إلى الميتم لأتخلّص منك،
بل لأنهم وعدوني بأنك ستجدين هناك
الأَرُز والشوكولاتة.
* * *
المرأة منذ المهد
ذنب قاتل لأحد ما.
* * *
وداعاً أيها الحقل
وداعاً يا مغيب الشمس
وداعاً يا أرضي،
أرضي أنا
سيكون الأمر محزناً.
ليس بالنسبة إليّ فحسب،
بل لأن لا أحد أحب ــــ مثلي ــــ
ذلك كله.
* * *
هل سيصبح طحيناً
ذلك الذي كان عذاباً؟
* * *
لا تحكم علينا
لأنك لم تكن امرأة على الأرض.
* * *
هي أشعاري في الصبا والموت الرديء
التي لم يقرأها أحد
قد تجدها مبعثرة في المخازن
يعلوها الغبار ولا أحد يشتريها
هي أشعاري كالنبيذ المعتق
سيأتي زمنها حتماً!
* * *
لربما نلتقي مجدداً
فلا أحمل الآن شعور:
اللقاء الأخير!
* * *
أحبك بكل لحظة طوال حياتي
لكن، كم هو مؤلم
أنّ كل شيء بدأ وانتهى
من دونك!
* * *
أراه وأسمعه..؟!
كثير جدّاً في آنٍ واحد
لذلك، حينما أسمع صوته
أغلق عينيّ.
* * *
لقد أوضح لي بطريقة مدهشة،
لماذا هو لا يحبني
واستمعتُ إليه،
وكلّي آذان طيبة.
* * *
اصبري عليه وستحبينه..
أحب هذه الجملة،
ولكن بالعكس.
* * *
عندما تحبّ شخصاً،
تريده أحياناً أن يذهب،
كي تحلم به.
* * *
عندما لا أحب، لا أكون أنا،
ومنذ فترة طويلة
لم أعد أنا.
* * *
سأقبّلك
من خلال مئات أميال
الانقسام.
* * *
أنا لستُ فتاة ولا امرأة
لستُ بحاجة إلى دمى
ولا رجال
أستطيع العيش دون الجميع
لكني أتمنى
لو لا أستطيع.
* * *
في العالم:
عدد محدود من الأرواح
ولا نهائي من الأجساد.
* * *
نضحك
نضحك
ووحشتنا
تزيد
تزيد.
* * *
لا يؤلمني شيء في جسدي
لكن روحي لا تدعني أستكين من الألم.
* * *
الضحك الصاخب
لا يخفي الألم المتوحش.
* * *
إذا نظرتُ إليك
فلا يعني أنني أراكَ.
* * *
هنا: لا حاجة لي.
هناك: لا أستطيع.
* * *
القريب ـــــ يستوعب ضعفنا
الغريب ـــــ لا يفهمه.
* * *
أنتظر من يفهمني خطأ
لكي يطلق عليّ النار!
* * *
لو تألمت من شيء،
فاسكت لا تدلّهم أين،
فسيضربونك هناك بالذات!
* * *
كلّ كتاب ــــ يسرق مِن عمرك،
وكلّما قرأت أكثر
قلَّت رغبتك في الحياة!
* * *
ضعوه بين الأعشاب والصنوبر
تعب رأسي من الحروب.
القبس
————————
لا أُفكر، لا أشكو، لا أجادل،
لا أنام،
لا أسعى إلى الشمس ولا إلى القمر،
لا إلى البحر ولا إلى السفينة،
لا أشعرُ بالحرارة الخانقة بين هذه الجدران،
ولا كم هو الاخضرار في الحديقة، لا أنتظر الهدية التي طالما كنت أنتظرها،
وأرغب بها من زمن طويل،
لا الصباحات تفرحني، ولا الجري الرنان للترمواي (القِطار)،
أعيشُ دون أن ألْحَظَ النهار وقد نسيت اليوم والقرن،
فأنا، كما يبدو، مجرد راقصةٍ صغيرةٍ
على حبل متقطع. أنا – ظل لظل أحد ما،
أنا – مصابة بالروبصة (السير خلال النوم)
من قمرين اثنين معتمين.
-مارينا تسفيتاييفا
—————————
قصائد للشاعرة الروسية: مارينا تسفيتايفا
ترجمة: د.ثائر زين الدين
إلى بلوك (1).
-1-
اسمُكَ – طيرٌ في راحة اليد.
اسمكَ- قطعةُ ثلجٍ على اللسان.
ارتعاشةُ شفة.
اسمكَ- خمسةُ حروفٍ،
كرةٌ في الهواءِ تلتقطها اليدان.
جرسٌ فضيٌ ناعمٌ في الفم.
رُبّما كانَ لحجرٍ يسقطُ في بركةٍ هادئةٍ
أن يُصدرَ صوتاً مشابهاً لاسمكَ،
ووسطَ القرع الخفيفِ لسنابكِ الليل
يقصفُ اسمُكَ كالرعد،
وقد يُذكِّرِنا باسمِكَ صوتُ
ارتدادِ زنادٍ مُسددٍ للصدغ.
اسمُكَ -آه يجب أن أتوقّف!-
اسمُكَ- قبلةٌ في العين
في جفنٍ ناعمٍ، باردٍ، وثابت.
اسمكَ- قبلةٌ في الثلج
جرعةٌ باردةٌ صافيةٌ من رأس النبع.
ومع اسمك يمتدُّ حُلُمٌ عميق.
15 نيسان 1916.
-2-
أيّها الشبحُ الرقيق
أيّها الفارسُ العزيز النفس
أراكَ تقفَ في الضباب الرمادي
بثوبكَ الثلجي الطويل.
لا ليسَ ريحاً
هذا الذي يتبعني في طرقات
المدينة؛
فللمساءِ الثالثِ
أحسُّ بوجودِ عدوٍ ما.
هاهو طائرٌ التم الثلجي
يفرشُ تحتَ قدميَّ بساطاً من ريش؛
الريشُ يُحلّق،
وبهدوءٍ ينغرسُ في الثلج،
وعلى متنهِ أطيرُ نحو بابٍ
يقفُ خلفهُ الموت؛
موتٌ يُغنّي لي،
من خلفِ شبابيكه الزرقاء،
يغنّي لي
بأجراسٍ تهتفُ من بعيد..
بصرخاتٍ طويلة…
ويدعوني
وبصيحاتِ التمِ.
أيُّها الشبحُ الرقيق
أعلَمُ أنني إنما أرى حُلماً،
فاصنع لي معروفاً:
اختفِ.. آمين
آمين… آمين.
1 أيار 1916.
للوحشِ- مغارة
للغريب- طريق
للميتِ- نعش
ولكلٍ – مالَهُ
للمرأةِ أن تخدّع
للقيصرِ – أن يحكم
ولي- أن أمجّد اسمك.
2 أيار 1916.
-4-
ها هو ذا -انظر- مُتعبٌ من
الغُربة،
زعيمٌ بلا أتباع.
ها هو ذا يحتفن من مياه الجدول
أميرٌ بلا وطن.
هناك كُل شيءٍ لَهُ: إمارةٌ، جيشٌ،
خبزٌ وأم.
جميلٌ، إرثكَ أيها الوريث
يا صديقاً بلا أصدقاء.
10 آب 1921.
(………..)
سعيدةٌ أنا؛ أن أعيشَ مِثالاً،
وببساطة:
كشمسٍ -كنواسٍ- كتقويم.
أن أكونَ كمتصوّفةٍ راقية،
ممشوقة القامة،
وحكيمة ككلِ ما خلقهُ الله.
أن أعرفَ: تلكَ الروح- التي
تُرافقني
والروح- التي تقودُني
وأُدخلَ في الأشياءِ دونَ مقدّماتٍ،
كشعاعٍ، كنظرة.
وأعيشُ هكذا… كما أكتب:
باختصارٍ، ومثالاً للآخرين-
كما يريدُ الله؛ وكما لا يُريدُ
الأصدقاء!
22 تشرين ثاني 1918.
(……….)
لم أعدّ أُريدكُ ياعزيزي-
ليسَ لأنّكَ لم تكتب لي
مع أوّلِ بريدٍ قادم
وليسَ لأنكَ ستحاولُ -ساخراً
فَهمَ هذهِ السطور- المكتوبة
لكَ بكثيرٍ من الألم
(السطور التي كتبتُها وحدي
– للمرّة الأولى- لكَ وحدك
والتي ستحاولُ فكَّ رموزها-
غير وحيد).
وليسَ لأن خصلاتِ شعرها
ستُلامِسُ خدّيكَ أثناءَ ذلك-
فأنا أيضاً أستطيع القراءة بصحبةِ
آخر!
وليسَ لأنّكما معاً
ستزفرانِ. بشدّة، وأنتما تنحنيانِ
فوقَ مفرداتي الغامضة.
وليسَ لأنّ أجفانكما ستسترخي
وتنغلقُ بدعةٍ وسلام؛ فالخطُ
صعبٌ
والرسالةُ- لسوءِ حظكما-
قصيدة!
لا ياصديقي فالمسألةُ أبسطُ من
ذلك
وأكثر أهميّةً من الشعور
بالأسف؛
لم أعد أريدك- لأنني
لأنني-
لم أعد أريدك!
3 كانون أول 1918.
الهوامش:
1 – هو الشاعر الروسي الشهير ألكسندر بلوك 1880-1921
—————————–
قصائد للشاعرة الروسية مارينا تسفيتايفا
في تموز 7, 2019
شارك
إلى بلوك (1)
-1-
اسمُكَ – طيرٌ في راحة اليد.
اسمكَ- قطعةُ ثلجٍ على اللسان.
ارتعاشةُ شفة.
اسمكَ- خمسةُ حروفٍ،
كرةٌ في الهواءِ تلتقطها اليدان.
جرسٌ فضيٌ ناعمٌ في الفم.
رُبّما كانَ لحجرٍ يسقطُ في بركةٍ هادئةٍ
أن يُصدرَ صوتاً مشابهاً لاسمكَ،
ووسطَ القرع الخفيفِ لسنابكِ الليل
يقصفُ اسمُكَ كالرعد،
وقد يُذكِّرِنا باسمِكَ صوتُ
ارتدادِ زنادٍ مُسددٍ للصدغ.
اسمُكَ -آه يجب أن أتوقّف!-
اسمُكَ- قبلةٌ في العين
في جفنٍ ناعمٍ، باردٍ، وثابت.
اسمكَ- قبلةٌ في الثلج
جرعةٌ باردةٌ صافيةٌ من رأس النبع.
ومع اسمك يمتدُّ حُلُمٌ عميق.
15 نيسان 1916.
-2-
أيّها الشبحُ الرقيق
أيّها الفارسُ العزيز النفس
أراكَ تقفَ في الضباب الرمادي
بثوبكَ الثلجي الطويل.
لا ليسَ ريحاً
هذا الذي يتبعني في طرقات
المدينة؛
فللمساءِ الثالثِ
أحسُّ بوجودِ عدوٍ ما
هاهو طائرٌ التم الثلجي
يفرشُ تحتَ قدميَّ بساطاً من ريش
الريشُ يُحلّق
وبهدوءٍ ينغرسُ في الثلج
وعلى متنهِ أطيرُ نحو بابٍ
يقفُ خلفهُ الموت
موتٌ يُغنّي لي
من خلفِ شبابيكه الزرقاء
يغنّي لي
بأجراسٍ تهتفُ من بعيد..
بصرخاتٍ طويلة…
ويدعوني
وبصيحاتِ التمِ.
أيُّها الشبحُ الرقيق
أعلَمُ أنني إنما أرى حُلماً
فاصنع لي معروفاً!
اختفِ.. آمين!
آمين… آمين!
1 أيار 1916.
للوحشِ- مغارة
للغريب- طريق
للميتِ- نعش
ولكلٍ – مالَهُ
للمرأةِ أن تخدّع
للقيصرِ – أن يحكم
ولي- أن أمجّد اسمك.
2 أيار 1916.
-4-
ها هو ذا -انظر- مُتعبٌ من
الغُربة،
زعيمٌ بلا أتباع.
ها هو ذا يحتفن من مياه الجدول
أميرٌ بلا وطن.
هناك كُل شيءٍ لَهُ: إمارةٌ، جيشٌ
خبزٌ وأم.
جميلٌ، إرثكَ أيها الوريث
يا صديقاً بلا أصدقاء.
10 آب 1921.
(………..)
سعيدةٌ أنا؛ أن أعيشَ مِثالاً،
وببساطة:
كشمسٍ -كنواسٍ- كتقويم.
أن أكونَ كمتصوّفةٍ راقية،
ممشوقة القامة،
وحكيمة ككلِ ما خلقهُ الله.
أن أعرفَ: تلكَ الروح- التي
تُرافقني
والروح- التي تقودُني
وأُدخلَ في الأشياءِ دونَ مقدّماتٍ،
كشعاعٍ، كنظرة.
وأعيشُ هكذا… كما أكتب:
باختصارٍ، ومثالاً للآخرين-
كما يريدُ الله؛ وكما لا يُريدُ
الأصدقاء!
22 تشرين ثاني 1918.
(……….)
لم أعدّ أُريدكُ ياعزيزي-
ليسَ لأنّكَ لم تكتب لي
مع أوّلِ بريدٍ قادم
وليسَ لأنكَ ستحاولُ -ساخراً
فَهمَ هذهِ السطور- المكتوبة
لكَ بكثيرٍ من الألم
(السطور التي كتبتُها وحدي
– للمرّة الأولى- لكَ وحدك
والتي ستحاولُ فكَّ رموزها-
غير وحيد).
وليسَ لأن خصلاتِ شعرها
ستُلامِسُ خدّيكَ أثناءَ ذلك-
فأنا أيضاً أستطيع القراءة بصحبةِ
آخر!
وليسَ لأنّكما معاً
ستزفرانِ. بشدّة، وأنتما تنحنيانِ
فوقَ مفرداتي الغامضة.
وليسَ لأنّ أجفانكما ستسترخي
وتنغلقُ بدعةٍ وسلام؛ فالخطُ
صعبٌ
والرسالةُ- لسوءِ حظكما-
قصيدة!
لا ياصديقي فالمسألةُ أبسطُ من
ذلك
وأكثر أهميّةً من الشعور
بالأسف
لم أعد أريدك- لأنني
لأنني-
لم أعد أريدك!
3 كانون أول 1918.
الهوامش:
1 – هو الشاعر الروسي الشهير ألكسندر بلوك 1880-1921
——————————
* حدثينا عن الحُب:
– حدّثينا عن الربيع!
قالَ الأحفادُ للجدّة.
فَهزّتِ العجوزُ رأسها ثمّ أجابتْ
– خاطئٌ هو الربيع
رهيبٌ هو الربيع!
– حدّثينا عن الحُب
عن أجملِ مافي الدُنيا.
غَنّى الأحفاد
فحدّقتِ العجوزُ في الموقد
ثُمّ أجابت: – آخ
خاطئٌ هو الحُب
رهيبٌ هو الحب!
وطويلاً – طويلاً حتى الشروق
كانت البراءةُ تُغنّي في ساحةِ
الدار:
– خاطئٌ هو الحُب.
رهيبٌ هو الحُب.
1919.
——————————–
* هويّــــــة:
بعضُهم من حجر، وبعضهم من
طين
أمّا أنا فأُضيءُ وألتمعُ كالفضّة!
عملي – هو التحوّل، واسمي
مارينا(2).
أنا -زبدٌ بحريٌ متحوّل.
بعضهم من طين، وبعضه من
جلد-
ولهؤلاء قبرٌ وشاهدة.
أما أنا ففي مَغْطسٍ بحريٍ تعمّدتُ
وفي طيراني نحو الشاطئ أتكسّرُ
باستمرار.
ما من شيءٍ يقفُ في طريقِ
إرادتي،
إنّها تُعبرُ الشِباكَ والقلوب.
أتظنُ بإمكانِكَ أن تجعلَ مِني
مِلحاً أرضيّاً؟-
لعلّكَ لا تنظرُ إلى خصلاتِ شعري المجّعدةِ الكثيفةِ؟
مُتكسّرةً عندَ رُكبكم الغرانيتّية-
أنبعثُ مع كل موجةٍ جديدةٍ.
فليحي الزبد – الزبدُ المَرِحُ
الزبدُ البحريُّ العاليَ!!
23 أيار 1920
——————————–
(……..)
سأخطفكِ من كلِ البلدانِ، كل
السماواتِ
لأنَ الغابةَ مهدي، وقبريَ الغابة!
لأنني أقفُ على هذهِ الأرض-
برجلٍ واحدة!
لأنني سأُغني لك-كما لا يفعل
أحد
سأخطفك من كل الأزمنة؛ كل
الليالي
كل الراياتِ المُذهبّةِ، كل
السيوف
وسأرمي المفاتيح، وأطردُ الجراء
من مدخلِ بيتي
فأنا أكثرُ منها إخلاصاً في الليلةِ
الشتويّة.
سأخطفك من الجميع- من هذه
وتلك
ولن تكون زوجاً لأحد- ولن أكونَ زوجاً لأحد.
وفي العراكِ الأخير سآخذك
من الذي وقفَ يعقوبُ بين يديهِ
في الليالي.
ولكنني مالم أصلبك على صدري
-يالعنتي!- فسيبقى جناحاك
مُشرّعنِ للطيرانِ
لأن العالم مهدك، وقبرك العالم.
15 آب 1916
——————————–
(………..)
يعجبني: أنكَ لستَ مريضاً بي،
يعجبني: أني لستُ مريضةً بك،
أنّ هذهِ الكَرةَ الأرضيّة الثقيلة
لن تسبَحَ تحتَ أقدامِنا في يومٍ من الأيام.
يعجبني: أن بإمكاني أن أكونَ
مُضحكةً،
مستهترةً، فلا أتلاعبُ بالألفاظِ،
ولا أتضرّجُ بالحُمرةِ حينَ
يتلامَسُ برفقٍ ذراعانا
يُعجبني أيضاً: أنكَ بحضوري
وبكثيرٍ من الراحة
تضمُّ إليكَ امرأةً أخرى
ولا تَعِدُنِي بنار جهنّم.
أحترقُ فيها لأنني لا أُقَبِّلُك
يُعجبني: أنّ اسمي العذب
ياصديقي الطيّب.
لا يخطُرُ على بالك لا في النهار
ولا في الليل.
وأنّهم لن يُرددوا فوقَ رؤوسِنا
وفي هدوءِ الكنيسةِ: هللويا!
شُكراً لكَ قلباً ويداً
لأنّك -ورغمَ جهلكَ بذلك-
تُحبُّني
شُكراً على هدوءِ الليالي
على قِلّةِ لقاءاتنا في ساعات
الغروب.
على نزهاتٍ في ضوء القمرِ…
ما قُمنا بها.
على شمسٍ لم تقبلِ رأسينا معاً.
شكراً لأنكَ -ياللأسف- لستَ
مريضاً بي
ولأني -ياللأسف- لستُ مريضةً
بك.
3 أيار 1915
——————————–
(……….)
لا، معكَ ياصديقي المُدهش
لن أقتسمَ أوقات فراغي
فلديَّ الآن صديقٌ جديد
صديقٌ جديدٌ.. صديقٌ جديد!
لديكَ قصُورٌ – وقاعات
ولديهِ غاباتٌ- وصحارٍ
لديكَ كتائبٌ- وعساكر
ولديهِ رمالُ البحر.
اليوم نتنزّه في البحارِ معاً
وغداً في الغابةِ مع الذئابِ
في كل ليلةٍ – لدينا فِراشٌ جديد
اليومَ من رملٍ، وغداً من
حجارة!
وهكذا -أيّها السيّد- إن أحبَّ
صديقي
فكي يعمَّ النورُ الدنيا؛ كما في
عيد الفصح.
اليوم البدرُ قنديلُنا
وغداً النجومُ مصابيحُنا
كانَ فارساً يحسدُهُ الناس.
كانَ ضيفاً لطيفاً
وحين رأى عينيَّ
تركَ جيشَهُ وأتاني.
10 تشرين ثاني 1918.
الهوامش:
2 – لاسم (مارينا) ولكلمة (بحر) جذرٌ واحدٌ في اللغةِ الروسيّة.
والشاعرة مارينا تسفيتايفا واحدة من أشهر الشاعرات الروسيّات، ولدت في موسكو 1892 وعاشت كما كتبت ذات يوم «كما يحب الله- ولا يُحب الأصدقاء»، وأنهت حياتها منتحرةً في قرية روسيّة صغيرة سنة 1941، بعد عودتها إلى الاتحاد السوفييتي. هذه القصائد مختارة من أعمالها الكاملة، طبعة أشخباد، تركمنستان، 1986، ص (71-72-73-74-75-77-92-120-121-122-123-140).
(نشرنا منذ أيام قسما أولاً، وننشر هنا القسم الثاني)
ترجمة: د.ثائر زين الدين
————————————
عرف الحقيقة/ مارينا تسفيتايفا
أعرف الحقيقة التي تُبطل كُلَّ الحقائق الأُخرى!
لا حاجة للناس إلى الصِّراع في أي مكانٍ على الأرض.
انظر إنه المساء، انظر، إنه اللَّيل دنا:
ما الذي تتحدثون عنه أيّها الشّعراء والعُشَّاق والجنرالات؟
الرِّيح ليّنةٌ الآن، الأرض مبللةٌ بالنَّدى،
وعاصفة النُّجوم في السَّماء ستهدَأ.
وسرعانَ ما سينام كُلُّ واحدٍ مِنّا تحت الأرض
نحن الَّذين لم نسمحْ لبعضنا بالنَّوم فَوقَها.
___________
ترجمة شريف بقنه عن لغة وسيطة (الإنجليزية)، نقلها عن الروسية الين فينستين
* مارينا تسفيتايفا (1892- 1941 ) شاعرة روسية سوفيتية
“I know the truth” by Marina Tsvetaeva, Selected Poems (Twentieth-Century Classics), Penguin Classics, 1994
في مايو 27, 2018 إرسال بالبريد الإلكترونيكتابة مدونة حول هذه المشاركةالمشاركة في Twitterالمشاركة في Facebookالمشاركة على Pinterest
Labels: الترجمة, الشعر الروسي, بعد أن ولدت حبسوني داخلي, شعر مترجم, مارينا تسفيتايفا
—————————–
اِسْمك؛ مارينا تسفيتايفا
ترجمة: سماح جعفر
اسمك – طَيْر في يدي،
شُدْفَة ثَلْج على لساني.
تتفتح الشفاه سريعًا.
اسمك – أربع حروف.
كرة عالقة
كرة فضية في فمي.
حَصَاة ألقيت نحو بُحَيرة ساكنة
هو – صوْت اسمك.
النقرة الخفيفة للحوافر في الليل
اسمك.
اسمك في معبدي
نقرةٌ حادةٌ لبندقية مُطلقة.
اسمك -المُتَعذّر-
قبلة على عيني،
اِرْتِعاش جفون مُغلقة.
اسمك – قبلة نَدىً.
رَشْفَة زرقاء من مياه الينابيع المُتجلّدة.
مع اسمك – يتعمّق المنَام.
15 أبريل، 1916م
—————————–
مارينا تسفيتاييفا: يعجبني أن تعانق امرأة أخرى
زينات بيطار
مارينا تسفيتايفا علم من اعلام الشعر الروسي المعاصر. شقت طريقها الابداعي بخروجها عن المألوف والتقليدي. مسهمة اسهاما جذرياً في حركة التجديد الشعري، التي بدأها ماياكوفسكي وباسترناك. قلما نجد في تاريخ الشعر العالمي ظواهر شعرية نسائية، تمكنت من فرض وجود ابداعي واضح الاثر في تاريخ بلدها وعصرها كما تحقق في الشعر الروسي في النصف الاول من هذا القرن
حين برزت آنا اخماتوفا ومارينا تسفيتايفا[، وان اختلفت في الطريقة والمنحى الشعري. الا انه من الضروري اليوم في سياق الكلام عن تاريخ الشعر الروسي والسوفياتي، التنويه، بالمكانة الرفيعة التي تتبوأها تسفيتايفا وقيمتها الابداعية فيه.
تركت مارينا تسفيتايفا إرثاً ابداعياً هاماً، قوامه عدد من الدواوين الشعرية الوجدانية وسبع عشرة قصيدة شعرية مطولة، وثمانية كتب دراما شعرية، اضافة الى سيرة حياتها ومذكراتها ويومياتها ومجموعة كبيرة من النثر الأدبي – التاريخي ومقالات نقدية وفلسفية.
تكمن اهمية مارينا تسفيتايفا الشاعرة في كونها لا تشبه احداً، بل هي ظاهرة متميزة بذاتها، وتكمن قوة شعرها في ذلك الزخم اللغوي المتغير دائما والمتضمن تنويعات ايقاعية تهدر كالرعد. فهي بعيدة عن الغنائية تماما، وتلعب باللغة، على مخارج الاحرف لعبة متقنة ومجددة، عنيفة وهادئة، احتفالية وحميمة، بحوارية ومونولوجية، وهي صادقة دائما مع نفسها، لذلك تأتي جملها الشعرية مقتضبة، منتقاة، هادرة احيانا كثيرة، ومشوبة بالحزن والقلق احيانا اخرى. تجدها تواجه الموت في كل حرف، وتغازل الحياة مع كل قصيدة.
وهي تشكل لغة شعرية جديدة على الشعر التقليدي الروسي وقريبة جدا من لغو مايكوفسكي وباسترناك، مختلفة تماما عن انسيابية ورقة اللغة الشعرية لدى معاصرتها آنا أخماتوفا. لم تغرق في شكلانية اللغة الشعرية بل طوعت بنيان الجملة والاصوات ومخارج الاحرف لخدمة المضمون. وهي، في طرحها لمضمون شعري جديد، تخرج عن المألوف الأنثوي لتتعداه الى الانساني العام، ولا تحس في صورها الشعرية بأنها امرأة تقرض الشعر وانما هي امرأة بمستوى شاعر كبير من شعراء العصر يتداخل في نسيج بطانته الشعرية مخزون معرفي عميق، وثقافة شعرية واسعة، فضلا عن حدس أنثوي”كالرادار”يلتقط ذبذبات الواقع بحس لاهب. يدخلها موقد الحكمة التاريخية ليعيد صهرها، في رموز واشارات ودلالات على المستقبل. قلما تخونها المخيلة لانها ملتحمة دائما بنفسها، وفي داخل ذاتها. لم تخرج مارينا تسفيتايفا لحظة واحدة من حدود أحاسيسها، لذلك لم تستطع ان تصانع أبواق الاعلام ودور النشر التي حاولت ان تستغل وضعها المادي في المهجر. بل بقيت تقول:”إن شعري كتبته الى شعبي وشعبي هناك في روسيا”. ولقد احبت وطنها، ولكنها رفضت المشاركة في لعبة السياسة بعد الثورة.
العذاب والطحين
سوف يُطحن كل شيء، ويغدو طحيناً
فالناس يجدون سلواهم في هذا القول.
هل سيصبح طحيناً ذلك الذي كان عذاباً؟
لا! الأفضل لو يبقى عذاباً!
صدِّقوا ايها الناس
إننا نحيا بالحزن
نتغلب به على الملل
هل سينطحن كل شيء؟
وهل سيغدو طحيناً؟
الأفضل لو بقي عذاباً.
الى القادمة
مقدسة كنت او انك اكثر الناس خطيئة
تلجين باب الحياة للتو او انك قطعت شوطك
أحبيه، أحبيه بحنان اكثر
هدهديه مثل طفل على صدرك
لا تنسي أنه أحوج إليك
منه إليّ
لا توقظيه من أحضانك
كوني معه الى الأبد
دعي حزنه وحنانه
يعلمانك الوفاء
كوني له الى الأبد: تعذبه الظنون
احضنيه بلمسة أخوية
واذا انطفأت أحلام البراءة
فأججي موقد ناره العجيب
لا تتجرئي على تبادل التحية مع أحد
وأغمضي جفن الماضي والتوق إليه
كوني له ما لم أجرؤ على كونه
لا تدفني احلامه في خوفك
كوني له ما لم استطع ان أكون
أحبيه بلا نهاية
أحبيه حتى النهاية
كتبت بين عامي ١٩٠٩- ١٩١٠
شمسان
شمسان تنطفآن – رحمتك يا رب
واحدة في السماء، وأخرى في صدري
شمسان منهما ذهب عقلي
شمسان في آن، طلبتهما نفسي؟
كلتاها تنطفآن ولا تؤلمني اشعتهما
ولسوف تنطفأ الشمس الأكثر حرارة قبل الاخرى
المـــرأة
في سفر الفناء
لا غواية للنساء
انه فن الحب
لنساء الأرض كلها
في القلب سمّ العشاق
والسمّ أصدق
فالمرأة منذ المهد
ذنب قاتل لأحد ما
ما أبعد الطريق الى السماء!
ما اشد تقارب الشفاه في العتمة!
رباه. لا تحكم علينا
لأنكِ لم تكن امرأة على الأرض
يعجبني
يعجبني أنك لست مريضاً بي
يعجبني انني لست مريضة بك
وبأن الكرة الأرضية الثقيلة
لن تزحف من تحت أقدامنا
يعجبني ان في وسعي ان اكون مضحكة
مجنونة، ولا أتلاعب بالألفاظ
ولا تغمر موجات الحمرة وجنتي
حين تتلامس أيدينا برقة
ويعجبني ايضا ان تعانق امرأة أخرى
بهدوء أمامي…
وان لا تصب لعنتك عليّ بالاحتراق
في نار جهنم لأني لا أقبلك
وانك يا حناني لا تذكر اسمي بحنان
عبثاً ليلاً ونهاراً
وانهم لن يرتلوا في هدوء الكنيسة
فوق رؤوسنا هللويا!
اشكرك من قلبي ويدي
على انك تحبني دون ان تعلم
وعلى هدوئي الليلي
على لقاءاتنا النادرة
وقت الغروب
وعلى اننا لم نتنزه تحت ضوء القمر
وعلى الشمس التي تسطع فوق
رؤوس الآخرين
وعلى انك لست مريضا بي
وعلى اني لست مريضة بك
واأسفاه
ثمة خلق
ثمة خلق من الحجر
وثمة خلق من الطين
أما أنا فأتلألأ مفضضة
مهمتي التغيير
واسمي مارينا
وأنا زبد البحر الفاني
ثمة مخلوق من طين
ثمة مخلوق من لحم
مصيرهما القبر
وبلاطة الضريح
عمدت في جوف البحر
وفي تحليقي أكسر دائما جناحي
تندفع إرادتي ثاقبة
الى كل قلب وكل غلالة
انظر الى شعري العابث
فلن تستطيع ان تحولني الى ملح أرضي
انبعث مع كل موجة
كلما اصطدمت بمنعطف غرانيتي
عاش زبد البحر الفرح
عاش زبد البحر العالي
أحببني
أحببني ليل نهار – كتابة وشفاهة
أحببني على حقيقة”نعم”و”لا”
أحببني على حزني الدائم
أحببني على عمري العشرين
وعلى أن غفران الغضب
حتميتي
أحببني على حناني الجامح
أحببني على كبريائي
أحببني على الجدي والهزلي
اسمع! أحببني كذلك
لأنني سأموت
لم أرعَ الوصايا
لم أرعَ الوصايا
ولم أتردد لتناول القربان
يبدو أنني سأظل
أرتكب الخطايا بحماس
كما أفعل وكما فعلت
بكل الحواس الخمس
التي وهبني إياها الرب
ايها الأصحاب! ايها الشركاء!
إن مواعظكم لاذعة دائما
وانتم الشركاء في ارتكاب الجريمة
ايها المعلمون اللطفاء
ايها الفتيان
ايتها العذارى
ايتها الاشجار والنجوم
والغيوم
ايتها الأرض
سنتحمل التبعة معاً
أمام الرب يوم الحساب!
التوق الغجري الى الفراق
التوق الغجري الى الفراق
ما ان تلقاه حتى يهرب منك
وقع جبيني على يدي
أمعنت في التفكير
محدقة الى الليل
لم يفقه أحد منّا بعمق
كم كنا في رسائلنا غادرين
أي كم كنا لأنفسنا أوفياء
كتبت في تشرين الأول عام ١٩١٥
يا عابر السبيل
إنك تشبهني في سيرك
خافض العينين
وأنا خفضت عيني ايضا
أيها الأخفش قدِّم لي
باقة أقحوان وثق
بأن اسمي كان مارينا
ومهما كان من العمر لي
لا تظن أن ها هنا مقبرة
وأنا سأظهر متوعدة
فأنا أحببت الضحك فقط
حين كان الضحك محرماً
وكان الدم يطفح من جلدي
وكان شعري يتبعثر
لكنني كنت أحيا، كعابرة سبيل
قف يا عابر السبيل!
اقطف لي غصنا برياً
ثم اقطف حبة توت
فلا ألذ ولا أجمل
من توت الأرض الذي
ينمو فوق المقابر
ولكن لا تقف مكفهر الوجه
مطأطئ الرأس محني القامة
فكّر فيّ برقة
وانسني برقة
يا له من شعاع يضيئك
يغلفك بغبار ذهبي
أُريد ألا يحيّرك
صوتي من باطن الأرض
اشعاري التي نظمتها باكراً
اشعاري التي نظمتها باكراً
حين لم اكن ادرك انني شاعرة
هي اشعاري التي اندفعت
كالرذاذ من نوافير الماء
كالشرارات من الصواريخ
اشعاري التي اندفعت
كالعفاريت الصغيرة داخل المعبد
حيث الحلم والبخور
هي اشعاري في الصبّا والموت الردى
التي لم يقرأها أحد
قد تجدها مبعثرة في المخازن
يعلوها الغبار ولا احد يشتريها
هي اشعاري كالنبيذ المعتق
سيأتي زمنها حتماً!
عن جريدة السفيـر
———————
من يوميات مارينا تسفيتايفا.. ترجمة د. نوفل نيّوف
مسمّرة…
مسمّرةً على عمودِ عارِ
الضميرِ السلافيّ القديم،
مع حيّةٍ في القلب ووصمةٍ على الجبين
أؤكِّد أنّي بريئة.
أؤكِّد أن في داخلي طمأنينةَ
مَن تنتظر المناولة،
أني لستُ مذنبةً، وأني أمدُّ يدي
واقفةً في الساحات، أطلب السعادة.
أعيدوا النظر في كلَّ ما أملك
أخبروني، أم أصابني العمى؟
أين ذهبي؟ أين فضّتي؟
في كفِّي ـ حُفنة رماد!
وهذا كلُّ ما جنيتُه بتزلُّفِ السعداء
والتوسُّلِ إليهم.
وهذا كلُّ ما سأصطحبه معي
إلى بلاد القبُلات الصامتة.
19 – 1920 أيار
*********
يمن يومبات مارينا تسفيتايفا (1917) أيضاً:
خير أن تفقد الشخص كلّه من أن تتمسّك بواحد في المئة منه.
القائد بعد النصر، والشاعر بعد القصيدة إلى أين؟ إلى المرأة.
الهيام آخرُ فرصة أمام الإنسان للتعبير عن نفسه، مثلما السماء فرصة
وحيدة لحدوث العاصفة.
الإنسان عاصفة، الهيام سماء تكشفها.
***
أيّها الشعراء، أيّها الشعراء! يا عشّاقَ النساء الحقيقيّين الوحيدين
————————-
مارينا تسفيتايفا: صوتنا المشترَك يردّد كلاماً عامّاً (*)
ترجمة وتقديم نوفل نيّوف
تندرج مارينا تسفيتايفا في عِداد الكوكبة الألمع بين شعراء «العصر الفضيِّ» الروسي: فاليري بريوسوف، فياتشيسلاف إيفانوف، ميخائيل كوزمين، مكسيميليان فولوشِن، ألِكساندر بلوك، أندريه بيلي، نيكولاي غوميليوف، آنا أخماتوفا، إيغر سيفيريانِن، بوريس باسترناك، أوسيب ماندلشتام، سيرغي يسينِن، فلاديمير ماياكوفسكي…وآخرين. ويغطي «العصر الفضي» (1890 ـ 1930) مرحلة ظلَّ معظمها حتّى وقت قريب شديدَ الغموض والتعقيد. وقد جاء مصطلح «العصر الفضي» للإشارة إلى ولادة نهضة ثانية، توازياً مع نهضة «العصر الذهبي» (الثلث الأول من القرن التاسع عشر) في تاريخ الشعر الروسي.
1. سيرةٍ ذاتية
ولِدتُ يوم 26 أيلول (سبتمبر) عام 1892 في موسكو. والدي: إيفان فلاديميروفِتش تسفيتايف، بروفيسور في جامعة موسكو، أسس وجمع الموادّ اللازمة لمتحف الفنون الجميلة (يسمّى الآن متحف الفنون التشكيلية)، وعالِمُ فيلولوجيا فذّ. والدتي: ماريّا إلِكساندْروفنا ماين، عازفة مولعةٌ بالموسيقى، تحبّ الشعر بشغفٍ وتكتبه أيضاً. ولَعي بالشعر أخذتُه عن أمِّي، وشغفي بالعمل والطبيعة أخذته عن والديَّ كليهما.
اللغات الأولى التي تعلّمتُها: الألمانية والروسية، ثم الفرنسية قبل السابعة من عمري. أكثرُ ما أحببت منذ سنِّ الرابعة: القراءة، ومنذ سنِّ الخامسة: الكتابة. كلُّ ما أحببتُه، أحببتُه قبل السابعة من عمري، وما أحببت بعد ذلك أيَّ شيء. أقول، وأنا في السابعة والأربعين من عمري، إن كلَّ ما قُدِّر لي أن أعرفه، قد عرَفتُه قبل سنِّ السابعة، وعلى مدى السنوات الأربعين التالية، كنت أعمل على وعيه وإدراكه.
أمِّي هي عنصر الطبيعة الغنائيّ نفسُه. أنا البنت الكبرى عند أمّي، ولكنّي لست ابنتها المحبوبة. إنها تفتخر بي، ولكنّها تحبّ ابنتها الثانية. ينغِّصني منذ الصغر نقصُ الحب. مَدْرستي الأولى هي المدرسة الموسيقية التي كنت أصغر تلميذة فيها، قبل أن أُكمِل السادسة من عمري. ثم المدرسة (الليسيه) التي انتسبت إلى الصف التحضيري فيها. خريفَ 1902، أسافر مع أمّي المريضة إلى الريفييرا الإيطالية، بلدة Nervi القريبة من جنوا، حيث أبدأ معرفتي الأولى بالثوريين الروس وبمفهوم الثورة. أكتب أشعاراً ثورية تُنشر في جنيف. ربيعَ 1902 ألتحق بمدرسة فرنسية داخلية في لوزان، حيث أبقى سنة ونصف السنة. أكتب أشعاراً فرنسية. صيفَ 1904 أرافق أمّي إلى شفارتسفالد في ألمانيا، حيث ألتحق في الخريف بمدرسة داخلية في فرايبورغ. أكتب أشعاراً ألمانية. كِتابي المفضّل في ذلك الزمن هو «ليختِنشتاين» لمؤلّفه ف. هاوف. صيف 1906 أعود مع أمّي إلى روسيا. وقبل الوصول إلى موسكو، تموت أمّي في البيت الريفي «بيسوتشنايا»، بالقرب من مدينة تاروسي.
خريف 1906 ألتحق بمدرسة داخلية في موسكو. أكتب أشعاراً ثورية. بعد هذه المدرسة، ألتحق بمدرسة داخلية أخرى، ثم أنهي السنتين السادسة والسابعة في مدرسة عادية ثالثة. نُمضي الصيف في الخارج، مرة في باريس، ومرة في دريزدِن. تنعقد صداقة بيني وبين الشاعر إلِّيس والفيلولوجي نيليندِر. سنةَ 1910، وأنا بعدُ في المدرسة الثانوية، أنشرُ مجموعتي الشعرية الأولى «أَلْبوم المساء» ـ تتضمّن قصائدي في سن 15 و16 و17 ـ وأتعرَّفُ إلى الشاعر مكسيميليان فولوشِن الذي كتب عنّي أوّل مقالة كبيرة (إن لم أخطئ). وفي صيف 1911، أسافر لزيارته في كوكتِبِل (في شبه جزيرة القِرْم. ـ ن.ن.)، وهناك أتعرّف إلى زوجي في المستقبل، سيرغي إفرون، وعمره وقتئذ 17 عاماً، ومنذ ذلك اليوم لا ننفصل. في عام 1912 نتزوّج. سنة 1912 تصدر مجموعتي الشعرية الثانية «المصباح السحري»، وتولد ابنتي الأولى أريادْنا. عام 1913 وفاة والدي…
منذ 1912 وحتى 1922 لا أتوقّف عن الكتابة، ولكنّي لا أنشر كتباً. لا أنشر في الصحافة الدورية إلا بضع مرّات في مجلة «سيفِرنيّي زابيسكي». منذ الثورة وحتى عام 1922 أعيش في موسكو. في عام 1920، تموت في المأوى ابنتي الثانية إيرينا وعمرها ثلاث سنوات. سنة 1922، أسافر إلى الخارج حيث أبقى 17 عاماً، منها ثلاثة أعوام ونصف العام في تشيكيا، و14 عاماً في فرنسا. عام 1939 أعود إلى الاتحاد السوفيتي لألتحق بأسرتي وأمنحَ ابني غيورغي (ولِد سنة 1925) وطناً.
أُحبُّ من الكتّاب: سلمى لاغِرْلِف، زيغريد أونْدْسِت، ماري بيب.
منذ 1922 حتى 1928 تصدر كتبي التالية: عن «دار غوسيزدات» ـ «الفتاة القيصر»، «فراسخ» 1916، ومجموعة «فراسخ»؛ في برلين عن دور نشرٍ مختلفة ـ ملحمة «الفتاة القيصر»، والمجموعات الشعرية («الفراق»، «قصائد إلى بلوك»، «المهنة» و«الروح») التي لم تستوعب كثيراً مما كتبته بين 1922 و1928. في براغ، سنة 1924، أنشر ملحمة «الشجاع»؛ وفي باريس، عام 1928، مجموعتي الشعرية «بعد روسيا». ليس عندي كتبٌ أخرى. تنشر الصحافة الدورية في الخارج: مسرحيّات غنائية lyriques كنت قد كتبتها في موسكو: «القدَر»، «مغامرة»، «نهاية كازانوفا»، «العاصفة الثلجية». الملاحم الشعرية: «ملحمة الجبل»، «ملحمة النهاية»، «السلَّم»، «من البحر»، «محاولة غرفة»، «ملحمة الهواء»، جزءان من ثلاثية «ثيسيوس»: ج1 «أريادنا»، ج2 «فيدرا»، «رأس السنة»، «الثور الأحمر»، ملحمة «سيبيريا». ترجماتي إلى الفرنسية: «Le Gars» (ترجمتُ ملحمة «الجدع» وفقاً للبحر الشعري في الأصل) مع لوحات نتاليا غونتشاروفا، ترجمتي عدداً من قصائد بوشكِن، ترجماتي الأغاني الثورية الروسية والألمانية والسوفيتية أيضاً. وبعد عودتي إلى موسكو، ترجمت عدداً من قصائد ليرمونتوف. بعد ذلك لم تُنشر لي ترجمات أخرى.
النثر: «بطل العمل» (لقاء مع ف. بريوسوف)، «ما هو حيٌّ عن حيّ» (لقاء مع م. فولوشِن)، «نتاليا غونتشاروفا» (حياة وإبداع)، روايات قصيرة من الطفولة: «بيت عند بيمِن العجوز»، «أمِّي والموسيقى»، «الشيطان»… مقالات: «الفن في ضوء الضمير»، «ملك الغابة»، قصص: «السياط»، «افتتاح متحف»، «برج في اللبلاب»، «عريس»، «الصيني»، «حكاية أّمي» وأشياء كثيرة أخرى. كتاباتي النثرية كلّها مستمدّة من سيرتي الذاتية.
كانون الثاني (يناير) 1940 غوليتصينو
2. إلى مسافرة لا تفارقني
تقفين في الباب مع حقيبة السفر.
يا لَلحزن في وجهك!
لو تريدين، قبل فوات الأوان، سنقرأ
الشعر معاً آخِرَ مرة.
ليكُن أن صوتنا المشترَك يردّد
كلاماً عامّاً حتى الآن،
لكنّ القلب انشقَّ فَرعَين
وطريقنا المشترك انشقَّ اثنين.
قبل فوات الأوان، احني رأسكِ
فوق البيانو، كما في قديم الأيام.
ولْنُغنِّ وداعنا الأخير
بابتسامات وأحزان ثنائية.
آن الأوان! صناديق الكرتون مربوطة،
واللحاف مشدودٌ بالحزام من زمان…
فليحفظِ اللهُ صوتكِ الرنّان
وعقلَك الحكيمَ ذا الستّةَ عشرَ عاماً.
حين تتجمّد السماوات كلّها في النجوم
فوق الغابات والحقول،
ستسرع اثنتان لا تفترقان صوب
أُناسٍ مختلفين في قطارات مختلفة.
1911
3. لقاء مع بوشكِن
أصعدُ طريقاً بيضاء،
غبراءَ، رنّانةً، شديدةَ الانحدار.
لا تَتعب رِجلاي الخفيفتانِ
من العلوِّ فوق الأعالي.
على يساري ظهْرُ جبلُ آيو- داغ العالي،
تحيط به هوَّة زرقاء.
أتذكّر ساحر هذه الأماكن
المخوتمَ الشَّعر.
على الطريق وفي الكهف
أرى يده السمراء قرب جبينه…
مثلَ عربة من زجاج
تقرقع على المنعطف… ـ
رائحة دُخانٍ ـ من عهد الطفولة ـ
أو قبائلَ ما…
فتنةُ القِرم الذي كان
في أيامِ بوشكِن الغالية.
بوشْكِن! ـ كنتَ ستعرف من الكلمة الأولى
مَن ذا الذي في الطريق إليك!
كنتَ أشرقتَ، وما عرضتَ عليَّ
أن أتأبّطَ ذراعَك ونمضي إلى الجبل…
كنتُ قلتُ لك وأنا أمشي،
غيرَ مستندةٍ إلى ذراعك السمراء،
بأيِّ عمقٍ أزدري العِلْمَ
وأرفض الزعيم،
كم أحبُّ الأسماءَ والرايات،
الشَّعرَ والأصوات،
الخمورَ القديمةَ والعروشَ القديمة، ـ
وكلَّ كلبٍ أصادفُه! ـ
الردَّ بأنصاف ابتساماتٍ على الأسئلة،
والملوكَ الشباب…
كم أحبّ شعلة لُفافة التبغ
في دروب الغابة المخملية،
الدُّمى ورنينَ قرْعِ الطبول،
الذهبَ والفضّةَ،
والأسماءَ الفريدة: مارينا،
بايرُن ورقصةَ الـ بوليرو،
التمائمَ، ورقَ اللعب، قناني العطر الصغيرةَ والشموع،
رائحةَ الرُّحَّل ومعاطفِ الفِراء،
ما تقوله الشفاهُ الفاتنةُ
من كلامٍ كاذبٍ يَدخل الروح.
هاتَين العبارتَين: كلّا أبداً، وإلى الأبد،
أخدوداً تخلِّفه العَجلة…
الأيدي السمراءَ والأنهارَ الزرقَاء،
ـ آهٍ، ومريولاك!
قرْعَ الطبول ـ معطفَ الآمِر ـ
نوافذَ القصور وعرباتِ الخيل،
الشجرَ في فم الموقد المتوهِّج،
والشّررَ المتطايرَ نجوماً حمراء…
قلبيَ الأبديَّ وخدمتَه
الملِكَ وحدَه!
قلبي وصورتي في المرآة… ـ
كم أحبُّه…
طبعاً… ـ لَما كنتُ تكلّمت،
ولكنتُ خفضتُ نظري…
ولكنتَ صمتَّ بحزنٍ ولطفٍ شديدين
وأنا أعانق شجرة سروٍ نحيلة.
لكنّا صمتنا كِلانا، أليس كذلك؟
ونحن ننظر كيف يشتعل أولُ ضوء
في مكان ٍ ما عند أقدامنا،
في كوخٍ جبليّ لطيفٍ صغير.
ولأن المسافة بين أسوأ الأحزان واللعبِ
خطوةٌ ـ لا أكثر!
كُنَّا انفجرنا بالضحك وركضنا
يداً بيدٍ نهبطُ الجبل.
1913
————————–
4. مقتطفات من دفاتر ويوميات
16 شباط 1936. لو خيّروني بين ألّا أرى روسيا أبداً، وألّا أرى دفاتر مسوَّداتي أبداً (أّقلُّه هذا الدفتر الذي يضمّ صياغات متنوّعة لـ «أسرة القيصر») لَما تلكّأت، وفوراً. وواضح ماذا. تستطيع روسيا أن تستغني عنّي، أمّا دفاتري: لا. أستطيع أن أستغني عن روسيا، أمّا أن أستغني عن دفاتري: لا. ليس إطلاقاً من أجل: العَيش والكتابة، بل من أجل العَيش ـ الكتابة، و: الكتابة ـ العيش. أي أنّ كلَّ شيء يتحقّق بل ويعاش في الدفتر فقط. أمّا في الحياة، فماذا؟ في الحياة هناك الحياة المنزلية: ترتيب البيت، الغسل، إشعال المدفأة، العناية. في الحياة: خدمة وغياب.
1917. عن الحبّ: نَبالةُ القلب أُرْغُن. احتراسٌ لا يضعف. دائماً هو أوَّلُ من يدقّ ناقوسَ الخطر. أستطيع أن أقول: إن الحبّ يستدعي فيَّ دقّات القلب، ودقّاتُ القلب تستدعي الحبّ.
■ ■ ■
القلب أُرْغُن أكثرُ ممّا هو عضو.
■ ■ ■
القلب يكون مقياساً لأيِّ شيء، ولا يكون مقياساً دقيقاً للحُبِّ.
■ ■ ■
كلَّ مرّة، حين أعرف أن شخصاً يحبّني أتعجّب، لا يحبّني أتعجّب، ولكنّي أكثر ما أتعجّب حين لا يبالي بي.
■ ■ ■
نظرة الحب الأولى هي المسافة الأقصر بين نقطتين. ذلك الخطّ الإلهيّ المستقيم الذي لا ثانيَ له.
■ ■ ■
في مشاعري، كما في مشاعر الأطفال، لا يوجد درجات.
■ ■ ■
قصة. ـ حين كنت في الثامنة عشر من عمري أحبّني مصرِفيّ يهوديّ حبّاً جنونيّاً. كنتُ متزوّجة وكان متزوِّجاً. كان سميناً، ولكنه جذّابٌ للغاية. لم نبقَ وحيدَين أبداً إلا نادراً جدّاً، ولكنه في تلك الحالة كان يقول لي كلمة واحدة فقط: «عيشي! عيشي!». ولم يقبِّل يدي أبداً. وذات مرّة أقام سهرة، من أجلي شخصيّاً، دعا إليها راقصِين رائعِين، فقد كنت حينها مغرمة بحبّ الرقص! أمّا هو فلم يكن يستطيع الرقص، لأنه شديد السمنة. وكان عادة، في سهرات من هذا النوع، يلعب الورق. في هذه السهرة لم يلعب. (عمر المتحدِّثة ستّ وثلاثون سنة، فاتنة)
■ ■ ■
قصّة بعض اللقاءات. تَوازُن مشاعر. حكاية طالب في الكلية العسكرية: … «أعترف لها بالحب، وطبعاً، أُدندِن».
■ ■ ■
كم من قبلات الأمّهات تتساقط على رؤوسِ مَن ليسوا أطفالاً، وكم من قبلاتِ مَن لسنَ أمّهاتٍ تتساقط على رؤوس الأطفال!
■ ■ ■
عن نشيد الأنشاد: يؤثِّر بي نشيد الأنشاد، مثلَ الفيل: تأثيراً مرعباً ومضحكاً.
■ ■ ■
نشيدُ الأنشاد كُتِب في بلادٍ عِنبُها بحجم المِحدلة.
■ ■ ■
نشيد الأنشاد عالَمُ النبات والحيوان في خمسةِ أجزاء هو الأرض مجتمعة كلُّها في امرأة واحدة/ وحيدة. (بما في ذلك أميركا غيرِ المكتَشفة).
■ ■ ■
أفضلُ ما في نشيد الأنشاد قولُ أخماتوفا: «وفي الكتاب المقدَّس ورقةُ حَورٍ حمراء/ علامةٌ على نشيد الأنشاد».
■ ■ ■
كان يجب أن أَشرَبَك من رُبعيّة، لكنّي أشربك قطرةً قطرة، فأسعُل.
■ ■ ■
1918. لستُ بطلةَ حبّ، لن أغرق يوماً بحبيب. أغرق دائماً في الحبّ.
■ ■ ■
تنقسم الحياة كلُّها إلى ثلاث مراحل: التنبّؤ بالحب، فعلُ الحب، وذكرى الحبّ. أنا: ـ على أن يمتدّ وسطيّاً من 5 سنوات إلى 75، نعم؟
■ ■ ■
1919. 14 آذار. إنني، بالطبع، سأنهي حياتي بالانتحار، لأن كلّ رغبتي بالحبّ رغبةٌ بالموت. وهذا أشدُّ تعقيداً بكثير من «أريد» و«لا أريد». وربّما سأموت ليس لأن الحال سيّئة هنا، وإنما لأنها «جيِّدة هناك».
■ ■ ■
حبّي أمومةٌ حارّة، ليس لها أي علاقة بالأطفال.
5. شمْعتا وداع
في الحياة كنت دائماً أتجنّب الكبار، أحيط بهم مثلما يحيط كوكب بكوكب. لماذا أضيف إلى همومهم الحياتية والروحية جبلَ حبي أيضاً؟ إن لم يكن من أجل الحب، فلماذا اللقاء؟ إن كان من سبب آخر فهناك الكتب. وإن لم يكن الحب جبلاً، أستعمل هذه الكلمة بكل أبعادها، فأيُّ حبٍّ ذاك… صيانة النفس؟ ممّا من أجله جئتُ إلى هذا العالم؟ كلّا، ففي قاموسي دائماً «يُصان» الآخر.
■ ■ ■
قبلة من لا يحب تقول أكثر بكثير، وقبلة من يحب تقول أقلّ بكثير. القبلة بحدِّ ذاتها ليست كافية. إنها الشرب لكي نشرب من جديد. قبلة الحب ماء بحرٍ وقت العطش (ماء بحرٍ أو دمٌ يطيب لمن تحطّمت سفينتهم!). إن كان هذا قد قيل من قبل فإني أكرره، لأن الشيء الأهم ليس أن تقول جديداً بل أن تجد الكلمة الوحيدة الصائبة. أنا أفضِّل ألّا أروي عطشي أصلاً. إليكم أيضاً شيء آخر لم يكتب عنه أحد من قبل، رغم أنه واضح للعيان: قبلة الحب طريق سيّئ يفضي إلى النسيان. القبلة من الحبيب، وليس إلى الحبيب. يبدأون من قبلة الروح، يمضون إلى قبلة الشفتَين، وينتهون إلى قبلة القبلة. إلى الدمار.
(*) مقتطفات من كتاب صدر حديثاً، بعنوان: «مارينا تسفيتايفا: بعضُ حياةٍ وشِعر»، منتخبات شعرية ونثرية ويوميات وشهادات لها وعنها، تجميع وترجمة: نوفل نيوف، دار التكوين، دمشق.
————————
مارينا تسفيتاييفا شاعرة القدر المأساوي/ اسكندر حبش
(لبنان)
مارينا تسفيتاييفقدر بعض الشعراء في حياتهم، أن يعيشوا في الهامش، أن لا تُقرأ قصائدهم وأن تبقى مجهولة، إلى أن تجيء لحظة، يُكتشفون فيها من جديد، أو بالأحرى، يولدون فيها من جديد. وتكون هذه اللحظة، لحظة اكتشاف عالمين شعري وحياتي غنيّين بالتناقضات والتفاصيل والدهشة، فهل هذا هو قدر كبار الشعراء؟
في صيف العام ،١٩٤١ وفي إحدى مدن “تاتاري”، كانت امرأة محطمة، تبحث بشتى الوسائل عن وظيفة لتكسب منها قوتها، إذ بعد أن عملت كمساعدة خادمة لفترة قصيرة، توسلت العمل مكان فتاة تركت عملها في احد المستشفيات، لكنها جوبهت بالرفض، مثلما جوبهت، حين ألحت على استخدامها كغاسلة أطباق في احد المطاعم. إزاء ذلك، ما كان منها إلا أن شنقت نفسها. كانت في التاسعة والأربعين من العمر، وكان اسمها مارينا تسفيتاييفا. كانت واحدة من اكبر الشعراء الذين عرفتهم روسيا في تاريخها.
في ربيع العام ،١٩٨٤ وبعد مراسم جنازة متواضعة في مقبرة صغيرة في مدينة “شامبري” الفرنسية، قرأ بعض الأصدقاء، قصائد مارينا تسفيتاييفا بالفرنسية. هذه القصائد، قامت بترجمتها عن الروسية، تلك المرأة التي كانت دفنت لتوها. عمرها ٣٩ عاما، وهي في بعض تفاصيل حياتها، تشبه الشاعرة الروسية، تدعى ايف مالوريه، وهذه الترجمات، هي الشيء الوحيد، الذي فعلته، لتعرّف بمغالاة واندفاع حقيقيين عبقرية هذه الكاتبة، التي كانت مجهولة في فرنسا وأوروبا في تلك الفترة. كانت تلك الترجمات، أولى قصائد تسفيتاييفا التي تترجم إلى لغة أخرى.
تتكاثر اليوم، الكتب حول تسفيتاييفا، وبخاصة باللغة الفرنسية، كما تتكاثر ترجمات شعرها من الروسية، إذ نستطيع أن نحصي العديد من هذه الكتب، منها على سبيل المثال لا الحصر: “بعد روسيا” ترجمة برنار كرايسي (منشورات ريفاج)، “من دونه” ترجمة هنري دولوي (منشورات فوربي)، “الإهانة الغنائية” لدولوي أيضا وعن المنشورات ذاتها، “الصبي” من دون ذكر اسم للمترجم (منشورات دي فام) كما كتاب “السماء تحترق”، منشورات “غاليمار شعر”. ناهيك عن الكتب التي تتحدث عن سيرتها مثل كتاب “مارينا تسفيتاييفا القدر المأساوي” تأليف مارينا بيليكينا (منشورات أليان ميشال) و”رواية مارينا” لدومينيك ديسانتي (منشورات بلفون) و”الأمل العنيف” لروضة جيمس (منشورات نيل)… وكأن قدر الشاعرة، الكثير الاضطراب والأوهام، يلهم العديد من كتاب السيّر، وبخاصة في فرنسا، هذا البلد الذي جاءته، حيث كانت في السابعة عشرة، حيث قضت القسم الكبير من سنوات منفاها بين ١٩١٨ و.١٩٣٩
المأساوية
ولدت مارينا تسفيتاييفا العام ١٨٩٢ في عائلة مثقفة موسكوبية، كان والدها أستاذا لتاريخ الفن في جامعة موسكو (وفي رواية أخرى، كان كاهنا أرثوذكسيا)، وتميّزت عن باقي أفراد هذه الأسرة، بنضج موهبتها الشعرية، إذ بدأت الكتابة وهي في السادسة من عمرها، ونشرت ديوانها الأول، وهي في السادسة عشرة. عرف عنها، ثورتها على التقاليد الامتثالية، فعاشرت في الثامنة عشرة، فتاة سحاقية شهيرة، ولتزيد في كيد أهلها ولتصدمهم، وبخاصة أنها ابنة أرثوذكسي معاد لليهود، تزوجت من حفيد احد الحاخامات. كذلك دفعها ميلها، الذي لا يكل، للتحدي، إلى “عبادة” نابليون، كما قادها هذا الأمر إلى معارضة عنيفة، شغوفة لثورة أوكتوبر، غنّت الجيش الأبيض “في قفزة بائسة ضد التاريخ وضد الحياة”. ومع ذلك، فإن منشورات الدولة في تلك الفترة، نشرت لها كتابين.
في العام ،١٩٢٢ هاجرت مع ابنتها لتلتحق بزوجها الذي كان ضابطا سابقا في الجيش الأبيض، فعاشت في برلين ومن ثم براغ، وفرنسا أخيراً، لكن سرعان ما تدهورت علاقتها بالمهاجرين البيض، حتى انقطعت كليا. عاشت في بؤس كليّ، وانشغلت كثيراً بالجوانب المادية للوجود. وقد كتبت الكثير لكنها لم تنشر إلا القليل. ولم ينشر لها المهاجرون البيض أي كتاب بعد العام ،١٩٢٨ وتحت وطأة الحاجة، أصبح زوجها مخبرا للمخابرات السوفياتية، واحترز منها، المهاجرون، زيادة. وحين عادت إلى وطنها، العام ،١٩٤٠ بعد “حرب الجلاء” النازي، بقيت أيضا، موضع اشتباه من قبل السوفيات. ومع صعود الفاشية، كتبت سلسلة من الأشعار أهدتها إلى تشيكوسلوفاكيا، تهاجم فيها الهتلرية بقوة. قتل زوجها رميا بالرصاص، نفيت ابنتها، فوجدت نفسها وحيدة، معوزة، رازحة تحت اليأس المطلق، وتحت الألم والحرمان، فانتحرت في ٣١ آب .١٩٤١
الإخلاص للفن الشعري
نحن أيضا أمام يوميات ودفاتر عمل وانطباعات تسجلها الشاعرة خلال القراءة وأمام تأريخ كرونولوجي لكل يوم بيومه. وبين ذلك كله نحن أمام شيء أكيد: تشكل هذه المقاطع الهاربة والآسرة مكانا يلتقي فيه النثري والعادي مع الماورائي. أي تبقى الشاعرة في نصوصها هذه مخلصة لفنها الشعري حيث تربط الواقع بسحر وعيها في حوار داخلي تقيمه مع نفسها ليصبح أيضا، وفي مرحلة لاحقة، حوارا بين الأنا والعالم.
دفاتر تسفيتاييفا هذه، كانت بدأت كتابتها قبل الحرب العالمية الأولى، وتنتهي عشية الحرب العالمية الثانية. إنها تمرين في القسوة يضع أمامنا مفاتيح أسرار الشاعرة من خلال فتح المشهد على التاريخ وإن كان ذلك لا يمنعها من التقدم في هذه العوالم الحميمة التي اكتشفها قارئ شعرها ونثرها. في مواجهتها الدائمة مع الكلمة، في همها المستمر في أن تهب الأبدية لهذه الأشياء الصغيرة، تقف الشاعرة في هذا الفاصل لتسمع لا ضجة الدمار الذي كان يلف وطنها اولا والعالم فيما بعد ولكن أيضا كانت تسمع هذا الهمس الحميمي للأشياء التي كانت تبحث عن أسماء جديدة لها.
وما يميز هذه الطبعة الفرنسية من دفاتر تسفيتاييفا، الملف الخاص الذي يسترجع فيه المشرفون على الكتاب، الكتابات والأحاديث والمقالات التي كتبت عن الشاعرة الراحلة وذلك بعد الحصول عليها من أرشيف الدولة الروسية للفن والأدب، ما يعطينا، إضافة العديد من الوثائق التي تضيء هذه الكتابات.
أما الكتاب الثاني فهو كان نشر في موسكو العام ،١٩٨٨ ويجيء كوثيقة كبيرة عن حياة الشاعرة بقلم ابنتها التي عاشت بقربها لفترة طويلة. كانت أريادنا ابفرون قد بدأت منذ العام ١٩٥٥ في تجميع كل الوثائق المتعلقة بوالدتها، لتدرس وتنقب وتفحص كل المخطوطات الباقية. من هنا، يبدو كتابها وكأنه “معركة” ما من أجل إنقاذ هذه الذاكرة ومدى تقاطعها مع التاريخين العام والخاص. يقال إن الكتاب حين صدر في الاتحاد السوفياتي (قبل أن يختفي) كان يحمل في طياته بعض الرسائل المتبادلة بين الشاعرة وشعراء آخرين، كما كان يحمل بعض الملاحظات التي كتبتها المؤلفة. في الترجمة الفرنسية لا اثر لذلك، فقط يترجم الكتاب الذي عرف يوم صدوره نجاحا كبيرا حيث طبع لمرات عدة، إذ أنه في النهاية المرجع الأكثر تكاملا عن حياة الشاعرة.
مارينا تسفيتاييفا، شاعرة القدر المأساوي، التي عرفت وبالرغم من كل الاضطهاد التي تعرضت له كيف تبقي كلمتها نقية، ساطعة. على الأقل هذا ما تخبرنا به الدفاتر التي نترجم بعض الفقرات منها. ملاحظة أخيرة، إن الترقيم التي تحمله هذه المقاطع غير موجود في الأصل، بل هو من وضع المترجم هنا.
****
من دفاتر تسفيتاييفا
“لا يعرف الناس كم تشكل الكلمات بالنسبة إليّ قيمة لا متناهية. (أكثر من المال، لأنه يمكن لنا أن نعبر عن العرفان بالجميل بسهولة أكبر!)
نهاري: أنهض – النافذة بالأعلى بالكاد بيضاء – برد – برك مياه – غبار نثارة – دلاء – جرار – مماسح – أثواب الأطفال وقمصانهم في كل مكان. أنشر الخشب. أشعل النار. أغسل بمياه مثلجة حبات البطاطا التي أضعها لتغلي في مياه السماور. أضع تحت السماور الحطب المشتعل لأعود وأضع فوقها المقلاة. (أرتدي نهارا ومساء ثوب البزان البني عينه الذي خاطته لي آسيا في ربيع العام ،١٩١٧ في ألكسندروف، والذي ضاق، ذات يوم، بشكل فظيع. أصبح مثقوبا من جميع الجهات بسبب الجمرات والسجائر التي تتساقط عليه. أما أكمامه – التي كانت، في ما مضى، مشدودة بالمطاط – فقد صارت مشمرة كبوق ومثبتة بدبوس أمان).
من ثم يبدأ العمل المنزلي – “أليا، أخرجي الدلو!” لكن قبل أن أضيف أي شيء سأقول كلمتين عن الدلو – إنه يشكل الشخصية المحورية في حياتي. في قلب الدلو أضع السماور، إذ حين نغلي البطاطا نجده يرشح من حوله. في الدلو، تمتزج المياه المنزلية – لقد تجمدت مياه الأقنية – لذلك، وبعنايتي، أفرغ الدلو ليلا تحت نافذتي. إذ من دونه – الموت.
لم أبحث عن قصائدي أبدا. إنها قصائدي التي تبحث عني.
أضف إلى ذلك، تبدو غزارتها فائضة لدرجة أنني لم أعد أعرف ماذا أكتب، أو ماذا أهمل.
من هنا تجدون مليار بيت غير مكتمل، غير مدون.
يحدث لي أحيانا أن أكتب بهذه الطريقة: أبياتا على يمين الصفحة، وأخرى إلى اليسار، في مكان ما من زاوية – بيتا آخر، تطير اليد من مكان إلى آخر، تطير فوق الصفحة بأسرها، تنتزع بيتا، ترتمي على آخر كي لا تنسى! تلتقطه! تحتفظ به! الوقت غير ملائم – ينقصني يدان!”
(٢)
“إيرينا! لو كنت ما زلت على قيد الحياة، لكنت أطعمتك من الصباح حتى المساء. قليلا ما نأكل أليا وأنا! إيرينا ثمة شيء تعرفينه: لم أرسلك إلى الميتم لأتخلص منك، بل لأنهم وعدوني بأنك ستجدين هناك الأَرُز والشوكولا.
أي أفضل من أن تموتي جوعا.
للمرة المليون، أنا متفاجئة بالصمت، الذي تكتمل عبره أكبر الأحداث – ببساطتها أيضا. لا من رعد، أو برق، أو “تم الأمر”. لكن ببساطة: قارورة علاج، فوطة هملة قديمة، نتحدث عن المطر والثلج – نأكل، ندخن – وفجأة: يتوقف تنفس الكائن. من دون أن نصرخ حذار!
لن أعرف أبدا كيف ماتت.
تملكون جميعا: الوظيفة – البقول – المعارض – اتحاد الكتاب – تعيشون أيضا خارج أرواحكم، بينما الأمر بالنسبة إليّ، ذلك كله: وظيفة – بقول – معارض – اتحاد الكتاب – أنا نفسي دائما، روحي، حبي، أن أكون مرفوضة، حزني الذي يتأجج، ألمي المخيف من كل شيء!
إذاك – وبشكل طبيعي – أعود إلى منزلي، إلى نفسي، هنا حيث لا أحد يناقشني، هنا حيث لا أحد يرفضني، في منزلي الفقير المدمر، حيث – وبالرغم من كل شيء يحبونني.
ليس ذنبي إن كان ذلك كله يفضي إلى كتابة قصائد”.
(٣)
“التاسعة صباحا أ كما يبدو، سنكون قريبا في موسكو.
شجرة بندق.
توقفنا عند الجمارك طويلا. أفرغت كل الحقائب. فتشت جميع الأشياء المتراكمة فوق بعضها، المضغوطة كفلينة شمبانيا مستعدة لأن تطير. ١٣ رزمة من بينها سلة كبيرة، كيسان ضخمان، سلة كتب، مرصوصة جيدا. شهدت رسوم “مور” نجاحا حقيقيا . صودرت من دون ديباجة، بدون احتفال او شروحات. (لحسن الحظ أن المخطوطات لا تثير الإعجاب عينه!) لم يطرح ولو سؤال واحد عن المخطوطات. بل أسئلة عن السيدة لافارج، عن السيدة كوري وعن كتاب بيرل باك “المنفية”. آمر الجمارك كان شخصا كريها، باردا، بدون مرح، أما الآخرون فطيبو القلب. كنت أمزح وفي الوقت عينه كنت على عجلة: لم أنجح في إعادة إقفال حقائبي، وكان القطار ينتظر. ساعدني مأمور بقوة بينما أنهى آخر القضية حين أعلن بأنه تم فحص الحقيبة الأخيرة (السوداء الكبيرة): لم يفعل ذلك في واقع الأمر، والجميع على دراية بذلك.
حين استيقظت هذا الصباح، فكرت بأن سنواتي أصبحت معدودة
– وداعا أيها الحقل / وداعا يا مغيب الشمس / وداعا يا / أرضي، أرضي أنا!
سيكون الأمر محزنا. ليس بالنسبة إلي فقط. بل لأن لا أحد أحب – مثلي – ذلك كله”.
**********
مارينا تسفيتاييفا: يعجبني أن تعانق امرأة أخرى/ زينات بيطار
(لبنان)
مارينا تسفيتايفا علم من اعلام الشعر الروسي المعاصر. شقت طريقها الابداعي بخروجها عن المألوف والتقليدي. مسهمة اسهاما جذرياً في حركة التجديد الشعري، التي بدأها ماياكوفسكي وباسترناك. قلما نجد في تاريخ الشعر العالمي ظواهر شعرية نسائية، تمكنت من فرض وجود ابداعي واضح الاثر في تاريخ بلدها وعصرها كما تحقق في الشعر الروسي في النصف الاول من هذا القرن حين برزت آنا اخماتوفا ومارينا تسفيتايفا[، وان اختلفت في الطريقة والمنحى الشعري. الا انه من الضروري اليوم في سياق الكلام عن تاريخ الشعر الروسي والسوفياتي، التنويه، بالمكانة الرفيعة التي تتبوأها تسفيتايفا وقيمتها الابداعية فيه.
تركت مارينا تسفيتايفا إرثاً ابداعياً هاماً، قوامه عدد من الدواوين الشعرية الوجدانية وسبع عشرة قصيدة شعرية مطولة، وثمانية كتب دراما شعرية، اضافة الى سيرة حياتها ومذكراتها ويومياتها ومجموعة كبيرة من النثر الأدبي – التاريخي ومقالات نقدية وفلسفية.
تكمن اهمية مارينا تسفيتايفا الشاعرة في كونها لا تشبه احداً، بل هي ظاهرة متميزة بذاتها، وتكمن قوة شعرها في ذلك الزخم اللغوي المتغير دائما والمتضمن تنويعات ايقاعية تهدر كالرعد. فهي بعيدة عن الغنائية تماما، وتلعب باللغة، على مخارج الاحرف لعبة متقنة ومجددة، عنيفة وهادئة، احتفالية وحميمة، بحوارية ومونولوجية، وهي صادقة دائما مع نفسها، لذلك تأتي جملها الشعرية مقتضبة، منتقاة، هادرة احيانا كثيرة، ومشوبة بالحزن والقلق احيانا اخرى. تجدها تواجه الموت في كل حرف، وتغازل الحياة مع كل قصيدة.
وهي تشكل لغة شعرية جديدة على الشعر التقليدي الروسي وقريبة جدا من لغو مايكوفسكي وباسترناك، مختلفة تماما عن انسيابية ورقة اللغة الشعرية لدى معاصرتها آنا أخماتوفا. لم تغرق في شكلانية اللغة الشعرية بل طوعت بنيان الجملة والاصوات ومخارج الاحرف لخدمة المضمون. وهي، في طرحها لمضمون شعري جديد، تخرج عن المألوف الأنثوي لتتعداه الى الانساني العام، ولا تحس في صورها الشعرية بأنها امرأة تقرض الشعر وانما هي امرأة بمستوى شاعر كبير من شعراء العصر يتداخل في نسيج بطانته الشعرية مخزون معرفي عميق، وثقافة شعرية واسعة، فضلا عن حدس أنثوي “كالرادار” يلتقط ذبذبات الواقع بحس لاهب. يدخلها موقد الحكمة التاريخية ليعيد صهرها، في رموز واشارات ودلالات على المستقبل. قلما تخونها المخيلة لانها ملتحمة دائما بنفسها، وفي داخل ذاتها. لم تخرج مارينا تسفيتايفا لحظة واحدة من حدود أحاسيسها، لذلك لم تستطع ان تصانع أبواق الاعلام ودور النشر التي حاولت ان تستغل وضعها المادي في المهجر. بل بقيت تقول: “إن شعري كتبته الى شعبي وشعبي هناك في روسيا”. ولقد احبت وطنها، ولكنها رفضت المشاركة في لعبة السياسة بعد الثورة.
————————–
العذاب والطحين
سوف يطحن كل شيء، ويغدو طحيناً
فالناس يجدون سلواهم في هذا القول
هل سيصبح طحيناً ذلك الذي كان عذاباً؟
لا! الأفضل لو يبقى عذاباً!
صدقوا ايها الناس
اننا نحيا بالحزن
نتغلب به على الملل
هل سينطحن كل شيء؟
وهل سيغدو طحيناً؟
الأفضل لو بقي عذاباً
————————–
الى القادمة
مقدسة كنت او انك اكثر الناس خطيئة
تلجين باب الحياة للتو او انك قطعت شوطك
احبيه، احبيه بحنان اكثر
هدهديه مثل طفل على صدرك
لا تنسي انه احوج إليك
منه إليّ
لا توقظيه من احضانك
كوني معه الى الأبد
دعي حزنه وحنانه
يعلمانك الوفاء
كوني له الى الأبد: تعذبه الظنون
احضنيه بلمسة أخوية
واذا انطفأت احلام البراءة
فأججي موقد ناره العجيب
لا تتجرئي على تبادل التحية مع أحد
وأغمضي جفن الماضي والتوق إليه
كوني له ما لم اجرؤ على كونه
لا تدفني احلامه في خوفك
كوني له ما لم استطع ان أكون
احبيه بلا نهاية
احبيه حتى النهاية
كتبت بين عام ١٩٠٩- ١٩١٠
————————–
شمسان
شمسان تنطفآن – رحمتك يا رب
واحدة في السماء، واخرى في صدري
شمسان منهما ذهب عقلي
شمسان في آن، طلبتهما نفسي؟
كلتاها تنطفآن ولا تؤلمني اشعتهما
ولسوف تنطفأ الشمس الاكثر حرارة قبل الاخرى
————————–
المرأة
في سفر الفناء
لا غواية للنساء
انه فن الحب
لنساء الأرض كلها
في القلب سمّ العشاق
والسمّ أصدق
فالمرأة منذ المهد
ذنب قاتل لأحد ما
ما أبعد الطريق الى السماء!
ما اشد تقارب الشفاه في العتمة!
رباه. لا تحكم علينا
لانك لم تكن امرأة على الأرض
————————–
يعجبني
يعجبني انك لست مريضا بي
يعجبني انني لست مريضة بك
وبأن الكرة الأرضية الثقيلة
لن تزحف من تحت أقدامنا
يعجبني ان في وسعي ان اكون مضحكة
مجنونة، ولا اتلاعب بالألفاظ
ولا تغمر موجات الحمرة وجنتي
حين تتلامس أيدينا برقة
ويعجبني ايضا ان تعانق امرأة اخرى
بهدوء امامي…
وان لا تصب لعنتك عليّ بالاحتراق
في نار جهنم لاني لا اقبلك
وانك يا حناني لا تذكر اسمي بحنان
عبثاً ليلاً ونهاراً
وانهم لن يرتلوا في هدوء الكنيسة
فوق رؤوسنا هللويا!
اشكرك من قلبي ويدي
على انك تحبني دون ان تعلم
وعلى هدوئي الليلي
على لقاءاتنا النادرة
وقت الغروب
وعلى اننا لم نتنزه تحت ضوء القمر
وعلى الشمس التي تسطع فوق
رؤوس الاخرين
وعلى انك لست مريضا بي
وعلى اني لست مريضة بك
وأسفاه
————————–
ثمة خلق
ثمة خلق من الحجر
وثمة خلق من الطين
أما أنا فأتلألأ مفضضة
مهمتي التغيير
واسمي مارينا
وأنا زبد البحر الفاني
ثمة مخلوق من طين
ثمة مخلوق من لحم
مصيرهما القبر
وبلاطة الضريح
عمدت في جوف البحر
وفي تحليقي أكسر دائما جناحي
تندفع إرادتي ثاقبة
الى كل قلب وكل غلالة
انظر الى شعري العابث
فلن تستطيع ان تحولني الى ملح أرضي
انبعث مع كل موجة
كلما اصطدمت بمنعطف غرانيتي
عاش زبد البحر الفرح
عاش زبد البحر العالي
————————–
أحببني
أحببني ليل نهار – كتابة وشفاهة
أحببني على حقيقة “نعم” و”لا”
أحببني على حزني الدائم
أحببني على عمري العشرين
وعلى ان غفران الغضب
حتميتي
أحببني على حناني الجامح
أحببني على كبريائي
أحببني على الجدي والهزلي
اسمع! أحببني كذلك
لأنني سأموت
————————–
لم أرع الوصايا
لم أرع الوصايا
ولم اتردد لتناول القربان
يبدو انني سأظل
ارتكب الخطايا بحماس
كما افعل وكما فعلت
بكل الحواس الخمس
التي وهبني إياها الرب
ايها الاصحاب! ايها الشركاء!
ان مواعظكم لاذعة دائما
وانتم الشركاء في ارتكاب الجريمة
ايها المعلمون اللطفاء
ايها الفتيان
ايتها العذارى
ايتها الاشجار والنجوم
والغيوم
ايتها الأرض
سنتحمل التبعة معاً
امام الرب يوم الحساب!
————————–
التوق الغجري الى الفراق
التوق الغجري الى الفراق
ما ان تلقاه حتى يهرب منك
وقع جبيني على يدي
امعنت في التفكير
محدقة الى الليل
لم يفقه احد منّا بعمق
كم كنا في رسائلنا غادرين
اي كم كنا لأنفسنا أوفياء
كتبت في تشرين الأول عام ١٩١٥
يا عابر السبيل
انك تشبهني في سيرك
خافض العينين
وأنا خفضت عيني ايضا
أيها الاخفش قدم لي
باقة أقحوان وثق
بأن اسمي كان مارينا
ومهما كان من العمر لي
لا تظن ان ها هنا مقبرة
وأنا سأظهر متوعدة
فأنا أحببت الضحك فقط
حين كان الضحك محرماً
وكان الدم يطفح من جلدي
وكان شعري يتبعثر
لكنني كنت احيا، كعابرة سبيل
قف يا عابر السبيل!
اقطف لي غصنا برياً
ثم اقطف حبة توت
فلا ألذ ولا اجمل
من توت الأرض الذي
ينمو فوق المقابر
ولكن لا تقف مكفهر الوجه
مطأطئ الرأس محني القامة
فكر فيّ برقة
وانسني برقة
يا له من شعاع يضيئك
يغلفك بغبار ذهبي
اريد ألا يحيّرك
صوتي من باطن الأرض
————————–
اشعاري التي نظمتها باكراً
اشعاري التي نظمتها باكراً
حين لم اكن ادرك انني شاعرة
هي اشعاري التي اندفعت
كالرذاذ من نوافير الماء
كالشرارات من الصواريخ
اشعاري التي اندفعت
كالعفاريت الصغيرة داخل المعبد
حيث الحلم والبخور
هي اشعاري في الصبّا والموت الردى
التي لم يقرأها احد
قد تجدها مبعثرة في المخازن
يعلوها الغبار ولا احد يشتريها
هي اشعاري كالنبيذ المعتق
سيأتي زمنها حتماً!
السفير
* * *
عروس الثلج/ فوزي كريم
(العراق/لندن)
قال عنها الشاعر يفتِشينكو، في الإنتولوجيا الضخمة التي أعدها للشعر الروسي، إنها ‘شلال نياغرا جليل من العاطفة، الألم، الاستعارة، والموسيقى’. ترجمةُ قصائدها إلى الإنكليزية لم تُضعف دويّ الشلال إلا بمقدار. ولقد تُرجمت مراتٍ عديدة.
إنها الشاعرة الروسية مارينا تسفيتاييفا (1892-1941)، التي تستقر مختاراتُها الجديدة بين يدي: ‘عروسُ الثلج: قصائد مُختارة'(صدرت عن دار كاركنيت، لندن، 2009)، التي أعدّت ترجمتَها الشاعرةُ الإنكليزية، من الأصل الروسي، إيلين فينستاين.
فينستاين لم تترجم قصائد تسفيتاييفا عن الروسية مباشرةً، بل أعادت صياغتها عن ترجمات عدة، في قالب القصيدة الإنكليزية التي ارتأته، وهو أسلوبٌ مُعتمد في الترجمة الشعرية، وعادةً ما يتم على يد شاعر ذي مكانة، تُنسب الترجمة إليه جملةً.
على أن فينستاين شاعرةٌ مولعة بتسفيتاييفا، منذُ سنوات بعيدة. وضعت عنها كتاباً مهماً في السيرة: ‘أسدٌ في الأسر’ (1987)، كما ضمنتها في روايتها ‘أورشليم الروسية’ (عرضت للكتاب على هذه الصفحات في مقال: ‘شعراء المحجّ الروسي’).
محوران يشدّان شعرها لبعض: الحاجةُ القصوى إلى الحب، والتوتّرُ بين الشعر ومهمات المرحلة، وكلا المحورين عاملُ أذى وعذاب، جعل من حياة تسفيتاييفا أيقونةً، عزّ نظيرها، لمقدار الضريبة التي يجب أن يدفعها الشاعر عن صدقه، في العصر الإيديولوجي.
ولدت في عائلة معنية بالفن: أبٌ مؤسس لمتحف الفنون الجميلة، وأمٌ عازفةُ بيانو ماهرة، وهي جذوةُ لهب شعري، لا تُقرن في طاقة التفجر إلا بماياكوفسكي، وإذا ما انصرف تفجرُ ماياكوفسكي إلى الثورة، فتفجّرها انصرف إلى الحب، لكن لا على هوى الشاعرةِ إخماتوفا المعاصرة لها، فحبُّ هذه كان متوازناً، مُشبعاً بتطلّع وأسىً رفيقين، رقيقين، في حين كان هواها عاصفاً، غيّر من جذرِ قصيدة الحب الروسية، ومن جذر معاني التطلّعِ والأسى المألوفين.
أحبت سيرجي إفرون، الكاتب والممثل، وتزوجت منه (1912). التحق بالتجنيد في مرحلة الحرب الأهليه عام 1914، فوجدت تسفيتاييفا نفسها في أحضان حبٍّ جديد، لكن مع شاعرةٍ من جنسها، هي سوفيا بارنوك. أنجبت من زواجها طفلتين أودعتهما في دار للأيتام، على أثرِ عاصفةِ المجاعة التي ألمّت بروسيا في عامي 1919 و1920، حتى أن إحدى الطفلتين توفيت من الجوعِ هناك، فلم تفلت الشاعرةُ من أزمةِ الذنب، وإشاعاتِ الاتهام بالإهمال.
في براغ، حيث التحقت بزوجها الأول، تعرّضت لحب خاطف جديد، هو الثالث، ثم الرابع في برلين، ثم الخامس مع الشاعر باسترناك، والسادس مع الشاعر مندلستام. وعقدت أملاً سابعاً على الشاعر ريلكة الذي لم ترَه، بل قرأ لها قصائد أرسلتها له، وهو على سرير مرضه الذي مات فيه، كتبت له: ‘عزيزي رينر، هذا هو المكان حيث أعيش. هل مازلت تُحبني؟ مارينا’.
وكل تطلّعات الحبّ هذه، ما تحقّقَ منها وما لم يتحقق، أثمرَت قصائد رائعة، قصائدٌ لا تكتفي بأن تُطلَّ على كيان تسفيتاييفا المضطرب الظامئ الداخلي. بل على الكون المضطرب الظامئ للحقيقة، خارجها. ولقد كانت المرحلةُ التاريخية لا تقيم وزناً للإنسان الشاعر، ولا للقصيدة، إلا باعتبارهما وسائل لمُعترك من أجل ‘فكرة’، لم يعرف أحد مقدارَ صحتها.
ظلّت الشاعرةُ كياناً مهجوراً، تكتب من باريس لصديقة لها: ‘في باريس، مع استثناءات جد شخصية، يكرهني الجميع، يكتبون كلَّ ما يخطر لهم من بذاءات عني…’، حتى ابنتها، التي كانت قريبةً منها ذات يوم، فضّلت العيشَ مع أبيها، ومنافي المهاجر الأوربية لم تُمكّنها من مصدرِ رزقٍ واحد، الصحفُ التي كانت تنشر لها قاطعتها، حاولت التشبثَ بالبقاء في مدينة براغ، لكن الاحتلال النازي عام 1939 حال دون ذلك، فاضطرت مع ابنها وزوجها السابق للعودة إلى روسيا.
لم يحذّرها صديقٌ من موجة الرعب الستالينية التي اجتاحت روسيا في منتصف الثلاثينيات.
حين وصلت لاحقتها الأخبارُ المفاجئة: زوجها اعتُقل في الحال وأُطلق عليه الرصاص فوراً. أختها اعتُقلت وسُجنت. ابنتها وابن أخيها اعتُقلا وأُرسلا إلى الأشغال الشاقة. ماندلستام اعتُقل وقُتل. معظم أصدقائها المقربين تحاشوا لقاءها، باسترناك وإخماتوفا ضمناً، بفعل المحاذير.
على أثر الاحتلال الألماني مُنحت فرصةَ السكن في منطقة نائية، في جمهورية التتار. في كوخها البائس، وفي تاريخ 31 /8/ 1941، علّقت نفسها بحبل.
الجريدة
10 – 9 – 2009
———————–
مارينا تسفيتايفا وآنّا أخماتوفا (قصة لقاءين)/ نوفل نيّوف*
خريف عام 1914، بينما كانت مارينا تسفيتايفا (1892 ـ 1941) تشجّع زوجها، سيرجي إفرون، على متابعة دراسته في الجامعة، تفادياً للخدمة العسكرية أيام الحرب العالمية الأولى، تعرّفت على شاعرة ثلاثينية بالغةِ النشاط، والعدوانيةِ أحياناً، هي صوفيا بارنوك (1885 ـ 1933) التي لم تكن تُخفي مثليَّتها الجنسية. وقد أُعجِبت مارينا بشخصية بارنوك التي تكبرها بسبع سنوات. كما كانت بارنوك تعبِّر عن إعجابها بمارينا وأشعارها من موقع الأكبر، الأم والموجِّه… وكانت مارينا لصيقة بها لا تفارقها، يعجبها استغراب الناس ما بينهما من حميمية تستنكرها “أخلاقهم”. وكان تأثير صوفيا بارنوك عليها عظيماً في أجواء الحرب والدمار والخلافات السياسية المتأجِّجة… وفي أواخر عام 1915 سافرت مارينا مع صوفيا إلى بطرسبورغ(1) للاحتفال بأعياد الميلاد ورأس السنة، فكانت تلك الزيارة علامة فارقة في حياة مارينا، وربما في مسيرتها الشعرية أيضاً.
ضمّت صوفيا، بقرار منها، صديقتها مارينا تسفيتايفا إلى أسرة تحرير مجلة “سيفِرنيّي زابيسكي” الشهرية ذات التوجه اليساري التي كانت تنشر فيها قصائدها بانتظام، وكان رئيس تحريرها، فيودور ستيبون، لا يستقبل إلا أبرز المفكرين الليبراليين في بطرسبورغ، وصفوة الأدباء أمثال النجم الشعري الصاعد، الشاب سيرجي يسينِن (1895 ـ 1925)، والشاعرة آنّا أخماتوفا (1889 ـ 1966) ذات الحضور القويّ في الشعر الروسي يومذاك.
لقد أحست صوفيا بارنوك بالغيرة من أخماتوفا حتى في غيابها، فكيف لو أنها كانت موجودة. غير أن أوسيب مندلشتام (1891 ـ 1938) كان في الأمسية، وكانت مارينا قد تعرفت إليه قبل عام في كوكتِبِل(2). لقد شبّت بينهما عاطفة تمكَّنا من إطفائها ظاهرياً، ولكنها تجلّت في رسائلهما المتبادلة فيما بعد. وقد عبّر هنري تروايا(3) عن ذلك بقوله: “بعضُ الاعترافات على الورق يثير الجسد أكثر بكثير من أشدّ الأحضان حرارة”.
ليست صوفيا بارنوك من ينطلي عليها إخفاء المشاعر! لقد لمستْ ما لم تفصح عنه مارينا من عاطفة تجاه مَندلشتام، فثارت ثائرتها ولم تخمد قبل أن تنتهي العلاقة بينها وبين تسفيتايفا في بداية مارس 1916 يوم أهدتها مارينا آخر قصيدة في سلسلتها الشعرية “صديقة”. (استمرت العلاقة بينهما سنة ونصف السنة: من خريف 1914 إلى بداية ربيع 1916). ثم عادت مارينا إلى زوجها إفرون قائلة في قصيدة:
عدتُ إليك في منتصف ليلة سوداء،
أطلب مساعدتك الأخيرة.
أنا شحّاذة، لا أذكر لي أصلا.
أنا سفينة تغرق.
* * *
يعود افتتان مارينا تسفيتايفا بآنا أخماتوفا إلى عام 1912 حين قرأت مجموعتها الشعرية “المساء” وكتبت عنها بإعجاب كبير في مذكراتها عام 1917:
“يمكن كتابة عشرة مجلَّدات عن هذه المجموعة الصغيرة من دون إضافة أيِّ شيء إليها… يا لَأنّا أخماتوفا من هديّة للشعراء صعبةٍ ومغرية!”.
في اليوم الأول من عام 1916 نظّم أحد كبار شعراء بطرسبورج، ميخائيل كوزمين(4) (1872 ـ 1936)، أمسية شعرية في بيت أحد أصدقائه(5) قرأت فيها مارينا تسفيتايفا أحدث قصائدها وأصابت نجاحاً منقطع النظير. لقد شعرت أنها تمثِّل مدينتها الأم موسكو في قلب منافستها بطرسبورج على ضفاف نهر النيفا.
سنة 1936 تكتب مارينا عن تلك الأمسية:
“أقرأ كلَّ ما كتبتُ عام 1915 من قصائد، كان ذلك قليلاً، وكانوا يطلبون المزيد. أشعر أني أقرأ باسمِ موسكو ولا ألطِّخ وجهها بالوحل، لا ألطِّخه لأني أرفعه إلى مستوى وجه أخماتوفا. أخماتوفا! ـ قُضيَ الأمر. بكياني كلِّه أشعر لدى قراءة كلِّ بيت بالمقارنة المتوترة ـ المحتومة ـ (وفي البعض بإثارة الفتنة) بيننا: ليس فقط بين أخماتوفا وبيني، وإنما بين الشعر في بطرسبورج والشعر في موسكو. ولكنْ، لئن كان محبّو أخماتوفا يستمعون إليّ ضدّي، فأنا لا أقرأ ضدّ أخماتوفا، بل أخاطبُ أخماتوفا. أقرأ وكأن أخماتوفا في الغرفة، أخماتوفا وحدَها. أقرأ لأخماتوفا الغائبة. يهمّني نجاحي كخطٍّ مباشر إلى أخماتوفا. ولئن كنت أريد في تلك اللحظة أن أُمثِّل موسكو على أفضل وجه، فما ذلك من أجل أن أنتصر على بطرسبورج، بل من أجل أن أُهدي إلى بطرسبورج، إلى أخماتوفا هذه الـ موسكو التي في نفسي، في حبّي، أن أهديها منحنيةً أمام أخماتوفا. أن أنحني أمامها بالذات مثل “بوكلونّايا غَرَا”(6) مع أعلى رأسٍ ٍعلى القمة لا ينحني.
وهذا ما فعلتُه في يونيو 1916 بكلمات بسيطة:
تشتعل القِباب في مدينتي الغنّاء،
وشحّاذٌ أعمى يمجِّد المخلِّص المنير،
وأنا أُهدي مدينتي ذاتَ النواقيس
ومعها قلبي إلى أخماتوفا.
لكي أقول كلَّ شيء:
إنني مدينة بالقصائد التي كتبتُها عن موسكو بعد سَفرة بطرسبورج، لأخماتوفا، لحبّي لها، لرغبتي بأن أُهديها شيئاً أكثرَ أبديةً من الحب، ما هو أكثرُ أبديةً من الحب. ربَّما لو أمكنني فقط أن أُهديها الكريملن، لَما كنت كتبت هذه القصائد. وهكذا، فقد كانت هناك منافسة، بمعنى ما، بيني وبين أخماتوفا، ولكنْ ليس من أجل “أن أفعل أفضل منها”، فالأفضل مستحيل، وهذا الأفضل المستحيل أن أضعه عند قدمَيها. منافسة؟ بل توق. أعرف أن أخماتوفا فيما بعد، عامَ 1916-1917، لم تفارق قصائدي المكتوبة لها بخط يدي وظلّت تحملها في حقيبتها حتى لم يبقَ منها إلا قِطع متشقِّقة. هذه القصة التي نقلها لي أوسيب مَندِلشتام واحدةٌ من أكبر الأفراح في حياتي”(7).
كانت آنا أخماتوفا ـ التي تبوّأت مكانة في الشعر لا تتزعزع ـ في السابعة والعشرين من عمرها يومذاك، ولكنها لم تكن موجودة في بطرسبورج(8). كانت تعرف أشعار مارينا، والأرجح أن موقفها من تلك الأشعار كان يتّسم بالتحفّظ أكثر ممّا بالإعجاب. بينما كانت تسفيتايفا قد تجاوزت كل تحفظ على أشعار أخماتوفا، مفتونة بشعرها. وقد أعربت عن أسفها المرير لأنها لم توفَّق إلى لقائها لتحيّيها شخصياً(9). وكانت مارينا تعلن في كل مكان أنها، وهي تقرأ قصائدها الجديدة التي تهديها لألمانيا، لا تفكر إلا بآنّا أخماتوفا.
أعرف الحقيقة! ولتسْقطِ الحقائق الماضية كلُّها!
لا حاجة بالناس للصراع فيما بينهم على الأرض.
انظروا: إنه المساء، انظروا: يقترب الليل.
علامَ: أيها الشعراء، أيها العشاق، أيها القادة العسكريون؟
ها هي الريح تخمد، والأرض يغطيها الندى،
قريباً تتجمَّد عاصفة النجوم في السماء،
وقريباً نرقد جميعاً تحت الأرض،
نحن مَن لم نمكِّن بعضنا بعضاً من النوم عليها.
ما إن عادت مارينا إلى موسكو حتى التحقت بشقيقتها أناستاسيا في مدينة ألكساندروف (100 كم عن موسكو) حيث عاشت حالة من الإلهام لم تعرفها من قبل ولا من بعد. هناك تضفر من قصائدها أكاليل تمجيد لأخماتوفا التي لم يقدَّر لها اللقاء بها في بطرسبورج.
وإلى أخماتوفا تهدي تسفيتايفا مجموعتها الشعرية “فراسخ ـ 2” التي تمجِّد فيها الجيش الأبيض وقتاله ضد الشيوعيين، وفيها 11 قصيدة موجهة إليها مباشرة.
* * *
بعد استيلاء الشيوعيين على السلطة (أكتوبر1917) وجدت النخبة الروسية المثقفة نفسها أمام موجة عاتية من الشكوك تهدِّدها بالهلاك. فقد توفّي الشاعر ألكساندر بلوك (1880 – 1921) منهكاً من الجوع والمرض (يوم 7 أغسطس 1921) بعد طول انتظار للحصول على إذن سفر إلى الخارج طلباً للعلاج.
كما اتُّهِم الشاعر نيكولاي غوميليوف (1921-1886)بالولاء للنظام القديم والتآمر على الثورة، فاعتُقل يوم 3/8/ 1921 وأُعدِم مع 56 آخرين رمياً بالرصاص (ليلة 25 ـ 26 /8/1921)، ولا يُعرَف له قبر حتى اليوم. وسرعان ما سرت شائعات تقول إن زوجته السابقة (ما بين 1910 و1918) آنّا أخماتوفا مهدَّدة بالاعتقال تارة، وتارة أنها قُتلت غيلة على أيدي البوليس السرّي، وأخرى أنها انتحرت… فحطّم اليأس والخوف قلب مارينا التي لم تعرف الحسد أو الغيرة إزاء موهبة أخماتوفا، كما يرى تروايا، ولم تكن ترى فيها إلا نصيرة وحليفة لها في خدمة الشعر. وما إن تبيّن بُطلان هذه الشائعات حول مصير أخماتوفا حتى خاطبتها تسفيتايفا برسالة (31 /8/ 1921) تقول فيها:
“عزيزتي آنّا أندرييفنا! خلال هذه الأيام سرَت حولك شائعات كانت كلّ ساعة تزداد قوّة وتأكيداً. أكتب لك عن هذا لمعرفتي أنه سيبلغك في جميع الأحوال، وأريد على الأقل أن يبلغك بشكل صحيح. أقول لك إن الصديق الوحيد لك بين الشعراء (صديق الفعل!) هو ماياكوفسكي(10) الذي كان يتنقّل في “مقهى الشعراء” مثل ثور جريح.
حقاً كان يبدو كمن حطّمته مصيبة. فهو من أرسل عبر أصحابه برقية استفسار عنك، وإني مدينة له بثاني فرحة عظيمة في حياتي (الأولى خبرٌ عن سيريوجا الذي لم أعرف عنه شيئاً منذ سنتين)..
لقد أمضيت هذه الأيام، على أمل أن أعرف شيئاً عنك، في “مقهى الشعراء”. هؤلاء المشوَّهون! هؤلاء العاهات! أبناء الزنى! هنا كلّ شيء: أشباه بشر، آلات، خيول تصهل، ذكورٌ عواهر <…>.
أكتب على دفتر صغير إلى أكسيونوف(11): ” أكسيونوف، كَرمى لله، ـ أريد الحقيقة عن أخماتوفا”. (يقال إنه التقى ماياكوفسكي) “أخشى ألا أبقى حتى نهاية النقاشات”.
وإذا بإيماءة رأسٍ سريعة من أكسيونوف. تعني: ما تزال حيّة.
عزيزتي آنّا أندرييفنا، لكي تعرفي ليلتي الماضية، إيماءةَ أكسيونوف برأسه لي، عليك أن تعرفي أيامي الثلاثة التي سبقتها ولا يحيط بها كلام. حلمٌ رهيب، أريد أن أستيقظ منه ولا أستطيع. كنت أدنو من كل شخص وأتوسّل إليه سلامتَك. كنت على وشْك أن أقول: “أيها السادة، افعلوا أيَّ شيء لتبقى أخماتوفا حيّة. وقد واستني طفلتي آليا قائلة: مارينا! ولكنْ، إن لها ابناً”.
بالمقابل، وأمام هذا الافتتان والإكبار، لم يتّصف موقف أخماتوفا من تسفيتايفا وشِعرها، لا سيّما أمام المعارف والأصدقاء، بالحرارة والحماسة. قد يكون المقطع التالي من رسالة لها إلى مارينا هو الأكثر تعبيراً عن رأيها، كتابةً، بشعر تسفيتايفا وبها نفسِها كشاعرة:
“عزيزتي مارينا إيفانوفنا، منذ زمن طويل لم يصبني انعدام القدرة على الكتابة الذي أكابده منذ سنوات كثيرة بالحزن الذي أصابني اليوم وأنا راغبة بالحديث معك. إنني لا أكتب لأحد أبداً. ولكنّ موقفك الطيِّب منّي غالٍ علَيَّ بلا حدود. شكراً لك عليه وعلى ما أهديتِني من قصائد. إنني باقية في بطرسبورج حتى أوّل يوليو. أحلم بأن أقرأ أشعارك الجديدة.
المخلصة أخماتوفا”.
أمّا حقيقة موقفها فلا يبدو أنها مطابقة للمكتوب أو قريبة منه كثيراً. يقول غريغوري أداموف، مثلاً، إن الموسيقار أرتور لورييه في العشرينات:
“استاء من برود أخماتوفا إزاء أشعار تسفيتايفا فصاح بها:
ـ إنك تقفين من تسفيتايفا موقف شوبين من شومان.
كان شومان يعبُد شوبين الذي كان يتملّص منه بعباراتِ احترامٍ موارِبة”.
يوم 15 مايو1922 غادرت مارينا تسفيتايفا روسيا السوفيتية في هجرة، عبر برلين إلى تشيكيا ثم فرنسا، استمرّت 17 عاماً. وفي “برلين الروسية” بألمانيا لاقت استقبالاً حافلاً تكلل بإصدار مجموعتيها الشعريتين: “قصائد إلى بلوك”، و”الفراق”. يقول تروايا إن النخبة الروسية المثقفة هنا “وضعت مارينا تسفيتايفا في صفٍّ واحد مع آنّا أخماتوفا. بل ووجد بعضهم إبداعها أكثر تحريكاً للمشاعر وأكثر تفرداً و”معاصرة” من إبداع الشاعرة العظيمة آنّا أخماتوفا الباقية في روسيا”…
وبعد هجرة مؤلمة، معقّدة وطويلة (في براغ التشيكية حتى 31 / أكتوبر 1925، ثم في فرنسا) عادت مارينا تسفيتايفا بحراً، مساء 12 / يونيو 1939، إلى الاتحاد السوفيتي وهي تفكر لآخر مرة، وَفْقاً لـ هنري تروايا:
“بجميع المهاجرين الروس الذين عاشت بينهم هذا العدد من السنين، والذين شدَّ ما أساءوا فهمها، وظلموها بأحكامهم وما أحبّوها. وفي الحقيقة لم يكن يشغل بالَها إلا شيء واحد لم يستطع مواطنوها في المهجر أن يغفروه لها: ليس شِعرها القويِّ التمرّد، الشديدَ المعاصرة، بقدْر ما هو رفضُها أن تلعن روسيا التي تأنّقت بثياب الاتحاد السوفيتي الحمراء. غير أن مارينا كانت تعرف أن هناك جِلْداً تحت أيّ ثياب. وكانت تأمل أن تجد هذا الجلْد بالذات، هذا الجِلد الروسي، مهما حجبته الأسمال الملوّنة في الحفلة التنكّرية السوفيتية”.
بعد عودتها بعامين تماماً، أي في شهر يونيو 1941 كانت مارينا تسفيتايفا تستعدّ لحدثٍ جلل هو لقاء “معبودتها”، آنّا أخماتوفا حين جاءت إلى موسكو. كانت تسفيتايفا تمجِّدها، وكانت روسيا كلّها تعدُّها شاعرة عظيمة رفعتها عالياً، فقرر الأصدقاء عقد “لقاء تاريخي” بين الشاعرتين. إلا أن مارينا كانت قد غيّرت رأيها قليلاً بأخماتوفا، بعد أن أصابتها بالخيبةِ قراءةُ مجموعة أخماتوفا الشعرية الأخيرة “من ستة كتب” (الصادرة سنة 1940):
“بالأمس قرأت مجموعة أخماتوفا وأعدت قراءتها كلّها تقريباً. إنها قديمة وضعيفة. كثيراً (وهذه علامة سيئة وصائبة) ما تكون النهايات ضعيفة تماماً تجتمع (وتفضي إلى) لا شيء. لقد أفسدت قصيدتَها عن زوجة لوط. كان يجب عليها أن تقدِّم الزوجة عبرها هي أخماتوفا، لا أن تقدِّم الاثنتين (وإلا فلتقدِّم الزوجة وحدها):
…ولكنّ قلبي لن ينسى أبداً
من ضحّت بنفسها من أجل نظرة وحيدة.
كان يجب تقديم هذا البيت الشعري (المعادلة) كجملة إسمية، وليس كمفعول به. إذ ما معنى: قلبي لن ينسى أبداً… ـ ومن يهتمُّ بذلك؟ فالمهمّ ألّا ننسى، أن تبقى في عيوننا: مَن ضحّت بحياتها من أجل نظرة وحيدة…
ليكن…
كلُّ ما في الأمر أن إعجابي كان في عام 1916، يوم كان قلبي كبيراً بلا حدود، وكان هناك بلدة ألِكساندروف، وثمار الـ مالينا(12) (قافية رائعة مع مارينا)، وكانت مجموعة صغيرة من أشعار أخماتوفا…
والآن: أنا ـ وكتابها.
كان جميلا قولها: “صفحةٌ بيضاء لا علاج لها…”.
فماذا كانت تفعلُ ما بين عامَي 1914 و1941؟ داخلَ نفسها. هذه المجموعة الشعرية هي الصفحة البيضاء التي لا علاجَ لها”.
ولكنْ، لا بدّ هنا من الإشارة، بإيجاز كبير، إلى ما أحاط بأخماتوفا خلال هذا الزمن الصعب من فجائع وويلات. فبينما كانت، في شهر أغسطس 1921، تستعد لنشر مجموعتها الشعرية الخامسة “Anno Domini” جاءها خبر انتحار أخيها أندريه في شبه جزيرة القرم(13)، وفي ذلك الشهر نفسه توفّي الشاعر ألكساندر بلوك. وفي يوم تشييع جنازته بلغها خبر اعتقال زوجها الأول (والدِ ابنها الوحيد) الشاعر نيكولاي غوميليوف الذي قتل رمياً بالرصاص قبل نهاية ذاك الشهر المشؤوم. تحت هذه الضربات الثقيلة والإحساس باليتم كتبت أخماتوفا وهي على عتبة الشيخوخة: “لقد غيّرت هذه المرحلة القاسية حياتي مثلما يغِّير النهر مجراه”. فخلال عشر سنوات (ما بين 1921 و1936) لم تكتب إلا عشر قصائد.
اللقاء الأول
لقد سبق لـ بوريس باسترناك(14)، قبل سنة ونصف السنة من هذا اللقاء، أن سأل مارينا تسفيتايفا، عقب عودتها الأخيرة إلى روسيا، عمّا ترغب به، فقالت: أن أرى آنّا أخماتوفا. ونقل باسترناك هذه الرغبة إلى أخماتوفا مرفقة برقم هاتف تسفيتايفا. وحين جاءت أخماتوفا إلى موسكو ونزلت ضيفة على عائلة فيكتور أردوف(15)، اتصلت بمارينا وقدّمت لها نفسها عبر الهاتف، ففاجأها الجواب:
“ـ نعم؟
ـ أخماتوفا تتكلّم.
ـ أسمعك.
وتعبِّر أخماتوفا عن استغرابها قائلة: أليست هي التي طلبت لقائي؟
تسألها:
ـ ما العمل، هل أذهب إليك، أم تأتين إليّ؟
تردُّ تسفيتايفا:
ـ أفضِّل أن أذهب أنا إليك.
ولمّا تعثّرت أخماتوفا في توضيح الطريق لها، قاطعتها تسفيتايفا بالسؤال:
ـ وهل يستطيع شخص طبيعي أن يوضِّح لشخصٍ غيرِ طبيعي؟ أليس بالقرب منك شخص ليس شاعراً يستطيع أن يدلّني على الطريق إليكم؟”.
يقول أردوف، صاحب البيت، إنه كان ذلك الـ “ليس شاعراً” وأوضح لها الطريق. وسرعان ما جاءت تسفيتايفا في منتصف نهار اليوم التالي 7 1941 في بيته، حيث جرى اللقاء الأوّل بين الشاعرتين:
“أنا من فتحتُ الباب في ذلك اليوم الصيفيِّ اللطيف. دخلت مارينا تسفيتايفا غرفة الطعام. كانت آنّا أخماتوفا جالسة في مكانها المعهود على الديوان. لم أكن بحاجة إلى أن أنطق الكلام المألوف حين تقديم شخصين ليتعارفا. كان الاضطراب مكتوباً على جبين كل من الضيفتين كلتيهما. وقد تم اللقاء بينهما بعيداً عن طريقة “التعارف” المبتذلة. لم تقولا “تشرّفنا”، ولا “كم أنا سعيدة”، ولا “آه، هذه أنتِ إذاً!”. مدّت كلٌّ منهما يدها لصاحبتها، ولا شيء آخر”.
ونستخلص من أقوال أردوف أن مارينا دخلت مرتبكة، وكانت متوترة حين تناول الشاي، وكان الحديث متعثّراً بينهما في غرفة الطعام: “وقد تحلّيتُ بما يكفي من اللباقة لكيلا أعطي حُجّة لثرثرة الصالونات… وخرجتُ من الغرفة بلا تردّد: كنتُ أُدرك أني، إذ أترك الشاعرتين وحدهما، أحرم تاريخ أدبنا من أدلّة شاهد عيان هامة. إلا أن أبسط قواعد اللباقة كانت تقول إني لست على الإطلاق بالشخص الذي يجب أن يكون الثالث في هذا اللقاء”.
وسرعان ما ذهبت بها أخماتوفا إلى الغرفة الصغيرة التي خصصت لها في الشقة. هناك أمضيتا معاً وقتاً طويلاً، “بين ساعتين وثلاث ساعات”. ثم خرجتا وهما أكثر اضطراباً ممّا كانتا قبل اللحظات الأولى من اللقاء.
“وبحكم معرفتي بآنّا أخماتوفا، ـ يقول أردوف، ـ كان سهلاً عليّ أن أرى على وجهها آثار المشاعر التي تخلِّفها مصائب الآخرين فتظهر مباشرة أو من خلال النقل”. ويضيف في شهادته:
“لقد خرجتا صديقتين، هذا ما شعرت به فوراً. ولكنْ، بالطبع، لم تكن ظاهرة علائم تلك المودّة النسائية الضئيلة، المألوفة عند أصحاب الطبيعة الاعتيادية. كلتاهما كانتا صامتتين، ولم تتبادلا النظرات. عرضتُ على الضيفتين شاياً، فرفضت مارينا.
حين كانت مارينا تهمُّ بالخروج رسمتْ عليها آنّا علامة الصليب.
لم تحدّثنا أخماتوفا أبداً عمّا دار بينهما من حديث في تلك الغرفة الصغيرة. وأستخلص من ذلك أنهما تحدّثتا عن أحوال تسفيتايفا، ولم تسمح آنّا لنفسها بكشْف أسرار الآخرين.
بعد ذلك كانت آنّا أخماتوفا تتكلّم دائماً بشفقة عن مارينا تسفيتايفا وعن قدَرِها البائس. من هنا أستنتج أن مارينا تكلّمت كثيراً عن نفسها خلال اللقاء”(16).
غير أن أخماتوفا تشير فيما بعد إلى نقطتَي خلاف تكشّفتا بينهما في هذا اللقاء:
1ـ حين قرأتْ لمارينا مقطعاً من “ملحمة من دون بطل”: “قالت مارينا بطريقة جارحة للغاية: “ينبغي التحلّي بقدْرٍ كبير من الجرأة للكتابة في عام 1941 عن أرلِكينو وكولومبينا وبييرو”، مفترضة، على ما يبدو، أن ملحمتي تقليد أسلوبي لجماعة “عالم الفن” على طريقة بينوا وسوموف، أي ربّما مَن ناضلت ضدهم في هجرتها بوصفهم نفاياتٍ فات زمانها. لكن الزمن أظهرَ أن المسألة ليست كذلك”.
2- أذكر أنها سألتني: “كيف أمكنكِ أن تكتبي: “خذِ الطفلَ، والصديق، وموهبة الشعر الغامضة…”؟ ألا تعلمين أن كلَّ ما في الشعر يتحقّق؟”، فقلت لها: “وكيف أمكنكِ أن تكتبي ملحمة “الشجاع”؟ قالت: “ولكنّ هذا ليس عنّي!”. خطر لي أن أقول لها: “ألا تعلمين أن كلّ ما في الشعر هو عن الذات؟”. ولكني لم أقُلْه”.
وعموماً، فإن هناك انطباعاً قويّاً، لدى دميتري مكسيموف الذي عرف أخماتوفا شخصياً، بأن اللقاء وسّع الهوّة بين الشاعرتين ولم يضيِّقها.
اللقاء الثاني، الأخير
جرى اللقاء الثاني بين تسفيتايفا وأخماتوفا في اليوم التالي 8 / 6/ 1941 في غرفة ضيّقة يسكنها نيكولاي خاردجييف17 ضِمْن شقة مشتركة. هنا أيضاً كان الحذر يسيطر على الشاعرتين اللتين تحصّنت كلٌّ منهما بموقعٍ دفاعيّ إزاء صاحبتها، ولم تكونا وحيدتين، كما في اللقاء الأوّل.
تروي آنّا أخماتوفا لِـ نتاليا إيليِينا قصة اللقاء الثاني مع مارينا تسفيتايفا بكلمات تكتفي برسم إطار ذلك اللقاء (اتصلتْ، جاءت، أهدتني “ملحمة الهواء”، خرجنا، افترقنا!)، أي من دون أن تلامس مضمونه وما دار خلاله بين الشاعرتين:
“في السابعة من صباح اليوم التالي اتصلت مارينا هاتفياً وطلبت اللقاء بي من جديد. كان عليّ أن أذهب في المساء لزيارة نيكولاي خاردجييف في حي ماريينا روشّا. فقالت مارينا: “سأجيء إلى هناك”. وقد جاءت وأهدتني “ملحمة الهواء” التي نسختها بخط يدها في الليل. إنها شيء معقَّد ومأزوم. ثم خرجنا من بيت خاردجييف مشياً <…> باتجاه “مسرح الجيش الأحمر”، حيث كانت نينا أولشيفسكايا تمثل في ذلك المساء. كان مساء مدهشاً وضّاء. وعند المسرح افترقنا. هذه قصتي كلُّها مع مارينا تسفيتايفا”.
وبينما تصف إيمّا غيرشتاين مشهد اللقاء بالكلمات التالية:
“جئت إلى بيت خاردجييف لأرافق أخماتوفا إلى “مسرح الجيش الأحمر” القريب، كما اتفقت معها من قبل. لم أجِد عنده أخماتوفا وحدها، بل وتسفيتايفا بصحبة الباحث الأدبي ت. س. غريتس. كان جالساً بالقرب من خاردجييف على تختٍ . وكانت آنّا أخماتوفا ومارينا تسفيتايفا تجلسان متقابلتين حول الطاولة على كرسيين خشبيين بدون ظهر. . كانت مارينا تضع رِجلاً على رِجل، خافضة رأسها تنظر إلى الأرض، تتكلّم برتابة فتظهر في طريقتها هذه قوَّة لا تهدأ وإصرارٌ لا يتوقّف”.
يتحدّث خاردجييف عن جوّ اللقاء قائلاً:
“جاءت تسفيتايفا بصحبة ت. غريتس إلى بيتي الذي جرى فيه لقاؤها الثاني مع أخماتوفا. كانت تتكلم من غير توقف تقريباً. كثيراً ما كانت تنهض عن كرسيّها، وتُحسن المشيَ بخفة وحريّة في ثمانية أمتار مربّعة هي مساحة غرفتي الصغيرة.
لقد أدهشني صوتها. كان مزيجاً من الكبرياء والمرارة، من التسلّط ونفادِ الصبر. كانت كلماتها “تتساقط” مندفعةً وعديمةَ الشفقة، مثل نصل المقصلة. تحدّثتْ عن باسترناك الذي لم تلتقِه منذ سنة ونصف السنة (“إنه لا يريد أن يراني”) <…>، عن الأفلام الأوروبية الغربية وعن ممثّلها السينمائي المفضّل بيتر لورّي<…>. كما تكلّمت عن فن الرسم، وعبّرت عن إعجابها الكبير بـ “كتاب عن الرسّامين” الذي ألّفه كارِل فان ماندير (نشر عام 1604) وصدرت ترجمته الروسية عام 1940. <…>.
كانت أنّا أخماتوفا أقرب إلى الصمت.
جال في خاطري: كم هما غريبتان عن بعضهما البعض، غريبتان ولا تجتمعان”.
تتذكّر أخماتوفا الحديث المتوتِّر الذي دار بينهما قائلة: “الآن وقد عادت إلى مدينتها موسكو ملكة إلى الأبد، … يطيب لي ببساطة و”بدون أساطير” أن أتذكّر هذين اليومين”.
يقول جريجوري أداموفيتش:
“فيما مضى كانت أخماتوفا، قبل اللقاء مع تسفيتايفا، تستعرِض بإعجابٍ رسالة (تسفيتايفا. ـ ن. ن) التي وصلتها من موسكو. وكانت تسفيتايفا تعبِّر عن إكبارها قصيدةَ أخماتوفا “المهد” التي قرأتها للتوّ: “بعيداً في غابة عظيمة…”، وتؤكد أنها مستعدّة لأن تعطي، مقابل بيتٍ واحد فيها هو “أمٌّ رديئة أنا”، كلَّ ما كتبتْه حتى الآن وما ستكتبه في أيِّ وقتٍ من الأوقات”. ويضيف أداموفِتش أن أخماتوفا لم تكن تقدِّر قصائد تسفيتايفا عن موسكو أو عن ألِكساندر بلوك. ولكنه “بالنظر إلى بيتين من قصيدة كتبتها سنة 1961، هما:
غصنٌ غضٌ من البوزينا18
رسالةٌ من مارينا،…
كاد أداموفِتش يظنّ أن موقف أخماتوفا من تسفيتايفا قد تغيّر لولا قولها أمامه بفتور شديد:
“الناس عندنا مغرمون بها الآن، يحبّونها كثيراً… ربّما حتى أكثر من باسترناك”. ولم تضف إلى ذلك أي كلمة تعبر عن رأيها هي. ولمَّا ذكرتُ في أثناء حديثنا ولعَ تسفيتايفا المتزايد عاماً بعد عام بظاهرة نقل ما للبيت من مضمون منطقي إلى بداية البيت الذي يليه، وافقتني أخماتوفا قائلة: “حقاً، يمكن فعل ذلك مرة، مرّتين، ولكنه موجود عندها في كل مكان، بحيث يفقد كل قوته”.
تفضي خلاصة انطباعات من تحدثوا مع أخماتوفا من معاصريها إلى وجود ازداوجية غريبة في موقفها من تسفيتايفا وشعرها. إذ كانت تتحدث عنها ببرود وغيرة خفيّة وحذرٍ من جهة، وحرصٍ على إطراء مقدرتها الشعرية من جهة أخرى.
هكذا يشير أداموفِتش إلى نفور أخماتوفا ممّا في قصائد تسفيتايفا من “شاعرية” مفعمة بتحدٍّ واستعراضيةٍ وبإلحاح تقريباً، ومن تأثرٍ ضمنيٍّ بشعر بَلْمونت تغطيه اختلافات ظاهرية حادّة.
أمّا فيتالي فيلينكِن فيستغرب نظرتها إلى شعر تسفيتايفا وكأنه صيغة مشتقة من شعر أندريه بيلي، ويلاحظ ما يمكننا وصفُه بالغيرة والحسد متمثِّلَين في استياء أخماتوفا وتوتُّر أعصابها وهي تتحدث معه عن “تقمُّص” تسفيتايفا شخصيةً جعلت المهاجِرين “ينشرون بإجلال وإعجابٍ كلَّ سطر تكتبه”، بل وعن استيائها الشديد أيضاً حتى مِن وصفِ مارينا واقعةَ افتتاح والدها (البروفيسور إيفان تسفيتايف) أوّلَ متحف للفنون الجميلة في موسكو بحضور القيصر!
ولكن أخماتوفا كانت في الوقت نفسه تقول إن تسفيتايفا “شاعرة قديرة”، وبدون تردُّد كانت تُدرِجها في القائمة القصيرة “لأكثر من تجلُّهم” من شعراء، كما يقول فيلينكِن. وهذا ما صرّحت به أخماتوفا عن تسفيتايفا قائلة لِـ نتاليا روسكينا: إن تسفيتايفا “شاعرة قديرة”؛ ولِـ إيسايا برلين: “مارينا شاعرة أفضل منّي”.
ويرى دميتري مكسيموف أن أخماتوفا ما كانت تَعُدَّ تسفيتايفا ولا أمكن لها أن تعدَّها قريبة إليها من حيث الروح أو علم الجمال أو بناء البيت الشعري؛ وأن الغربة الروحية الجمالية بينهما كادت أن تنقلب إلى مجابهة. وفضلاً عن الأسس الإنسانية العميقة، يعزو هذا الباحث ذلك جزئياً إلى انتمائهما إلى “مدرستَين”، إلى فضاءين أو حتى إلى عالَمين شعريَّين مختلفين ظهرا جليَّين في التيار العريض لتطور الأدب الروسي ـ عالم “بطرسبورج”، وعالم “موسكو”. وبرهافة يلتقط مكسيموف أن ما يمكن أن يسمى مجازاً بالـ “غِيرة” كان شيئاً يشعر به المرء من خلال نبرة صوت أخماتوفا وهي تتحدث عن تسفيتايفا أكثر ممّا يوحي به جوهرُ كلامها. والأرجح هو أن ذلك كان نفحةَ غيرةٍ أكثر مما هو الغيرة بالضبط: “فحين طلبتُ إليها مرّة (15 / 2/ 1959) أن تقرأ لي رأي مَندِلشتام بشِعرها، وقد ذكرتْ هذا الرأي أمامي قبل قليل، قالت وكأنها تعترض على طلبي:
ـ ولكنّك تحبُّ مارينا أكثر؟! (بمعنى، فلماذا إذاً أقرأ لك رأيه عن شِعري؟)”.
لعلّه مناسبٌ أن نسجِّل هنا، في ختام هذ المادّة، قول هنري تروايا، كاتبِ سيرة مارينا تسفيتايفا، إن أريادنا إفرون، ابنةَ مارينا تسفيتايفا، أنفذُ بصيرة من أخماتوفا، إذ تقول في مذكّراتها:
“مثلما يقول القراءُ أبناءُ جيلي “باسترناك وتسفيتايفا”، كان أبناءُ جيلها يقولون “بلوك وأخماتوفا”. غير أن واو العطف هذه بين اسمين لم تكن في نظر تسفيتايفا نفسِها أكثرَ من مجرّد توازياتٍ صِرف، ذلك انها لم تساوِ بينهما؛ وكان تمجيدها اللفظي لأخماتوفا تعبيراً عمّا بين أختين من مشاعر سامية بلغت الذروة، ليس أكثر. لقد كانتا أختين في الشعر، ولكنّهما لم تكونا توأمَين على الإطلاق. على أن تناغم أخماتوفا المطلق ومرونتها الروحية اللتين خلَبتا لبَّ تسفيتايفا في البداية، باتتا فيما بعد تبدوان لها ميزتين راحتا تقيّدان إبداع أخماتوفا وتطوُّرَ شخصيتها الشعرية”.
هاتان “الميزتان” (التناغم المطلق والمرونة الروحية) اللتان يشير إليهما تروايّا، هما المقصود في قول تسفيتايفا عن أخماتوفا: “إنها الكمال، وفي هذا حدُّها، للأسف”.
ورغم إقرار تروايا بأن تسفيتايفا “كانت تقدّر حكمة أخماتوفا ومسيرتها الرائعة حقَّ قدْرهما”، فإنه يقول:
“كانت تحسدها على كونها قد تمكّنت من إظهار موهبتها في ظل جميع الأنظمة. وفي سرِّها، كانت تسفيتايفا تتّهمها بأنها تُعجِب عشّاقَ الشعر كلَّهم من دون استثناء، في حين لم يكن يعشق شعرها هي إلا صنفان من الناس متناقضان في الأذواق: صنف معجب بشعرها كلّه، ولكنه ينتقدها على ما فيه من غموض؛ وصنفٌ آخر يقدِّرها عالياً ويمجِّدها على إغنائها القاموس إلى درجةٍ جعلت اللغةَ الروسية بكاملها تقريباً “لغة تسفيتايفا”. ومع ذلك، كان يخيَّل لمارينا أن عدد أنصار الشعر الوجداني المعاصر، المبتكَر والمقلِق، يزداد بقوّة في روسيا السوفيتية، وربّما ينتهي ذلك إلى الاعتراف بها واحداً من أعمدة الشعر المميّزين”.
ويرنّ في كلمات تروايا لحن ختام مفعم بالمرارة والألم والتساؤل:
“آهٍ، لولا هذه الموجة العاتية من القسوة والعنف التي أصابت العالم كلّه وانحدرت بالشعر إلى مرتبة التسليات الفارغة، إن لم تكن قد أخرجته من الحياة تماماً! تُرى، هل سيكون بمقدور روسيا وحدها أن تظلَّ واقفة بمفردها بمنأى عن هذه التقلّبات العالمية؟”.
الهوامش
1 – أسس القيصر الروسي بطرس الأكبر (1672-1725) مدينة سانكت بِطرسبورغ. (مدينة القديس بطرس) عام 1703 وأطلق عليها اسم شفيعه القديس بطرس. وظلّت عاصمةً لروسيا حتى عام 1918. ومع مرور الزمن صارت تعرَف باسم بطرسبورغ نسبةً إلى القيصر بطرس الأكبر نفسه. بين 1914 و1918 سمّيَت بتروغراد. ثم باتت تعرف في العهد السوفيتي باسم لنينغراد حتى خريف 1990 حين استعادت اسمها بطرسبورغ الذي نعتمده في هذه المقالة تفادياً لإرباك القارئ.
2 – بلدة صغيرة على شاطئ البحر الأسود في شبه جزيرة القرم. اشتهرت في الثلث الأول من القرن العشرين بفضل الشاعر الرسام الروسي مكسيمليان فولوشِن (1877 – 1932) الذي جعل من بيته فيها محجاً لأعلام الأدب والفن والثقافة الروسية في عصره.
3 – هنري ترويا (1911ـ2007) أديب وكاتب سيرة كبير ـ أرمني/ روسي/ فرنسي في كتابه: “مارينا تسفيتابفا” (الترجمة الروسية، بطرسبورغ، أمفورا، 2014).
4 – ميخائيل كوزمين ( 1872 ـ 1936)، أديب وناقد روسي. أول أعلام الشعر الحر في روسيا. فتح صفحة الحب المثلي في الأدب الروسي بقصته الطويلة “الأجنحة”.
5 – يواكيم صموئيل كانِّيغِيسِر (1860-1930)، مهندس بناء سفن.
6 – “الجبل المائل”، اسم هضبة تقع في الجزء الغربي من موسكو. أقيمت على قسم كبير منها (ما بين 1950 ـ 1990) طرق وأحياء سكنية حديثة و”حديقة النصر”.
7 – هذه ترجمة كاملة للنص الذي كتبته مارينا تسفيتايفا عن تلك الأمسية، وكثيراً ما يكتفي النقاد والباحثون باقتباس بعض الجُمل والعبارات منه.
8 – فيما تشير مصادر كثيرة إلى أن أخماتوفا كانت يومها مريضة تعيش في “تسارسكويه سيلو” (قرية القياصرة) بالقرب من بطرسبورغ، تذكر مارينا تسفيتايفا سنة 1936 أن أخماتوفا كانت في شبه جزيرة القرم، وكان زوجها الأوّل، نيكولاي غوميليوف، في الحرب.
10 – فلاديمير ماياكوفسكي (1893-1930) شاعر الثورة الشيوعية في روسيا. انتحر برصاصة في بيت صديقة له في موسكو.
11 – إيفان أكسيونوف (1884-1935)، شاعر وناقد ومترجم.
12 – بوزينا شجيرة شائكة متشابكة الأغصان تشبه نبات الديس، وثمارها تشبه حَبَّ الديس أيضاً، لكنها حمراء.
13 – كان شقيقها الأصغر فيكتور ضابطَ بحرية التحق بالحرب عام 1916 مُدرَجاً في عداد الموتى إلى أن ظهر متخفيّاً في أمريكا في بداية الستينات.
14 – بوريس باسترناك (1890-1960) شاعر وكاتب ومترجم. أنجز روايته “دكتور جيفاكو” عام 1955 ونال عليها جائزة نوبل عام 1958، ولكنه اضطرّ للتخلي عنها ورفضِها تحت ضغط الحكومة السوفيتية.
15 – كل الأشخاص الذين نستشهد بأقوالهم في هذه المقالة، باستثناء هنري تروايّا، كانت تربطهم بآنّا أخماتوفا معرفة وعلاقة شخصية مباشرة.
16 – لئن كان أردوف قد قدَّر مدة اللقاء الأول بين الشاعرتين بساعتين أو ثلاث ساعات، فإن أخماتوفا تبالغ، أو تنسى ربّما، حين تقول لـ نتاليا إيلييِنا بعد عشرين عاماً ونيِّف من ذلك اللقاء (في يناير/ ك2 سنة 1963)، برغم تأكيدها أنها لا تصدِّق “بقدرة أحد على تذكّر ما حدث بدقة قبل كل هذه السنوات”، إن مارينا جاءت إلى ذلك اللقاء “في الثانية عشرة ظهراً، وغادرت في الواحدة ليلاً”!.. وتخبر ليديا تشوكوفسكايا بأن تسفيتايفا ظلت شبه صامتة خلال اللقاء الأول مدة سبع ساعات! ويظهر هذا “التخبّط” بجلاء مؤسفٍ أكبر في المعلومات والانطباعات التي تدلي بها أخماتوفا خلال لقائها مع أريادنا إفرون، ابنة مارينا تسفيتايفا عام 1957!
17 – 5 نيكولاي خاردجييف (1903ـ 1996) كاتب ومؤرخ في مجال الأدب والفن الحديثين. كان مقرّباً من المستقبليين والشكلانيين الروس. منذ عام 1930 كان صديقاً دائماً للشاعرة آنا أخماتوفا التي جرى لقاؤها الثاني مع مارينا تسفيتايفا في غرفته الخشبية في حيّ (ماريينا روشّا) على أطراف موسكو، وكانت تسميها “ملجأ الشعراء”.
18 شجيرة في الشمال الروسي تزهر أوائل الصيف، وتنضج في أواخره ثمارُها السوداء الضاربة إلى الزرقة، الشبيهةُ بثمار الريحان.
نزوى
——————————
مارينا تسفيتايفا.. الشعر والموت/ أحمد الخميسي
أفي 31 أغسطس استعادت الحركة الأدبية الروسية ذكرى ذلك اليوم الذي دخلت فيه الشاعرة الروسية لكبيرة مارينا تسفيتايفا إلي حجرة منعزلة وأنهت حياتها بأنشوطة وهي في التاسعة والأربعين، زوجة، وأم لطفلين، وشاعرة ملء السمع والبصر أشرقت في مطلع القرن العشرين مع”آنا أخموتوفا”لتصبحا شمسين منيرتين من قصائد لاهبة ومصير فاجع. ولدت مارينا في 8 أكتوبر 1892 بموسكو، وكان والدها أستاذا جامعيا، ووالدتها عازفة بيان، وتبدت موهبة الشاعرة في محاولات ساذجة مبكرة وهي في السادسة من عمرها، وعام 1910 نشرت أول ديوان”دفتر مسائي”
وبعد عامين خرج ديوانها الثاني”عامود النور السحري”، وتوالت دواوينها حتى بلغت سبعة عشر ديوانا،غير المسرحيات والمقالات النقدية والمذكرات، ولم تقع خلال رحلتها الأدبية الثرية في فخ”الأدب النسوي”. عاشت تسفيتايفا عهد القياصرة، ثم عاصفة ثورة 1905، ثم ثورة 1917، والحرب الأهلية، ثم استقرار كل شيء في قبضة البطش (ستالين).
ورأت أمام عينيها كيف يحترق الشعراء والأدباء من أبناء جيلها مثل آخماتوفا، التي أعدم زوجها الشاعر جوميلوف عام 1921، واعتقل ابنها، ونكل بها، وعاصرت انتحار أو قتل الشاعرين العظيمين سيرجي يسينين في ديسمبر 1925 ومن بعده ما يكوفسكي في أبريل 130، وموت الشاعر ماندلشتام 1938 مريضا في معسكر اعتقال، ثم محاكمة المخرج المسرحي العظيم ماير هولد وإعدامه ضربا بالرصاص عام 1940. وكان عليها وسط الحريق أن تكتب نفسها، والحقيقة، وهي في روسيا، وهي خارج روسيا حين رحلت عنها إلي باريس سنة 1922، وهناك بعد ستة أعوام صدر آخر أهم ديوان لها المسمى”بعد روسيا”. وتصف الشاعرة حياتها في الغربة قائلة :”سوء حظي في الغربة أنني لست مغتربة، أنني بكل نفسي، بكياني كله، وامتداد روحي، هناك، إلي هناك، ومن هناك”!أما عن ظروف تلك الحياة فقد كتبت عنها مارينا في مذكراتها تقول :”لا أحد يستطيع أن يتخيل الفقر الذي نحيا فيه. إن دخلي الوحيد يأتيني عن طريق الكتابة. أما زوجي فهو مريض وليس في مقدوره العمل. وابنتي تكسب قروشا زهيدة بما تحوكه من قبعات. ولدي ابني المعتل، ونحن جميعا نعيش على تلك القروش، وبعبارة أخرى فإننا نموت من الجوع ببطء”. وفي عام 1939 تقرر الشاعرة الكبيرة العودة إلي روسيا، وتشهد مرة أخرى عنفوان البطش الستاليني، وفظاظته، وتحاول أن تتشبث بالأمل في أن شعبها القوي سيتحمل وطأة الواقع ويتجاوزه إلي عالم آخر، فتكتب في إحدى قصائدها تقول :
ستحيا يا شعبي مهما كان..
يحرسك الله ماحييت
من وهبك قلبا حلوا كالرمان
ومنحك صدرا كالجرانيت.
فلتزدهر أيها الإنسان
الذي قد من الصخور
بقلبك الحار كالرمان
النقي مثل البللور
الشاعرة التي امتلأت بالثقة في أن شعبها قادر على تحمل الصعاب، لم تستطع هي ذاتها أن تتحمل وطأة الثورة التي ابتلعت عواصفها خيرة كتابها، فأنهت حياتها منتحرة في 31 أغسطس 1941 بأنشوطة كما فعل يسينين. وتركت مارينا ثلاث رسائل واحدة للشاعر”نيكولاي أوسييف”، وأخرى لمن سيتولى دفنها، وثالثة لإبنها جريجوري تقول له فيها :”عزيزي، اغفر لي، لكن الوضع كان سيصبح أسوأ لو استمرت هذه الحال، إنني مريضة بشدة، حتى أنني لم أعد أنا. اعلم أنني أحبك بقوة، وافهم أنه لم يكن بوسعي أن أعيش أكثر من ذلك. انقل لبابا و ل”آليي”إذا رأيتها أنني أحبهما حتى آخر رمق، ووضح لهما أنني بلغت طريقا مسدودا”. هكذا رحلت الشاعرة، أما الطريق المسدود، فلم يكن مأزقها الخاص، لكنه مأزق تاريخي تكثف كقطرات الماء على جدران روحها العظيمة. وفي عام 1990، تقدم عدد من الكتاب والشعراء برسالة إلي البطريرك الروسي ألكسي الثاني، ليغفر للشاعرة انتحارها، ففعل.
خلال إقامة مارينا تسفيتايفا في باريس كانت تراسل الشاعر النمساوي المعروف راينر ماريا ريلكة، فكتب لها ذات مرة”نحن الأعماق العائدة إلي السماء يا مارينا”. ومن هناك تطل الشاعرة كل عام على روسيا، وتنشر من جديد رائحة الحريق القديم.
—————————
مارينا تسفيتايفا وبوشكينها/ د. ضياء نافع
أصدرت الشاعرة الروسية الكبيرة مارينا ايفانوفنا تسفيتايفا (1892–1941) كتيباً عنوانه (بوشكين..ي), اي بوشكينها الذي يخصها او الذي – كأنما – تعود ملكيته لها, وهو عنوان صعب بالنسبة للترجمة العربية , فاذا كتبناه هكذا– (بوشكيني) حسب قواعد الضمائر المتصلة (مثل كتابي او صديقي..) فانه سيعني بالعربية صفة من الاسم (بوشكين) ,
اي بوشكيني النزعة او الاتجاه..الخ , واذا كتبناه (بوشكيننا) فانه سيبتعد قليلا عن المعنى الذي قصدته الشاعرة تسفيتايفا نفسها, و التي أرادت ان تقول ان الشاعر الروسي الكبير بوشكين هو خاص بها فقط وليس (بنا نحن) , وعليه يجب على المترجم ان يجد البديل اللغوي الذي يمكن ان يعبر عن ذلك العنوان , وليست هذه بالمهمة السهلة , اذ تقتضي الاستطراد والشرح الاضافي مع ضرورة الحفاظ في نفس الوقت على بساطة وجمالية ورشاقة هذا العنوان المتفرد ودقته , ولهذا استعملت هنا الضمير الثالث (الغائب) في عنوان مقالتي هذه وجعلت من الشاعر الروسي بوشكين – بوشكينها , للتعبير عن عنوان كتيب تسفيتايفا ذاك,
واذكر ان زميلي في جامعة بغداد الدكتور جميل نصيف التكريتي طلب مني مرة في بغداد اي كتاب روسي عن بوشكين من مكتبتي الشخصية لغرض ترجمته من الروسية الى العربية ضمن منشورات وزارة الإعلام العراقية لأنه حصل على موافقتها لترجمة كتاب تسفيتايفا هذا ولكنه اصطدم بصعوبة ذلك وعدم استطاعته إنجاز ترجمته واقعيا , فأعطيته كتاب الباحث الروسي بيتروف عن بوشكين والذي ترجمه فعلا الى العربية ونشرته وزارة الإعلام العراقية في حينها , وقد اطلعت شخصيا على كتيب تسفيتايفا هذا وفهمت ان الدكتور جميل نصيف التكريتي كان محقا بموقفه ذاك فعلا لأنه لم يطلع في حينها على كتيب هذه الشاعرة بدقة وبالتفصيل – قبل اقتراحه ترجمة الكتاب – , ولم يقرأ بإمعان كل سطوره الذاتية البحتة , والتي كتبتها تسفيتايفا في فترة هجرتها من روسيا , والتي عكست فيها كل حنينها الى طفولتها وأيامها الخوالي في وطنها روسيا وهي في هذا البعد والحنين والغربة, وبالتالي فان هذا الكتيب لم يكن مناسبا فعلا لترجمته الى اللغة العربية لأنه صعب ومعقد جدا بالنسبة لترجمته الى العربية , و لأنه لا يرسم صورة شاملة و متكاملة لبوشكين – الشاعر والكاتب الروسي الكبير بالنسبة للقارئ العربي او حتى بالنسبة للقارئ الأجنبي بشكل عام.
ان كتيب تسفيتايفا عن بوشكين – قبل كل شيء – هو صورة قلمية ذاتية جدا لأفكارها عن بوشكين وتصوراتها الشخصية البحتة عن هذا الشاعر العملاق ليس إلا وقد كتبته للقارئ الروسي بالذات فقط والذي يفقه ويتفهم بعمق أهمية بوشكين وقيمته وروعته وتميّزه منذ نعومة أظفار هذا القارئ كما يقال , وانه بالتالي لا يمكن ان يمثٌل للقارئ غير الروسي صورة متكاملة لبوشكين أبدا , او ان يرسم لوحة شاملة لكل أبعاد أدبه وشاعريته المتنوعة والعبقرية والتي كانت تستوعب كل جوانب الحياة الروسية آنذاك و تعكس كل تعقيداتها وتناقضاتها ومشاكلها الاجتماعية و تجسّد كل أبعادها الإنسانية في نفس الوقت طبعا.
يقع هذا الكتيب (الذي أصدرته تسفيتايفا عام 1937 خارج روسيا , اذ أنها هاجرت منها في عام 1922 وعادت اليها عام 1939) في صفحات قليلة نسبيا ليس إلا , وهو ليس عملا أدبيا متكاملا , او بحثا نقديا لنتاجات بوشكين الهائلة والمتنوعة جدا والمتميزة , وإنما هو خواطر وذكريات كتبتها تسفيتايفا نثرا – ولكنه نثر بقلم شاعرة كبيرة ومتميزة طبعا – , والذي يمكن اعتباره دراسة ذاتية سايكولوجية لانطباعاتها – كشاعرة – أثناء طفولتها حول إبداع بوشكين , وانه كلمات شاعرة روسية في القرن العشرين عن شاعر روسي عملاق في القرن التاسع عشر, كلمات مصاغة بنثر شاعري نسائي رشيق وأنيق وذاتي جدا.
لم يتقبل النقد الأدبي الروسي في حينه هذا الكُتيّب بشكل إيجابي عموما واعتبره وكأنه محاولة (للاستحواذ الشخصي) من قبل تسفيتاييفا على شاعرية بوشكين, ما اضطر الشاعرة ان تبدأ بالدفاع عن كتيبها هذا , مؤكدة ان لكل مبدع روسي يوجد رأي ذاتي بشأن بوشكين لأنه عظيم ومهم وكبير في مسيرة الأدب الروسي , وبالتالي فان هناك حقا لكل مبدع روسي ان يعبّر عن وجهة نظره تجاه بوشكين وأن يعتبره كاتبا خاصا به ويرتبط بشكل او بآخر مع مسيرته الإبداعية الذاتية وان يسميه (بوشكينه), وانها لم تقصد (الاستحواذ!) عليه وجعله ملكا لها كما يدعون، وانما أرادت ان تتحدث عنه من وجهة نظرها ومن الزاوية التي تنظر اليه منها وما الذي يمثٌله وما الذي يعنيه بالنسبة لها. ومن الطريف ان نشير الى وجهة نظر الشاعرة الروسية الكبيرة آنا أخماتوفا حول ذلك الموضوع , اذ ان أخماتوفا كانت ترى ان تسفيتايفا (.. بعيدة عن بوشكين اكثر من ثلاثة فراسخ..) , ولم تكن تعترف أبدا بتناسق تسفتايفا مع شعر بوشكين وتناغمه معه , وعلى الرغم من ان أخماتوفا كتبت كثيرا عن بوشكين , الا انها – حسب ما أشار اليه نقاد الأدب الروسي وهم على حق – لم (تتجاسر!) أبدا ان تكتب عنه كما كتبت تسفيتايفا , ولم تعتبره (بوشكينها) برغم أنها كانت تؤكد دائما على كتاباتها حول بوشكين، بل انها أشارت الى ذلك حتى في رسائلها الى ستالين , عندما طلبت منه الإفراج عن ابنها من المعتقلات آنذاك (انظر مقالتنا بعنوان – رسالتان من آنّا أخماتوفا الى ستالين – من وثائق الأدب الروسي).
ختاماً لهذا العرض السريع لكُتيب تسفياييفا نقدم للقارئ بعض السطور منه والتي يمكن ان تعكس طبيعة ذلك النص وذاتيته وحلاوته.
يبدأ فصل الرواية الموجودة على طاولة كل جداتنا وأمهاتنا – وهي للروائية شارلوت برونتي الكاتبة الانكليزية في القرن التاسع عشر – عن سر الغرفة الحمراء… في الغرفة الحمراء كان هناك دولاب سريّ…لكن قبل الدولاب السري كان هناك شيء آخر , كانت لوحة في غرفة نوم أمي وعنوانها – المبارزة…. هناك ثلج وغصينات سود لأشجار و شخصان بالأسود يقودان شخصا ثالثا من تحت إبطيه نحو الزلاقات , وشخص آخر بمفرده وهو يذهب وقد بدا ظهره فقط… الذي يحملونه – بوشكين, والذي يذهب – دانتيس. دانتيس دعا بوشكين للمبارزة , انه استدرجه الى حيث الثلج , وهناك , بين الأشجار السود الخالية من الأغصان , قتله.
أول شيء عرفته عن بوشكين – بأنهم قتلوه , بعدئذ عرفت ان بوشكين – شاعر , وان دانتيس – فرنسي. دانتيس كان يكره بوشكين لأنه لا يستطيع ان يكتب قصائد…واستدرجه الى حيث الثلج , وهناك قتله بإطلاقة مسدس أصابت بطنه..وهكذا علمت وانا في السنة الثالثة من عمري وبصورة أكيدة بانه توجد لدى الشاعر بطن.. وعندما استعرض كل الشعراء الذين التقيت بهم طوال حياتي – أتذكر بطونهم.. التي غالبا ما كانت شبه جائعة.
——————————-
مارينا تسفيتايفا: أنا الزَّبد البحريّ الفاني/ يزن الحاج
كيف لشاعرةٍ تُعرِّف نفسها بأنّها «الزَّبَد البحريّ الفاني» أن تبلغ الخلود؟ لعلّ أبلَغ الشِّعر أكذبه كما يقول العرب. هل ثمّة مُقابِل روسيّ لهذه العبارة؟ لا نعلم. ولعلّ صاحبة العبارة نفسها لا تعلم بالرغم من كونها روسيّة. عاشت مارينا تسفيتايفا عُمرها كلّه في تأرجحٍ مؤلمٍ بين أن تكون البحر وأن تكون الزَّبَد. هي تدرك حتماً أنّ الزَّبد ليس للشعراء؛ ليس للشعراء الخالدين بطبيعة الحال. غير أنّها تُراوِد الفناء منذ مراهقتها التي شهدت ولادة بواكير أشعارها، تُراوِد الفناء كي تنال الخلود. تُباغتنا تلك المراودة الحارقة منذ القصائد الأولى التي نقرؤها في كتاب «بعضُ حياةٍ وشعر» الذي صدر أخيراً عن «دار التّكوين» بترجمة نوفل نيّوف الرهيفة كما عوّدنا دوماً. تُباغِتنا المراودة التي تبوح بها ابنة السابعة عشرة: «يا إلهي … أنتَ مَنْ وهَبْتَني طفولةً أفضلَ من خرافة/ هَبْني الموتَ في السابعة عشرة».
هُراء مراهقة؟ لا، أبداً؛ إذ نعلم من اعترافات تسفيتايفا نفسها قبل انتحارها بعامين أنّ كلَّ ما أحبَّتْه، أحبَّته قبل السابعة، وأنّ كلَّ ما يعنيها ويمنحُ وجودَها قيمةً وأهميّةً كان قبل السابعة: اللعب بالشِّعر قبل أن تُدرك ماهيّة الشِّعر؛ اللعب باللغات (التي كانت تتحدّث ثلاثاً منها قبل السابعة) قبل أن تُدرِك بلاغة اللغة. استجاب الله لأمنيتها بعد أكثر من ثلاثين عاماً، فوهَبَها الموت انتحاراً وهي في التاسعة والأربعين، بعدما فقدَتْ أحبّاءها كلّهم موتاً ومنفى وبُعداً، زوجاً وعشاقاً وأطفالاً وأهلاً وأصدقاء، وبعدما خبتْ شمسُها الشِّعريّة وكادتْ تأفل، لتعود كما كانت تُحبّ أن تكون على الدوام: «ظلّاً لظلّ»، من دون أن تنتبه إلى مفارقة أنّ الأضواء الساطعة التي سعتْ هي بكلّ إرادتها على مدار أكثر من عقدين كي تعيش تحتها، ستُبدّد الظّلال، وستُبدِّد كينونتها في آن. ولم تظفر بكينونتها من جديد إلّا في العتمة الصقيعيّة التي شهدت أنفاسها الأخيرة في روسيا البلاشفة الذين ما أحبَّتْهم مارينا يوماً، وما استساغها البلاشفة يوماً. حياة مفارقات موجعة؛ حياة ظلال دائمة، منذ كانت روسيا قيصريّةً، وحتّى حين رحلت تسفيتايفا إلى المنافي، وحتّى بعدما أُرغِمت على العودة إلى روسيا التي تغيّرتْ وحاربتْ كلَّ مَنْ بقي على عناده القديم. كانت تسفيتايفا تعيش في المنفى على الدوام، حتّى حين ظنّت أنّها ستصبح الملكة الجديدة المتوَّجة على عرش «العصر الفضيّ» للشِعر الروسيّ. كانت ظلّاً في البلاد، وظلّاً في المنفى.
ينقسم كتاب «بعضُ حياةٍ وشعر» إلى قسمين، كما يُومئ عنوانه: «بعض حياة»، و«بعض شعر». تسبقهما مقدّمة ضافية من المترجم، ويليهما ملحقان أوّلهما يضم مقتطفات من دفاتر يوميّات تسفيتايفا، وثانيهما يقدّم قصّة مهمّة للقاءين بين أكبر شاعرتين عرفتهما روسيا: آنا أخماتوفا ومارينا تسفيتايفا، اعتمد فيها المترجم على مراجع عديدة، من كتب سيرة ورسائل ويوميات، لا يتوفّر معظمها كاملاً إلا في الروسيّة، ليذكّرنا – ولو على نحو غير مقصود – بأنّ الترجمة عن اللغة الأصليّة، نصوصاً إبداعيّة أم لا، ستفقد الكثير حين تُتَرجم عن لغات وسيطة كما نُبْتلى في الغالب الأعم من الترجمات، لا سيما عن الروسيّة التي نكاد لا نعرف عن أدبها شيئاً بخلاف أدب «العصر الذهبيّ» في القرن التاسع عشر. تمنحنا المقدّمة والملحقان مفاتيح كثيرة مهمّة لقراءة قصائد تسفيتايفا التي لا تنفصل حياتها عن قصائدها: طفولتها المتفرّدة، مراهقتها الغارقة في الشِّعر، بدايات شهرتها في روسيا، ومن ثمّ في المنفى، أفول بريق أضواء الشهرة شيئاً فشيئاً بالتّزامن مع تباعد الصداقات الشّحيحة أساساً. كلّ هذا بالتّوازي مع الحياة الأعم حيث التأثيرات الثقافيّة الروسيّة والأوروبيّة (الفرنسيّة والألمانيّة على الأخص)، والتأثيرات السياسيّة المتلاحقة التي غيّرت خارطة روسيا عسكرياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً. ما عادت روسيا بلادَ العصر الذهبيّ الذي طبع أوروبا والعالم بطابعه المميَّز، وما عادت حتّى روسيا القائمة على التّنافسات الثقافيّة بين المدارس الأدبيّة، أكانت تنافسات بين أعظم مدينتين: موسكو وبطرسبورغ، أم بين التيّارات الأدبيّة العظيمة حيث كلّ كاتب وشاعر كونٌ بحاله لا يشبه أحداً سواه. باتت روسيا فريسة انقسامات سياسيّة أقسى لم تعُد مقتصرة على ثنائيّة الداخل والمنفى، بل تسلّلت إلى كلّ شيء كي تنسف التفرّدات والصداقات والتّنافسات، كما حدث في ألمانيا في حقبة النازيّة لاحقاً، وكما سيحدث في أميركا المكارثيّة، وكما حدث ويحدث وسيحدث في منطقتنا الملعونة دوماً، بربيع أم بغير ربيع، بدكتاتوريات عسكريّة أم مدنيّة.
تضمّ المختارات الشعريّة 71 قصيدة كاملة أو مجتزأة كتبتها تسفيتايفا من عمر السابعة عشرة عام 1908 وصولاً إلى انتحارها عام 1941، ويضمّ القسم النثريّ مقتطفات من يوميات تسفيتايفا من عامي 1917 و1919 قُبيل رحيلها إلى المنفى. يبدو النّثر أبهى لديها، ربّما لأنّه أوضح أو أكثر حميميّة أو أكثر شمولاً من القصائد. نتعرّف في النّثر إلى عقل وقلب تسفيتايفا من دون ذلك الفصل التعسّفيّ الذي نظنّ وجوده بينهما. تكتب بقلبها، لا بالمعنى الدارج حيث جموح العواطف، بل بمعنى الرهافة التي ترسم حدود علاقتها باللغة وبالعالم وبالشعر حتّى حين تكتب نثراً، حيث الشعر هو الجسد وهو الروح، وهو البلاد وهو المنفى، وهو العشق الذي لا تهدأ جذوته، أكان عشقاً لزوجها أو عشّاقها أو شعرائها من ريلكه إلى باسترناك شخصاً وقصائد. لا نستشعر هذه الحميميّة في القصائد، ربّما بسبب غموضها أحياناً، وربّما لأنّها قليلة أو مجتزأة في معظمها. يتعاظم هذا الإحساس حين نقرأ الملحق الذي نجدها فيه وجهاً لوجه مع منافستها الأعظم آنا أخماتوفا. يتشارك القارئ مع أخماتوفا تردّده حيال قصائد تسفيتايفا، ولعلّ هذا لأنّنا نعرف أخماتوفا أكثر (من ناحية الكم على الأقل)، أو لأنّ بهاء أيّة شاعرة، مهما علا شأنها، سيخفت في مواجهة ضوء أخماتوفا الحارق. هذا قَدَر من يولد في زمن عبقريّةٍ طاغية، كما هو قَدَر أبي فراس حين زامَنَ المتنبّي. غير أنّ عبقريّة أبي فراس تتألّق حين لا يشبه المتنبي، وكذا هي عبقريّة تسفيتايفا التي تتّقد حين تكون هي هي، بحميميتها وعزلتها ودنيا ظلالها، وفي دفاترها التي لن تستغني عنها، حيث «الكتابة-العيش»، حيث الحياة هي الشعر والشعر هو الحياة، حيث التوق الدائم لما لا يكون، حيث الحب هو الموت لدى تسفيتايفا التي تعرف نفسها أكثر مما ينبغي ربّما، ولذا احترقت قبل الأوان، حين انتحرت، «لا لأنّ الحال سيئة هنا، إنّما لأنّها جيّدة هناك»، أياً، وحيثما، وأينما، تكن تلك الـ «هناك»
ملحق كلمات
تحميل كتاب بعض حياة وشعر – مارينا تسفيتايفا
تحميل كتاب مختارات من الشعر الروسي ترجمة حسب الشيخ جعفر