كتاب مجهول يخرج الى الضوء في ذكرى تأسيس السريالية/ انطوان جوكي
الشاعر والفنان شارل دوي يكشف وجها آخر من أندريه بروتون
الاثنين 18 مارس 2024 15:01
بينما تحتفل الأوساط الفرنسية بالذكرى المئة لانطلاق الحركة السوريالية في باريس، صدر حديثاً كتاب مجهول للشاعر والفنان الفرنسي شارل دوي يقدم فيه صورة أخرى لأندريه بروتون مؤسس الحركة وراعيها.
لم تفرغ جعبة السوريالية من المفاجآت. والدليل؟ التحفة الأدبية التي أخرجتها دار “موريس نادو” الباريسية حديثاً من العتمة، في مناسبة حلول مئوية “البيان السوريالي” الأول، واضعةً بذلك تحت أنظارنا عملاً مرجعياً يُرينا كاتب هذا البيان المؤسس لأهم حركة طلائعية، الشاعر أندريه بروتون، كما لا يفعله أي بورتريه متوافر له، ويجعلنا نكتشف في الوقت نفسه شاعراً وفناناً سوريالياً تجاهله معاصروه، ويجهله معظمنا، لكن لا مبالغة في اعتباره واحداً من أهم الشعراء والفنانين الذين داروا في فلك بروتون.
الشاعر ــ الرسام هو الفرنسي شارل دوي (1925 ــ 1991)، وتحفته الأدبية التي يروي فيها لقاءه الصاعق مع رائد السوريالية، وثمار العلاقة التي تلته، صدرت عام 1969 عن دار “موريس نادو” بعنوان “هل قال أندريه بروتون: مُرّ؟”. ولكن لأن “موضة” السوريالية كانت قد ولّت آنذاك في فرنسا، لم يخلّف هذا الكتاب الباهر، شكلاً ومضموناً، أي صدى، وسرعان ما لفّه النسيان. كتاب ليس بأي حال من الأحوال سيرة أخرى لصاحب “نادجا”، بل سردية صداقة دامت حتى رحيل بروتون عام 1966. سردية يعمد دوي فيها، بلغة شعرية مدهشة، إلى استعادة الصورة، الحية أبداً، لذلك العملاق الذين كان أول إنسان راشد يلاحظ وجوده.
“كنت على وشك بلوغ سن السابعة عشرة، مفتوناً بالماركيز دو ساد. كنت أجترّ ثورتي فكرياً بدلاً من عيشها، ولم أكن أملك القدرة على رفع هذا التناقض إلى وعيي”، يوضح دوي لدى تذكّره المراهق الكئيب الذي كان في نيويورك عام 1942. غريبٌ عن نفسه بقدر ما كان غريباً عن هذه المدينة، لم يكن يشعر سوى بالعداء من حوله، وبأنه مجرّد “دخيل” على مكان لم يختر الهروب إليه من الحرب، طوعاً. مكان كانت كلمات ثلاث تلخّص حياته فيه: عزلة، قراءة وغضب، حين اكتشف يوماً عدداً من مجلة “VVV” الطلائعية في مكتبة. ومن فهرس المجلة، اكتشف أن بروتون ومجموعة من رفاقه يشاركونه المنفى نفسه. وبما أن السوريالية كانت تمثّل في نظره “الثورة الكاملة”، وكتاب بروتون “المسدس ذو الشعر الأبيض” كان إنجيله، تجرّأ على كتابة رسالة لهذا الأخير، أرفقها ببضع قصائد له.
غلاف الكتاب
الانفتاح على المجهول
كان كل شيء يفصل بينهما، “مثلما الموت كان يفصلني عن نرفال، بودلير، لوتريامون ورامبو”. ومع ذلك، ردّ بروتون على رسالته ودعاه إلى مكان إقامته، مثبتاً بذلك، مرةً أخرى، أن انفتاحه على المجهول كان من أرفع صفاته، وانفتاحه على الآخر كليّ، لا تحفّظ أو علياء فيه، كما اتهّمه المغرضون: “فجأةً، وجدتُ نفسي ملقى داخل فضاء شمسي، مهيب، هادئ، كانت وردة الريح مركزه. من المستحيل التعبير عن المفاجأة التي شعرتُ بها، لا بل الخوف تقريباً، حين أدركتُ أن بروتون اعتبرني فوراً وبعفوية معادلاً له”.
أثناء لقائهما الأول، بدا بروتون لدوي كإنسان وحيد بشكلٍ رهيب، “عالق في الصمت مثل سيلٍ بركاني على وشك التحجّر”، هذا على رغم كوكبة السورياليين وغير السورياليين الذين كانوا يحيطون به في نيويورك. من عمق عزلته المراهِقة، رأى عزلة بروتون الذي، رأى، من جهته، في عزلة هذا المراهق المصدر الحيّ للشعر، الأمر الذي خلّف دواراً غريباً بينهما: “كما لو أننا نخلط أوراقاً من مرايا في الظل”، كتب صاحب “الحب المجنون” في قصيدة له تعود إلى تلك الفترة، مستحضراً فيها حدة ما يحدث بين النهار والليل. وهذا تحديداً ما يضعه دوي تحت أعيننا في كتابه، بكلمات ترقى بشعريتها النادرة إلى مستوى هذا الحدث.
وفعلاً، بعد 25 عاماً على ذلك اللقاء المنير، يقرر هذا الشاعر ــ الفنان تسلّق ذلك الدوار، لا لتذكّره، إطلاقاً، فهو لم يغادره قط، بل لفهم ماهيته، وخصوصاً كي يبقى أهلاً بجرعة الهواء النقي التي تلقّاها آنذاك وما لبث أن تنشّقها لاحقاً في كل ما سيهمّه. جرعة متبادلة من دون شك، لأنه لم يفت بروتون من دون شك حقيقة أن هذا الشاب كان، مثله، شاعراً حقيقياً، تسكنه رؤى تلامس الجنون أحياناً، فاحتضنه ومنحه بإعجاب وكرم مؤثّرين صداقته. ومن الرسالة الأولى التي وجّهها له، قبل أن يراه، كتب له، بعد قراءة قصائده: “لا أشك للحظة في أن الرسالة الجوهرية التي أمضيت حياتي أترقّبها، وأمسك بأجواء منها، تمرّ حالياً فيك…”.
في هذا الكتاب، الذي يتألف من ذكريات لقاءات امتدت على مدى عشرين عاماً، وتخطّ مجتمعةً بورتريه صداقة فريدة، مبنية على افتتان متبادل بين طرفيها، يظهر بروتون مثل معلّم يمغنط، بكثافة حضوره ووقع أفعاله وكلامه، جميع المحيطين به. من هنا نعته بـ “بابا السوريالية”، الذي انبثق في البداية من سوء فهم، قبل أن يتحوّل إلى مديح بقلم من عرفه من قرب ورأى فيه، لا القائد الذي نخضع لسلطته، كما روّج إلى ذلك خصومه، بل المعلّم الذي نستخلص من شخصيته وسلوكه وأفعاله أمثولات حياة. ومن هذا المنطلق، يقول دوي: “كان لشخصيته تأثير حاسم على روحي وعقلي. كانت المرة الأولى ــ والأخيرة ــ التي ألتقي فيها بإنسان كانت السخرية غريبة عنه، والحقيقة مسألة حياة أو موت”. وفعلاً، انخرط بروتون طوال حياته في بحث دائم عن حقيقة وأصالة، ميّزه عن جميع معاصريه. ولذلك، كان يشعر دوي غالباً في حضرته بارتباك، فلا يعود يعرف كيف يتصرف: “شخصية مغناطيسية، أخشى أن هذه هي الصفة الوحيدة المناسبة. (…) ومثل المغناطيس الذي يجذب بأحد طرفيه، وينفّر بطرفه الآخر، كان بروتون آسراً، وفي الوقت نفسه، مرهقاً”.
القارئ الذي يتوقّع مراسلة أو وصفاً لمسار حياة أو استخلاصاً لنقاط التواطؤ والتباعد بين هذين الشاعرين، سيخيب أمله. فالقراءة التي يقترحها دوي في هذا الكتاب تقع في مكانٍ آخر، على مستوى روحي، حيث يتعلق الأمر بمحاولة تفسير ما الذي اجتاح كل منهما، ودفعه تجاه الآخر، بعد ذلك اللقاء غير المحتمل في نيويورك عام 1942. محاولة لامعة في دقة ما يتوصّل إليه، وفي مهارة تعريته لمكامن جاذبية صديقه: “كان بروتون يقرأ قصيدة. لكن لو أنه كان يقرأ دليل الهاتف، لكان الوقع هو نفسه. لأن المثير للشجن لم يكن ما كان يقوله، بل الشغف الذي كان يقول به، الصراحة التي كان يسلّم نفسه بها إلى هذا الشغف، أمام الجميع، الثقة الجنونية، الطفولية، المدهشة، التي كان يكشف عن نفسه بها. لم يبدِ أي خجل. لم يكن حتى يعرف أن الخجل ممكن. كان كما كان، وكان عظيماً جداً. كان عارياً. عاريٌ بين أولئك الأشخاص المندهشين، المرتبكين، الذين كانوا يخفضون أعينهم، يعدّلون ربطات عنقهم ويكحّون”.
في 18 مايو ( أيار) 1968، يتساءل دوي في دفتر يومياته، بعد تصّفحه كتابه: “مَن يهتم ببروتون اليوم؟ هو وأنا ننتمي إلى الماضي”. لكن بعد أربعة أيام، يكتب يستدرك قائلاً: “كم كنت مخطئاً في ذلك اليوم! مَن يهتم ببروتون؟ الجميع! ألتقي في كل شوارع المدينة بمراهقين يشبهون ما كنت عليه عام 1942”. واليوم، بعد مرور مئة عام على صدور “البيان السوريالي” الأول، كيف نجيب على سؤاله؟ بجملة بروتون الشهيرة التي تحولت إلى قول مأثور: “كل الأفكار التي تنتصر تؤول إلى الهلاك، ولا قيمة للأفكار الأخرى إلا بقدر الحمّى والأمل اللذين وضعناهما فيها”.
في مطلع سرديته، يتحدث دوي عن سهمٍ لا يوقفه حتى هدفه. وهكذا نتلقّى كتابه، الذي انبثق من اقترانٍ نادر بين فتوة ملهَمة وعزلة مؤلمة وعنف شعري في طور الولادة، أي مثل ذلك السهم الذي لا يزال يتابع مساره، واستلهمه دوي من قصيدة لبروتون يقول في خاتمتها: “تفرغ الساحة/ ينطلق السهم/ نجمٌ، ليس سوى نجمٌ طائش في زغب الليل”.