هل خان العرب الأتراك؟/ بشير البكر
الإثنين 2024/03/18
سؤال تم طرحه على مدى أكثر من قرن، ولا تزال الإجابة عنه غير محسومة بين طرفيه، اللذان يقفان عند حدي العلاقة. يرجع إلى الواجهة عندما تتأزم العلاقات، ويختفي حين تتراجع حدة التجاذب. ورغم تقادم الأحداث، فإن أثره السلبي مستمر من الطرف التركي، الذي لا يزال يعلق على جدران ذاكرته صورة سلبية للعربي، الذي غدر بالسلطنة العثمانية، في أوج الهجوم الفرنسي البريطاني عليها في الحرب العالمية الأولى، من أجل وراثتها في العالم العربي. وتمد النظرة التركية المغلوطة جذورها في كتابات وآراء كتّاب وسياسيين، منهم مؤسس الدولة التركية مصطفى كمال أتاتورك. وهذا ما يرد صريحاً في آخر سيرة له، بقلم الكاتب الألماني كلاوس كرايزر، الصادرة عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”، بترجمة من الباحثة سمية قوزال.
يعرض الكاتب موقف أتاتورك، الذي يقوم على تقديره لتفاني الجنود الأتراك، وعدم رضاه عن أداء الجنود العرب في الحرب. ويقول: “لكننا يجب أن نقر إحقاقاً للحق، أن المجندين العرب في الجيش العثماني، كانت تقع على عواتقهم أعباء الحرب العالمية، وما سبقها من الحروب في العديد من المناطق خصوصاً اليمن”. وليس هذا المؤرخ الوحيد الذي يخالف نظرة أتاتورك، بل حتى المؤرخين الأتراك، ومنهم إلبير أورتايلي، صاحب أحد أهم كتب سيرة أتاتورك، الذي ينسب حصة كبيرة إلى المقاتلين العرب، من النصر الذي حققه الجيش العثماني في معركة “جناق قلعة” في آذار 1915، والتي حالت دون وقوع اسطنبول في أيدي الجيشين البريطاني والفرنسي، وذلك بعد سقوط فلسطين والعراق بيد البريطانيين وسوريا في أيدي الفرنسيين إثر هزيمة جمال باشا، الذي يسميه الكاتب “ملك سوريا غير المتوج”، وهو المعروف عنه بأنه أحد أوجه الاستبداد العثماني في سوريا ولبنان، والذي نصب المشانق في دمشق وبيروت للوطنيين السوريين، واللبنانيين، عامي 1915 و1916.
وفي الكتاب يورد المؤلف حادثة هروب 8 آلاف جندي إلى قراهم، وذلك من أصل 12 ألف القوة العسكرية، التي أرسلتها الأركان التركية من اسطنبول إلى حلب، وهؤلاء من الجنود الأتراك وليسوا من العرب. وقد اغتنموا فرصة تفكك الدولة العثمانية، وخسائرها المتتالية أمام الروس والبريطانيين والفرنسيين، في حين أن المقاتلين العرب في الجيش العثماني، استمروا يخوضون الحرب، رغم أنه سبق له، وانكسر في البلدان العربية. ويقول الكاتب أنه لا يمكننا في إطار هذه السيرة الحياتية التوسع في الحديث عن دور العرب خلال فترة الحرب العالمية الأولى، لكننا نختصر القول بأن أغلب العرب السنة، وحتى إمام اليمن المستعصي وقبائل طرابلس، ظلوا محافظين على ولائهم للدولة العثمانية، ولا يغير من هذه الحقيقة ما يعتقده الكثير من الأتراك اليوم، بأن العرب تصرفوا حينها كما يصفهم لورنس العرب على أنهم “طعنوا العثمانيين من الظهر”.
ومن المفارقات في موقف أتاتورك من العرب واللغة العربية، التي قاد حملة تطهير اللغة التركية منها، هو إعجابه بالشاعر التركي توفيق فكرت، الذي يكتب بلغة عثمانية فصيحة، وينظم قصائده على أوزان معتمدة في الشعر العربي. ويقول الكاتب إن أتاتورك اعتمد خطاباً دعائياً ضد العربية، من أجل تعميم نظريته حول اللغة التركية الجديدة، وبلغ انه اتخذ القرآن مثالاً على صعوبة العربية لدى الأتراك، ويقول الكاتب “لسبب لا نعلمه، اختار مصطفى كمال السورة رقم 95 من سورة التين، وطلب من عدد من الحاضرين استعراض آيات منها، فلبوا طلبه، فبدت اختلافات في طريقة نطقهم، ثم كتب إحدى الآيات باللاتينية فاستطاع الجميع قراءتها دون اختلاف في النطق”.
وفي موقف آخر يعترف أتاتورك بتأثير العرب داخل البلاط السلطاني، الذي دخله للمرة الأولى حينما تم انتدابه لمرافقة ولي العيد في رحلة إلى النمسا، ويقول: “دخلنا قاعة مغطاة بحصر الحلفاء على الطراز العربي”. ويشير المؤلف إلى أن تحرك أتاتورك الفعلي نحو العمل السياسي بدأ من دمشق، التي تم نفيه إليها، حيث كانت إمكانية الاتصال ببعض الضباط المعارضين من الجيش العثماني، وكذلك في يافا حيث سينقل اتاتورك نهاية عام 1905 او بداية العام التالي، وتمكن من انشاء جمعية سرية بمعية بعض زملائه في دمشق، وأطلقوا عليها اسم “وطن”، وهي تسمية استوحاها الضباط من الشباب، من ملحمة نامق كمال الوطنية “وطن” التي كتبها عام 1873، وأصبحت “وطن” الكلمة المفتاح للوطنية العثمانية، وفي هذه الأثناء تعرض السلطان لعملية اغتيال على يد البلجيكي ادوارد جوريس.
ويُعدّ أتاتورك محظوظاً في منفاه الدمشقي، لكن المدينة التي شدته أكثر هي بيروت، التي يصفها مساعده عز الدين تشالشر قائلاً: “لم تكن بيروت تشبه مدينة أوروبية، بل كانت مدينة أوروبية”. غير أن دمشق سحرت أتاتورك موسيقياً، فأحب الأغاني العربية التي كانت تختلف في وقعها عن الأغاني التركية، وأصبح من عشاقها، وقد استقبل في قصره باسطنبول، عندما أصبح حاكماً، منيرة المهدية، وطلب منها أن أداء أغنية علقت في ذهنه.
يقول الكاتب، إن احداث البلقان، في تلك الفترة، كانت تشغل أتاتورك أكثر من تلك التي تجري في المقاطعات العربية، رغم أنه كان يقيم في سورية حينها، وحتى أكثر من المسألة الفلسطينية، التي بدت خطوطها تتجلي واضحة. فقد غدت يافا، التي كانت مقر خدمته فترة من الزمن، أهم معبر للصهيونية. كما يلاحظ مخاطر التقدم البريطاني نحو البحر الأحمر بعد مد خط سكة قطار الحجاز. والملاحظة التي تستحق التوقف عندها هي أن الدولة العثمانية بدأت تتعرض لهجمات من أجناس وعرقيات مختلفة، تطالب باستقلالها، خصوصاً في البلقان، لكن لم يصدر عن العرب أي تحرك، على عكس ما هو دارج من دعاية تركية لا تزال مستمرة حتى الآن.
المدن