الماركسية والنزعة الإنسانية وسؤال التنوير/ وسام سعادة
8 – مارس – 2024
«الماركسية مذهب إنساني» عنوان لمؤلّف صدر في مفتتح هذا العام للفرنسيّة العاملة في حقل الفلسفة وتاريخ الأفكار ستيفاني روزا، وقد سبق لها في كتبها السابقة أن كرّست مجهوداً لافتاً، وبمحمول «سجاليّ هادئ» لسبر المفاصلة في تاريخ اليسار بين تقليد يراكم على تركة عصر التنوير والعقلانية، ويرتكز إلى تقدّم المعرفة العلميّة، مقدّماً منظار الكونيّة على الخصوصيّة، وبين تقليد متواطئ بشكل أو بآخر مع مضادات التنوير، يدفعه الاحتقان الزائد حيال الأشكال الأكثر جموحاً وتبجّحاً من «مفهوم التقدّم» إلى النفور من كل ما هو تقدّمي، والتشكيك بأي منظار كونيّ لوزن الأمور، لصالح الانغماس في متاهات الهويّة و«التقاطعيّة» المهلهلة بين المظلوميّات الانطوائيّة.
للوهلة الأولى، قد يبدو عنوان الكتاب الحاليّ لستيفاني روزا تأشيرة استدارة لها في اتجاه موضوع آخر. لكنّ القراءة تتكفل بإظهار خلاف ذلك. فالباحثة ماضية في تجذير مبحث المفاصلة بين الخط «التجذيريّ والاستكماليّ» لأفكار عصر التنوير وبين الخطّ الإنسحابيّ، أو التنصّليّ، من هذه التركة، هذه المرّة من خلال طرق باب علاقة الماركسيّة بالفلسفة، والمقارنة بين أثر فيلسوفين من القرن الماضي، الفرنسي جان بول سارتر والمجريّ جورج لوكاتش، حاولا إحياء الماركسيّة بإحياء الهمّ الفلسفيّ المتصل بها، وإحياء هذا الهمّ من خلال ربطه بـ«أنسنة الماركسيّة» نفسها، أنسنة شروط تبلورها وتجدّدها.
تذكّرنا روزا بأنّ إعادة التكشيف عن هذه السمّة «الأنسنيّة» للماركسيّة ارتبطت ببدء تداول نصوص ماركس الشاب نهاية العشرينيات من القرن الماضي بفضل جهود المحقق دافيد ريازانوف.
فقد أظهرت هذه النصوص، لا سيما المخطوطات الباريسية العائدة لعام 1844، والتي ما كانت متاحة قراءتها لكاوتسكي أو برنشتاين أو لينين أو لروزا لوكسمبورغ، أنّ ماركس «ما قبل الماركسيّ» هذا، كان لا يزال يتحرّك ضمن تصوّرات المثاليّة الألمانيّة ويبني عليها، ويفترض وجود «ماهية إنسانيّة» قابلة للتحقق من طريق العمل من حيث هو نشاط فيزيائي وذهنيّ في آن، وأنّ الإنسان حين يعمل لا ينتج فقط ما هو ضروري لبقائه الحيوانيّ، لكنه يؤنسن العالم الذي حوله في الوقت نفسه الذي يتأنسن فيه هو.
بالتالي، العمل بحدّ ذاته نشاط إنسانيّ بإمتياز. لكن هذا النشاط يتحوّل إلى شيء آخر حين يخضع العمل لعلاقات الاستغلال. فالعامل الذي يرزح تحت قيد «العمل المأجور» في مصنع لا يسع التعرّف على ما صنعته يداه، والسلع والآلات تظهر له كما لو أنّها مسكونة بقوة خاصة، ليست منه وهو خاضع لها. الاستغلال لا ينفصل إذا عن المشكلة الأعمق التي يمثلّها الاغتراب أو الاستلاب، وفي الطليعة منها اغتراب العامل عمّا يصنعه، واغتراب «الماهية الإنسانية» في السلعة.
أسّس اكتشاف هذه النصوص لماركس الشاب لنزعة راغبة في «أنسنة» الماركسية، ما يعود بشكل أساسيّ إلى إعادة تحريك السؤال حول «الاغتراب» بدلاً من الاكتفاء بأنماط الاستغلال أو الاستثمار وأشكاله. لكنها أسست أيضاً لإعمال المناقضة بين «ماركس الشاب» وبين «ماركس الكهل» فالأوّل ما زال يتحرّك ضمن المفاهيم الفلسفية للمثاليّة الألمانية، والثاني منزاح عنها في اتجاه الانغماس بـ«نقد الاقتصاد السياسيّ» ومواكبة الحركة العمالية في زمانه. ثمة من دفع هذه المناقضة إلى الأقصى، بطلب الاستغناء عن «ماركس الكهل» والاكتفاء بالفيلسوف النضر، الشاب، الذي يكثّف مقصوده على أنّه يرمي إلى تحقيق «الإنسانية الناجزة». وثمة في المقابل، وبخاصة في حالة لوي ألتوسير في فرنسا، من سعى بالضدّ من ذلك إلى التطّهر من «نجاسة» ماركس الشاب هذه، والتشديد على «القطيعة» وبراءة «ماركس الماركسيّ» منه، أي ذاك الذي ما عاد ينطلق من تصوّر حول «الماهية الإنسانية» المغتربة أو الضائعة، بل من سبر البنى الاقتصادية الاجتماعية في القارة الجديدة التي اكتسفها: التاريخ، بمعناه العلميّ، تاريخ التشكيلات الاجتماعيّة.
وستيفاني روزا في كتابها الأخير تتفادى دوام المساجلة مع ألتوسير، سوى أنها تكتفي في مطلع الكتاب بالإشارة إلى نقد لوسيان سيف لمفهوم «القطيعة» بالتشديد على أنّ الإحالة إلى «الاغتراب» ولو انخفضت نسبياً مع تبدّل انشغالات ماركس، إلا أنّها لم تندثر في أعماله المتأخرة. في المقابل، تنبّهنا المؤلفة إلى أنّ الأنسنة في فكر ماركس ليست أيّ أنسنة والسلام، بل هي أنسنة لها محدّدات أبرزها النظر إلى الإنسان على أنه جزء من الطبيعة، وهو كائن حيّ، يعيش في الواقع الفعليّ والحسيّ، «يتألّم» بالتالي هي أنسنة ذات سمة «طبيعانية» تقيم تمايز الإنسان عن بقية أنواع الحيّ من حيث قدرته على «إنتاج شروط بقائه» من خلال العمل، وأنه بهذه الطريقة يعيد إنتاج نفسه بنفسه أيضاً. ما تطرح هو أن النزعة الأنسنية في الماركسية تترك مجالاً منحسراً، ولو أنه ليس غائباً ولا ينفع تغييبه، لفكرة «ثابتة» عن الطبيعة الإنسانية.
خصّصت روزا أكثر كتابها للمقارنة بين «طبعتين» لهذه الماركسية الإنسانية: واحدة عند سارتر، والأخرى عند لوكاتش. اذ اعتبرت أن الإثنين تشاركا في السعي لإحياء الماركسية على قاعدة التحرّي عن طبيعة الإنسان والمجتمعات والتاريخ، كما تشاركا في الامتعاض من الأشكال الدوغمائية والوضعية الطاغية على الماركسية، والتي تميل إلى اختزال الوعي الإنساني إلى مجرّد انعكاس للبنى الاقتصادية، وإلى تقزيم العامل الذاتيّ لصالح الحتمية. بالتالي، نتاج كل من جورج لوكاتش وجان بول سارتر، بخاصة في مرحلة اندفاع الأخير في اتجاه الماركسية، يفترض أن يساعدان الجيل الحاليّ على إحياء الماركسية بالأنسنة.
«الماركسية مذهب إنساني» عنوان يحاكي عنوان ندوة ثم كراس جان بول سارتر في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي «الوجودية مذهب إنسانيّ».
تقرّ ستيفاني روزا بعمق وحيوية فلسفة سارتر في مرحلة تحوّله في اتجاه «الماركسية» وتعارض الرأي الذي يرى في هذا التحوّل نكوصاً عن سارتر المفترض أنه أكثر «سارترية» في لحظة نشر كتابه «الوجود والعدم» 1943، وتأسف بالتالي لأن «سارتر الماركسي» كما يتجلى في مجلّدي «نقد العقل الجدليّ» لم يلق الالتفات الذي يليه له منذ مطلع الستينيات حين نشره وإلى يومنا. لا يمنعها هذا التمثين لأهمية هذه المرحلة من فكر سارتر عن تظهير حدود تبني سارتر فعلياً للتصوّر الماركسيّ. تظهر المؤلفة أن سارتر لم يتقبل فكرة أن انقسام المجتمعات الى طبقات اجتماعية هو بنتيجة التقسيم الاجتماعي للعمل، وإنما أعاد ذلك إلى مشكلة ندرة الموارد على الكوكب. وهذه نظرة تشاؤمية بالأساس، تعيد الأمور إلى ندرة طبيعية لا تقتصر على المجتمعات الإنسانية، وتهبّط من قيمة العمل كما تنزل الصراع على فائض الإنتاج الاجتماعي إلى المرتبة الثانية، وتخلص إلى أنّ العنف والقمع أكثر أصالة من الاستغلال. لذا، ترى روزا أنّه، حتى في مرحلة «تمركسه» ظلّ سارتر مرتبطاً بتصوّر عن الندرة على أنّها تسمم بشكل مسبق كل العلاقات الإنسانية، وأن سارتر لم يتخلّص يوماً من فكرته الأولى، بأنّ «الجحيم هو الآخرون» لا بل أنّه في «نقد العقل الجدليّ» دفع هذه الفكرة إلى أقصاها، وهو أنّ الجحيم هو الندرة، أي المادّة، أو كما يقول المفكر الأمريكي فريدريك جيمسون «المادة بالنسبة إلى سارتر هي مصدر الشرّ بشكل أو بآخر». المؤلفة إذا تطري على عزم سارتر المزاوجة بين الماركسية وبين الأنسنة لكنها في المقابل غير مقتنع في المقترح السارتري لهذه المزاوجة. أولاً لأنها تنظر إلى الماركسية كتراث كمناقض لكل تصور يرى أن هناك عنفاً نسقياً لاعقلانياً كثيفاً سابقا على التقسيم الإجتماعي للعمل وعلى علاقات الاستغلال. وثانياً لأنها ترى أنّ الوجودية بحد ذاتها، حتى وهي تقدّم نفسها على أنّها «مذهب إنساني» لم يكن بمستطاعها أن تتعرّف على الإنسان بكليته وملموسيته، وإنما اختزلته في هذه «الحرّية» التي هو مجبر عليها، والتي تنغص حياته، والتي لا تنفك تضيّع نفسها هنا ثم تهرب من هذه الضياع لتعود فتلاقي نفسها هناك، وإلى ما لا نهاية. ستيفاني روزا تنحاز في المقابل إلى الماركسية ـ الإنسانية في طبعة جورج لوكاتش، وتلفت إلى مفارقة، سارتر الذي استقر في الذاكرة كفيلسوف للحرية هو للمفارقة أقل اهتماماً قياساً على لوكاتش بتفكر شروط التحقيق الملموسة للديمقراطية، وبقي مبهوراً بتصوّر عن الندرة المستدامة والعنف السحيق، وغير قادر على تفكّر الوعي البشريّ إلا في نطاقه الفرديّ، في حين بحث لوكاتش عن شروط ممارسة الحرية الجماعية، وتبنى تصوّراً للماركسية على أنها مشروع «نظرية كونيّة لتطوّر البشريّة». بخلاف سارتر، ظلّ لوكاتش «وريث إنسانية ماركس الشاب، والتحدّر من عقلانية التنوير» واستطاع الموازنة بين ما لعلاقات تشيؤ والاغتراب وبين ما لعلاقات الاستغلال بدلاً من اختزال الواقع في هذه دون تلك. الماركسية كمذهب إنساني ليست هي إذاً نفسها في الحالتين، والفاصل بين الخط الاستمراري للتنوير والخط المحتقن بإزائه يمرّ بالتالي داخل معترك «الماركسية الإنسانية» هذه. الأهم من ذلك أن المبارزة بين التفاؤل والتشاؤم ليست تفصيلاً هنا. التفاؤل بالطبيعة البشرية، كحال لوكاتش، أو التشاؤم في نهاية المطاف حيالها، كحالها، كحال سارتر، هي بشكل أو بآخر، «جلّ» المسألة.
كاتب من لبنان
القدس العربي