بين ألفة المكان واعتياده: يوم سوري في برلين/ سوسن جميل حسن
17 مايو 2024
في الوهلة الأولى، لم أشعر بغرابة ما حصل معي بعد استيقاظي صباحًا عندما فتحت حنفية المياه فوجدت المياه مقطوعة. أغلقتها ومضيت إلى المطبخ، حيث وجدت ماء في سخانة المياه، ما يكفيني لصنع ركوة من القهوة العربية، أغليها على مهل كما يليق بها، أضع البن مع الماء البارد، وأرفعه على النار، ثم أباشر بالتحريك البطيء، صامتة أترك ليديّ الممسكتين، واحدة بالملعقة الصغيرة، وأخرى بذراع الركوة، أن تصنعا القهوة، بينما تفكيري يشرد، كلما تغلغلت رائحتها في كياني، في متاهات لا أحدّدها، هو هكذا يطير بأجنحته، وليس بتوجيهي.
اعتدت على الصمت في عزلتي الممتدة. لم أخترعها على رأي بول أوستر في “اختراع العزلة”، لكنها تسللت إليّ من الثغور التي راحت تتسع وتزداد في مناعتي، وفي روحي التي صارت كخلية نحل هجرتها نحلاتها. صرت قليلة الكلام، مفرطة الإبحار في ذاتي، في ذاكرتي، لا يشغلني المستقبل كثيرًا، وبشكل واعٍ، إلّا استجابة لقلق وجودي يتمادى ويستبيح كياني، قلق المعيشة في الدرجة الأولى، وسؤال المستقبل أمام صور عديدة متنوعة من الاحتمالات يصوغها قلقي هذا، صور يرميها في وجهي سؤال شرس يقف مدججًا مثل كتيبة بكامل سلاحها، ماذا لو لم تعودي قادرة على الكتابة “المأجورة”؟ بعد أن صارت الكتابة هي مصدر عيشي الوحيد منذ أن هجرت الطب لأجل الرواية، ورمتني الظروف في بلد غريب لم أستطع اكتساب لغته إلّا بالحد الأدنى الذي يساعدني في مواجهة حاجاتي اليومية، لم أستطع تعلم اللغة المهنية من أجل ممارسة الطب في هذه البلاد، التي كان سيكفيني أجري منها كي أعيش حياة كريمة.
في الواقع، ليس العمر فحسب هو ما وقف بيني وبين تعلّم اللغة المهنية، صحيح لكل بداية عمرها، وأنا باشرت بتعلم اللغة متأخرة جدًّا، إنما لسببين مهمين آخرين، أولهما أن اللغة الألمانية غريبة بعض الشيء عن روحي، أو روح لغتي الأم، تراكيبها غريبة عجيبة، وعلاقات مفرداتها بعضها مع بعض تبدو شبيهة بعلاقات فلسفية، ما زلت إلى الآن أفكر بالعربية، وأحاول ترجمة تفكيري إلى الألمانية الصعبة، فأفشل كثيرًا في إيصال الفكرة التي في بالي. أما السبب الآخر فهو أنني مسكونة بهموم منطقتنا، مرتهنة إلى الشاشات والمواقع والصحف أتابع أخبارها، وأكتب أفكاري المتلاطمة في رأسي وأعيد ترتيبها على شكل مقالات، فتتصارع اللغتان في بالي، ودائمًا تصرع العربية الألمانية.
هذا ما يزيد في تمكّن الصمت مني، وانزلاقي معه ومع عزلتي إلى دهاليز نفسي وذاكرتي، لذلك لم أرتكس كثيرًا عندما وجدت الصنبور فارغًا من الماء، يصفر الهواء فيه، ولا أعرف كيف استكنت إلى شعور “حميمي” على الرغم من غرابة الوضع وعدم مقبوليته، شعور أنني ما زلت هناك، في ذلك الوطن “الروحي” الذي غادرته ولم يغادرني، حملت معي ذاكرتي عنه بكل ثقوبها السوداء، وبقيت رائحته عالقة على جدران قلبي.
خرجت إلى الشرفة لأتفقد زريعاتي، في أحواض صغيرة رميت بعض حبوب الفاصولياء السورية فأنبتت، في أخرى رميت قطعة من حبة بندورة فيها بعض البذور، في أخرى زرعت نبتة “العطرة” السورية، وأخرى فيها نبات جميل تزدان فيه معظم الشرفات والمصاطب أمام البيوت في سورية “السجّاد”، أهدتني صديقتي التي نتوزع الهموم بيننا، الهم السوري والأدبي والطبي، الدكتورة الأديبة نجاة عبد الصمد، قطفتين من العطرة والسجاد، وبعضًا من زبيب السويداء ولوزها، وعبوة زجاجية صغيرة عليها لصاقة مكتوب فيها بخطّها “بهارات أمّي”، يا لروعة القول ودفئه.
زريعاتي مبتهجة بشمس الربيع، وأنا شاركتها بهجتها، لكنني نظرت إلى الأسفل من شرفتي في الطبقة التاسعة، وإذا بعدد كبير من السيارات والعناصر موزعين في الشارع والفسحة، مع بعض الشرائط الملونة التي تمنع وصول السيارات إلى المكان، سيارات إطفاء ودفاع مدني وشرطة، وسيارات أخرى مكتوب عليها كلمات لا أعرفها، ربما هي أسماء شركات، لم أفهم الوضع، لكن على ما يبدو ليس موقفًا أمنيًا.
أنتبه إلى أن الإنترنت قد انقطع، وبعدها بدقائق اكتشفت أن التيار الكهربائي قد قطع أيضًا، الغريب في الأمر أنني لم أتضايق كثيرًا، بل تفاعلت مع الموقف على أنه عادي، وكأنني لم أغادر سورية بالمطلق، يا لفظاعة ما أكتشفه في داخلي، كيف أنني دُجّنت مثل كثيرين غيري، فصارت الحياة في نكوصها عقودًا إلى الوراء أمرًا مقبولًا.
سمعت طرقًا على الباب، فتحته وإذا باثنين من العناصر الذين ينتشرون في الأسفل قد صعدا إلى الأبنية يخبران المقيمين أن هناك عطلًا كبيرًا في شبكة المياه، وأن إصلاحه يلزمه وقت قد يطول، ربما لأيام عدة، وأن الشركة تأمل في تفهمّهم الأمر، وقد ألصقوا على مداخل البنايات الثلاث اعتذارًا مع أرقام هواتف من أجل الاستفسارات. هنا صحوت على الحقيقة، فأنا “المدجّنة” لست في سورية، أنا في بلاد أخرى فيها “مواطنون”، وليس “رعايا”، فيها شعب هو غاية الحكومات، فيها دولة تحترم العقد الذي تبرمه مع أفراد المجتمع.
قبل أن تجتاحني موجات الأسى، وتستفيق القرائن في بالي، فتنبش المكنوز في صدري من الذكريات الموجعة والألم، قررت مغادرة البيت والعودة مساء علّ المشكلة تكون قد حُلّت. وفي طريق العودة كنت أتمنى أن تكون الكهرباء قد عادت بالدرجة الأولى، إذ كيف سأصعد إلى الطبقة التاسعة على قدميّ؟ كان الأمر مخيفًا بالنسبة إليّ، لكن المشهد الذي صدمني لحظة وصولي رماني في رحاب الوطن البعيد، سورية، مرة أخرى، أو بالأحرى أتى بسوريّة إليّ، كان الناس يحملون دلاء الماء، بعضهم يبتعد بها مملوءة، وبعضهم الآخر يأتي بها فارغة، ويقف في طابور أمام صنبور في زاوية من الساحة القريبة، عرفت أن هذا أحد مظاهر التنظيم في المدن تحسّبًا لموقف من هذا النوع.
صعدت إلى البيت وأحضرت دلائي أيضًا ووقفت في الطابور، كان يمشي بهدوء، لم يتجاوز أحد دوره، ولم يترك أحد الحنفية مفتوحة خلفه، فمن سيأتي يفتحها ويغلقها أيضًا، لأن الجميع يحترمون قطرة الماء، على الرغم من وفرة المياه في هذه البلاد. لحظتها قفزت ذكرى إلى بالي، يوم دخلت المبنى الذي أسكن فيه هناك في سورية، بعد سفر، ووجدت الماء يغرق مدخل البناء، ويتدفق بغزارة من جهة عدادات المياه، قالوا لي إن المشكلة بدأت منذ أيام، ولم يأتِ أحد لإصلاحها، دبّت الحماسة في صدري، واتصلت بمؤسسة المياه لأسجّل شكوى، وعدوني أنهم سيرسلون من يصلحها، استمر الوضع أيامًا أخرى، فاتصلت مرة أخرى، وأتخموني بالوعود، لكن بعد خمسة عشر يومًا سافرت مرّة أخرى ولم أعرف متى أصلح العطل وحُلت المشكلة، كان الناس يلوبون على قطرة ماء، والماء يتدفق من فرع التغذية الرئيس ولا أحد يهتم. إذًا، أنا لست في سورية.
لا، هذه ليست سورية، في سورية يتزاحم الناس على صهاريج المياه في مدن وقرى كثيرة، يتزاحمون بفوضى رهيبة، كما يتزاحمون أمام الأفران، وأمام باعة التجزئة، وأمام أسطوانات الغاز، وأمام أبسط حاجات الحياة، وتشتعل المشاكل والخلافات، وقد يصل الأمر إلى الضرب، واستخدام الأسلحة الخفيفة. والماء بهذه الطريقة ليس منحة من الدولة كي تسد حاجة الناس إليه في موقف طارئ كهذا، الماء يباع وكأنه ملكية خاصة، ومشكلة المياه ليست طارئة، أو مؤقتة، هي إحدى المظاهر الممتدة لمشاكل متجذرة تظهر أن الانهيار في تسارع، والناس فقدوا القدرة على التمرد أمام واقعهم.
عندما دخلت البناء، وكانت الكهرباء موصولة، لم أضطر إلى صعود السلالم، بدأت تفاصيل حياة بديلة تفرض نفسها عليّ مع غياب المياه في الصنابير. لم يكن هذا صعبًا علي، أنا التي عشت ردحًا من الزمن مع التقنين قبل أن أستقر في غربتي، وكانت تلك السنوات “جنة” قياسًا بما وصلت إليه البلاد، هذه الـ “الجنة” صارت حلمًا للسوريين، فعندما تصل الكهرباء بشكل اعتراضي من دون أن يعرفوا المناسبة، لمدة ساعتين وصل، وأربع أو خمس ساعات قطع، بعد أن كانت نصف ساعة وصل، وخمس ساعات ونصف الساعة قطع، يبتهج السوريون، وكأنهم نسوا أن من حقهم كهرباء ومياهًا وخبزًا ووقودًا على مدار اليوم والعام.
هالني أنني تأقلمت بسرعة، صرت أجلي الكاسات والصحون بسكب الماء من دلو بجانبي بواسطة طاسة بلاستيكية، يا سلام ما أحنّ هذه الحياة، سخّنت الماء ونقلته إلى الحمام كي أستحم، تذكرت بيت جدي في الضيعة، وكيف كانت جدتي تسخن الماء على الحطب وتدخله إلى غرفة تقبع خلف بابها حفرة في الأرض تنتهي إلى ثقب في العتبة ينزح ماء الاستحمام منها، رحت أغمض عيني وأدلق الماء على رأسي مستكينة إلى دفئه الناعم والطري، مأخوذة بأنغام بعيدة تأتيني من هناك الموغل في ابتعاده، في الوقت ذاته كنت أوغل في الابتعاد عن المكان الذي أنا فيه.
عندما جلست إلى نفسي مساء، وحيدة كالعادة في عزلتي، راحت أسئلة المكان تتزاحم في بالي، كيف يتم تعيين الأمكنة من دون تحولاتها الهوياتية والوظيفية؟ وما المكان من دون ذاكرة؟ وهل الحنين ملتصق بالمكان الأول مهما قسا وجار؟ صار المكان يطرح أسئلته الفلسفية عليّ، ورحت بدوري أستنطق الأشياء من أجل الإجابة عن الأسئلة اليومية التي تولدها علاقاتي بها، وألهث خلفها لأعرف ما الذي، أو ما هي الأشياء التي تنهض في لا وعيي وتفبرك لي هذه الصور المخادعة، فتأتي بسورية إليّ؟ هل المكان هو تلك الأشياء والتفاصيل الصغيرة التي نعايشها فتشكل وعينا وذاكرتنا؟ وهل للألفة مع هذه الأشياء الدور الأهم في وعينا المكان؟ لكن لا تصح الألفة دائمًا، هناك اعتياد، الألفة تستبطن عاطفة إيجابية، بينما الاعتياد يحتمل الوجهين، الإيجابي والسلبي، كثير من الأشياء والأمور اعتدناها بحكم الواقع الذي لم نستطع تغييره، فالسجين يعتاد سجنه مع الوقت، لكن ماذا عن ألفتها؟
اكتشفت أنني، في عزلتي، كنت قد ألفت المكان الذي أعيش فيه، بيتي والأشياء التي تشغله، التي تملأ فراغه فيترتب الحيز الصغير الذي يحتويني وأتحرك فيه مكرّرة نشاطي كل يوم، كتابة وقراءة وتحضير طعام ومتابعة الأخبار وغيرها، نعم، ألفت البيت مع أنه لم يكن المكان الذي دوّنت تاريخًا فيه عامرًا بالفرح حينًا والبكاء حينًا آخر، لم يكن المكان الذي عشت فيه مع غيري، من أخوة وأخوات وأم وأب، أو بعدها مع أطفالي، لم يكن أكثر من حيز تنمو فيه عزلتي. أما ما أقلقني فهو اكتشافي أن اعتيادي كان أقوى من ألفتي، في لحظة واحدة، أمام مشكلة كبيرة بالنسبة إلى مدينة مثل برلين، تافهة بالنسبة إلي، أنا القادمة من هناك، عدت مرة أخرى إلى حياة بدائية تشبه ما عاشه الناس في بدايات القرن الماضي من دون تذمر، بل كنت بارعة في تفاصيلها، وعشت يومًا كاملًا في سورية، يا لسعادتي.
ضفة ثالثة